المسالك والممالك - المقدمة

المسالك والممالك - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٦

١
٢
٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تعريف

عزيزى القارئ .. تحرص سلسلة (الذخائر) دائما على التنويع فى الوجبة الثقافية الهنيئة المريئة التى تقدمها لك مرتين كلّ شهر ، فهى تخرج بك من كتاب فى الأدب إلى آخر فى اللغة ، إلى ثالث فى التاريخ إلى رابع فى الفلسفة ، إلى خامس فى الاجتماع .. وهكذا.

وفى هذه الحلقة تقدّم لك (الذخائر) كتابا فى جغرافيّة الأقاليم ، أو علم البلدان ، هو كتاب (المسالك والممالك) لأبى إسحاق إبراهيم بن محمد الفارسى الإصطخرى المتوفّى حوالى منتصف القرن الرابع الهجرى.

ويبدو أن الرجل كان سيّئ الحظ فى حياته ، وبعد مماته ، أما عن حياته فلم يعرف عنها الكثير ، بل إن نسبة (الإصطخرى) قد غلبه عليها فقيه شافعىّ معاصر له ، هو : أبو سعيد الحسن بن أحمد بن يزيد ت ٣٢٨ ه‍ [سير أعلام النبلاء للذهبى ١١ / ٦٣٤] أما بعد موته فقد حالف سوء الحظّ كنيته (أبو إسحاق) فكتبت على صفحة عنوان الكتاب فى طبعة وزارة الثقافة ـ مصر ١٩٦١ (ابن إسحاق) ، بينما كناه محقّق الكتاب (أبو القاسم) [انظر ص ٩ من الطبعة المشار إليها].

عنوان (المسالك والممالك) حمله أكثر من كتاب لأكثر من مؤلّف جغرافىّ. فهناك (المسالك والممالك) لأبى جعفر أحمد بن الحارث بن المبارك الخزّاز ت ٢٥٨ ه‍ ، و (المسالك والممالك) لأبى العبّاس جعفر ابن أحمد المروزىّ ت ٢٧٤ ه‍. ويقول صاحب (الفهرست) إنه أوّل من ألّف كتابا فى المسالك والممالك.

وممن ألّفوا كتبا بهذا العنوان : أبو العبّاس أحمد بن محمد بن مروان ابن الطيّب السّرخسى ت ٢٨٦ ه‍ ، ومنهم : أبو عبد الله أحمد بن محمد ابن نصر الجيهانى (ق ٣ ه‍) ، ومنهم : عبيد الله بن أحمد بن خرداذ به

٥

ت ٣٠٠ ه‍ ، ومنهم : أبو زيد أحمد بن سهل البلخى ت ٣٢٢ ه‍.

ويجيء الإصطخرى مؤلّفنا فى الطبقة التى تلى من تقدّم ، ومركزها فى القرن الرابع الهجرى ، ومن أبرز أعلامها ـ إلى جانب الإصطخرى ـ أبو الفرج قدامة بن جعفر ت ٣٣٧ ه‍ [وشهرته كنا قد لا تمنع من أنّ له جهودا مدوّنه فى جغرافية البلدان والأقاليم] ، والمسعودى ـ صاحب (مروج الذهب) ت ٣٤٦ ه‍ ، وابن حوقل ت ٣٦٧ ه‍ ، والمقدسى (شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد ت ٣٧٥ ه‍) صاحب (أحسن التقاسيم فى معرفة الأقاليم).

اتّساع التأليف فى جغرافية البلدان والأقاليم يلفتنا إلى وجه من الشّبه ، قد يبدو ـ لأول وهلة ـ بعيدا ، بين موضوع هذه الكتب وموضوع الكتاب الذي قدمته (الذخائر) فى حلقتها السابقة ، وهو كتاب (مفاتيح العلوم) للخوارزمى ت ٣٨٧ ه‍ ، والذي قرن إليه عند تقديمه كتابا (إحصاء العلوم) للفارابى (أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان ت ٣٣٩ ه‍) و (الفهرست) لأبى الفرج محمد بن إسحاق النديم ت ٣٨٠.

كلا الضربين من موضوعات التأليف يحمل دلالة تاريخيّة وحضاريّة ، كلاهما دالّ على اتّساع رقعة العالم الإسلامى من جهة ، وعلى بلوغ العلوم العربيّة الإسلامية مرحلة من النضج والازدهار والتشعّب من جهة أخرى ، اتّساع رقعة العالم الإسلامى اقتضى التعريف به بل وببقيّة مناطق العالم المعروفة وقتها ، سكّانا وبلادا وطرقا ومعالم طبيعيّة ؛ تسهيلا للتنقل بينها ، تجارة وعملا ، أو دراسة وبحثا ، أو متعة وتأمّلا. بينما اقتضى ازدهار العلوم الإسلامية العربيّة وتشعبها العمل على إحصائها ثم تصنيفها وفهرستها.

هكذا مضى ركب الثقافة العربيّة الإسلامية ، فى ظلّ ظروفه المواتية ، حثيثا فى اتجاه التطوّر وسعة الأفق ، عازفا عن كلّ ما يجرّ إلى التأخّر ويبعث على الانغلاق.

عبد الحكيم راضى

٦

محقق هذه الطبعة

الأستاذ الدكتور محمد جابر عبد العال الحينى

عزيزى القارئ ... معذرة .. إذ لم نستطع الحصول على معلومات كافية عن الأستاذ المحقق ، وقد لجأنا إلى سؤال العديد من الأصدقاء والزملاء الذين توقعنا أن تكون لهم به معرفة من قريب أو بعيد. لكن ما حصلنا عليه لم يكن ليسد رمقا أو يروى غلة ..

لقد ذكر لى أحد أساتذتى (١) أن الدكتور الحينى بدأ حياته بالعمل فى المكتبة العامة لجامعة القاهرة. ونبهنى أحد الأصدقاء (٢) إلى أنه حقق بعض أجزاء كتاب (نهاية الأرب) للنويرى الذي طبعته دار الكتب المصريّة ، وقد وجدت اسمه بالفعل على الجزءين الثانى والعشرين والخامس والعشرين ، كما استخرجت من فهارس المكتبة العامة لجامعة القاهرة أسماء ثلاثة كتب اقترنت باسمه ، أحدها بتحقيقه ، وهو كتاب (المسالك والممالك) للإصطخرى الذي نقدمه فى هذه الحلقة ، والآخران من تأليفه ، أحدهما (الخنساء ، شاعرة بنى سليم) وقد صدر فى سلسلة أعلام العرب ، عن المؤسسة المصرية العامة للتأليف سنة ١٩٦٢ ، والآخر (فى العقائد والأديان المعاصرة ، الديانات الكبرى) عن الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر سنة ١٩٧١. أما أنا فقد التقيت به فى العالم الجامعى ٧٩ / ١٩٨٠ فى كلية التربية بجامعة عين شمس ، حيث كان كلانا منتدبا لإلقاء بعض المحاضرات بالكلية ..

ذلك كلّ ما لدينا عن الأستاذ الدكتور محقق الكتاب ، وإن هيئة تحرير سلسلة الذخائر ليسعدها أن تتلقى أى معلومات عنه تفيد فى كتابة ترجمة مناسبة له يمكن الإفادة منها فى المستقبل.

رئيس التحرير

__________________

(١) هو أستاذى الدكتور شوقى ضيف مدّ الله فى عمره ونفع بعلمه.

(٢) هو الصديق الأستاذ الدكتور محمد عبد الحميد سالم ـ بكلية الألسن جامعة عين شمس.

٧
٨

مراجع هذه الطبعة

المرحوم الأستاذ الدكتور : محمد شفيق غربال

١٣١١ ـ ١٣٨١ ه‍ ١٩٨٤ ـ ١٩٦١ م

ـ مؤرخ من رجال التعليم ، ومن أعضاء المجمع اللغوى بالقاهرة.

تخرج بمدرسة دار المعلمين العليا (١٩١٥) وحصل على الماچستير فى انجلترا (١٩٢٤).

ـ درّس بالمعلمين العليا ، ثم كان أستاذا مساعدا للتاريخ فى الجامعة المصرية القديمة ، وتدرّج فى مناصبها إلى أن اختير عميدا لكلية الآداب فيها.

ـ عمل مستشارا فنيا لوزارة التربية والتعليم (المعارف) ثم وكيلا لوزارة الشئون الاجتماعية.

ـ تولى فى أعوامه الأخيرة إدارة معهد الدراسات العربية بجامعة الدول العربية حتى وفاته.

من مؤلفاته المطبوعة :

(١) بداية المسألة المصرية وظهور محمد على.

(٢) المفاوضات البريطانية من الاحتلال إلى معاهدة ١٩٣٦.

(٣) منهاج مفصل لدراسة العوامل التاريخية فى بناء الأمة العربية.

(٤) «محمد على الكبير» فى سلسلة أعلام الإسلام.

من مترجماته :

المدينة الفاضلة «ترجمة عن بيكر».

[الأعلام للزركلى ٦ / ١٥٩]

٩
١٠

مقدم هذه الطبعة

الأستاذ الدكتور عبد العال عبد المنعم الشامى

ـ تخرج فى قسم الجغرافيا بكلية الآداب جامعة القاهرة.

ـ حصل على الماچستير (١٩٧٣) ، والدكتوراه (١٩٧٧) فى الجغرافيا.

ـ تدرج فى وظائف هيئة التدريس حتى أصبح استاذا متفرغا بقسم الجغرافيا بآداب القاهرة.

من مؤلفاته :

ـ أثر العامل الجغرافى فى ازدهار أم القرى قبل الإسلام.

مجلة الدراسات الإسلامية ، السنة الثانية ، العدد الأول.

ـ جهود الجغرافيين المسلمين فى رسم الخرائط ، الكويت ١٩٨١.

ـ مدن مصر وقراها عند ياقوت الحموى ، الكويت ١٩٨١.

ـ جغرافية المدن عند العرب ، عالم الفكر ، مج ٩ / ١٤ ، الكويت ١٩٧٨.

ـ من مباهج الفكر ومناهج العبر للوطواط ـ دراسة وتحقيق ، الكويت ، ١٩٨١.

ـ نظم الرى والزراعة فى مصر فى الكتابات العربية ، الندوة العالمية الثالثة لتاريخ العلوم عند العرب ، المجلس الوطنى ، الكويت ١٩٨٣.

ـ جغرافية العمران عند ابن خلدون ، الكويت ١٩٨٨.

ـ العمران فى الواحات المصرية خلال العصر الوسيط ، مج ٤ / ع ٤ ، ١٩٩٠ كلية الآداب بالمنيا.

ـ مدن مصر وقراها فى القرن الثامن الهجرى ـ القسم الأول ـ مجلة الآداب والعلوم الإنسانية ، سلسلة الإصدارات الخاصة ، مج ٩ ع ١ ، ١٩٩١ المجلة العلمية بكلية الآداب جامعة المنيا.

١١
١٢

تقديم

بقلم د. عبد العال الشامى

يعتبر الإصطخرى من أعلام المدرسة الجغرافية العربية فى مجال الدراسات الإقليمية ورسم الخرائط التى ظهرت وازدهرت فى القرن الرابع الهجرى ، وتتمثل هذه المدرسة فى نتاج مجموعة من الجغرافيين بدأت برائدهم البلخى (أبو زيد أحمد بن سهل البلخى) ثم تبعه الإصطخرى ، الذي عاصره ابن حوقل وجاء من بعده المقدسى.

وقد اعتمد هؤلاء فى مؤلفاتهم على إكساب لفظ الإقليم دلالة مغايرة لما كانت عليه الجغرافية عند الإغريق من حيث ما يسمى بالأقاليم السبعة ، وجاء هذا الاتجاه الجديد ليقصد بالإقليم كيانا مساحيّا يسهل تحديد حدوده الطبيعية ، كما أنه وحدة إدارية سياسية خاضعة لنظام مركزى سياسى موحد ، وكثيرا ما كانت هذه الكيانات الإقليمية ذات أصول عرقية ولغوية موحدة فضلا عن الجوانب الاجتماعية.

ومثل هذا الاتجاه الجديد المغاير للتقسيمات السابقة أقرب ما يكون لمدلول لفظ الإقليم ؛ لأنه كما يقول ياقوت الحموى : إنما سمى إقليما لأنه مقلوم من الأرض التى تتاخمه ، أى مقطوع ، والقلم فى أصل اللغة القطع وفى القرآن الكريم : (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ)

[سورة آل عمران. الآية ٤٤].

يقول الإصطخرى فى مقدمة كتابه : «ذكرت فى كتابى هذا أقاليم الأرض على الممالك ، وقصدت منها بلاد الإسلام بتفصيل مدنها ...

١٣

ولم أقصد الأقاليم السبعة التى عليها قسمة الأرض». وحين رسم صورة معمور الأرض فى عصره قال : «فهذه صورة الأرض عامرها والخراب منها وهى مقسومة على الممالك. وعماد ممالك الأرض أربعة : مملكة فارس ، ومملكة الروم ، ومملكة الصين ، ومملكة الهند. فلما جاء الإسلام أخذ من كل مملكة بنصيب. وبهذا ظهرت مملكة الإسلام».

ومثل هذا التقسيم الإقليمى الكبير هو أشبه بما ندرسه اليوم فى الدراسات الإقليمية لمناطق كبرى مثل : غرب أوروبا ، الاتحاد السوفيتي ، جنوب غرب آسيا ، الشرق الأوسط ، أفريقية جنوب الصحراء ، إمريكا اللاتينية ..

ثم أعقب هذا التقسيم العام على الممالك بدراسة تفصيلية شاملة لمملكة الإسلام ، وهنا يتضح مدلول لفظ الإقليم بصورة أوضح ، حيث أصبحت ولايات أو ممالك الإسلام أقاليم جغرافية واضحة المعالم ، ولكل إقليم صورة (خريطة) فيها ما يمكن توقيعه من ظاهرات ثم تأتى الكتابة كشرح مفصل لجغرافية الإقليم.

وهكذا نجد هناك مزاوجة بين الدراسة الإقليمية ورسم الخريطة على نحو ما يقول : «الغرض من كتابى هذا تصوير الأقاليم التى لم يذكرها أحد علمته ، أما ذكر مدنها وجبالها وأنهارها وبحارها والمسافات وسائر ما أنا ذاكره فقد يوجد فى الأخبار ، ولا يتعذر على من أراد تقصى شىء من ذلك من أهل كل بلد ، فلذلك تجوّزنا فى ذكر المسافات والمدن وسائر ما نذكره».

وإذا كان الإصطخرى قد قدّم لجميع الأرض صورة فى مستهل كتابه ، فإنه قد أفرد بعد ذلك لكل إقليم من بلاد الإسلام صورة على حدة ، وقد بلغت عشرين إقليما هى :

١٤

١ ـ ديار العرب ، ٢ ـ بحر فارس ، ٣ ـ المغرب ، ٤ ـ مصر ، ٥ ـ الشام ، ٦ ـ بحر الروم ، ٧ ـ الجزيرة الفراتية بين دجلة والفرات (أى النصف الشمالى من العراق) ، ٨ ـ العراق ، ٩ ـ خوزستان (عربستان) ، ١٠ ـ فارس ، ١١ ـ كرمان ، ١٢ ـ بلاد السند والهند ، ١٣ ـ أرمينية وأذربيجان ، ١٤ ـ الجبال ، ١٥ ـ الديلم ، ١٦ ـ بحر الخزر ، ١٧ ـ المفازة التى بين فارس وخراسان ، ١٨ ـ سجستان ، ١٩ ـ خراسان ، ٢٠ ـ ما وراء النهر (نهر جيحون).

ويلاحظ من حيث ترتيب الأقاليم الأخذ فى الاعتبار تقديم ديار العرب على غيرها وذلك لمكانتها الدينية ، ولما كان بحر فارس بمدلول العصر (أى جملة المسطحات المائية الممثلة فى المحيط الهندى بذراعيه البحر الأحمر والخليج العربى) يحيط بمعظم ديار العرب ؛ فقد ذكر تاليا لديار العرب حتى تستكمل الصورة ، ثم جاء ذكر الأقاليم الإسلامية بعد ذلك من أقصى الغرب ، أى كل الشمال الإفريقى والأندلسى ، ثم مصر الممتده حتى برقة فالشام. وعند هذا الحد من الدراسة تكون معظم سواحل بحر الروم (البحر المتوسط) قد ذكرت فى ممالك الإسلام السابقة ، ولهذا انتقل إلى دراسة هذا البحر ككل. ثم انتقل إلى الجزيرة وأعقب ذلك بالعراق ـ وعند هذا الحد يكون قد استوفى الجناح الغربى من بلاد الإسلام لينتقل بعد ذلك إلى الجناح الشرقى.

ودراسة الجناح الشرقى جاءت على أساس تقسيمه إلى نطاقين عرضيين : جنوبى وشمالى ، وقد بدأ بالنطاق الجنوبى بذكر الأقاليم المجاورة للعراق ثم ما يليها شرقا فذكر خوزستان ـ فارس ـ كرمان ـ بلاد السند والهند.

١٥

وأما فى النطاق الشمالى فبدأ فى الغرب بأرمينية وأذربيجان ثم الجبال (يقصد نطاق جبال زاجورس بين العراق وفارس) ثم الدّيلم. وهنا يكون قد وصل إلى سواحل بحر الخزر (قزوين) ومن ثم درسه كإقليم متكامل متحد.

ثم قبل أن ينتقل إلى ما تبقى من ممالك الإسلام فى الشرق ، جاءت دراسة المفازة التى بين فارس وخراسان كإقليم له مميزاته ، وإن لم يكن وحدة سياسية مستقلة ، وأخيرا يدرس أقاليم سجستان وخراسان وما وراء النهر.

وواضح أن من بين هذه الأقاليم العشرين ثلاثة أقاليم بحرية : بحر الروم ، وبحر فارس ، وبحر الخزر ، أى أن الدراسة شملت أحواض هذه البحار التى تمثل أقاليم جغرافية واضحة ، وهو نهج إقليمى صحيح.

أما المفازة بين فارس وخراسان فهى الأخرى اعتبرت إقليما جغرافيا متميزا ومختلفا عما حوله ، بل كما قال الإصطخرى : من أقل مفاوز الإسلام سكانا وقرى ومدنا ، كما أنها غير خاضعة لسلطان بعينه ؛ لأنها ليست فى حيز إقليم بعينه. وهكذا نجد أعلام هذه المدرسة الإقليمية المجددة أصحاب منهج إقليمى سليم فى تحديد وجوه اختلاف هذه المفازة عن غيرها من بوادى العرب والبربر وما فى مفاوز كرمان ومكران والسند ، فهذه عامتها مسكونة بالأخبية والأخصاص.

أخيرا نجد بعد ما ذكر عن الأقاليم الأربعة السابقة أن ما تبقى هى وحدات سياسية ـ إدارية ، أى ولايات إسلامية قد ذكرها البلخى الرائد الأول الذي لم يصلنا كتابه ، ثم الإصطخرى وابن حوقل. أما المقدسى

١٦

فقد كان له تصوره الخاص فى هذه التقسيمات لديار الإسلام ، وله اجتهاده المحمود ومبرراته فى أن يختلف مع سابقيه مما يمثل إثراء للفكر الجغرافى العربى.

هذا وقد أحصى «ميللر» لأعلام هذه المدرسة ٢٧٥ خريطة استطاع أن يجمعها لهم من المخطوطات المختلفة التى عثر عليها لكل منهم ، وأطلق على هؤلاء الذين اعتمدوا أساسا فى كتاباتهم الجغرافية على تصوير الأقاليم أو رسم الأشكال اسم «أصحاب أطلس الإسلام» ، وهذه المجموعة من الخرائط نوع فريد ونسيج وحيد جاء إنتاجا إسلاميا خالصا من ابتكار هؤلاء ، ودليلا على أصالة الفكر الجغرافى الإسلامى وقدرته على التجديد فى مجال رسم الخرائط.

أما عن الخصائص أو السمات العامة لخرائط الإصطخرى ومن جاء بعده فى هذا الاتجاه فهى خرائط توضيحية فقط ، ليست وظيفتها الأساسية تحديد المواقع على وجه الدقة ، بل مجرد بيان الهيئة العامة للأرض وبحارها وتوقيع البلاد بالنسبة لبعضها البعض وما تتضمنه من ظاهرات طبيعيّة وبشرية تفيد فى إرشاد الراغبين فى التعريف على جغرافية الإقليم ، كما تنفع المسافرين على الطرق بمعرفة أطوال مراحلها وخصائصها ، وكل ذلك فى حدود العصر وإمكانياته ، وسوف نجد عند ابن حوقل والمقدسى إضافات قيمة تشير إلى مدى الارتقاء فى هذه المدرسة الجغرافية الإقليمية الخرائطية.

وهناك شبهة أن يكون الإصطخرى قد نقل الخرائط الواردة فى كتابه عن البلخى الذي سبقه فى تصوير الأقاليم ، ولكن هذه المشكلة قد أثيرت فى القرن الرابع الهجرى ؛ فقد ذكرها المقدسى الذي عاش بعد نصف قرن من وفاة البلخى ، وكذلك ياقوت الحموى وقد جاءت تهمة

١٧

نقل الإصطخرى لكتاب البلخى وصوره عند «دى غويه» دون أى دليل ، وقد تولى أهل الاختصاص الرد على هذه الشبه (١) ، ولكن يكفى ما جاء عند ابن حوقل حين قابل الإصطخرى الذي عرض عليه بعض خرائطه وكتابه ، وكيف أن ابن حوقل كان منصفا فى تحديد الصواب والخطأ أو الجودة والرداءة فى خرائط الإصطخرى فقال : «ولقيت أبا إسحاق الفارسى وقد صور أرض السند فخلطها ، وصورة فارس فجودها ، وكنت قد صورت أذربيجان التى فى هذه الصفحة فاستحسنها ، والجزيرة فاستجادها وأخرج التى لمصر فاسدة ، وللمغرب أكثر خطأ». وهكذا نجد أن قيمة المرء ما يحسنه ، وأن الميزة لا تقتضى الأفضلية حتى أن ابن حوقل يقول : «لقد ظللت لا يفارقنى كتب ابن خردازبه والجيهانى وقدامة بن جعفر ، حتى إذا لقيت الإصطخرى أخذت كتابه واستغنيت به عن غيره من الكتب».

هذا وقد تولى محقق كتاب الإصطخرى الرد على ما جاء فى دائرة المعارف الإسلامية من نسبة كتاب الإصطخرى إلى البلخى فى مقدمة التحقيق (٢) ، وكذلك يشير كراتشكوفسكى ـ (المستشرق الروسى) الذي ألف تاريخ الأدب الجغرافى العربى (٣) ـ إلى أنه ثبت بعد الفحص

__________________

(١) لمزيد من التفاصيل انظر : إبراهيم شوكة : خرائط كتاب الأقاليم للإصطخرى ، مجلة المجمع العلمى العراقى ، المجلد ١٧ ص ٤ ، ص ٥ ، بغداد ، ١٩٦٩.

ومحمد محمود الصياد : من الوجهه الجغرافية ـ دراسة فى التراث العربى جامعة بيروت العربية ، ص ٢٢ ، ص ٢٤ ١٩٧١.

(٢) محمد جابر عبد العال الحينى : مقدمة كتاب المسالك والممالك للإصطخرى ، ص ٨ / ص ٩ وزارة الثقافة والإرشاد القومى ـ سلسلة تراثنا ـ القاهرة ١٩٦١.

(٣) انظر ص ١٩٩ ، ترجمة صلاح الدين عثمان هاشم ، القسم الأول ، لجنة التأليف والترجمة والنشر القاهرة ١٩٥٧.

١٨

الدقيق أن بعض المخطوطات التى نسبت فى فهارس المخطوطات ، أو حتى فى الأصل إلى البلخى ، إنما تمثل فى الحقيقة مسودات لمصنف الإصطخرى أو ابن حوقل.

ويحسن أن نشير هنا إلى بعض الملاحظات على خرائط الإصطخرى ، فنجد أنه استخدم الألوان على نحو ما نجد عند يوسف كمال فى المجموعة الكمالية ، كما أن فى خرائط الإصطخرى تمثيلا للظاهرات الطبيعية حيث يوضح فى شبه جزيرة سيناء وأقسامها الثلاثة : السهل الساحلى الرملى الشمالى (رمل الجفار) ، ثم الهضبة الوسطى (تيه بنى اسرائيل) ، ثم الكتلة الجبلية الجنوبية (طور سيناء). وحين يكون المظهر التضاريسى الجبلى هو الصفة الغالبة على الإقليم ـ على نحو ما هو فى خريطة فارس (هضبة إيران) ـ فإنه لا يوقع الجبال ؛ لأنه ليس بفارس بلد إلّا وبه جبل أو يكون الجبل بحيث تراه إلّا اليسير. كذلك يوقع الجزر كظاهرات طبيعية فى المسطحات المائية ، مثل جزر الخليج العربى ، وإذا كانت هناك مبالغة فى تصوير الجزر فربما يكون مرجع ذلك إلى الناسخ بدليل وجود اختلافات واضحة بين نسخ الإقليم الواحد فى الخرائط التى وصلت عن الإصطخرى ، كما أن الإصطخرى قد يصور فى خريطته بعض النباتات لما لها من دلالة ، ففى خريطة مصر يوقع عند بداية الحد الشمالى الشرقى المصرى شجرتان وهما تمثلان البداية لحدود مصر عند رباط الشجرتين.

كذلك يهتم الإصطخرى بتوقيع ظاهرات بشرية فى خرائطه ، مثل توقيع المدن الحربية كحصون (مدينة دمياط) ، وتصوير منار الإسكندرية ، والأهرامين ، وكذلك ما تشتهر به بعض النواحى من المبانى العجيبة مثل حائط القلاص كجدار أو سور.

١٩

وإذا كان من الممكن أن نصف خرائط الإصطخرى وفقا للموضوعات الجغرافية التى تخدمها هذه الخرائط ، فإننا نجد أنه قد بدأ بخريطة عامة للمعمور فى مستهل كتابه ، وهى صورة للأرض مستديرة .. أما خرائط العالم الإسلامى الإقليمية فقد جاءت فى مستهل تناوله لكل إقليم ، وقد أجاد الإصطخرى فى بعضها ـ على نحو ما أشاد بذلك ابن حوقل ـ خاصة تلك التى تتعلق بموطنه الأصلى ، أو تلك التى اختصت بأقاليم زارها على نحو ما نجد فى صورة ما وراء النهر ، التى توجد فى نسخة كتاب الإصطخرى المحفوظة فى خزانة مدينة هامبورج.

كذلك هناك من خرائط كتاب الإصطخرى ما يتناول بالتفصيل الظاهرات الطبيعية والبشرية على نحو ما هو متحقق فى خرائط بحر فارس وبحر الروم وبحر الخزر ، وكذلك المفازة بين فارس وخراسان.

والخلاصة : أن الإصطخرى قد أدخل مفاهيم جديدة لعلم الخرائط عند الجغرافيين المسلمين ، بجعله الخريطة أساسا للبحث الجغرافى ، وهو اتجاه قد زاد من بعده عمقا وأصالة بما قدمه ابن حوقل والمقدسى ، بحيث أصبح هذا الاتجاه مميزا للمدرسة الجغرافية الإسلامية المجددة فى رسم الخرائط.

ولما كانت صورة الإقليم لا يمكن أن تستوعب كل ما يريد المؤلف أن يذكره عن هذا الإقليم ، فقد جاءت المادة الجغرافية التالية للصورة شارحة لها وكذلك لذكر التفاصيل ، ومن هنا تاتى قيمة ما قدمه الإصطخرى ومن جاء بعده فى مجال جغرافية البلدان أو المسالك والممالك أو الجغرافية الإقليمية فى وقتنا الحاضر.

أما عن منهج الإصطخرى فى تناول جغرافية أقاليم مملكة الإسلام فقد حدده بأمور بعينها ، أهمها :

٢٠