صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ٢

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي

صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٢
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

الباب الثالث في إيطاليا

فصل في سفري إليها وما رأيته بها :

لما تكاثر بي المرض العصبي في صائفة سنة ١٢٩٢ ه‍ ودامت معالجته على نحو ما مر ذكره في الباب الأول من المقصد وأشارت عليّ الأطباء بالسفر إلى أوروبا ، عزمت على ذلك في شوال سنة ١٢٩٢ ه‍ الموافق إلى أواخر تنبر الأعجمي ، واستأذنت الحكومة فكتبت لي على عادة المسافرين بطاقة الجواز بالإذن في السفر من مرسى حلق الوادي ، وهي بطاقة عليها إشارة الحكومة وتكتب تارة بالفرنساوي وتارة بالعربي وذلك على حسب المكان المسافر إليه ، فإن كان بلدة أفرنجية كتبت بالفرنساوي وإن كانت إسلامية كتبت بالعربي وهذه العادة بتذاكر الجواز معمول بها في أكثر الممالك وبعض الممالك يتركونها فلا يحتاج الداخل ولا الخارج لإذن ، وركبت من المرسى المذكورة في التاسع عشر من شوّال سنة ١٢٩٢ ه‍ وكان معي خادمان أحدهما : يتكلم باللسان الطلياني والفرنساوي والألماني والعربي ، وصاحبني في هاته الجهة العالم النحرير المتبحر في علمي المعقول والمنقول الشيخ سالم أبو حاجب ، أحد أفاضل مدرسي جامع الزيتونة حيث كان له مأمورية في إيطاليا مع وزير الإستشارة أمير الأمراء حسين في خصومة تتعلق بأحد أتباع الحكومة التونسية المسمى بنسيم شمامة الذي كان مكلفا بقبض أموال الحكومة وشراء المهمات إليها وخرج من القطر بدون تحرير للحساب معه كما مر في ترجمة الوزير مصطفى خزندار وذلك في حدود سنة ١٢٨٩ ه‍ وبقي يتردد بين فرنسا وإيطاليا إلى أن مات في بلد ليفرنو من إيطاليا ، وطلبت الحكومة من ورثته تحرير الحساب وكاد أن يقع صلح بينهما ثم خرج الورثة كما مر ذكر ذلك في ترجمة الوزير المذكور ولذاك لزم الحكومة أن عينت أحد وزرائها وهو أمير الأمراء حسين ومعه العالم الشيخ سالم لطلب الحساب وتوقيف التركة ، فذهبا إلى هناك وباشرا النازلة وطالت المدة فرجع الشيخ المشار إليه إلى تونس لبعض مصالح ثم عاد إلى مأموريته وكان من المنة الإلهية التصاحب معه.

فركبنا باخرة البريد الطلياني المسماة بفوريا ونزلنا في الطبقة الأولى وكان كراء الواحد فيها من تونس إلى نابلي مائة وعشرين فرنكا وأما في الطبقة الثانية فثمانون فرنكا وأما في الثالثة فعشرون فرنكا لأن الأولى والثانية كلاهما يعطي الأكل والفرش بخلاف الثالثة فإنها للحمل فقط مع الإختلاف في المكان والفرش والأكل فكل بحسبه ، فأقلعنا من المرسى يوم

٣

الأربعاء بعد الزوال بخمس ساعات وكان في البحر شيء من الإضطراب فحصل لي شيء من الدوار واشتدّ الأمر لما جاوزنا رأس غار الملح فاضطجعت في فراشي وأوفق الحالات للإنسان هي الإضطجاع ، وهذا الدوّار البحري من أشد الأمراض لمن يصاب به وبعض من الناس لا يعتريه شيء منه وإن لم يكن متعودا ، وقد كنت قبل الركوب استعملت بإشارة الطبيب ثلاثة حقنات في الجلد من العلاج المسكن لكي لا يزيد عليّ ألم البحر الألم العصبي ومن فضل الله لم يعترضني ذلك الألم مدة الطريق ، وبقيت الحال كذلك إلى أن وصلنا إلى جزيرة سردانيا قرب مرسى كالاري فدخلت الباخرة في جون محاط بالجبال عن بعد فسكن البحر ونشطت وهو من غرائب مرض البحر إذ شدته تقضي أن الإنسان يبقى معه التعب وهو بخلاف ذلك لأنه إذا انقطع الإضطراب يحصل النشاط إلا قليلا ، ولما نشطت صعدت إلى سطح الباخرة فرأيت الجبال محيطة بنا وهي جبال أكثرها صلد لا غابات بها ومنظرها ليس بحسن وأغلبها خال عن العمران لأن التمدن لم ينبسط في تلك الجزيرة ، ولم نزل سائرين في ذلك الجون نحو ثلاث ساعات وكانت الباخرة تسير عشرة أميال في الساعة إلى أن أرسينا في مرسى كالاري التي هي تابعة لإيطاليا وكان ذلك صبيحة يوم الخميس قبيل الزوال ، فإذا بالمرسى مبنية بالرصيف لأمن السفن بحيث تستطيع أعظم سفينة أن تلصق بالبر مع الأمن من اضطراب البحر واللاصقة بالبر ، ينزل سلمها على ذات البر وفي المرسى كثير من السفن والبواخر لأن موقعها متوسط فيأتيها البريد من جهات ويفرق على بواخر كل تذهب إلى جهة من الممالك المشرقية والمغربية ، ثم يحمل من الجزيرة في السفن الملح والغلال والأثمار إلى كثير من الجهات. ثم نزلنا من الباخرة في زورق كراؤه فرنك واحد والزوارق كثيرة تحيط بالبواخر وأصحابها سيؤ الأخلاق مع المسافرين يغرونهم بالركوب قبل المساومة في الأجر ، فإذا نزل طلبوا منه أضعاف القيمة وربما سرقوا ما وجدوه معه إن أمكنهم وذاك ديدنهم في كل المراسي لكنا ساومنا قبل الركوب.

ودخلنا البلد فإذا هي بلد غير متمصرة وأغلب طرقها ضيق وأبنيتها على النحو الأوروباوي الآتي بيانه ولا تزيد طبقات دورها على أربعة وهي بلدة متصاعدة في الجبل وطرقها جميعا مبلطة ، فالذي تمر فيه العجلات يكون محصبا وغيره محجر بحجارة غير مسواة ولذلك كان منظرها والمشي بها متعبا ، وترى الحبال ممتدة بين شبابيك الديار من إحدى الجهات إلى ما يقابلها لنشر الثياب المغسولة عليها ، وفرش الديار مثل الفرش الأروباوية وبأعلى البلد بستان عمومي منتزه للعامة وتأتيه الموسيقى العسكرية لبسط العامة عشية الأحد والأعياد وفيه ماء نابع حلو وبه أشجار صغيرة مهيأة للبيع في أوقاتها ، وفي البلد منازل للمسافرين منها الحسن ومنها ما هو دونه وبها حوانيت وبطحاآت غير متسعة جدا وبها قهاوي ، ويباع بحوانيتها جميع ما يوجد غالبا من الضروريات والحاجيات والتحسينيات ، وفيها مستشفى ومدارس للتعليم في مبادىء الفنون ، وبها مطابع أيضا وفيها صحف يومية نحو الأربعة ، وهواء البلد رديء تكثر فيها الحميات في الصيف لمجاورتها

٤

لسبخة وهاته السبخة يستخدم فيها أصحاب الجرائم الثقيلة المحكوم عليهم من محاكم إيطاليا ، وفيها معمل كبير من البناء لذلك مجلوب له الماء في قناة من البناء مجتازة قرب شاطىء البحر ظاهرة للناظر ، وبسبب تلك السبخة فسد هواء كالاري حتى يقال : إن عدد أهلها كل عام في نقصان ، وقد شرع في مد طريق حديدية من هاته البلدة التي موقعها في الجنوب الغربي من الجزيرة التي هي مستطيلة من الجنوب إلى الشمال وينتهي الطريق في الشمالي الشرقي من الجزيرة ، غير أنه لم يتم إلى الآن ولا زال العمل فيه ، ثم أهل البلد على قسمين :

الأول : الأعيان والوافدون وكلاهما لباسهم مثل لباس الأوروباويين.

والثاني : بقية الأهالي ومثلهم بقية سكان البوادي والقرى في الجزيرة يلبسون جلود الغنم يصوفها ، فالصوف مما يلي البدن والجلد من أعلى ، وهيئة اللبس هي صدرية ومنتان وسراويل نحو السراويل التونسية لكن يجعلون على الساق ألبسة مربوطة والنعال خشنة ذات مسامير كبيرة وعلى رؤوسهم عرارق من الصوف أو قلانس من الصوف المنسوج طوال مدلاة على أكتفاهم ، والنسوة يلبسن قريبا من نسوة أوروبا لكن على شكل غير نضر ، وفي أرجل أغلبهن قباقب من خشب ولغتهم طليانية والغالب هو عدم التمدن والأكل رخيص هناك فالقهوة لثلاثة منا طلب صاحبها منا ستة صولدي والفرنك به عشرون صولدي كل صولدي خمسة سانتيم ، ثم ركبنا باخرة أخرى وهي التي توصلنا إلى نابلي بعد أن أحسنا إلى خدمة الطبقة التي كنا فيها وذلك من اللوازم في البواخر وكذلك الإحسان لخادمي المطاعم والقهاوي ومقدار الإحسان نحو خمسة في المائة مما يدفعه الدافع فإن كان أقل نوزع في ذلك وإن زاد شكر ، ونقلنا رحلنا إلى الثانية فأقلعت قرب الغروب وتوجهنا إلى نابلي فلم تزل الباخرة سائرة والبحر ساكن إلى أن خرجنا من الجون والتفتت الباخرة متوجهة إلى الشرق وأرخى الظلام سدوله فنمنا في مضاجعنا إلى الصباح فاستفقنا بكرة وحيث كان البحر في سكون كان يستطيع الإنسان أداء جميع ضرورياته والوضوء والصلاة على أكمل حال ، وبعد شروق الشمس أوّل ما اكتشفنا قرب نابلي جزيرة إسكيا وبها جبل مرتفع وهي تحتوي على قرى كثيرة ولها منظر جميل من بعد لارتفاع مبانيها وتزويقها من خارج ، ثم ظهر بركان نابلي وهو جبل مرتفع متصاعد من قمته دخان ثم وصلنا إلى مرسى نابلي والبلد في سفح الجبل وهي أكبر مدن إيطاليا وكانت تختا لملك النابلطان وسكانها نحو أربعمائة ألف نسمة ، وهي محيطة بجون في البحر على شكل هلال والمرسى في الوسط وهي مرسى صناعية أكبر من مرسى كالاري ، غير أن السفن في وقت وصولنا إليها أقل من الأولى فتعرض لنا عند إرساء الباخرة أحد المعارف في زورق لأنه بلغه خبر قدومنا بسلك الإشارة من كالاري ، فاصطحبنا جميعا ومررنا بوسط الكمرك ونظر المكلفون به رحلنا فلم يجدوا به شيئا يؤدي الكمرك سوى شيء من النشوق وماء الزهر ، فأخذوا ما عليهما من الضريبة.

٥

ثم ركبنا بكروستين من الكراريس الموجودة في بطحاء الكمرك مهيأة لمن يريد الركوب وهي كراريس نظيفة أغلبها يركب راكبين فقط من النوع الذي يفتح سقفه إلى خلف ومثلها موجود في أغلب الجهات الكثيرة العمران من البلاد وتجرها الخيل ، وأما عجلات حمل الأثقال فتجرها الخيل والبغال والبقر وهكذا في غيرها من البلدان غير أن البقر لا تستعمل في الجر في أعالي إيطاليا وفرنسا ، ثم نزلنا بأحد منازل المسافرين بعد أن ردنا فيه بيوتا على نحو ما يليق بنا وهو منزل كبير ذو خمس طبقات له شبابيك تفتح على نهج واسع يسمى طريق البوسطة وله شبابيك على بطحاء واسعة بها فوارتان للماء العذب المجلوب من الجبل الموزع على البلد وعلى ديارها وسائر مساكنها ، وكان الكراء لأربعتنا في اليوم للسكنى والأكل خمسة وعشرين فرنكا سواء أكلنا أم لا وما زاد على ذلك مما يطلبه الإنسان يؤتى به إليه لكنه يحسب عليه بثمنه كالورق للكتابة والشمع وغير ذلك بحيث أنه كل ما يطلبه يجده وإنما ينبغي للإنسان أن يساوم مدير المنزل قبل الإتيان بالشيء المطلوب وإلا فإنه يحمل عليه بأسعار باهظة ، وأما الأشياء الضرورية فهي داخلة في أجرة السكن والأكل وهي أن يجد الإنسان بيتا ذا فراش للنوم بغطائه ولوازمه وكراسي مكسوة بالحرير وخزنة وعليها مرآة وساعة وسائر الضروريات ، ومصباح وشمعة ومائدة لوضع الكتب وآلات الكتابة ومناديل للتنشيف من الماء عند الغسل وهكذا سائر الضروريات إلا أبريق للمستراح فينبغي حمله إلى جميع جهات أوروبا إذ لا يوجد عندهم وليسوا بمتعودين عليه وهو من العادات اللازمة للسيرة الإسلامية والنظافة ، كما أنهم في أوروبا لا يغسلون أيديهم بعد الأكل أما قبله فمن آدابهم أن يغسل الإنسان يديه ووجهه في بيته ويأتي بيت الطعام بثياب نظيفة ، غير أن من أراد غسل فمه وأصابعه بعد الأكل فله أن يطلب من الخادم في بيت الطعام أن يأتيه بما يغسل به فيأتيه بصحن فيه قدح من الزجاج أو الخزف وفيه كأس به ماء حار قليلا مخلوط بشيء من روائح الطيب فيتمضمض به ويمج الماء في القدح ويدخل أصابعه في الكأس ويمسح بها شفتيه ثم يتمسح في منديل ، ثم إن بيت السكنى مفروش بالزرابي وعلى أبوابه أردية رفيعة وهو في غاية النظافة وله خادم لتنظيف البيت وتهيئة الفرش وعند الإستيقاظ يدعو الساكن الخادم فيأتيه بالقهوة وما يتفق عليه من الأكل صباحا ، ثم ينظف الخادم البيت ويغير المناديل وأردية الفراش إن كان بها أدنى وسخ.

وعند الظهر أو قبله بساعة يضرب جرس للتهيؤ للأكل ثم بعد خمسة عشرة دقيقة يضرب الجرس مرة أخرى لحضور الساكنين من بيوتهم إلى بيت الطعام وهو بيت متسع فيه مائدة كبيرة أو أزيد يجلس عليها الحاضرون فوق كراسي ويفرق عليهم الأكل سواء والأغلب أن يكون أربعة أنواع أو خمسة من اللحوم والطيور والسمك ثم نوع من الجبن ثم فاكهة ثم ينصرفون. ومن أراد الأكل في بيته فله ذلك غير أنه يحسب عليه بزيادة في الثمن أو يعطى أقل من ألوان المائدة العامة ، وكذلك وقت العشاء وهو في الأغلب بعد الفطور بسبع ساعات ولما كان المسافر يريد التفرج فالأولى أن لا يكتري المنزل إلا للسكنى وأما

٦

الأكل فيجعل له سوم خاص لكل أكلة إن حضر أكل وإلا فلا يحسب عليه شيء لكي لا يلزمه الحضور والأكل في محل واحد أو أنه يخسر ثمنين للأكل بإعطاء ثمن الأكل في منزل السكنى ثم في المكان الذي يأكل به ، وإذا خرج المسافر يقفل بيته ويعطي مفتاحه لصاحب الباب لكي يكون رحله في أمن إذ يعتري السرقة في البيوت أحيانا سيما في نابلي ولا يطالب صاحب المنزل بما يسرق إلا إذ كانت الأشياء المسروقة ضروريا وضعها في البيت كالصندوق وأما المال والمصوغ وشبهه فلا ، ولذلك ينبغي لمن له شيء من ذلك أن يحمله معه أو يضعه في أحد البنوك لأن وضعه عند صاحب المنزل مخطر وإن أخذ منه حجة في ذلك إذ يحتمل إفلاسه فتذهب الأمانة سدى ، ولذلك يكون الأوفق للمسافر أن يحمل معه من المال العين شيئا قليلا وبقية ماله يصرفه بتذاكر بانكات معتبرة كبنك فرنسا أو إنكلترة ويحملها معه أينما ذهب لخفتها ويستريح ، ومهما أراد عين المال يصرف تذكرة من تلك التذاكر عند أي صراف أراد بل ربما ربح فيها إذ خصوص تذاكر البنك الفرنساوي والإنكليزي يرغب فيها أزيد من المال العين ولذلك يؤخذ عليها نصف في المائة زيادة عن قيمتها بخلاف تذاكر بنوك إيطاليا أو غيرها فإنها لا تصرف في غير ممالكها ، وفي ذات مملكتها تعطي الصرف أقل من قيمتها فمثلا التذكرة المسمى بها مائة فرنك من بنك إيطاليا إذا أردت أن تدفع المال وتأخذها فإنك تعطي مائة فرنك عينا وتأخذ مائة وثلاثة عشر ورقا وهاته الأوراق هي التي بها الرواج في إيطاليا بحيث أنها هي المعنية عند الإطلاق ، وفي إيطاليا عدة بنوك لها تذاكر من ذلك النوع فأما تذاكر بنك الدولة فإنها تروج في جميع إيطاليا سواء وأما تذاكر بنوك صيارفة أخر فلا تروج إلا في خصوص البلدان التي فيها البنك ، فمثلا تذاكر بنك نابلي لا تصرف في رومة أو غيرها من مدن إيطاليا فضلا عن غيرها فينبغي لمن سافر أن ينتبه لهذا.

وقد أقمنا بنابلي ثمانية أيام وتفرجنا على أغلب جهاتها وغرائبها وأشهر طرقها الحسنة البهيجة هو طريق توليدو وهو متسع عامر يمينا وشمالا بالقصور الشاهقة ، وبأسفلها الحوانيت للبضائع والتحف الأنيقة ويقرب منه في المنظر طريق البوسطة وطريق الدومو ثم طريق جديد يسمى فوريدو وهو أوسع من غيره وأنزه. وعلى حافتيه الأشجار ، لكن القصور التي حوله لم يكمل انتظامها إذ ذاك وهو في الجهة العليا من البلاد وبها عدة بطحاآت أشهرها وأكبرها التي أمام قصر الملك ، ويحيط بها قهاوي ومحلات للأكل ، ومن المباني الشهيرة التي رأيتها فيها قصر الملك الذي في البلاد وهو قرب شاطىء البحر وأمامه من جهة البحر حصون وأسفله من تلك الجهة مسكن للعسكر وعلى سطحه بستان متسع ذو أشجار ونوابع مياه تطل عليه شبابيك القصر والقصر ذو أربعة طبقات والمعد منها لسكن الملك هي الطبقة الثانية وهو قصر ضخم متقن البناء والتحسين والتزويق ، يشتمل على كنيسة وعلى ملهى خصوصي للعائلة الملكية ويشتمل أيضا على جميع الأثاث والأدوات المحتاج إليها في السكنى من فرش وأواني طعام على أنواع حتى من الفضة بحيث أنه منتظم كأن الملك

٧

ساكن فيه ، والحال أنه لا يأتيه إلا أحيانا في بعض أوقات التنزه أو تفقد المملكة لأن مقر الحكومة مدينة رومة ، لكن لما كانت نابلي سابقا قاعدة مملكة النابلطان وكانت ملوكها مستبدين أشادوا ما شاءوا في قصورهم وبقي التحفظ عليها على ما كانت عليه ولها خدمة ومكلفون حتى أن الملك إذا قدم إلى هناك لا يستحق لجلب شيء معه سوى ملبوسه ويمكن له عقد الولائم الحافلة هناك كأحسن ما تصنعه الملوك وهكذا في كل بلد كانت قاعدة لملك في إيطاليا ، وبلصق هذا القصر الملهى الكبير المسمى بصان كارلو وله منفذ من القصر الملوكي وهو من أكبر ملاهي أوروبا وأتقنها ضخامة وتزويقا ويحمل من المتفرجين نحو ألف وخمسمائة متفرج وهو ذو ست طبقات فمنها أربع طبقات كل واحدة تشتمل على إحدى وثلاثين بيتا ، ومنها طبقتان كل واحدة تشتمل على ثمانية وعشرين بيتا وكل بيت تجلس به أربعة أنفس عدا بيت الملك التي في صدر الطبقة الثانية مواجهة للملعب ، هذا عدا المحل العمومي في الوسط الذي به مقاعد عددها ستمائة وثلاثون مقعدا وهذا الملهى لم يفتح إذ ذاك منذ سنتين اقتصادا من الحكومة لأنه يلزمها في كل ليلة لفتحه أن تعين على مصاريفه بألف وخمسمائة فرنك لأن دخل المتفرجين لا يكفي مصاريفه.

ومما شاهدته أيضا قصر الملك الذي خارج البلد في رأس الجبل ويسمى كابودي منتاني وهو قصر أصغر من السابق يحيط به بستان أنيق ولم يكن بالقصر فرش سوى بعض بيوته بها فرش عتيقة جدا لملوكهم الأقدمين موضوعة هناك للتفرج عليها وبقية البيوت بها آثار قديمة من السلاح وأدواته ، حتى كان منها بيت مملوء بصور أجساد آدميين متدرعين بأنواع شتى من الدروع على حسب اختلاف الزمان ، ومنها صور فرسان بخيلهم مدرعين ومنها صور بعض ملوكهم والدروع كانت حقيقية مستعملة حقيقة في الحروب ، وبعضها به آثار الضرب والطعن حتى بالرصاص من المكاحل وبقية بيوت القصر خاوية ، والجميع بناؤه أنيق ثمين.

وشاهدت أيضا أكبر كنائسها وهي كنيسة «صان جينارو» وهي ضخمة ذات أعمدة من المرمر ومن غريب ما فيها صورة صنم من رخام أبيض عليه ثوب كأنه صفيق بحيث يبدو ما تحته والحال أنه نحت من ذاك الرخام ، وشاهدت أيضا أكبر مارستان لهم وهو ذو بيوت كبيرة كل واحدة بها نحو المائة فراش كل منها بعيد عن الآخر قدر فراشين وكل فراش لمريض واحد عرضه نحو المتر وطوله نحو المترين وربع ، وهو على سرير من خشب يحتوي على فراش وعليه إزار ووسادة وغطاء من القطن ، والمريض لابس لقميص وعلى رأسه قلنسوة من نوع القميص والكل من منسوج الكتان الأبيض ، وكل بيت يحتوي على نوع واحد من نوع المرض أو متقارب النوع ، ولكل بيت خدمة بالأجرة يوفون للمرضى بجميع لوازمهم وإعطاء الدواء في أوقاته حسب إشارة الطبيب وزيادة على ذلك كثيرا ما تأتي نسوة من الأعيان وغيرهم لخدمة المرضى والرأفة بهم حنانا منهم ورغبة في عمل الخير ، وللمارستان عدة أطباء منهم من هو ذو وظيفة وله أجر عليها ، ومنهم من يداوي مجانا إما

٨

رغبة في الخير أو لإتمام تعلمه لفن الطب حتى يأخذ الشهادة ممن له الإجازة على قوانين لهم في ذلك ، وللمارستان أيضا بيت أدوية ومواعين للجراحة والدواء وفيه قسم للرجال وآخر للنساء المرضى ، وهكذا كل مارستان غير أن بعضها يداوي مجانا وبعضها له أماكن لمن يريد التطبب من ذوي اليسار ، فيعطي مقدارا معينا يوميا والمستشفى يقوم بجميع ما يلزمه ، ويختارون التداوي في المستشفيات لأنها أتقن من مساكنهم سيما في التحفظ على ما يتعلق بالدواء وأداء الخدمة حقها مع مباشرة مشاهير الأطباء الذين يلزم لإتيانهم لمساكن المرضى مصاريف وافرة ، ومحلات هؤلاء المستأجرين في المستشفيات أنقى وأنظف وأبهى من المحلات العامة ويمكن لكل مريض أن يبقى في بيت خاص به صغير موافق في الهواء بحيث أن جميع حركات المستشفيات وأوضاعها على مقتضى الحكمة الطبية ، ثم إن مصاريف المستشفيات على أنواع : فمنها ما تقوم به الدولة ، ومنها ما يقوم به المجلس البلدي ، ومنها ما يقوم به لجنات من الأهالي ، وهذا في كل جهات أوروبا سواء ويقبلون الصدقة ممن يريدها ولو من السواح.

وشاهدت فيها أيضا الدار التي بها الآثار العتيقة ومنها الأشياء التي استخرجت من بلدة بونباي التي يأتي خبرها وهاته الآثار لو أراد الكاتب استيعابها للزم لها مجلد ضخم إذ هي مشتملة على أنواع وأشكال شتى من أقطار مختلفة ، فمما جلب من مصر المومي وهي ذات إنسان ميت مصبرة على ما كانت عليه منذ عدة آلاف من السنين لم يتغير منها شيء سوى أن اللون أسود وجوفه مثقوبة لإخراج جميع أحشائه وبقية حاله على ما كان عليه ، وفي هاته الدار نحو أربعة أجسام من ذلك النوع منها النساء ومنها الرجال وذواتهم لا تختلف عن ذوات البشر الموجود الآن ، لكن ليس فيهم ذو جسامة ولعل ذلك بسبب أن الميت المصبر إنما يكون عزيز قومه ومثل هؤلاء لا يموتون غالبا إلا بالأمراض والأمراض تنحف الأجسام فلذلك كانت أجسام الموميات نحافا ، وإلا فإن التصبير يحفظ الجسم على ما هو عليه ، ثم إن ذلك النوع من التصبير قد جهل ومع كثرة البحث عنه من حكماء الأعصار المتأخرة لم يطلع عليه فهو من العلوم التي فاز بها المتقدمون ودثرت.

ومن غرائب ما في هاته الدار أيضا قطع من ثياب منسوج من مادة حجرية وهذا المعدن يسمى أميانتو وهو الآن معروف وموجود لكن كيفية تمديده حتى يصير مغزولا وينسج منه مجهولة الآن وقد كان في الأعصر السالفة معلوما ، ومن فوائد تلك الثياب أنها لا تنحرق ، وإذا توسخت فغسلها بالنار وهي ثياب لينة تنطوي غير أنها ثخينة ، ومن غرائبها أيضا ما وجد من آثار بونباي وهي أشياء كثيرة من المأكولات وغيرها فرأيت فيها التمر والقمح والزيتون وغير ذلك مما مضى عليه ألفا سنة أو أزيد لم يتغير منه شيء سوى اسوداد في اللون ، وقالوا : «إن طعمه أيضا لم يتغير» وسمعت أنهم زرعوا حبوبا مما وجدوه كالقمح ونبت وأثمر مثل الجديد مما يدل على أن النوع واحد لم يتغير حاله مع طول الزمن ، وكل هاته الحبوب موضوعة على ترتيب حسن إلى غير ذلك من الآثار القديمة الموضوعة المنضمة في أماكن محفوظة نظيفة وعليها قيمون وتفتح يوميا لمن يريد التفرج

٩

بأجر زهيد وتسمى هاته الدار «موزاي ناسيونال».

ومما شاهدته في نابلي دار الفنون المسماة «أنيفرسيتادي نابلي» وهي يعلم بها فنون الطب والأحكام والسياسة والتجارة والكيمياء والصيدلة والبناء والفلك والجبر والمقابلة والهندسة والأبعاد وجر الأثقال ، ولكل فن قسم ومدرسون وبها محل لأجسام الحيوانات فيه أغلب ما يعرف منها من الإنسان إلى الذباب من الحشرات حتى الحيوانات البحرية لكنها كلها ميتة مجعولة بوا أي منزوعة اللحم وغيره مع التحفظ على هيئة الجلد ، ويحشى جلدها بمواد نباتية ويرسم على هيئة أصل الحيوان حيا وتجعل عيناه من زجاج فيراه الناظر كأنه حي ، وفيها من تلك الأنواع ما لا يكاد يحصى. ويوجد كتاب مطبوع في البلد مشتمل على تلك الحيوانات مع تراجمها وأغرب ما رأيته من حيواناتها ولم أره في غيرها عصفور في حجم النحلة ملون الريش وذيله ذو ريشتين فقط طويلتين كل منهما في طول ما يقرب من الشبر لها ألوان جميلة ، وكذلك رأيت فيها تنين البحر أعظم حجما من الفيل لكنه أقصر منه لأن جملة هيئته تقرب من هيئة السلحفاة ورأسه أضخم من رأس الفيل وعيناه واسعتان جدا وفمه مفتوح وجلده منكمش وبجملته له منظر بشع منفر ، ويوجد في هذا المحل جسم الإنسان على جميع أطواره منذ يتكون مضغة إلى أن يصير شيخا فانيا ثم يوجد تشريح أعضائه منفردة سواء كانت ظاهرية أو باطنية ذكورية أو أنوثية ، وجملة جسمه من المجاميع الأصلية كل منها منفرد عن الآخر فتجد جسما ليس فيه إلا العظم فقط على نحو خلقته ، ثم آخر به العظم والعروق فقط وهكذا ، غير أن بعض هاته الأجسام هو حقيقي وبعضها صوري من الشمع لكنه متقن التصوير واللون حتى كأنه هو الأصل لأن اللحم بدون جلد لم يمكن لهم تصبيره في الهواء ، وكذلك توجد أجسام المولودين على خلاف المعتاد ككون وجهه في بطنه وآخر ذو ثلاثة رؤوس إلى غير ذلك وكلها مصبرة في زجاجات كبيرة مملوءة بمياه روحية لكي تقي الجسم من التعفن ، وفي هذا المحل يتعلم فن التشريح الذي هو جزء من الطب وفي هذا المحل أيضا خزنة كتب عظيمة بها مائة وثلاثون ألف مجلد كلها طبع إلا النادر بخط اليد وبها كتب عربية كثيرة ، فمما رأيته فيها مصحف كريم مطبوع بالطبع الحجري ، ثم كتاب يسمى الكمال المسيحي للراهب «الفونس رودريكوس» موضوعه تعاليم ديانتهم وهو في مجلدين ضخمين ، ثم مجلد آخر يشتمل على توراتهم وأناجيلهم مكتوب بلغات ستة وبخطوطها واللغات هي : العربية والعبرانية واليونانية واللاتينية وحمار تيانو والسريانية بنوعيها ، ويوجد بهاته الخزنة الكتبية كورتان محيط دائرة كل منهما نحو ثلاثة ميتر أحديهما صورة الفلك وأخرى صورة الأرض مرسوم بهما خريطات متقنة مكتوب عليهما بالخط العربي الثلثي الجميل قيل إنهما من مصانع علماء الأندلس.

وبقرب نابلي على مسير نحو عشرين دقيقة في الرتل بلدة بونباي ، وهاته البلدة كانت منذ ألفين سنة مصرا متمصرة وكان أهلها مولعون بالإنكباب على الشهوات وقساوة القلب ، حتى أن من ألعابهم في الملاهي والمراسح أن يخرجوا الحيوانات المفترسة ويلقون إليها

١٠

بالناس الذين يريدون عقابهم فتتخطفهم الحيوانات وتمزق أجسامهم شر تمزيق والمتفرجون محدقون في البيوت المرتفعة المحصنة من وصول تلك الحيوانات إليهم وهم يضحكون فرحين ، ولم يكن ذلك مقصورا على رجالهم بل حتى النساء اللاتي هن أرق طباعا كن يتهورن وينبسطن من مثل تلك المناظر ، وتمادى تمرد أهل تلك البلد على جورهم وقهرهم فأرسل الله عليهم هيجان جبل الفزوفيو الذي هو بركاني وهو بقربهم على نحو ثلاثة أميال ، فزلزلت بهم الأرض وهم على حين غفلة زلزالا شديدا وهرعوا للفرار إلى الفضاء خارج البلد فأدركهم سيل العرم من النار التي قذفها الجبل فاحمر الأفق بعد أن أظلم واحلولك ، وطاف عليهم طائف من بحر النار فأهلكها وكل من فيها في بضع دقائق وتراكمت عليها المادة السيالة النارية حتى صار مكان البلد وما حولها جبلا وامتد إلى البحر وسبحان الملك القهار ، وتمادى عليها ذلك الحال وتنوسي أمرها لأن الواقعة وقعت عليها قبل التاريخ المسيحي بقليل ، وصار سطح أرضها بطول الزمان صالحا للزرع والنبات ففي عشرة الثمانين والمائتين وألف هجرية كان أحد الزراعين هنالك يحرث فنشب محراثه في عروة إحدى الأواني التي كانت في البلاد فبحث عليها فتراءى له ما ظنه كنزا وتبين أنه كنز رفيع وهو البلد الغابرة ، فعينت دولة إيطاليا مقدارا من المال سنويا وكلفت مهندسين بالكشف عن تلك البلاد مع التحفظ على هيئة بنائها وجميع ما يوجد بها ولا زال العمل مستمرا إلى الآن ، وإنما كان السير بطيئا في العمل لأن المادة النارية تحجرت وصارت صلبة مع الإحتراس من إفساد الموجود وتعسر الفرق أوّلا بين ما كان من البناء وبين ما التصق به من تلك المادة ، فأخرجوا من البلاد كل ما وجد بها إذ ما كشف عليه وجد كأنه على حالة أصله ، فأرباب الصناعات والمحلات على الهيئة التي أدركهم عليها الغرق والحرق والردم معا وكل الأجسام التي وجدت بقيت على حالها عند مس الهواء إليها سوى الأجسام الحيوانية فإنها عند مس الهواء إليها تضمحل ، فجعل العاملون حيلة لإبقاء صور الأجسام بأن جعلوا كلما تفطنوا بمس آلة الحفر لجسم حيواني أتوا بالجص وحلوه في الماء ورفعوا إذ ذاك آلة الحفر عن المحل الذي لمسته وأبقوا الهواء مماسا للجرم الحيواني من ثقب آلة الحفر فينتفش الجسم في الهواء ويبقى محله في المادة النارية خاويا فيصب فيه الجص وعند جفافه وانعقاده تكسر المادة النارية عنه وتخرج صورة الجسم على ما كان عليه ، ورأيت في بعضها بقية من فقرات الظهر وعظام الأصابع لم تبل ومما يدل على جرأة أولئك الأقوام في ذلك العصر وتجبرهم إن وجدت بعض جثثهم على حالة الوقاع ، حتى كان منها جنازة رجل وامرأة متداخلي الأرجل لكن الرجل لما أدركه الموت انزعج على قفاه وهو ناعط وبقيت المرأة على حالتها منكبة على وجهها ومقعية على ركبتيها ، فانظر إلى ذلك التجبر مع سابقية الزلزال ولم يؤثر في شهوتهم حتى أدركهم الهلاك على شهوتهم.

وأما أبنية تلك البلدة فالظاهر أن أغلبها انهدم بالزلزال وما بقي منها قائما منه المتصدع والمنشق ومنها القائم على أصله ، وهيئة بنائهم يجعلون الحائط ضيقا نحو ذراع فما دون

١١

والسقوف من بناء على هيئة قباب نحو نصف كورة أو أقل تكور ، وينظمون تقابل الأبواب فإذا دخلت بابا إلى دار من الطريق تجد سقيفة مربعة ثم بابا إلى وسط الدار وفيه أربعة أبواب إلى كل بيت ، وإحدى البيوت وراءها جنينة وبركة ماء وأسرة النوم من بناء كالدكاكين وجهة الوسادة بناء مرتفع يسيرا على سطح السرير ولا تختلف دور الأغنياء من غيرهم إلا بالكبر والصغر ، ولكل بيت طواقي إلى وسط الدار وكل الطواقي والأبواب متقابلة. والحمام الذي رأيته في البلاد هو على نحو الحمامات المعروفة الآن في البلاد الإسلامية وفيه تصاوير على الجدران بالألوان مثل الحمامات بتونس والمغرب ، ورأيت محل الحكومة وتحته السجن ، وعند مجلس الحاكم عند رجليه طاقة يطل منها على المسجونين أسفله والسجن مظلم لا يتخلله الهواء ولا الضوء إلا من تلك الطاقة ورأيت الملهى فإذا هو على نحو الملاهي الأروباوية غير أن مرسح اللعب هو وسط الدائرة وهو أسفل مكان المتفرجين والطرق كلها مبلطة بالحجارة الصلبة المنحوتة ومنقسمة على ثلاثة أنحاء : فوسط الطريق منحفظ عن جانبيه لمرور العجلات ومفروض لها على جانبيه سكة لمرور ذات العجلة فيها ، وعن اليمين والشمال محل مرور الماشين وجميع عرض الطريق نحو ثلاثة ميتر وفي محل مرور العجلات يقسم وسط الطريق بحجارة منحوتة مرتفعة على سطح الطريق بحيث تراها ناتئة على طول الطريق وجميع الطرق مستقيمة لا اعوجاج فيها وتتلاقى على زوايا حادة ، غير أن كل طريق لما كانت لا تمر فيها إلا عجلة واحدة حسبما هو مفروض للعجلات فيلزم بالضرورة أن تكون كل طريق لا تمر فيها العجلة إلا لجهة واحدة كي لا تتلاقى ، وفي محل الإدارة لكشف تلك البلاد محل لوضع الأشياء المستخرجة ثم تنقل من هناك إلى نابلي وتوضع في محل الآثار القديمة كما مر والمادة النارية المتصلبة يصنع منها تحف كثيرة في نابلي.

وفيها سوق نافقة وجميع الأماكن المعدة للتفرج إما أن يدخلها الإنسان بأجر قليل أو تكون له تذكرة الدخول من الدولة والحصول عليها سهل بواسطة أحد الأعيان أو نواب الدول ، وقد أعطانا تذاكر الدخول قنسل الترك ، وقد اجتمعت في نابلي بأكبر حكمائها وهما «توماسي» و «كنتاني» وكان الثاني يعظم الأول جدا لكبر سنه حيث أنه بلغ نحو الثمانين ولمشيخته عليه ، وكانت أجرة كل منهما في كل زيارة ستون فرنكا. وبقيت في نابلي ثمانية أيام وكان المسافر فيها يقدر أن يقيم كل يوم متوسط المعيشة بأربعة فرنك يوميا للأكل ويقدر أن يأكل في المحلات السافلة بنصف فرنك ما يأكله في المحلات العالية بعشرة فرنك في الأكلة الواحدة ، وقد دعاني هناك أحد أعيان البلدة للمسامرة في داره حيث كان حبيبا إلى مصاحبنا من أهل البلد ، فرأيت كيفية مسامرتهم ورقصهم ، وفي آخر يوم من إقامتي بها أعلمت بأن الإبرة المسماة بالبوصلة اضطربت علامة على الزلزال ، ثم ركبنا الرتل بقصد بلد رومة وكان ذلك صباحا ولما وصلنا إلى قرية «كزرتا» التي هي قرب نابلي مسير نحو ساعتين في الرتل نزلنا هناك وتغدينا في إحدى منازل المسافرين ، وأما صناديق حوائجنا فإنها ذهبت

١٢

مع ذلك الرتل إلى رومة وتنتظرنا في الكمرك في محطة الرتل إلى أن نقدم إلى هناك ، ثم ذهبنا إلى قصر الملك في بستانه المسمى بقصر «كازرتا» فإذا هو أعظم وأتقن قصر رأيته من جهة التأنق في مواد بنائه المتخذة من الأشياء الخلقية كالمرمر والرخام والحجارة الضخمة المنحوتة وإن كان غيره أشد تأنقا من جهة صناعات النقش والتذهيب والتزويق ، وهو مربع الشكل كل جهة منه في طول مائتين ميترو وأمام الباب بطحاء عظيمة على جانبيها مساكن للعساكر ، فإذا دخلت من الباب تجد القصر منقسما إلى أربعة أقسام وكل قسم في زاوية يشتمل على بطحاء وله مطالع إلى القصر ، والمطلع الكبير المعد للوقت الرسمي يشتمل على مائة وإحدى عشرة درجة من المرمر المورد اللون كل واحدة في قطعة واحدة إلا قليلا منها في قطعتين طول كل درجة ثلاثون قدما وعرضها قدمان وارتفاعها ستة أصابع ، ومبدؤ الدرج منفرد فإذا انتهت إلى نصفها رجعت إلى قسمين يمينا وشمالا فينتهيان إلى إيوان عظيم مرفوع سقفه على ستة عشرة أسطوانة من المرمر المزركل في قطعة واحدة ارتفاع الواحدة نحو عشرة أذرع ومحيطها لا يستطيع الإنسان الكامل الإحاطة بها بذراعيه ، ومنه يدخل إلى البيوت الضخام المختلفة أنواع السقوف وكسوة الحيطان والأرض بأنواع من المرمر أو الطلي أو «الموزايكو» أي القطع الصغيرة من المرمر كل قطعة نحو الأنملة من لون مرصفة على أشكال بديعة ، أو من المنسوجات الصوفية أو الحريرية من المصانع الشهيرة في العالم.

ويحتوي القصر على كنيسة وهو ذو ثلاث طبقات وقد تم منه بالبناء والأدوات داخلا وخارجا ثلثه والثلثان لم يتم منهما إلا بناء الحيطان والسقوف وبقيا ناقصي الأدوات ، وليس في القصر شيء من الفرش ويحيط به بستان طوله ثلاثة أميال وعرضه قريب منها وفي منتهاه جبل منحدرة منه عين ماء عظيمة مجعولة على نحو شلالة لانحدار مائها دوي ، وإذا قابله الداخل من باب البستان جهة القصر يظهر له من بعد كأنه منارة متصاعدة في الجو من الزجاج الأبيض ، ثم ينشأ من ذلك الماء نهر وبحيرات بها كثير من الطيور المائية وأنواع السمك ، ويحتوي البستان على مماشي وغياض متقنة ذات أنوار وأزهار كما يحتوي على آجام وغابات وحيوانات للصيد ، ثم ركبنا قرب الغروب من هناك الرتل وسرنا نحو إحدى عشرة ساعة وليس هناك من العمران مثل ما يأتي خبره ، بل أكثر الأراضي معطلة والجبال لا منظر جميل بها وإنما توجد القرى وما حولها معمورا نسبيا وكانت القرى تبعد عن بعضها في أكثر الأحوال سير نصف ساعة في الرتل. فوصلنا بلد رومة التي هي تخت المملكة بعد نصف الليل وفتشوا في الكمرك رحلنا أيضا مع إنا قادمون من إحدى بلدانهم ، وذلك لأن لكل بلد داء على ما يدخل إليها لمصالحها الخاصة زيادة على ما تأخذه الدولة من الكمرك العمومي ، ونزلنا في إحدى منازل المسافرين وأخذنا إليه صناديقنا التي وجدناها في الكمرك غير أنا وجدناها سرق منها برنس ووقع الخلاف بين مستخدمي المحطات فيمن سرقه فجماعة رومة يتهمون جماعة نابلي وهم يتهمون الآخرين والحاصل أن البرنس ضاع! وسببه

١٣

هو خروج طرف منه عن غطاء الصندوق فأمكن للسارق جذبه. ثم أقمنا برومة ستة أيام واجتمعت بأشهر أطبائها وهو الحكيم «باشلي» الذي هو أحد أعضاء مجلس النواب ، وإجمال صفة هاته البلدة أنها بلدة وسيعة سكانها نحو ثلاثمائة ألف نسمة ولهم حضارة على أهالي نابلي ، وطرقها كلها مبلطة نظيفة أما الطرق الخارجة عن البلد فهي وإن كانت صناعية غير أنها بها الطين بكثرة وإن لم يعطل العجلات ، وأحسن ما يقصد بالتفرج عليه في رومة هو كنيستها الكبرى المسماة ، «بصان باولو» التي هي أشهر مباني العالم في ارتفاع قبتها وضخامة بنائها ، وهي مستطيلة الشكل ذات قباب كثيرة ووسطاها هي أعلاها وحيطانها مكسوة بقطع من المرمر منه الخلقي ومنه الصناعي كل قطعة في طول نحو عشرة أذرع وعرض نحو خمسة أذرع وبعض الحيطان مكسو بقطع من «الموزايكو» متقنة التصوير ، والقباب كلها مكسوة بذلك أيضا والقباب مرفوعة على أسطوانات من المرمر الخلقي وبعضها صناعي وليست مستوية السمك وبعضها في قطعتين أو ثلاثة ومحيط كل واحدة من الخلقية أربعة عشر شبرا وقواعد القباب مبنية بناء ضخما جدا بحيث أن هاته الكنيسة قد أفردت بتأليف خاص من أحد حذاقهم لما اشتملت عليه من إتقان البناء وضخامته.

وبلصقها قصر البابا ويسمى «الفاتيكان» (١) وهو أكبر القصور الملكية يحتوي على إثني عشر ألف بيت وبه خزانة كتب رفيعة هي أحسن خزائن إيطاليا وبها كتب كثيرة بالخط منها العتيق ومنها نسخة من الإنجيل باللغة الحميرية العربية مكتوبة قبل البعثة بنحو مائتين سنة ، وفيها نص الآية القرآنية حكاية لقول عيسى عليه‌السلام وهي قوله تعالى : (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [الصف : ٦]. وقد اطلع على تلك النسخة أحد الإنكليزيين في هذا القصر ورويت ذلك عن ثقة روى عنه ، وذلك القصر فيه من غرائب المصنوعات والذخائر الثمينة شيء كثير حيث كانت تجبي إلى البابا جميع النصارى الكاتوليك وملوكهم من ممالكهم تقربا إليه لملكه الروحاني زيادة عن الملك الجسماني الذي كان له في مملكة رومة ، وقد زال ذلك باتحاد إيطاليا وآخر بابا كان جامعا بين الملكين هو «بيو التاسع» (٢) وهو الموجود حين مررنا على رومة لكنه منذ افتك منه الملك الحسي بقي منعكفا في قصره وله التصرف في الديانة فقط على سائر الكاتوليك في جميع الممالك سواء ، وأبقت له دولة إيطاليا جميع ما في قصره وما في الكنيسة من الذخائر واستولت على كل ما عدا ذلك ،

__________________

(١) الفاتيكان : Vatican مقام البابوات في روما ويتألف من البلاط والمتاحف والمكتبة التي تعد أهم مكتبات العالم (نحو ٠٠٠ ، ٦٧ مخطوط وأكثر من نصف مليون كتاب) ودولة الفاتيكان : دولة اعترفت بها إيطاليا في معاهدة «لا تران» (عام ١٩٢٩) رئيسها البابا ، مساحتها نحو ٤٤ هكتارا ، عدد سكانها لا يتجاوز الألف شخص. انظر المنجد ص (٥١٦).

(٢) هو بيوس التاسع (١٨٤٦ ـ ١٨٧٨) وترتيبه رقم (٢٥٤) في عهده تمت الوحدة الإيطالية ، أعلن عقيدتي الحبل بلادنس سنة ١٨٥٤ والعصمة البابوية سنة ١٨٧٠. عقد المجمع الفاتيكاني الأول. المصدر السابق ص (١٧٩).

١٤

وبعد أن تفرجنا في الكنيسة الكبرى سألنا هل يمكن التفرج في قصر البابا؟ فأجبنا بأن ذلك اليوم لا يتيسر بل نعود بعد أيام وكان ذلك بعد استئذان البابا ، ومن غد اجتمعنا بالمطران درعوني الذي هو من نصارى الشام وله دير في أعالي رومة ومعه كثير من نصارى الشام المتقسسين وهو ذو أخلاق لطيفة فصيح بالعربية وكذلك من حوله ، وسبب الاجتماع به أنه ساكن حذو كنيسة متقنة الشكل والبناء مما يقصد بالتفرج عليه فحصلت المعرفة معه من هناك ، وكان مما ذكر لنا أن البابا يريد الإجتماع بنا عند الدخول إلى قصره وأنه كلفه بالحضور ليكون ترجمانا عنه فاعتذرنا إليه بأنا على سفر ولا تيسر التأخير لذلك فلم ندخل القصر ولا اجتمعنا بصاحبه إذ لا ملجىء إلى تعظيمه ، مع أن الداخل عليه يلزمه تعظيمه كتعظيم الملوك بل ملوكهم يؤدون إليه مزيد التعظيم كأنه هو ملكهم ، ولا داعي لذلك إلا أمر ديني ، وديانتنا الإسلامية تمنع التعظيم الذي يكون مسببا عن ذلك.

واعلم أنه منذ استولت دولة «الصاردو» على جميع ممالك إيطاليا وأجرت الحرية حتى في الديانات فالداخل للكنائس لا يلزمه تعظيم شعائرها كما كان من قبل بل لا يفعل شيئا يخالف ديانته فكأنه يتفرج في قصر من القصور ، كما أنه ليس له أن يفعل شيئا من الإهانات ، وحيث أن المسلم يدخل إليهم بأمان فليس له التعرض لأذايتهم كما أنه ليس له خيانتهم ، ثم إن أمام كل من قصر البابا والكنيسة الكبرى بطحاء عظيمة وسيعة جدا وبها عدة فوارات وأشجار وفوانيس وهكذا كل بلاد تشعل بالفوانيس ليلا ، ويشق بلد رومة نهر يحمل القوارب وإذا طمى ربما أضر بالمجاورين ، وهو آت من جهة الشمال ذاهب جهة الجنوب ، وخارج البلدة الآن الكنيسة القديمة وهي الآن خراب وإنما يوجد منها أساسها وأطلال من جدرانها وقد علت الأرض عليها كثيرا فكشف عنها وبقيت عبرة للناظرين وهي أوسع من الكنيسة الموجودة الآن الكبرى ، كما يوجد بقربها ملهى قديم مثلها في الخراب على نحو ما سبق في صفة ملهى بونباي ، وقيل إنه دار الندوة إذ ذاك وهو كبير جدا ، وفي رومة أيضا منزه عمومي في الجبل ذو مماشي وحدائق وفوارات في أعلى الجبل وهو نزه ، أما غير ما ذكر فليس في رومة معامل أو أماكن تقصد للتفرج سوى ما هو خارجها من آثار بناآت الرومان في القديم وفيها ملاهي كثيرة متقنة اللعب لشهرة الطليانيين بذلك على غيرهم ، ودور الأهالي غالبا ليست بمتقنة النظافة وأسعارها في السكنى والمأكل وغيرهما غالية بالنسبة لبقية إيطاليا ، وهواء رومة وخم بسبب أن المرج التي قربها يركد فيها الماء لانخفاضها عما يحول بينها وبين البحر ، كما أن الكنائس بها كثيرة ولكل جرس فإذا دق جرس الكنيسة الكبرى دقت الأجراس من جميع الجهات وصار لها دوي يقلق الساكن ويقرب من ذلك نابلي أيضا ، ثم إنا قدمنا إلى مجلس النواب الذي كان إذ ذاك مفتوحا وهو يشتمل على خمسمائة عضو فإذا هم أناس يتدبرون في أمرهم ويتشاورون فيه بغاية الإطلاق ، وصادفنا في حضورنا البحث في نازلة مالية وهي أن وزير المال عرض على المجلس أن دخل الدولة غير واف بمصاريفها ولتعديل ذلك تلزم الزيادة في الدخل ، وقد

١٥

رأت الدولة أن الأنسب في الزيادة هو زيادة الضريبة على السلاح فوقع نزاع في أصل الزيادة ، وكان أشد المضادين نواب جزيرة «سيسيليا» إلى أن قال أحدهم : «إنك أيها الوزير لا تفكر إلا في الزيادة في الدخل بوضع الضرائب على السكان الذين أفقرتموهم لكي تأخذ أنت المرتبات الوافرة من دمائنا وكدنا إذا لم نقل بصرفك الأموال في شهواتك ومخفياتك» ، فنهره رئيس المجلس وألزمه الأدب في الكلام فعاد إلى كلامه وقال : «نعم يأخذون خفية ويحملوننا ما لا نطيق في أغراضهم وشهواتهم». فأسكته الرئيس وأطال عليه اللوم والنكير بعبارات شديدة حتى وسمه بالوحشية وأنه يضطر إلى إسكاته أو إخراجه من المجلس إن لم يلتزم آداب البحث فضج حزب المتعرض وقالوا : «ليس لكم منعنا من الدفاع عن حقوقنا وما أتينا إلى هنا إلا لحفظ حقوق الأمة من التلاعب بها» ، فأجابهم الرئيس بأن الحقوق يتوصل إليها مع سلوك الأدب فانقادوا إليه وطال النزاع في النازلة وأبقيت للمفاوضة يوما آخر ، وكان مكاتبو الصحف جالسين يحصون جميع ما يقال وما يقع حتى كتبوا نفس حضورنا لأنا كنا بلباسنا التونسي وذلك أوجب التفات الأنظار إلينا في أي مكان قصدناه ، حتى أن بعض البلدان التي ليس لأهلها تهذيب تام كان يزدحم علينا في الطريق العوام إلى أن يوقفونا بازدحامهم وأكثر ذلك في أهالي نابلي ، إلى أن التزمت فيها أن لا أخرج في الطريق إلا راكبا في عجلة وذلك لعدم تعودهم على رؤية مثل لباسنا.

وصفة هيئة مجلس النواب هو بيت كبير جدا يميل إلى الطول أكثر من التربيع وسقفه قبة مرتفعة شاهقة مؤنق في جدرانه وسقفه وأرضه وفي وسط صدره عرضا سدة ارتفاعها نحو ميتر على الأرض وفوقها كرسي وأمامه مائدة ، ويصعد إلى ذلك المحل بدرج يمينا وشمالا وهذا محل جلوس الرئيس وحوله كتبة وكراسيهم وموائدهم على الأرض ، وبقربهم في وسط البيت كراسي الوزراء وفي وسط البيت كراسي أربعة كتاب مخصوصين بمعرفة كتابة سريعة يتناوبون إثنين بعد إثنين في كتابة كل ما يلفظ به متكلم في المجلس ، وبقرب الرئيس منبر مرتفع قليلا يصعده خطباؤهم على التناوب بعد الإذن لهم من الرئيس يتكلمون في مصالحهم ، ثم كراسي منصوبة صفوفا صفا وراء صف على نحو دائرة مستطيلة ينتهي طرفاها حول الرئيس ، فالصف الأول كراسيه على الأرض والصف الذي وراءه كراسيه على سدة من خشب أعلى من الذي أمامه بدرجة من خشب ثم الذي وراءه أعلى منه وهكذا إلى نهاية الصفوف ، والدرج التي يصعد منها إلى الكراسي مقسمة لتلك الدائرة وكل قسم من الكراسي أمامه مائدة مستطيلة وفيها لكل كرسي فجر ودواة وأقلام لما يحتاجه صاحب الكرسي وكل كرسي عليه عدد مخصوص مرسوم عليه بلون مخالف للون الكرسي وفي أعلى البيت محيط به من جهاته إلا الجهة التي بها الرئيس رواقات يجلس بها المتفرجون ولصاحب الملك بيت بإزاء محل المتفرجين يأتيه إذا أراد كما له كرسي في المجلس ، وأما وظيفة المجلس فسيأتي الكلام عليها.

ثم رحلنا من رومة وقصدنا «ليفورنو» راكبين الرتل فإذا بقرب رومة آجام راكدة فيها

١٦

المياه وفيها من البقر شيء كثير مسرح هناك للأهالي بدون حراس مخصوصين لكل أحد بل على المكان قيمون يؤتى إليهم بالبقر ويستودع هناك إلى وقت احتياج أصحابه ، ومنه ما لا مالك له فيتناسل هناك وتبيع منه الدولة لمن أراد الشراء ومررنا في سيرنا على مرسى «بيشي تافيكيا» التي هي أقرب مرسى طليانية إلى رومة قاعدة المملكة وفي آمال مهندسيهم أن يفتحوا خليجا من تلك الجهات من البحر ليصل إلى حدود بلد رومة لأن الأرض هناك منخفضة وبه ينصلح الهواء من تعفن المروج التي يركد فيها الماء ، واستمر الرتل سائرا بقرب الشاطىء إلى أن وصلنا إلى «ليفورنو» في الساعة الثالثة قبل نصف الليل بعد مسير إحدى عشرة ساعة ، وقد توقف الرتل في المسير عندما وصلنا إلى جسر على أحد الأنهر حيث أن فيضان النهر هدم الجسر فنزلنا من الرتل وعبرنا النهر مشاة على أخشاب ضيقة ، والحال أن النهر عريض والوقت ليل والمطر نازل ثم ركبنا رتلا آخر مهيأ في الناحية الأخرى من النهر إلى أن وصلنا إلى «ليفورنو» فإذا هي بلدة واسعة الطرق نظيفتها متقنة التحصيب والتبليط بحجارة منحوتة مستوية وبها قليل من البطحاآت الوسيعة أشهرها ما تسمى «بياص دي كافور» وكافور هذا وزير إيطاليا الذي جد في وحدتها الأخيرة فرسم تمثاله بتلك البطحاء وسميت به وكذلك البطحاء الكبيرة ، ويخترقها خندق به ماء البحر وعليه جسور وهذا الخندق كاد أن يكون مخترقا لجميع جهات البلد وذلك لفائدتين.

الأولى : هي أن البلد أرضها مسبخة ندية فذلك الخندق تنجذب إليه المياه مما حوله ويحصل جفاف الأرض وما أخرج من ترابه الكثير علت به أرض البلاد.

والثاني : أن البلد كانت من أهم مراسي التجارة لإعفائها من الأداء ترغيبا في عمرانها ، فتكثر فيها السلع وتحمل في القوارب وتسير في تلك الخندق من السفن إلى المخازن إذ ماء البحر بالخندق عميق.

وبخارجها على الشاطىء منتزه عمومي ممتد نحو ميلين به حدائق الأشجار والأنوار ومغاطس من البناء أو الخشب على البحر وقهاوي وملاهي تنتدبها الناس زمن الصيف من أهالي البلد وغيرهم ، والطريق للمارة وسيع جدا وعلى حده قصور شاهقة ذات منظر جميل أمامها الطريق ودونها الحدائق ومن ورائها القهاوي والملاعب والمغاطس ومن ورائها البحر وهي في الصيف ليلا ونهارا منزه مريح ، ويسمى ذلك المكان «البساجاتا» و «برت ماري». وفي البلد خزنة للماء مسقوفة ببناء ضخم شديدة النظافة حتى يرى الرائي في قعر الماء مع عمقه كتابة على الحجر بيّنة ، والماء في غاية الصفاء مع اتساع الخزنة ومحل استقرار الماء منقسم على عدة أقسام ، فيدخل الماء المجلوب من عين غزيرة إلى أحد الأقسام إلى أن يتملىء ثم يخرج منه من أسفل إلى قسم آخر ، ثم منه من أعلى إلى قسم آخر وهكذا بحيث أن كل قسم يكون مملوءا ولا يخرج منه إلا بقدر ما دخل فيه لتصفية الماء وتروّقه حتى لا يخرج إلى عموم البلد إلا بعد انتهاء ترويقه ، وهاته البلدة موقعها على البحر وهو غربيها

١٧

وهي من المراسي الشهيرة للتجارة والحرب وقد بني بها ميناء مأمنا للسفن ذات حوضين ، قيل أنفق عليها مائة وعشرون مليونا فرنكا وبها مرفأ للسفن ولإنشائها ، ولما وصلنا إلى البلد وجدنا الوزير حسين الذي قصدنا البلد لأجله غائبا في «فيرينسا» بدار سكناه حيث كان تابعه هناك ، ثم وادعت صديقي الشيخ «سالم أبو حاجب» حيث كانت مأموريته هناك ، وركبت بكرى ليلة وصولنا قاصدا الوزير المذكور في بلد «فيرينسا» وأبقيت غالب رحلي وأحد تابعي هناك لاحتمال العود ، فسرنا في الرتل ثلاث ساعات وكان حول «ليفورنو» بعض غياض ليست حسنة جدا.

ومررنا على بلد «بيزة» مناخ علم الطب سابقا ، فإذا هي من مدن إيطاليا الشهيرة ويخترقها نهر وحوله منارة وقد انفردت هاته البلدة بشيئين.

أولهما : أغرب شيء من مباني العالم وهو الصومعة الوحيدة المائلة فإن هاته الصومعة يراها الناظر مائلة ميلا كليا إلى جهة الجنوب حتى يخالها أنها ساقطة لا محالة ، وهي ليست بمرتفعة جدا وبناؤها من حجارة منقوشة ومرمر ودرجها كل في قطعة واحدة من المرمر ، وهي في وسط بطحاء قرب كنيسة وأسفل قاعدتها مائل أيضا غائر في الأرض من جهة الميلان ومرتفع من مقابله وقد اختلف النقل في سبب ميلانها ، فقيل : إنها بنيت كذلك وهو من مهارة صناعها ومعرفتهم بفن الأثقال ، وقيل : إنها بعد ما بنيت انخفضت بها الأرض من إحدى جهاتها فمالت. وعلى كل فسبب عدم سقوطها هو عدم خروج قطر محيطها بالميلان عن مركز قطبها ، والحاصل أنها من عجائب المناظر. وقيل إن ميلان أعلاها عن مساواة أسفلها أبع ميتروات ، ومثلها في الميلان صومعة أخرى خارج البلد جهة الشرق لكنها ليست في إتقان الأولى ولا في ارتفاعها ، وقد بني حولها بناء ملاصق لها لتوقع سقوطها وبقي أثر الميلان ظاهرا.

وثاني الشيئين الغريبين : الكنيسة ، وهي ليست بكبيرة ولكنها كثيرة التأنق والرونق سيما من ظاهرها وزيادة غرابتها في الصدى الذي يحصل فيها من الأصوات إذ يدوم فيها الصدى ويعتلي على وجه خارق للمعتاد والسبب فيه شكل البنا وطلي الحيطان.

وبعد أن جاوزنا «بيزة» بدلت الأرض غير الأرض التي عهدنا منظرها في بلادنا وما مررنا عليه من كيفية العمران واتصاله وإتقانه ولا يوفي الوصف والقلم بتصويره وتقريبه ، وبالجملة فليس أن كل قطعة من العمران لم نعهدها بل عهدنا مثلها ولنا قطع تضاهي أفراد تلك القطع سواء كانت في البساتين أو في القصور التي بها أو في إثارة الأرض وتعميرها ، لكن الذي لم يعهد لنا هو اتصال ذلك العمران وامتداده وتماثله إلى ما لا يحيط به البصر مع تحسين جهات الإتصال العامة ، فإنها تحدث من ذلك هيئة إجتماعية لها اعتبار زائد فوق اعتبار قطيعات منفردة وإن بلغت من الإتقان ما بلغت.

ثم وصلنا إلى «فيرينسا» فإذا موقف الرتل بها جميل أنيق وإذا بالبلد وسيعة لكن طرقها

١٨

القديمة ضيقة ، وأما الجديدة فواسعة شديدة النظافة وتهذيب أخلاق السكان والحضارة ويخترقها نهر على جانبيه رصيف منحوت ، وفي مجرى الماء عرضا عوارض مبنية لحصر الماء كي يكون عمقه حدا محدودا ونشأ من ذاك خرير عظيم له دوي ، وعلى جانب النهر منزه عمومي ممتد أزيد من ميل وبه فوّارات وحدائق وأنوار وفي نهاية المنزه عند ملتقى النهر المذكور بجدول صغير بطحاء بها قبة من رخام صغيرة بلا حيطان مرفوعة على أسطوانات جيدة رخامية عالية على الأرض ، وبوسطها صورة مجسمة من الرخام لأحد أمراء الهند الشبان وملونة بلونه ولون ثيابه الرسمي ، وكان ذلك الأمير سائحا في أوروبا بعد زيارته لملكة الإنكليز متداويا فلما حل «بفيرينسا» مات وكان مجوسيا ، فأرسلت عائلته مكلفا إنكليزيا لرسم صورته في ذلك المحل الذي أحرقت جثته فيه على عادة المجوس ودفن رماده تحتها ، وكان من عاداتهم أن مكان الإحراق يكون في ملتقى نهرين فلذلك فعل به ذلك هناك وجعل على ذلك المحل قيم ووقف وكان ذلك في عشرة التسعين والمائتين وألف.

وفي حدود البلدة من الجنوب منتزه آخر في جبل مرتفع نزه جدا ذو بساتين وقصور وطرق وسيعة سهلة الصعود بالكراريس وفي منتهى ارتفاعه بطحاء وسيعة ذات مصاطب ومنازه وبقربها كنيسة قديمة مرصفة الحيطان من خارج بالرخام الأبيض والأسود تقصد بالتفرج ، وجملة ذلك الجبل منتزه ، ولما صعدت إلى هناك أحسست ببرد شديد لارتفاعه ولبرد الزمن.

ومن أحسن ما بالبلد قصر القلرية الذي به بيت أغلب حيطانه من البلور ، وهو قصر ضخم وبه من التصاوير المرسومة في الخرق المنسوجة مع النسج وفي الورق شيء كثير وكذلك المسجدة من الحجر والنحاس ، وقال بعضهم : إن مجموعها مليون من التصاوير ، كلها في غاية الإتقان تعتني لها المصورون من الآفاق لتقليدها ، ومما بها من التصاوير صور الملوك من جميع الآفاق في أعصار مختلفة ، ومنها : صورة محمد باشا الأوّل والي تونس ، ويتصل هذا القصر بقصر سكنى الملك عند استقراره الحكومة هناك ، وهو قصر كبير ليس بغريب أصله لأحد السكان فاشترى منه لاستقرار الملك ، وهو لا زال مشتملا على جميع المرافق مثل ما تقدم في قصر نابلي.

ومن غرائب البلد ارتفاع قبة كنيسة بها مبنية من ظاهرها بالرخام الأبيض والأسود على أتقن صناعة ، وبها من الأسطوانات الجيدة اللاصقة بذلك الرخام ومن النقش الغريب فيه ما جعلها من أتقن البناآت ، وارتفاع القبة مائة وسبعة عشر ميترو وبإزائها صومعة جيدة ارتفاعها سبعة وسبعون ميتر وهي في البناء على نحو الكنيسة ، وبالجهة الغربية منها صومعة أخرى أعلى منها ومن القبة أيضا ، وبالبلدة عدة ملاهي حسنة. وقد اشتد البرد في هاته البلدة بالنسبة لما اعتدناه وقد أقمت بها ضيفا عند صديقي الوزير حسين التونسي وترجمة هذا الوزير باختصار : هو رجل من الجراكسة أتى إلى تونس وسنه دون العشرة فربي في سراية

١٩

الوالي حسين باشا وأدخل إلى مكتب المهندسين العسكرية فحصل مشاركة جيدة في النحو والأدب والفقه ومهارة في الفنون العسكرية وإجادة للغة الفرنساوية ، ثم وظف في عساكر الخيالة بمعية أمير لوائها إذ ذاك خير الدين باشا وسافر معه إلى فرنسا في خصام محمود بن عياد في ولاية أحمد باشا ، ثم ولي رياسة المجلس البلدي بحاضرة تونس وأحدث في الحاضرة إصلاحات عديدة في ولاية محمد باشا ، ثم عند ولاية الصادق باشا ولي رئاسة مجلس الجنايات ومستشارية الوزارة الكبرى وعضوية المجلس الخاص والمجلس الأكبر ، ثم استعفى من الجميع عند إيقاف القوانين ورحل إلى أوروبا وساح سياحات وسيعة إذ كان قبلا عرف أكثر ممالك أوروبا كألمانيا والدنمرك والسويد وهلاندا والبلجيك وإيطاليا وفرنسا وإنكلتره والجزائر والأستانة ، في سفارته منفردا أو مع خير الدين باشا سفيرا عن الوالي المذكور ، وعند استعفائه المذكور رحل إلى المغرب وإسبانيا والنمسا والروسيا وأمريكا ومصر والحجاز ، ثم استدعته الحكومة عند ولاية خير الدين وزيرا مباشرا هو وغيره ممن ابتعدوا عنها ، فولي مستشارا في القسم الثاني من الوزارة ، ثم سافر إلى إيطاليا لخصام ورثة نسيم في حساب مورثهم مع الحكومة التونسية كما تقدم ، وأقام «بليفورنو» حيث مات المورث ولا زال في الخصام إلى الآن ، ثم لقب بوزير الإستشارة ومستشار المعارف وهو ذو أخلاق كريمة وصفات عظيمة ومعارف وسيعة وفصاحة مريعة له عدة رسائل في كثير من المسائل ، وكانت إقامتي عنده في «فيرينسا» في إحدى منازل المسافرين الضخمة قريبا من النهر ، واجتمعت بأشهر حكماء البلد المسمى «شيف» وبعد أن استقرأ تقرير المرض واستخبر الجسم أشار إليّ في مضمون كلامه أن المرض ليس بمخوف ، كما أنه من الأمراض المزمنة وأنه يدافع بترتيب المعيشة في الأكل والمسكن وارتياح الفكر والبدن والإبتعاد من هواء البحر وحسن سكنى الجبال وأن كثرة الأدوية مضر قليل الجدوى ولقد صدق.

ثم طلبت تلغرافيا بقية رحلي وتابعي وسافرت قاصدا باريس مارا على تورين للإستراحة بها ، فركبنا الرتل صباحا وسرنا في الوهاد نحو الساعة على ذلك المنظر البديع ثم تصاعدنا في الجبال وكان للرتل حينئذ مزجيتان ومهما ازددنا تقدما في الإرتفاع إلا وازداد المنظر بهجة ورونقا ، إلى أن انتهينا في الصعود فكان منظرا ترتاح له النفوس ويجلي عن القلوب كل بؤس ، يا له من جمال ويا لله من بدائع صنع بتكوينه وبخلقه بأعمال الرجال ، فالقرى البهيجة منتشرة على مد الأبصار والأشجار تمد أغصانها لتناول الدراري من الأفلاك تخالها بقايا قد انتثرت منها من الثمار ، إذ قد استعوضت عن خضرتها الزبرجدية بالثلوج الياقوتية والأرض والجبال قد بسط عليها بساط الفضة الزلال مع الإتقان في تنضيد الأشجار وإثارة الأرض بالحرث وتدفق المياه من ينابيع العيون ، وسيول أمياه الثلوج المذابة المنحدرة في جداول ثم نهيرات ثم أنهر متبحرة ، ولا يسير الرتل نصف ساعة إلا ويقف على قرية نضرة وتارة يمر حذو رواشن القصور ، وأخرى حول سطوح الديار وطورا ترى البلدان

٢٠