زبدة الحلب من تاريخ حلب - ج ١

كمال الدّين عمر بن أحمد بن أبي جرادة الحلبي [ ابن العديم ]

زبدة الحلب من تاريخ حلب - ج ١

المؤلف:

كمال الدّين عمر بن أحمد بن أبي جرادة الحلبي [ ابن العديم ]


المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرحيم

تقديم

٥
٦

تعدّ مدينة حلب من أعرق مدن بلاد الشام وأكثرها أهمية ، وقد شغلت أعظم الأدوار فى تاريخ هذه البلاد فى الاسلام ، وعلى محورها ومحور دمشق دارت الأحداث الرئيسية لتاريخ الشام الاسلامي ، ومنها استردت الشخصية الشامية الثقافية ذاتها بعد ما لحق بها التدمير أثر سقوط الدولة الأموية.

وصحيح أن الأدوار السياسية والعسكرية لحلب عالية جدا ، لكن دورها الحضاري أكثر تميزا وتأثيرا وشمولية ، وكان التاريخ بين أبرز الحقول الثقافية التي أسهم فيها الحلبيون ، ولا أعني سكان المدينة فقط بل سكان الشام الشمالي ، لأن حلب غدت منذ القرن الرابع للهجرة / العاشر للميلاد مركزا لإمارة ، غالبا ما امتدت حدودها جنوبا حتى بلده الرستن على العاصي.

وكان أبو غالب همام بن الفضل بن جعفر بن المهذب المعري ، أهم مؤرخي القرن الخامس ه / الحادي عشر م ، هذا ولم أستطع الوقوف على ترجمة منفصلة له ، ولكن ابن العديم الذي نقل أجزاء كبيرة جدا من تاريخه

٧

في كتابه بغية الطلب ، قد ذكره بين تلاميذ أبي العلاء المعري [ت ٤٤٩ ه‍ / ١٠٥٧ م] وتوحي النقول الطويلة التي قام بها ابن العديم بطبيعة كتابه ، حيث يبدو أنه كان يتألف من تاريخ حولي عام ركز على تدوين أخبار الأحداث التي وقعت في معرة النعمان وحلب ، وتعلقت المعلومات المنقولة بتأسيس الدولة المرداسية في حلب من قبل صالح بن مرداس ، ثم بحكم ثمال بن صالح بن مرداس وعلاقاته بالخلافة الفاطمية ، وببدايات استيلاء السلاجقة على بلاد الشام بعد العراق ، مع حملة السلطان ألب أرسلان ضد حلب.

وكان من معاصري ابن المهذب الطبيب المسيحي أبو الخير المبارك بن شرارة ، وكان ابن شرارة كاتبا بالاضافة إلى كونه طبيبا ، وقد عاش في مدينة حلب حتى أيام رضوان بن تتش (١٠٩٥ ـ ١١١٣ م) ، وقد هجر مدينته وذهب أولا إلى أنطاكية ومن هناك إلى صور بسبب سوء معاملة رضوان له وطغيانه ، وفي صور توفي حوالي سنة ٤٩٠ ه‍ / ١٠٩٦ م ، وكتب المبارك تاريخا روى فيه بشكل أساسي الحوادث التي وقعت في أيامه ، لا سيما الوقائع التي شهدتها حلب ، وكان من شهودها. ويبدو أن هذا التاريخ لم يرج كثيرا ، ولذلك فقدت نسخه بعد وفاة مؤلفه بأمد قصير ، ذلك أن القفطي [ت ٦٤٦ ه‍ / ١٢٤٨ م] قال إنه أخفق في الحصول على نسخة منه ، وأنه تلقى من مصر نسخة سيئة ومختصرة من هذا التاريخ ، كان قد اختصرها مصري غير معروف.

٨

ومن معاصري ابن شرارة كان منصور بن تميم بن الزنكل ، الذي كان شاعرا من سرمين ، شهد أحداث وفود التركمان إلى الشام الشمالي ، ودوّن بعضها لكن لا نعرف وفق أي منهج ، والذي نعرفه أن ابن العديم نقل عنه بعض الأخبار في كتابه بغية الطلب في تاريخ حلب.

وقام في القرن السادس ه / الثاني عشر / م على الأقل ثلاثة من الحلبيين بكتابة تواريخ خاصة بمدينة حلب وهم : حمدان بن عبد الرحيم الأثاربي [ت ١١٤٧ م] وعلي بن عبد الله بن أبي جرادة [ت ١٥٥١ م] ومحمد بن علي العظيمي المتوفى حوالي سنة ١١٦١ م ، ومن المؤسف أنه لم يتعد ما وصلنا مما كتبة هؤلاء عن حلب بعض النقول الموجودة لدى ابن العديم في كتابه بغية الطلب.

كان حمدان طبيبا وشاعرا ، وقد امتلك ذخيرة كبيرة من معارف عصره ، وقد خدم في حقب متفاوته في إدارة كل من المسلمين في حلب (أيام زنكي بشكل خاص) وإدارات الصليبيين في أنطاكية والمناطق المحيطة بها ، وقد سفر لزنكي حيث بعثه إلى الصليبيين في أنطاكية وإلى مصر ودمشق ولربما إلى بغداد ، وقابل في القاهرة الخليفة الفاطمي الآمر [١١٠١ ـ ١١٣٠ م] ولكن بعد ما برهن أنه شيعي إمامي ، وأنه لم يكن من أفراد الاسماعيلية الحشيشية ، وتمنحنا سيرة حياة حمدان بعض المعلومات المفيدة حول حياة كل من المسلمين والصليبيين في الشام الشمالي ، وحول العلاقات بينهما في النصف الأول من القرن الثاني عشر.

٩

أرخ حمدان لقدوم الفرنجة إلى بلاد الشام ، كما وحمل واحد من كتبه عنوان المفوف ، ويرجح أنه أوقفه على تاريخ حلب ، واهتم فيه بشكل خاص بالأحداث التي وقعت بعد سنة ٤٩٠ ه‍ / ١٠٩٦ م.

وكان من معاصري حمدان علي بن عبد الله بن أبي جرادة ، وكان مثله مثل حمدان شاعرا وعالي الثقافة ، وأيضا أمامي العقيدة ، وقد كتب بالتاريخ كتابا دعاه «تاريخ ملوك حلب» ، وعن هذا الكتاب نقل ابن العديم بعض المعلومات المتعلقه بسقوط الامارة المرداسية ، وحول الأوضاع الداخلية في مدينة حلب آنذاك.

وكان أيضا من معاصري حمدان وابن أبي جرادة محمد العظيمي ، الذي كان بدوره شاعرا ومعلم مدرسة ، وقد كتب العظيمي عدة كتب بالتاريخ ، أوقف واحدا منها على تاريخ حلب ، وحمل واحد منها اسم «الموصل على الأصل المؤصل» وقد كتب هذا الكتاب على شكل حوليات عامة لتاريخ الاسلام ، وقد وصلنا ما يمكن عده مختصرا له ، أو هو نفسه في نسخة خطية وحيدة (مكتبة بيازيد استانبول رقم ٣٩٨ ، ونشر محققا مؤخرا في دمشق سنة ١٩٨٥ باسم تاريخ حلب). وعلى الرغم من سيطرة طابع الاختصار والعموميات على هذا الكتاب ، فإنه يحتوي في أواخره على معلومات ثمينة جدا تتعلق بحلب خلال أواخر القرن الحادي عشر م ، هذا ونقل ابن العديم في كتابه بغية الطلب من كتب العظيمي الأخرى موادا تتعلق بعصر الدولة المرداسية ثم بدايات الحكم السلجوقي لحلب.

١٠

ومع أن بعض مؤرخي القرن الثاني عشر م قد صنف كتبا تعالج تاريخ حلب فقط ، فإن العدد الأكبر منهم قد تابع السير على مذاهب الأوائل في كتابة حوليات عامة ، وكان من بين هؤلاء يحيى بن علي التنوخي ، ويعرف عادة بابن زريق ، وقد ولد عام ١٠٥١ م في معرة النعمان ، ولعله مات في العقد الأول من القرن الثاني عشر.

وكتب ابن زريق تاريخا حوليا ، أوقف أخباره بشكل أساسي على الاحتلال السلجوقي لبلاد الشام ، ثم على الغزو الصليبي ، وعنه نقل ابن العديم في كتابه بغية الطلب ، ومن خلال ابن العديم تعرفنا عليه ، لأن كتابه بحكم المفقود.

وكانت الأسرة المنقذية قد تأسست في قلعة شيزر ، حيث انتقلت إليها من بلدة كفر طاب ، وفي شيزر أنجبت الأسرة المنقذية عددا من الفرسان والشعراء والكتاب ، شهر منهم بشكل خاص أسامة بن مرشد [ت ١١٨٨ م] ، ومع أسامة أسهم أثنان من أخوانه بكتابة التاريخ هما : علي ومنقذ ، فقد صنف منقذ تاريخا حوليا جعله ذيلا لتاريخ ابن المهذب المتقدم الذكر ، وكتب أخوه علي أيضا تاريخا حوليا حمل اسمه ، أما أسامة صاحب كتاب الاعتبار ، فقد صنف عددا كبيرا من الكتب وصلنا بعضها لكن لم يصلنا ما كتبه بالتاريخ العام إلا من خلال النقول التي احتفظ بها ابن العديم في كتابه بغية الطلب.

١١

ومثلما نقل ابن العديم عن الأخوة الثلاثة من آل منقذ ، نقل عن أبي غالب عبد الواحد ابن مسعود بن الحصين ، الذي يرجح أنه كان من أهالي معرة النعمان ، وقد صنف تاريخا حوليا ، ومثله كان من بين مؤرخي معرة النعمان عبد القاهر بن علوي ، وقد ذكره العماد الأصفهاني الكاتب ، وبيّن أنه كان شاعرا ، شغل منصب قاضي معرة النعمان ، وأنه قد لقيه في مدينة حماه في آذار ١١٧٦ م ، وكتب ابن علوي كتابا بالتاريخ اسمه «نزهة الناظر وروضة الخاطر» ، وكان هذا الكتاب أيضا بين مصادر بغية الطلب لابن العديم.

ونقل ابن العديم عن مؤرخ حلبي آخر اسمه أبو منصور هبة الله بن سعد الله بن الجبراني ، ولا نعرف تاريخ ميلاد أو وفاة هذا المؤرخ ، لكننا نعلم أن واحدا من أولاده واسمه أحمد قد توفي سنة ٦٢٨ ه‍ / ١٢٣١ م.

مما تقدم عرضه بايجاز نعلم أن المؤرخين الذين أنجبتهم امارة حلب كثير عددهم خصب انتاجهم ، ولقد تأوجت أعمال التدوين التاريخي في الشام الشمالي في القرن السابع للهجرة / الثالث عشر للميلاد ، وأبرز الذين خلفوا لنا العديد من المؤلفات هم : ابن أبي طيء (يحيى بن حميدة ـ توفي سنة ٦٣٠ ه‍ / ١٢٣١ م) ، والقفطي (علي بن يوسف ـ توفي سنة ٦٤٦ ه‍ / ١٢٤٨ م) ابن العديم (عمر بن أحمد ـ توفي سنة ٦٦٠ ه‍ / ١٢٦١ ـ ١٢٦٢ م) وابن شداد (محمد بن علي ـ توفي سنة ٦٨٤ ه‍ / ١٢٨٥ م).

ويمكن أن نضيف إلى هؤلاء بهاء الدين بن شداد صاحب سيرة صلاح الدين لأنه أمضى سنوات حياته الأخيرة في حلب.

١٢

وكان القفطي ، الذي شغل منصب الوزير بحلب ، مصنفا لعدد من الكتب تتضمن عدة موضوعات منها واحد حمل عنوان «الاستئناس في أخبار آل مرداس» لا نعرف نسخة عنه ، وفيما عدا ما يوحيه عنوانه لا نعرف شيئا عن محتوياته ولا الطريقة التي كتب بها.

وكتب ابن أبي طيء عدة كتب معظمها بحكم المفقود ، وقد ذكر له حاجي خليفة كتابا اسمه «معادن الذهب» في تاريخ حلب ، كما ويرجح أنه كتب سيرة لصلاح الدين الأيوبي ، وأتى بتفاصيل حوله لا نجدها عند سواه ، فقد كان والد هذا المؤرخ من زعماء الشيعة الامامية بحلب ، وقد اضطر إلى مغادرة مدينته أيام نور الدين محمود بسبب السياسة الدينية التي اتبعها ولضغطه الشديد على الشيعة ، ولذلك جاءت أخبار ابن أبي طيء مشايعة لصلاح الدين مضادة لنور الدين ، ومع ذلك هي هامة جدا اعتمدها واستفاد منها كل من ابن العديم وأبو شامة في الروضتين.

هذا وكتب ابن شداد كتاب الأعلاق الخطيرة ، وجل مواده عن حلب نقلها عن ابن العديم ، وابن العديم هو أعظم مؤرخ أنجبته بلاد الشام في تاريخها الاسلامي كان غزير الانتاج موسوعي المعارف ، وهو خير ممثل للحضارة العربية والثقافة الشامية قبيل الاجتياح المغولي المدمر.

وابن العديم هو الصاحب كمال الدين عمر بن أحمد بن هبة الله ... ابن أبي جرادة ، ولد في مدينة حلب في ذي الحجة سنة ثمان وثمانين وخمسمائة للهجرة وعند ما بلغ السابعة من عمره حمل إلى المكتب للدراسة ، وهناك

١٣

ظهرت استعداداته مما بشر بنبوغه المبكر ، وقد كان نحيف البنية لذلك عني به أبوه عناية كبيرة ، فحدب على رعاية صحته ، وسهر على تربيته وتعليمه ، ونظرا لمنزلة والده ولما تمتعت به أسرته من مكانة نال ابن العديم حظه وافيا من معارف عصره الدينية والدنيوية ، ويروى بأن اباه حضه على اتقان قواعد الخط ، ذلك أنه ـ أي الأب ـ كان رديء الخط ، فأراد أن يجنب ابنه هذه الخلة ، ونجح في هذا المجال نجاحا كبيرا جدا ، وقد وصف ياقوت اتقان ابن العديم لقواعد الخط العربي بقوله : «واما خطه في التجويد والتحرير والضبط والتقيد فسواد ابن مقلة ، وبدر ذو كمال عند علي بن هلال» ، ويؤكد شهادة ياقوت هذه المجلدات العشرة من كتاب بغية الطلب التي وصلتنا بخط ابن العديم ، حيث نرى واحدا من المع النساخ في تاريخ العربية وأكثرهم ضبطا وبراعة وأمانة ويقظة ودراية.

وفي باب العناية في إنشاء ابنه وتثقيفه صحب أحمد بن هبة الله ولده عمر في رحلاته وأسفاره ، حيث زار دمشق أكثر من مرة كما زار بيت المقدس ورحل إلى العراق والحجاز.

وعندما بلغ سن الشباب وجد ابن العديم السبل أمامه كلها مفتوحة لمستقبل لامع ، وكان لمواهبة وثقافته وأسرته الفضل الأكبر في تحقيق نجاحاته ، وهنا يحسن التوقف قليلا للتعرف إلى اسرة ابن العديم ، وذلك قبل متابعة الحديث عن مراحل حياته :

يعرف الجد الأعلى للصاحب كمال الدين باسم ابن أبي جرادة ، وكان

١٤

صاحبا لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، ينتسب إلى ربيعة من عقيل إحدى كبريات قبائل عامر بن صعصعة العدنانية ، وكان يقطن مدينة البصرة ، وفي هذه المدينة عاش أولاد آل أبي جرادة وأحفادهم ، وفي مطلع القرن الثالث للهجرة قدم أحد أفراد أسرة أبي جرادة إلى الشام في تجارة وكان اسمه موسى بن عيسى وحدث أنئذ أن ألم بالبصرة طاعون ، لهذا قرر موسى البقاء في الشام ، واستوطن مدينة حلب ، وفي هذه المدينة التي كانت عاصمة شمال بلاد الشام ، ومفتاح الطريق إلى العراق وبلاد المشرق الاسلامي مع آسيا الصغرى والأراضي البيزنطية ، فيها خلف موسى بن عيسى أسرة نمت مع الأيام عددا ومكانة وثروة وشهرة ، وتملكت هذه الأسرة الأملاك ، كما ساهمت في جميع ميادين الحياة في حلب من سياسة وعلم وقضاء وادارة وتجارة وغير ذلك ، وبهذا غدت أسرة آل أبي جرادة من أبرز أسر حلب ، وظلت هكذا حتى حل بحلب الدمار على أيدي جيوش هولاكو ، كما ظلت محتفظة باسمها ذاته طوال تاريخها ، إنما في القرن الأخير من حياتها كسبت اسما اضافيا ، أخذ رويدا يعم في الاستعمال أكثر من الاسم الأصيل ، لكنه لم يلغه وكان الاسم الجديد هو «العديم» ، ونحن لا نملك تعليلا لسبب هذه التسمية ، فقد قال ياقوت : «سألته أولا لم سميتم ببني العديم؟ فقال : سألت جماعة من أهلي عن ذلك فلم يعرفوه وقال : هو اسم محدث لم يكن آبائي القدماء يعرفون بهذا».

ودانت أسرة ابن أبي جرادة بالتشيع حسب مذهب الامامية ، وظلت هكذا حتى بدأ التشيع بالانحسار في حلب ، وذلك منذ النصف الثاني للقرن

١٥

الخامس / الحادي عشر ، هذا وان كنا لا نعرف بالتحديد تاريخ أخذ هذه الأسرة بمذاهب السنة أمكننا أن نقدر ذلك ، بحكم سقوط سلطة الشيعة في حلب مع عصر السلطان السلجوقي الب ارسلان (وهو أمر بحثته بالتفصيل في كتابي مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية) ونظرا لعلاقات أسرة آل أبي جرادة الخاصة مع سلطات حلب ، لابد أن الحال اقتضى المسايرة والتحول إلى السنة ، ولربما حسب المذهب الحنفي.

وفي عودة نحو سيرة الصاحب كمال الدين نجده يحدثنا بأن والده خطب له وزوجه مرتين ، فقد اخفق في الزواج الأول ، لذلك طلق زوجته وتزوج ثانية بابنة الشيخ الأجل بهاء الدين أبي القاسم عبد المجيد بن الحسن بن عبد الله ـ المعروف بالعجمي ، وكان شيخ أصحاب الشافعي ، ومن أعظم أهل حلب منزلة وقدرا وثروة ومكانة سياسية ودينية واجتماعية ، ومن زواجه الثاني رزق الصاحب كمال الدين أولاده ، ولم يمت والده حتى كان ابنه أحمد طفلا يدب على الأرض ، ويمكننا التعرف إلى هذا الابن من خلال استعراضنا لكتاب بغية الطلب حيث سمع الكتاب على أبيه وقام بعد وفاة والده باستدراك بعض المواد التي حالت المنية بين والده وبين تدوينها في كتابه ، فمن المقرر أن ابن العديم مات دون أن يقوم باعادة النظر في مؤلفه «بغية الطلب» ولم يقم بتبييضه ، والذي وصلنا هو مسودة الكتاب ، إنما نظرا لبراعة المؤلف وحسن طريقته وجودة خطه ، نرى أن مكانة الكتاب وأهميته هي هي ، ذلك أن أهمية الكتاب نابعة مما حواه من مواد تاريخية نهلها ابن العديم من وثائق ومصنفات غيبها الزمن عنا ، فابن العديم كان مصنفا ممتازا

١٦

ولم يكن «مؤرخا» حسب مصطلحات أيامنا هذه ، فهو قد جمع في كتابه المواد الاخبارية ونسقها ، لكنه لم يحاول تعليلها ومعالجتها كما يفعل الباحث في التاريخ في جامعات أيامنا هذه ...

ومنذ أن بلغ الصاحب كمال الدين سن الشباب أخذ يشارك في الحياة السياسية والعلمية لمدينة حلب ، فقد كان يحضر مجلس الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين ـ صاحب حلب ـ فيكرمه ويقربه ويقبل عليه أكثر من أقباله على غيره على الرغم من صغر سنه ، وفي ذي الحجة سنة ست عشرة وستمائة ولي ابن العديم أول عمل رسمي ، لقد ولي التدريس في مدرسة شاذبخت ، وكانت من أجل مدارس حلب وارقاها ، كل «هذا وحلب اعمر ما كانت بالعلماء والمشايخ ، والفضلاء الرواسخ ، إلا أنه رئي أهلا لذلك دون غيره ، وتصدر ، وألقى الدرس بجنان قوي ، ولسان لوذعي ، فأبهر العالم وأعجب الناس» ويبدو أنه تولى بعد هذه المدرسة التدريس بالمدرسة الحلاوية ، التي كانت أجل مدارس حلب ، وهى مدرسة ما زالت قائمة حتى الآن ، تعلو واحدا من جدرانها لوحة حجرية كتبها ابن العديم بخطه.

ومع مرور الأيام علت مكانة ابن العديم ، فسفر عن ملوك حلب إلى ملوك الدول المجاورة في بلاد الشام والجزيرة وآسية الصغرى ، وإلى سلاطين القاهرة وخلفاء بغداد ، وكانت خزائن كتب ووثائق كل بلد زارها تحت تصرفه ، فنهل منها ما لم ينهله سواه ، واودع جل ذلك في كتابه بغية الطلب ، ومن هذه الزاوية يمكن أن نرى أهمية هذا الكتاب ، ومن ناحية أخرى يمكننا

١٧

أن نرى المدى الذي وصلت إليه خزائن المشرق العربي قبيل وقوع الطامة الكبرى على يد المغول بسنوات.

وفي كل مكان زاره ابن العديم كان يلقى الحفاوة من رجال السلطة ، وكان في الوقت نفسه يلتقي بالعلماء وشيوخ العصر فيأخذ عنهم ، ولقد أودع ما أخذه عن علماء عصره ، وما رآه من أحداث أو شارك به ، أودعه في كتابه بغية الطلب ، حتى غدا هذا الكتاب أشبه بمنجم للمعلومات لا ينضب معينه.

وظل نجم ابن العديم يصعد في سماء السياسة في حلب وسواها حتى وصل إلى مرتبة الوزير ، ولكن مشاغل السياسة والحياة العامة لم توقف العمل الفكري ولم تعطله ، وهكذا صنف ابن العديم عددا كبيرا من الكتب ، غلب على معظمها سمة التاريخ ، ولعل أشهر كتبه «كتاب زبدة الحلب من تاريخ حلب» و «كتاب الانصاف والتحري في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري» وكتابه بغية الطلب الذي أشرنا إليه حتى الآن كثيرا ، وقد طبع كتاب زبدة الحلب في أجزاء ثلاثة في دمشق ، وأعدت الآن تحقيقه ، أما كتاب الانصاف فقد طبعت قطعة منه للمرة الأولى بحلب ثم اعيد طبعها في القاهرة ، وأقول قطعة ذلك أن الكتاب لم يصلنا كاملا بشكل مباشر.

وعندما قلت بشكل مباشر اردت أن أقول بأن الكتاب وصلنا بشكل غير مباشر ، فقد روي لي منذ سنوات أن واحدا من أحفاد ابن العديم ممن عاش بعد جده في القاهرة ، صنف كتابا حول القاضي الفاضل دعاه باسم

١٨

«سوق الفاضل في ترجمة القاضي الفاضل» ، وتوجد من هذا الكتاب نسخة خطية في مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت بالمدينة المنورة ، وقيل لي إن في ثنايا الكتاب ورد في احدى رسائل القاضي الفاضل بيت شعر من شعر المعري ، واراد حفيد ابن العديم أن يعرف بالمعري ، فقال : قال جدي في كتابه الانصاف والتحري : وأثبت نص الكتاب بكماله ، ويوجد هذا الكتاب مصورا على شريط في معهد المخطوطات التابع لجامعة الدول العربية بالقاهرة ، ومضيت إلى المدينة المنورة للتأكد من هذا الخبر ، فتيقنت من عدم دقته وان حفيد ابن العديم نقل قليلا من كتاب جده الانصاف والتحري.

ويعود سبب انتقال ابن العديم إلى القاهرة ، إلى تعرض مدينة حلب إلى الدمار سنة ٦٥٧ ه‍ على يد جيوش هولاكو ، وكان ابن العديم غادر مدينته إلى دمشق ، ثم منها إلى غزة فالقاهرة ، ويبدو أنه عاد بعد عين جالوت إلى دمشق ، وربما اراد التوجه إلى حلب ، أو توجه إليها فعلا ليعاين الدمار الذي لحقها ، وفي أثناء ذلك عرض عليه هولاكو منصب قاضي حلب ، فرفض ، وعاد إلى القاهرة ، حيث أمضى بقية حياته ، وقد وافته منيته في مصر في العشرين من جمادى الأولى سنة ستمائة وستين للهجرة.

وكنت في عام ١٩٨٨ قد حققت الموجود من كتاب بغية الطلب ونشرته بدمشق ، وكنت من قبل قد تعاملت مطولا مع كتاب «زبدة الحلب من تاريخ حلب» الذي انتزعه ابن العديم واستخلصه من مواد كتاب «بغية الطلب» ، وجاء هذا التعامل لدى اعدادي لرسالة الدكتوراه في جامعة لندن عن امارة

١٩

حلب في القرن الخامس ه / الحادي عشر ميلادي ، وعندما بدأت بعملي باعداد اطروحتي كان المنشور من كتاب زبدة الحلب الجزء الأول [نشر في دمشق ١٩٥١] والثاني [نشر في دمشق ١٩٥٤] لذلك قمت بتصوير المتبقي من المخطوط من باريس [نشر الجزء الثالث في دمشق ١٩٦٨].

لقد تولى المرحوم الدكتور سامي الدهان تحقيق كتاب زبدة الحلب ، ونشره في / ١٠٥٤ / ص وزعها على ثلاثة أجزاء ، وقدم لنشرته بمقدمه مسهبة عن حياة ابن العديم وعن مؤلفاته ، ولا شك أنه بذل جهودا طيبة في تحقيق الكتاب الزبدة ، لكن يؤخذ على عمله الاطالة ، لا بل الاسراف بالاطالة ، فهو كان مغرما بالحواشي وباقحام العناوين ، وأقحم العناوين في نص الكتاب وكأنها منه ، ولم يضعها بين حواصر للأمانة ، وفي هذا العمل تدليس وتزييف.

أما الحواشي فأكثر من تكرارها فضلا عن أنه اختلق بعضها بلا سبب ، حتى أنه كان يدعي وجود طمس بالمخطوط ، ومن ثم اجتهاده بالقراءة والضبط ، هذا وأخفق الدكتور الدهان في عدة أماكن في قراءة النص إلى حد أن «عين الجر» جاءت عنده «عبر الجسر».

وكان المرحوم الدهان قد وصف المخطوطات التي اعتمدها خاصة الأساسية منها وهي مخطوطة المكتبة الوطنية في باريس (رقم ١٦٦٦ ـ الرقم القديم ٧٢٨ مخطوطات عربية) وهي تقع في ٢٦٨ ورقة بحجم ٢٥* ٥ ، ١٧ سم ، وكتبت هذه النسخة «لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع

٢٠