رحلة ديللافاليه إلى العراق

المؤلف:


المترجم: الأب د. بطرس حداد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ١٩٢

١
٢

٣
٤

الاهداء

إلى والديّ الفاضلين :

ميخائيل الشماس يوسف حداد

ونجيبة حنا قطلو ،

فمنهما تعلمت : مخافة الرب

ومحبة كل الناس

والتمسك بالجذور

د. بطرس حداد

٥
٦

مقدمة المعرب

اجتاح أقطار أوربا في القرن الخامس عشر تيار «الإنسانيات» فانكبّ أدباء ذلك العصر بحثا وتنقيبا في مخلفات الأقدمين ، بدءا بالأدب اليوناني ثم الأدب اللاتيني القديم ، وظهرت للنور تحقيقات مهمة ودراسات شائقة أغنت التراث البشري في هذا الميدان.

وفي نهاية القرن السادس عشر انتعش تيار جديد ، خاصة في إيطاليا ، هو رغبة الاطلاع على الشرق الغنيّ بتراثه الفكري وحضاراته العريقة ، فانتشرت الدراسات العربية والسريانية والتركية.

إن أسماء المدن الشرقية مثل بابل ونينوى والقدس وبغداد واسطنبول ـ وريثة القسطنطينية ـ كان لها وقعها السحري في مخيلة الأوروبيين بأخبارها وأساطيرها وتراثها ؛ فقصص ألف ليلة وليلة ، وذكريات هارون الرشيد ، وحروب سلاطين بني عثمان ، وأسواق الشرق الغنية بكل شيء ، كانت تجذبهم إلى مزيد من الاطلاع والبحث.

لقد شرع الباحثون بالتعمق في تراث الحضارة العربية العريقة بمختلف ميادينها : في الطب والرياضيات والفلك والفلسفة ، فكانوا ينهلون من ينابيعها الغزيرة ، بينما عكف غيرهم على دراسة التراث الإسلامي ، بينهم من ساقه إلى ذلك حب الاطلاع ، وبينهم نفر آخر كانت رغبته الجدل الديني.

لعل الدافع الأصلي لهذه الدراسات كان أدبيّا وثقافيّا محضا ، لكن سرعان ما سخرتها الدول والحكومات لخدمة أغراضها التجارية والاستعمارية ، وانطلاقا من هذه البحوث حاولت دول أوروبا وإماراتها بكل

٧

جهودها أن تكسب لها موضع قدم في الباب العالي والمدن المهمة التابعة لها بواسطة الاتفاقيات والتسهيلات الخاصة وغير ذلك.

صاحب الرحلة

في هذه الحقبة ولد بيترو ديللافاليه Pietro della valle في ١١ نيسان سنة ١٥٧٦ م من أبوين شريفين هما بومبيو ديللافاليه وجيوفانا البيريني ، من أسرة رومانية عريقة ، لا تزال تحتفظ إلى اليوم في قلب روما بشارع يحمل اسمها وكنيسة فخمة شيدها أحد أفرادها.

وقد شغف منذ نعومة أظفاره على اكتساب العلوم المختلفة ، واستهوته الموسيقى ، ومارس التمثيل المسرحي ، وأتقن فنون الفروسية كما تتطلبها حالته الأرستقراطية.

وعند ما شب عن الطوق أحب فتاة من طبقته ، لكنها لم تبادله الحب ، فأصيب بخيبة أمل هزت كيانه وجرحت كرامته ، فقرر الهرب من المجتمع المخملي الزائف ، والابتعاد عن وطنه والتنقل في بلاد الله الواسعة ، ليعبر عن سخطه على الحياة وتبرمه بمحيطه الزائف ، مقتديا بمغامرات الأقدمين الذين طعنوا في عواطفهم ؛ فارتحل أولا إلى نابولي ، واجتمع هناك بصديقه الأديب والشاعر ماريو سكيبانوMario Schipano أستاذ الطب في جامعة نابولي ، وعرض عليه حالته النفسية ورغبته بالسفر ، فشجعه في الحال ، واقترح عليه أن يجعل لسفره غاية أدبية وهدفا علميا ، فيكتب مشاهداته ويسجل انطباعاته عن الأماكن التي يمر بها والشعوب التي يختلط بها ، وطلب منه أن يرسل إليه ما يكتبه بصورة «رسائل» ووعده بأنه سيجمع المعلومات الواردة في تلك الرسائل وينقحها ويصوغها في كتاب يخلد اسمه.

أمضى ديللافاليه خمسة أعوام في نابولي وهو يستعد للرحيل وقد أغنته الأعوام بالمعارف الإنسانية ، وفتحت له آفاقا جديدة باتجاه الشرق ؛ وخلال تلك الفترة تجول في جنوب إيطاليا ورحل إلى جزيرة صقلية ، واشترك بحملات قصيرة ضد قراصنة البحر ليمارس الفنون العسكرية التي اكتسبها سابقا.

٨

ثم عاد إلى روما وانتقل شمالا إلى البندقية ليبحر منها إلى الشرق فركب البحر في ٨ حزيران ١٦١٤ ووجهته اسطنبول. وأمضى في عاصمة الخلافة فترة انهمك فيها بدراسة اللغة التركية لأنه كان معجبا بها رغم كونه يبغض الأتراك بغضا شديدا نابعا من ترسبات اجتماعية ودينية عميقة. ووضع في تلك الفترة كتابا في نحو اللغة التركية وكتب وصفا جذابا عن البلاط العثماني والشخصيات الحاكمة ، كالسلطان أحمد الثاني (١٥٨٩ ـ ١٦١٧ م) والصدر الأعظم نصوح باشا وأسهب في وصف مصرعه المأسوي.

كان بودّ ديللافاليه التوغل شرقا انطلاقا من اسطنبول ، وإذ رأى في ذلك بعض المحاذير فقد قرر تغيير وجهته ، وتأجيل زيارته لبلاد فارس إلى فرصة أخرى ، لذلك سافر في ١٥ أيلول ١٦١٥ إلى مصر حيث زار آثار الفراعنة ودخل إلى الأهرامات وصعد إلى جبل سيناء ، ثم حج إلى بيت المقدس فحقق أمنية عزيزة على نفسه بأن يصبح حاجا «مقدسيا» ومنذ ذلك الحين اتخذ لقب المقدسي بيترو ديللافاليه.ll Pellegrino

انتقل إلى حلب للتوغل شرقا ، وهناك حدث ما غير خططه وقلب مجرى حياته ، فقد التقى في الشهباء برجل إيطالي عائد من بغداد حدثه ـ بعد اطلاعه على حياة ديللافاليه السابقة ـ عن فتاة بغدادية رائعة الجمال ، عالية الشمائل لائقة بالنبيل الروماني ، فكتب : «كنت أنصت إليه في أول الأمر لتمضية الوقت لا غير ... حتى تولد في نفسي شوق كبير للتعرف على هذه الفتاة ... وتحول الشوق إلى حب». وهكذا قرر السفر إلى بغداد ليلتقي بتلك التي ملكت عليه مذاهبه.

وفي بغداد تتحقق أمنيته ، فينسى ألمه القديم ، وتلتئم جراح قلبه ، فيتقدم طالبا يد الفتاة العراقية «معاني بنت حبيب جان جويريدة». فيتم الزواج ، ولعل أجمل صفحات الرحلة من الناحية الأدبية هي تلك التي يصف فيها حبه لمعاني وفرحه بالزواج منها.

لكن الحظ العاثر أبى أن يفارقه ، فقد توفيت معاني ضحية الملاريا في ٣٠ كانون الأول ١٦٢١ بعد خمسة سنوات من زواجهما بينما كانت تنتظر ثمرة

٩

حبهما. فأوحى إليه حبه الجارف أن يحمل رفات الحبيبة إلى روما ليواريها الثرى في ضريح أجداده ، فقد كانت أمنيته أن تدخل زوجته معه إلى روما وترى المدينة العظيمة التي طالما حدثها عنها واشتاقت لرؤيتها ، فلا بأس أن تدخلها ميتة ، فقرر تحنيطها بطريقة بدائية بوضع كمية كبيرة من الكافور الهندي في داخل جثمانها ، وأوصى على صندوق من خشب الصندل أحكم سده بمسامير حديدية كبيرة من صنع محليّ.

أربعة أعوام والجثة المحنطة ترافقه من مكان ألى آخر ، في بلاد فارس والهند والبحر العربي والعراق وسوريا ، ولم يهدأ باله إلا بعد أن أوصلها إلى روما وأنزلها بيديه في ضريح الأسرة بين والديه ، في واحدة من أجمل كنائس روما وأقدمها ، كنيسة مريم العذراء ، على مرتفع أراجيلي في قلب المدينة.

ألا توحي هذه الرحلة وأحداثها قصة ميلودرامية تروي تاريخ العراق في الربع الأول من القرن السابع عشر والصراع بين العراق وفارس ومحاولة هؤلاء السيطرة على العراق وموقف العراقيين ضد الأطماع الفارسية.

لم يكن ديللافاليه يسعى إلى الصفقات والربح المادي ، ولا رجل دولة ، بل كان حاجّا وباحثا بكل ما في الكلمة من معنى وهو يحاول النسيان ويطلب العلم ، ولم يأبه للمال فقد كان غنيّا ، لهذا لم يتسرع في ترحاله لأنه يريد الاطلاع على الآثار والاختلاط بالناس والتعرف على كبار القوم وعلمائهم والشخصيات الحاكمة. بحث عن الكتب القديمة النادرة ، وتعمق في التركية والفارسية ، وألمّ بالعربية والكلدانية والقبطية إلى جانب معرفته السابقة باليونانية واللاتينية.

وكما وعد صديقه الطبيب ماريو ، أخذ يكتب من كل مدينة يحل بها رسالة مطولة فيها وصف مسهب للمناطق التي زارها والناس الذين التقى بهم ؛ ويدل وصفه على سعة اطلاعه وتمكنه من المصادر القديمة فهو يذكر المؤرخين السالفين مثل هيرودوتس وزينوفون ويورد أبياتا من الشعر الكلاسيكي اللاتيني ويأتي على ذكر آيات الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد.

كانت الرسائل الأولى غزيرة المادة وافية الشرح ثم قصرت بعد وفاة

١٠

زوجته لتصبح جافة شحيحة ، ثم عادت إلى ما كانت عليه ؛ لكنه أكثر من الوصف الخارجي هذه المرة دون التعليق العلمي على مشاهداته.

يبلغ عدد الرسائل التي كتبها أربعا وخمسين رسالة كتب الأولى في ٢٣ آب ١٦١٤ من اسطنبول ، والأخيرة من روما بتاريخ ١ آب ١٦٢٦.

إضافة إلى هذه الرسائل المحفوظة ضمن كتاب الرحلة فإن ديللافاليه كان يراسل أشخاصا آخرين يناقشهم فيها في مختلف الأمور حسب اختصاصهم. فيكتب إلى أحدهم يسأله عن التوابل والعقاقير وأنواعها وفوائدها ، وإلى آخر يناقشه في معاني بعض الكلمات والتعابير العربية. وله إلى جانب رسائله دفتر يوميات ذكره أكثر من مرة وقال عنه إنه أغزر مادة من رسائله لأنه أودع فيه معلومات كان يخشى أن يذكرها في الرسائل خوفا من وقوعها بيد الأتراك لكن هذا الدفتر فقد مع الأسف.

وكان قد اصطحب معه رساما فلمنكيا رسم لوحات عديدة نوه ببعضها في رسائله ، منها : صورة الرحالة وصورة الست معاني بزيها البغدادي ولوحة لطاق كسرى ، وأخرى لآثار بابل. وقد ضاعت معظم هذه اللوحات.

وكما كان ديللافاليه من أوائل الذين دخلوا إلى الأهرام وحمل معه إلى روما أثارا مصرية ومومياء فرعونية ، فهو كذلك من أوائل الرحالة الأوروبيين الذين زاروا بابل والآثار العراقية وذكروا الكتابات المسمارية وحملوا أجرا ورقما من بلاد ما بين النهرين إلى أوروبا.

اقتنى صاحبنا خلال رحلاته مخطوطات عديدة عربية وسريانية وقبطية وتركية وفارسية ذكر بعضها في سياق كلامه. وقد آلت هذه المخطوطات بعد وفاته إلى خزانة الفاتيكان.

وفي طريق عودته من الهند إلى بلاده مر بالبصرة ومنها رحل إلى حلب عبر البادية ، وكانت سفرة شاقة في فصل الصيف اللاهب استغرقت سبعين يوما. ومن حلب إلى الاسكندرية ، ثم أبحر إلى نابولي لينطلق إلى روما فوصلها في ٢٨ آذار ١٦٢٦ بعد غياب طويل واهتم أولا بإيداع رفات زوجته في لحد الأسرة ، ثم أقام نصبا تذكاريّا خاصّا بها ، ولا أثر لهذا النصب حاليّا. وبعد

١١

انقضاء سنة أقام احتفالا تأبينيا إكراما لها اشترك فيه أصدقاؤه وألقيت فيه القصائد والكلمات المناسبة فجمع ما قيل في هذه الذكرى في كتاب ونشره بالطبع.

ثم تزوج بفتاة شرقية كانت في خدمته منذ حياة زوجته معاني وقد أوصت به خيرا ورزق منها بأولاد عديدين.

اشتهرت رحلات ديللافاليه في أوروبا وزاد من شهرتها حبه للفتاة البغدادية وموتها الأليم وهما في قمة السعادة وحمله لجثمانها طيلة أعوام عديدة ؛ فأعادت إلى الأذهان قصة ملكة كاستيليا «جيوفانا» jeanne la Folle الملقبة بالمعتوهة التي كانت تحمل معها دائما جثة زوجها الحبيب «فيليب الجميل» Philippe le Beau ولهذا ترجمت رحلته إلى لغات عديدة وزينت بعضها بالصور وطبعت أكثر من مرة.

وقد قال الشاعر الألماني الشهير «غوته» : «إن قراءة رحلة ديللافاليه كشفت له عن الشرق».

أصبح قصر ديللافاليه في روما بعد عودته متحفا يقصده الكثيرون للنظر إلى المؤمياء الفرعونية والآثار التي جلبها معه والأزياء المتعددة التي حملها من البلاد التي كان بها والمخطوطات الشرقية.

توفي السائح في روما في ٢١ نيسان ١٦٥٢ فدفن إلى جانب الست معاني جويريدة البغدادية ، وكان قبره لفترة طويلة بعد موته قبلة الزوار والمعجبين ، كما ورد في حوليات الكنيسة وما لم يرد في الدفتر أنه أصبح قبلة العشاق! وقد تحرينا عن قبره عند زيارتنا روما قبل سنوات فلم نجد له أثرا لكن الجناح الخاص بالضريح لا يزال يعرف باسم أسرته كما وجدنا في العاصمة الإيطالية شارعا يحمل اسمه ...

إننا نقرأ في سطور الرحلة إعجابا وحبّا للعرب عامة وللبدو منهم بنوع خاص ، فقد لا حظ الرحالة حبهم للحرية وعدم استكانتهم لسيادة الغرباء فكرر ذلك أكثر من مرة خلال رحلته خاصة في ذكره لعرب الأحواز وأمرائهم المستقلين الذين كثيرا ما حاولت السلطات الفارسية منذ ذلك العهد السيطرة

١٢

عليهم والتدخل في شؤونهم وقال ذلك أيضا في مجرى كلامه عن البصرة.

في رأينا أن أهمية الرحلة تأتي بالدرجة الأولى من كونها سجلّا تاريخيا لفترة من أشد الفترات حرجا في تاريخ العراق فقد كانت تتنافس للسيطرة عليه وإخضاعه قوتان كبريان هما الدولة الفارسية والدولة العثمانية وقد أدت لعبة «تبادل المواقع» هذه إلى إنهاك المجتمع العراقي وتفتيت روح المقاومة والتصدي لديه حيث انتقل الصراع بين القوتين المذكورتين إلى أرضه ورزىء هو وحده بالمصائب والويلات من جراء الصراع المذكور.

فلو نظرنا إلى الرحلة من هذه الزاوية لاستطعنا أن نجد للكاتب العذر عما ورد في رسائله من ملاحظات وآراء تبدو متجنية وظالمة في بعض الأحيان فهو حينما يتحدث عن أهل المدن والمزارعين يصفهم بالكسل والجهل والتخلف ، ورغم مدحه للبدو فإنه يعود أحيانا ويصفهم بقطّاع الطرق. وقد تكون هذه الصفات هي السائدة في مجتمع يمزقه الاحتلال الأجنبي وتنهكه أوضاع اجتماعية خاصة. لكنه في كل ذلك لم يتعمد النيل من العرب والإساءة إليهم. فلا يترتب على ملاحظاته العابرة ما يترتب على آراء بعض المؤرخين الذين يكتبون وغايتهم الإساءة إلى العرب وتشويه تاريخهم.

مؤلفات ديللافاليه

اهتم ديللافاليه في مطلع شبابه بالتمثيل والموسيقى ، فوضع سنة ١٦١١ تمثيلية عن الأمانة في الحب ، لحنها أحد الموسيقيين المعاصرين بأربعة أصوات.

أما بعد الرحلة فله :

ـ الحفلة التأبينية للست معاني ، روما ١٦٢٧.

ـ معلومات عن بلاد جورجيا ، روما ١٦٢٧.

ـ أحوال الشاه عباس الفارسي ، البندقية ١٦٢٨.

ـ بحث في الشعر ، روما ١٦٣٤.

١٣

ـ بحث في الموسيقى المعاصرة ، روما ١٦٤٠.

ـ كتاب الرحلة إلى الشرق ، روما ١٦٥٠.

وله أيضا قصيدة مطولة عنوانها «إكليل جويريدة» نوه بها في رحلته ونظن انها لم تطبع ، ومختصر التعليم المسيحي ، ورسالة في الدين المسيحي (بالفارسية) وله قصائد بالتركية (١) وقد آلت مؤلفاته المخطوطة إلى مكتبة الفاتيكان (٢).

كتاب الرحلة

ظهرت الطبعة الأولى من رحلة ديللافاليه سنة ١٦٠٥ وطبعت في روما تحت عنوان طويل مفصل ، ثم طبعت بأربعة أجزاء سنة ١٦٦٠ في البندقية ، وأضيفت إلى هذه الطبعة نبذة عن حياة صاحبها ثم طبعت في بولونيا (بإيطاليا) وتلتها طبعات أخرى وقد ترجمت إلى مختلف اللغات الغربية من أول ظهورها ولا نرى من الضرورة هنا بذكر مختلف الترجمات.

ولقد اعتمدنا في ترجمة الرحلة إلى العربية الطبعة التي ظهرت سنة ١٨٤٣ ، وتقع في مجلدين ، وتقسم إلى ثلاثة أقسام : تركيا ، بلاد فارس ، الهند ، وهذا عنوانها بالإيطالية (٣) :

. cia, ٣٤٨١

وقد طبعت هذه طبقا للطبعة الرومانية الأولى سنة ١٦٥٠ مع اختلافات بسيطة.

__________________

(١) E. Rossi : Posesie inedite in persiano di pietro della Valle, R. S. O. ٨٢) ٣٥٩١ (p. ٨٠١ ـ ٧١١.

ـ ldem : Versi turchie altri scritti di Pietro dela Valle, R. S. O. ٢٢) ٧٤٩١ (p. ٢٩ ـ ٨٩.

(٢) نجد وصف مخطوطاته في كتاب فهرس مخطوطات خزانة الفاتيكان :

A. Mai, Scriptorum veterum nova collectio, lV, ١ ـ ٢, passim.

(٣) يطيب لي أن أقدم شكري الجزيل لدير الآباء الكرمليين الأفاضل في بغداد الذين أعاروني نسخة الرحلة الثمينة.

١٤

إن لغة ديللافاليه جميلة وأسلوبه رفيع ووصفه أخاذ ، فهو متضلع بلغته يجيد النثر ويبدع في النظم.

جدير بالذكر ان مجلة «نشرة الأحد» التي كانت تصدر في بغداد بإدارة الخوري عبد الأحد جرجي (١٨٧٠ ـ ١٩٥٠) نشرت في سنتها الأولى (١٩٦٢) موجزا لهذه الرحلة بعنوان : «قصة بطرس السائح» ١ (١٩٢٢) ص ٩٢ ، ٣٠٢ ، ٣٥١ ، ٣٧٠ ، ٣٨٣ ، ٦٢٦ ، ٦٤٠.

ولم يذكر اسم المعرب ، كما أنها خالية من التعليق والتحقيق وقد ذكر الأستاذ كوركيس عواد بخصوص هذه الترجمة : «إن السيد جرجس دلال ، مطران الموصل الأسبق على السريان الكاثوليك المتوفى سنة ١٩٥١ نقل إلى العربية بعض ما يخص بلاد العراق [من الرحلة] .. كما ان الخوري عبد الأحد جرجي السرياني .. نشر في تلك المجلة نفسها ، نبذة من رحلة هذا الرحالة بعنوان : السفر من حلب إلى بغداد» (١).

أيّا كان الأمر فإن تلك الترجمة ناقصة والمجلة المذكورة بحدّ ذاتها نادرة الوجود حاليا ، وقد أشرنا إليها في الهوامش عند ترجمتنا النص الكامل.

كذلك نقل الأستاذ سعاد هادي العمري وصف بغداد حسبما جاء في هذه الرحلة (٢) ونقله مختصر جدا.

نظرا للأخبار المهمة التي نجدها في هذه الرحلة عن العراق في الربع الأول من القرن السابع عشر كثورة بكر صوباشي وخيانته ، وتحرشات الفرس بالبصرة ، وسيادة الأحواز العربية ، وغير ذلك. فقد قررنا نقلها إلى العربية كاملة ، وهي ترجمة أمينة للنص الإيطالي الأصلي لم نهمل منه شيئا له علاقة بالعراق أو بالعرب بصورة عامة المجاورين للعراق.

أن العناوين هي من وضعنا وكذلك التعليقات والهوامش ولقد توسعنا في

__________________

(١) مجلة الأقلام ١ : ١ ص ٥٨ ؛ كوركيس عواد وعبد الحميد العلوجي : جمهرة المراجع البغدادية رقم ١٢٩٢ ؛ يعقوب سركيس : مباحث عراقية ٢ : ٣٣٦.

(٢) بغداد كما وصفها السواح الأجانب في القرون الخمسة الأخيرة ، بغداد ١٩٥٤.

١٥

بعض التعليقات فصلناها وجعلناها في «ملاحق» أدرجناها في آخر الكتاب.

وتمسكا بالأصل فقد حافظنا على تسلسل الرسائل فكان أول ما ترجمناه «الرسالة السابعة عشرة» من القسم الأول من الرحلة الموجهة من بغداد.

وأخيرا وضعنا فهارس الكتاب المفصلة ليتسنى على الباحث مراجعة الرحلة ومعرفة موادها.

أما الصور التي أدخلناها في هذا الكتاب فلا وجود لها في الأصل الإيطالي الذي اعتمدناه بل أخذناها من طبعة الرحلة الألمانية (١) وقد نقلنا صورة الست معاني وختمها من مجلة الدراسات الشرقية الإيطالية (٢).

وأملنا وطيد أننا بترجمتنا هذه الرحلة قد أفدنا الباحثين الكرام

الأب بطرس حداد

__________________

(١) Pietro della Valle Reise Verschribung ,٦٧٦١.

(٢) Rivista degli Studi Orientali ,٣٥٩١ (R.S.O).

١٦

١٧
١٨

القسم الأول : في البلاد التركية

الرسالة السابعة عشرة

بغداد ١٠ ـ ٢٣ كانون اللأول ١٦١٦.

«غادرنا حلب في نفس اليوم الذي كتبت فيه إلى سيادتكم ، وأخبرتكم بقرب سفري إلى بابل (١) وبعد أربعة أيام أو خمسة وإذ كنا في البادية العربية ، تسلمت مجموعة رسائل ، ومن ضمنها رسالتكم ، فأجبت عليها في الحال. وأعتقد أن رسالتي هذه ستصل إليكم مع تلك الرسالة لأني بعثتها مع شخص جدير بالثقة ، وإذ إننا لم نزل في السفر ، وليس هناك ما يلفت النظر ويستحق الذكر فلن تجد في رسائلي مادة دسمة.

والآن بعد أن استقر بي المقام ، أعود لأتابع روايتي ، فأخبرك بكل ما حدث لي خلال رحلتي من ذلك الوقت إلى اليوم.

كان يدفعني شوق شديد منذ زمن طويل للتوغل في الشرق خاصة بعد أن وصلت إلى حلب فأزور تلك الأقطار التي طالما سمعنا عنها ، وأطلع على أمور كثيرة جديرة بالاهتمام وأتمحصها بنفسي لإشباع رغبة كانت كامنة في نفسي منذ كنت في إيطاليا ..

كان محظورا على الإفرنج الذهاب إلى تلك النواحي وقد يدفعون حياتهم ثمنا لمخالفتهم ، وذلك بسبب نشوب الحرب ضد العاهل الفارسي إذ كان الترك يعتبرون الإفرنج على اتصال به ومتفقين معه. ولكي أحقق رغبتي

__________________

(١) يريد بغداد. وسنذكرها بعد باسمها الحقيقي دائما.

١٩

بالسفر إلى هناك فكرت في أول الأمر أن أسافر متسترا ضمن قافلة تركب الفرات في قوارب في موضع يبعد عن حلب مقدار أربعة أيام ، عند بلدة تدعى «البيرة» (١) التي تعني بالعربية «البئر» وهي المذكورة في كتب الجغرافية باسم «بيرته السورية». ففاتحت بهذا الموضوع تاجرا نصرانيا اسمه على ما أتذكر يعقوب الطويل ولا يخطر ببالي أكان سوريا أم أرمنيا ووعدته بهدية مقابل ذلك. وليكن عمله هذا ردّا للجميل للقنصل البندقي الذي كثيرا ما ساعده في أموره الخاصة. فوعدنا الرجل خيرا ، قائلا إنه سيجازف في هذا العمل فيأخذني مع رفاقي الثلاثة معتبرا إيانا ضمن أتباعه ورجال قافلته ، لأن من عادته أن يصطحب رجالا كثيرين نظرا لتجارته الواسعة ، وما أكثر ما اصطحب في السابق من الإفرنج. وعند ما كنا على وشك الرحيل فكر بالأمر مليا فأخلف وعده زاعما أنه لا يليق به كرجل شريف أن يقوم بعمل كهذا ضد النظام ... وهكذا تركنا ورحل ؛ وكان علينا ان نتذرع بالصبر.

بعد مرور شهر واتتنا فرصة أخرى بوجود قافلة متجهة إلى بلاد العرب في الطريق البري الذي يقطع البادية مباشرة ولا يكاد يمر بمكان مأهول.

فلما تناهى إليّ هذا الخبر وحاولت التحقق منه فسألت هنا وهناك خاصة لدى السيد قنصل البندقية واتفقت مع أحد رجال الكمرك بعد أن نفحته بهدية جيدة ، وأنت تعلم يا سيدي : «أن الهبات تطيب للبشر وللألهة على السواء» حسب تعبير «أوفيد» (٢) فوعدني الرجل مقابل ذلك أن يخرجني من حلب دون أن يثير الشبهة بل ذهب أبعد من ذلك إذ زودني بكتاب من عنده يمكن أن نطلق عليه اسم جواز سفر ، اعتبرني بموجبه أحد رجاله فجنبني بذلك مختلف المضايقات التي كان من المحتمل أن تصيبني في الطريق. وبعد هذه البداية

__________________

(١) بلدة على الفرات تسمى بيره جك ذكرها ياقوت الحموي في معجم البلدان ١ : ٧٨٧ (ط. وستينغيلد).

(٢) من شعراء الأدب اللاتيني (٤٣ ق. م ـ ١٦ ب. م) صديق فيرجيل وهوراس له كتاب «فن الحب» والجملة المذكورة هي في الفصل الثالث منه.

٢٠