تاريخ دمشق

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]

تاريخ دمشق

المؤلف:

حمزة بن أسد بن علي بن محمّد التيّمي [ ابن القلانسي ]


المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار حسّان للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

وفي سنة ستين وثلاثمائة (*)

في ذي القعدة وصل القرامطة إلى دمشق ، ونصبوا على أسوارها السلالم ، وتعلقوا بها وفتحوها قصدا ، وأوقعوا بأهلها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، وشنعوا بأهلها وقتلوا واليها جعفر بن فلاح ، وسبب ذلك أنهم لما رأوا أن جعفرا استولى على الشام أهمهم أمره وأزعجهم وقلقوا ، لأنهم كانوا قرروا مع ابن طغج أن يحمل إليهم في كل عام ثلاثمائة ألف دينار ، فلما ملكها جعفر علموا أن المال يفوتهم ، فعزموا على المسير إلى الشام ، وصاحبهم وقتئذ الحسن بن أحمد بن بهرام القرمطي فأرسل إلى عز الدولة بختيار يستمد منه المعونة بالسلاح والمال ، فأجابه الى ذلك واستقر الحال أنهم إذا ساروا الى الكوفة سائرين الى الشام حملوا الذي استقر ، فلما وصلوا الكوفة أوصل اليهم ذلك وساروا الى دمشق ، وبلغ خبر وصولهم الى جعفر ، فاحتقرهم واستهان بهم «ولم يدر المخبأ له ولم يصل اليه قول القائل : «إذا كان عدوك نملة فلا تنام له» ، وقد تقتل النملة الثعبان والأسد» (١) ولم يحتط (٢) ويحترز منهم ولم يعمل لهم حسابا ، فكبسوه بظاهر دمشق (٣) وقتلوه من حيث لا يشعر بهم وغنموا ماله

__________________

(*) بداية المستدرك من مختصر تاريخ ثابت بن سنان.

(١) يبدو أن هذه الجملة مقحمة في الأصل.

(٢) في الأصل ـ يحتاط ـ.

(٣) في مرآة الزمان ـ مخطوطة أحمد الثالث ـ ١١ / ٨٨ ـ و: وفيها [٣٦٠ ه‍] وتوفي جعفر بن فلاح أحد قواد المصريين ، وأول أمير ولي لهم دمشق ، وكان فيمن خرج مع جوهر من المغرب ، وشهد معه فتوح مصر ، ثم بعثه جوهر إلى الشام ، فتغلب على الرملة سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة ، وأقام بدمشق.

ولخمس خلون من صفر من هذه السنة ، أمر المؤذنين بجامع دمشق أن يؤذنوا

١

وأنعامه من ناطق وصامت (١).

__________________

بحي على خير العمل ، وكذا بالمساجد ، وكان ينزل بمكان يقال له الدّكة بين نهري يزيد وتورا ، وقيل هي فوق يزيد قريبا من دير مران ، فجاء أبو محمد الحسن بن أحمد القرمطي الى دمشق ويلقب بالاعصم ، وكان جعفر مريضا ، فخرج فقاتله فقتله القرمطي في ذي القعدة وقيل في شوال.

(١) اصطدم الفاطميون أثناء فتحهم لدمشق بجماعات الأحداث فيها ، الذين شكلوا نوعا من أنواع المليشيات الشعبية البلدية ، وكان محمد بن عصودا من بين زعماء أحداث دمشق الذين تصدوا لجعفر بن فلاح ، وعندما أخفق بالمقاومة غادر دمشق إلى الأحساء حيث استنجد بقرامطتها ، ومن حسن الحظ أن المقريزي حفظ لنا في كتاب المقفى تراجم لجعفر بن فلاح والحسن الاعصم زعيم القرامطة ، وترجمة الأعصم نشرتها في كتابي أخبار القرامطة ، أما ما جاء عن علاقة جعفر ابن فلاح بالقرامطة فهاكم هو : (من مخطوطة مجلد برتو باشا في استانبول : ٣٠١ ـ ٣٠٢).

.... وأما محمد بن عصودا فإنه لما انهزم ، سار الى الأحساء ، هو وظالم بن مرهوب العقيلي ، وحثا القرامطة على المسير الى الشام ، فوافق ذلك منهم الغرض ، لأن الاخشيدية كانت تحمل في كل سنة الى القرامطة مالا ، فلما أخذ جوهر مصر ، انقطع المال عن القرامطة فأخذوا في الجهاز للمسير الى الشام.

وكثرت الأخبار بمسير القرامطة الى الشام ، وأنهم نزلوا على الكوفة ، وكتبوا الى الخليفة ببغداد ، فأنفذ اليهم خزانة سلاح ، وكتب لهم بأربعمائة ألف درهم على أبي تغلب عبد الله بن ناصر الدولة بن حمدان ، من مال الرحبة ، وأنهم ساروا من الكوفة الى الرحبة وأخذوا من ابن حمدان المبلغ ، فكتب جعفر الى غلامه فتوح وهو على أنطاكية يأمره بالرحيل فوافاه الكتاب مستهل شهر رمضان ، فشرع في شد أحماله ، ونظر الناس اليه فجفلوا ورموا خيمهم ، وأراقوا طعامهم ، وأخذوا في السير مجدين الى دمشق ، فلما وافوا جعفر أراد أن يقاتل بهم القرامطة ، فلم يقفوا ، وطلب كل قوم موضعهم ، ولم يبالوا بالموكلين على الطرق.

وعندما نزل القرامطة على الرحبة أكرمهم أبو تغلب ، وبعث الى الحسن بن أحمد بن أبي سعيد الجنابي ، المعروف بالأعصم ، كبيرهم يقول له : هذا شيء أردت أن أسير فيه بنفسي لكني مقيم في هذا الموضع الى أن يرد إلي خبرك ، فإن احتجت الى سيري سرت إليك ، ونادى في عسكره من أراد السير من الجند

٢

وبعد ملكهم لدمشق أمنوا من بقي من أهلها ، وعزموا المسير الى الرملة واستولوا على جميع ما بينهما ، فلما سمع من بها من المغاربة خبرهم ساروا منها الى يافا ، فتحصنوا بها ، وملك القرامطة الرملة بعد قتال شديد وخسائر جمة ، وبعد استتباب الأمر لهم قصدوا المسير الى مصر وتركوا على يافا من يحصرها.

وعند دخولهم مصر اجتمع عليهم خلق كثير من العرب وغيرهم من الجند والإخشيدية والكافورية ، فنزلوا بفناء مدينة الشمس على مقربة من مصر قريبا من قرية البلسم أو البيلسان وتعرف «بعين» شمس ، واجتمع جند جوهر

__________________

الاخشيدية وغيرهم الى الشام مع الحسن بن أحمد فلا اعتراض لنا عليه ، وقد أذنا له في المسير والمعسكران واحد ، فخرج الى القرامطة كثير من الاخشيدية الذين كانوا بمصر وفلسطين ، ممن فر من جوهر وجعفر بن فلاح ، وكان جعفر لما أخذ طبرية بعث الى أبي تغلب ابن حمدان بداع يقال له أبو طالب التنوخي ، يقول له : إنا سائرون اليك فتقيم لنا الدعوة ، فلما قدم الداعي على أبي تغلب وهو بالموصل ، وأدى الرسالة ، قال له : هذا ما لا يتم لأننا في دهليز بغداد ، والعساكر منا قريبة ، ولكن إذا قربت عساكركم من هذه الديار ، أمكن ما ذكرته ، فانصرف بغير شيء.

ثم ان الحسن بن أحمد القرمطي ، سار عن الرحبة الى أن قرب من دمشق ، فجمع جعفر خواصه واستشارهم ، فاتفقوا على أن يكون لقاء القرامطة في طرف البرية قبل أن يتمكنوا من العمارة ، فخرج اليهم ولقيهم ، فقاتلهم قتالا شديدا ، فانهزم عنه عدة من أصحابه ، فولى في عدة ممن معه ، وركب القرامطة أقفيتهم ، وقد تكاثرت العربان من كل ناحية ، وصعد الغبار ، فلم يعرف كبير من صغير ، ووجد جعفر قتيلا لا يعرف له قاتل ، وكانت هذه الوقعة في يوم الخميس لست خلون من ذي القعدة سنة ستين وثلاثمائة.

فامتلأت أيدي القرامطة بما احتووا عليه من المال والسلاح وغيره ، وخرج محمد بن عصودا إلى جثة جعفر بن فلاح ، وهي مطروحة في الطريق ، فأخذ رأسه وصلبه على حائط داره ، أراد بذلك أخذ ثأر أخيه اسحق بن عصودا ، وملك القرامطة دمشق ، وورد الخبر بذلك على جوهر القائد ، فاستعد لحرب القرامطة ...

٣

الصقلبي قائد المعز لدين الله ، وخرجوا اليهم ، فاقتتلوا غير مرة فلم يظفروا بهم في جميع تلك الأيام ، وما حصل منهم من الفظائع من قطع الطريق والنهب والسلب وسطوهم على القرى وهتكهم الأعراض يعجز القلم عن وصفه لعنهم الله.

ثم انهم تقدموا وزحفوا وحصروا عسكر جوهر وضايقوهم وحصروهم حصارا شديدا ، ثم ان جند جوهر خرجوا يوما من مصر وحملوا على القرامطة من الميمنة فانهزم من بها من العرب وغيرهم ، وقصدوا خيام القرامطة فنهبوها وكبسوهم فيها فاضطروا الى الهزيمة ، وولوا الأدبار راحلين إلى الشام ، فنزلوا الرملة ثم حصروا يافا حصارا شديدا وضيقوا على من بها ، فسير القاهد جوهر نجدة من عسكره لأصحابه المحصورين بها ، ومعهم ميرة في خمسة عشر مركبا ، فأرسل القرامطة مراكبهم اليها فأخذوا مراكب جوهر ولم ينج منها غير مركبين ، فغنمهما مراكب الروم.

وللحسن بن بهرام زعيم القرامطة شعر فمنه في المغاربة أصحاب المعز لدين الله العلوي الفاطمي الافريقي يقول :

زعمت رجال الغرب أني هبتها

فدمي إذا ما بينهم مطلول

يا مصر إن لم أسق أرضك من دمي

يروي ثراك فلا سقاني النيل

وفي صباح الغد أخذ جند جوهر يرمون القرامطة بقوارير النفط ، وأعملوا فيهم السلاح حتى اضطروهم الى الجلاء عن الحصار ، ورحلوا الى الشام فتبعوهم ، وواصلهم المعز وجوهر بالنجدات حتى أجلوهم عن بعض القرى والمدن (١).

__________________

(١) جاء في ترجمة جوهر الصقلبي ، في كتاب المقفي للمقريزي ـ مجلد برتو باشا : ٣١١ ، مزيدا من التفاصيل هاكم هي :

٤

وفي سنة ثلاث وستين وثلاثمائة تقوى القرامطة ، وعزموا أن يعودوا لمحاربة المعز الفاطمي العلوي صاحب مصر وافريقية ، فتجمعت جموعهم وساروا من الإحساء ، وفي مقدمتهم زعيمهم الحسن بن أحمد قاصدين ديار مصر فنزلوا بها وحصروها ، فلما سمع المعز لدين الله قصد القرامطة قبل وصولهم الى مصر ، كتب اليهم كتابا (١) ، يذكر فيه فضل نفسه وأهل بيته ، وأن دعوة القرامطة كانت له وآبائه من قبله ، وتوعدهم وهددهم وسير الكتاب اليهم ، فكتبوا اليه «جوابك : وصل الذي قل تحصيله ، وكثر تفصيله ، ونحن حاضرون اليك على إثره والسلام». وساروا حتى وصلوا عين شمس فخيموا بها ، وأنشب القتال ، وحصروا مصر حصرا شديدا ، وأفسدوا ونهبوا القرى وقطعوا السبيل ، وكثرت جموعهم ، والتف حولهم من العرب وقطاع الطريق جمع كبير ، وكان ممن حضر معهم وانضم اليهم الأمير حسان بن الجراح الطائي أمير العرب ببادية

__________________

... ورد الخبر بقدوم الحسن بن أحمد الأعصم القرمطي الى دمشق ، وقتل جعفر بن فلاح ، واستيلاء القرامطة على دمشق ، وقصدهم مصر ، فتأهب جوهر لقتالهم ، وحفر جوهر خندقا ، وعمل عليه بابين من حديد ، وبنى القنطرة على الخليج ظاهر القاهرة ، وحفر خندق السري بن الحكم ، وفرق السلاح على العساكر ، فوجد رقاعا في الجامع العتيق فيها التحذير منه فجمع الناس ووبخهم فاعتذروا له فقبل عذرهم ، ونزل القرامطة عين شمس في المحرم سنة احدى وستين ، فاستعد جوهر وضبط الداخل والخارج.

وفي مستهل ربيع الأول التحم القتال بين القرامطة وبينه على باب القاهرة ، فقتل من الفريقين جماعة وأسر كثير ، ثم استراحوا في ثانيه ، والتقوا في ثالثه ، فاقتتلوا قتالا كثيرا قتل فيه ما شاء الله من الخلق ، وانهزم القرمطي يوم الأحد ثالث ربيع الأول ، ونهب سواده ، ومر على طريق القلزم ـ السويس حاليا ـ ونودي في مدينة مصر : من جاء بالقرمطي أو برأسه فله ثلاثمائة ألف درهم وخمسون خلعة وخمسون سرج محلى على دوابها ، وثلاث جوائز ...

(١) أنظره في نص المقريزي في اتعاظ الحنفا بين نصوص كتابي أخبار القرامطة.

٥

الشام ، ومعه جمع عظيم ، فلما رأى ذلك المعز استعظم الأمر ، وتحير وارتبك في أمره ، فجمع حاشيته ووزراءه (*)

... (١) وتحصنوا بالسور وعظم الأمر على المعزّ وتحيّر في أمره ولم ينفعه كتابه إليه ولا ترهيبه عليه ولم يقدم على الظهور بعسكره اليه (٢) ، وكان حسان بن جراح الطائي (٣) بعسكره مع القرمطي ، وكان قوته وشدته به ،

__________________

(*) نهاية المستدرك من مختصر تاريخ ثابت ، حيث تتطابق المعلومات بعد ذلك.

(١) نهاية سقط من أول الكتاب مقداره أربع عشرة ورقة.

(٢) إثر احتلال جوهر الصقلبي لمصر وجه القائد جعفر بن فلاح نحو الشام فاصطدم ببقايا القوى الاخشيدية في فلسطين فقهرها ، ومن ثم أخذ الطريق نحو دمشق فاصطدم في منطقة حوران بقبائل عقيل مستعينا عليها ببني مرة وفزارة ثم وصل دمشق فاصطدم الفاطميون بأهل المدينة يتقدمهم أحداث المدينة.

والأحداث هي منظمة شبه عسكرية شعبية بلدية ، وكان من بين زعماء أحداث دمشق مقدم اسمه محمد بن عصودا ، تصدى فيمن تصدى لجعفر بن فلاح إنما عندما أخفق هرب من دمشق يريد الأحساء وقد رافقه ظالم بن موهوب (أو مرهوب) العقيلي ، وهناك في عاصمة دولة القرامطة أطلع الحسن الأعصم زعيم القرامطة على حوادث الشام الجديدة ، وكان للقرامطة أتاوة سنوية كبيرة يأخذونها من الاخشيدية حكام الشام قطعت بالاحتلال الفاطمي ، لهذا ولأسباب كثيرة ساق الأعصم جيوشه إلى الشام بعدما نال تشجيع ومساعدة بغداد ، فأوقع بقوات ابن فلاح وقتل ابن فلاح نفسه ثم توجه نحو مصر وحاصر القاهرة دون نجاح ، حيث انسحب القرمطي عائدا إلى الشام ، وعند ارتفاع خطر القرامطة ، راسل جوهر الصقلبي الخليفة المعز لدين الله الفاطمي ودعاه إلى القدوم الى مصر فلبى الدعوة ، سنة ٣٦٢ ه‍ / ٩٧٣ م ، وفي سنة ٣٦٣ ه‍ وصل القرامطة مجددا الى مصر وحاصروا المعز ، وطال الحصار على المعز ، وكتب الى القرمطي رسالة مطولة بالغة الأهمية ، ولقد سبق لي معالجة هذا الموضوع في كتابي أخبار القرامطة ، دمشق ١٩٨١ ، كما أنني نشرت في ملاحق كتابي مدخل الى تاريخ الحروب الصليبية ، ط. دمشق ١٩٧٥ ، ص : ٣١٣ ـ ٣٤٨ ترجمه كل من جعفر بن فلاح وجوهر الصقلبي من مخطوطة كتاب المقفي للمقريزي.

(٣) حسان بن علي بن جراح أمير قبائل في فلسطين ، انظر كتابي أخبار القرامطة : ٦٢ ، ١٩٠ ، ٣٨٧ ، ٤٠٤.

٦

ونظر المعز في أمره فإذا ليس له به طاقة ، فأعمل فكرته ورويته في أمره وشاور أهل الرأي من خاصته وجنده في أمره فقالوا : ليس فيه حيلة غير فلّ عسكره ، وليس يقدر على فلّه إلّا بابن جراح ، فبذلوا له مائة ألف دينار على أن يفل لهم عسكره ، فأجابهم إلى ذلك ، ثم نظروا في كثرة المال فاستعظموه ، فضربوا دنانير من صفر وطلوها بالذهب وجعلوها في أكياس ، وجعلوا في رأس كل كيس منها يسيرا من دنانير الذهب الخلاص ، وحملوها الى ثقة ابن جراح ، وقد كانوا توثقوا منه وعاهدوه على الوفاء ، وترك الغدر إذا وصل المال إليه ، فلما عرف وصول المال إليه عمل في فلّ عسكر القرمطي ، وتقدم إلى أكثر أصحابه أن يتبعوه إذا تواقف العسكران ، ونشبت الحرب.

فلما اشتد القتال ولّى ابن جراح منهزما وتبعه أصحابه ، فكان في جمع كثيف ، فلما نظر إليه القرمطي قد انهزم في عسكره بعد الاستظهار والقوة ، وتحيّر في أمره ، ولزمه الثبات والمحاربة بعسكره وأجهد نفسه في القتال حتى يتخلص ، ولم يكن له بهم طاقة ، وكانوا قد أرهقوه بالحملات من كل جانب ، وقد قويت نفوس المغاربة بانفلال ابن جراح ، فخاف القرمطي على نفسه فانهزم فاتبعوا أثره وطلبوا معسكره ، فظفروا بمن فيه ، وأسروا منه تقدير ألف وخمسمائة رجل ، وانتهبوا سواده وما فيه ، وضربوا أعناق من أسروه ، وذلك في شهر رمضان سنة ثلاث وستين وثلاثمائة.

ثم جرّدوا في طلب القرمطي القائد أبا محمود بن إبراهيم بن جعفر في عشرة آلاف رجل فاتبعه وتثاقل في سيره خوفا من رجوعه عليه ، وتم القرمطي على حاله في انهزامه حتى نزل على أذرعات (١) ، وانفذ أبا المنجا في طائفة من

__________________

(١) هي مدينة درعا الحالية في سورية.

٧

الجند إلى دمشق ، وكان ابنه قبل ذلك واليا عليها (١) ، ورحل القرمطي في البرية طالبا بلده الاحساء ، ونيته العود ، ورحل أبو محمود مقدم عسكر [٧ ظ] المغاربة (٢) عند معرفته ذاك ونزل باذرعات في منزل القرمطي.

__________________

(١) هو كاتب الحسن الأعصم ، وقع بالأسر وحمل إلى القاهرة حيث أطلق المعز سراحه بعدما توصل إلى شراء السلم القرمطي بكمية من الذهب وأتاوة سنوية. أنظر أخبار القرامطة : ١٩٠ ـ ١٩١.

(٢) أي عساكر الخلافة الفاطمية حيث كان جلهم من بربر الشمال الأفريقي.

٨

ذكر ولاية ظالم بن موهوب (١) العقيلي لدمشق

في سنة ثلاث وستين وثلاثمائة من قبل المعز لدين الله

وصل القائد ظالم بن موهوب العقيلي الى دمشق واليا عليها في يوم السبت لعشر خلون من شهر رمضان سنة ثلاث وستين وثلاثمائة عقيب نوبة القرمطي ، فدخلها وتمكن أمره في ولايتها وتأثلت حاله في إيالتها ، وتوفرت عدته وعدته ، واشتدت شوكته لا سيما عند قبضه على أبي المنجا وولده صاحبي القرمطي مع جماعة وافرة من أصحابهما ، وحبسهم وأخذ أموالهم واستغراق أحوالهم.

واتفق أن أبا محمود مقدم العسكر المصري المقدم ذكره وصل الى دمشق في يوم الثلاثاء لثلاث بقين من شهر رمضان من السنة ، ونزل بالشماسية (٢) ، فخرج ظالم متلقيا له ومستبشرا به ، ومبتهجا بنزوله ، ومستأنسا بحلوله لما كان مستشعره من الخوف من عود القرمطي إلى دمشق ونزوله عليها ، ثم أن ظالما أنزل أبا محمود المقدم الدكة المعروفة (٣) وحمل اليه أبا المنجا صاحب القرمطي المعتقل المعروف بالنابلسي (٤) الذي كان هرب من الرملة متقربا اليه وإلى المغاربة

__________________

(١) هو ابن مرهوب في بعض نقول المقريزي في كتاب المقفى ، ويبدو أن الادارة الفاطمية قد كسبته إلى صفها بعدما كان إلى جانب القرامطة ، لتفتت القوى المساندة للقرامطة ولتستفيد من قوى عقيل في الشام الجنوبي ضد القرامطة والقوى المحلية.

(٢) عند مسجد القدم ، كان المأمون أقام بها مرصدا فلكيا ، وفي ياقوت أنها محلة من دمشق. أنظر الأعلاق الخطيرة ـ قسم دمشق. ط. دمشق ١٩٥٦ ص : ١٢٦ ، غوطة دمشق ص : ٢٣٦.

(٣) موضع بظاهر دمشق فوق نهر يزيد ، يعرف الآن باسم الدواسة. غوطة دمشق ص : ٢٣٢.

(٤) أبو بكر النابلسي ، وصفه القاضي عبد الجبار الهمذاني برئيس فقهاء الشام. أنظر أخبار القرامطة : ١٩٠.

٩

بذلك ، فجعل كل واحد منهما في قفص من خشب وحملهما الى مصر ، فلما وصلا الى المعزّ لدين الله أمر بحبس أبي المنجا وولده وقال للنابلسي : أنت الذي قلت لو أن معي عشرة أسهم لرميت تسعة في المغاربة وواحدا في الروم؟ فاعترف بذلك ، فأمر بسلخه ، فسلخ وحشي جلده تبنا وصلب.

ولما نزل القائد أبو محمود المقدّم على دمشق في عسكره اضطرب الناس وقلقوا ، وامتدت أيدي المغاربة في العيث والفساد في نواحي البلد ، وأخذ من يصادف في الطرقات والمسالك وكان صاحب الشرطة بعد القبض على أبي المنجّا قد أخذ انسانا وقتله ، فظهر الغوغاء وحملة السلاح ، وقتلوا أصحاب المسالح ، وكثر من يطلب الفتن من العوام ، وطمعت المغاربة في نهب القرى وأخذ القوافل ظاهر البلد ، ولم يتمكن القائد أبو محمود المقدم من ضبط أصحابه لأنه لم يكن معه مال ينفقه فيهم ، ولم (٨ و) يقبلوا أمره ولا امتثلوا زجره.

وكان ظالم يأخذ مال السلطان الذي يستخرج من البلد ، وقد عرف ظالم أن الرعية تكره المغاربة [فكثر] في [البلد](١) الفساد وقطع الطريق على الصدّار والورّاد ، وامتنع السفار من المجيء والذهاب ، وعدلوا في ذلك عن نهج الصواب ، ونزح أهل القرى منها إلى البلد ، وخلت من أهلها واستوحش ظاهر البلد وباطنه.

فلما كان يوم الخميس النصف من شوال من السنة جاء قوم من العسكرية ينهب القصّارين من ناحية الميدان (٢) فكثر الصائح في البلد ، وخرج الناس بالسلاح ، وثارث الأحداث ، وخرج أصحاب ظالم ووقع القتال ، وظالم يظهر

__________________

(١) من المقدر أن سقطا قد وقع هنا ، وأضيف ما بين الحواصر كيما يستقيم المعنى.

(٢) كان في دمشق أربعة ميادين هي : ميدان الحصا ، وميدان الشرف الأعلى ، وميدان ابن أتابك ، وميدان القصر. غوطة دمشق : ٩٢.

١٠

أنه يريد الصلاح والدفع عن البلد ، ولم يكاشف في الأمر (١) ، ووجد الناس حجة للمقال والشكوى لما يجري عليهم ، فلما كان في بعض الأيام خرج قوم من المغاربة يطلبون الطرق فظفروا برفقة قافلة في طريق الحرجلّة (٢) قد أقبلت من حوران ، فأخذوها وقتلوا منها ثلاثة نفر ، فجاء أهل القتلى وحملوهم وطرحوهم في الجامع (٣) فكثر الناس عليهم وبالغوا في المقال والانكار لأجلهم ، وغلقت الأسواق ، ومشى الناس بعضهم إلى بعض ، ونفرت قلوبهم ، واستوحشوا وخافوا.

فلما كان يوم الاثنين السابع عشر من ذي القعدة من السنة سمع صبي يصيح على بعد : النفير النفير إلى قينية (٤) ، إلى اللؤلؤة ، فقال قائل : كان بالأمس آخر النهار قوم من المغاربة ومن البادية في جنينة في القنوات (٥) فقتلت المغاربة من البادية ابن عم لورد بن زياد ، وقد وقع بينهم حرب وقد ثارت الفتنة بباب الجابية (٦) فخرج رجل من العسكرية يقال له نفاث ابن عم لأبي محمود ، فظهر القوم من غد في طلب الرجل ، وكان مسكنه في ناحية قينية ،

__________________

(١) أي لم يكاشف أبا محمد العداء. أنظر كتابي أخبار القرامطة : ٦٤.

(٢) تتبع الحرجلة الآن ناحية الكسوة في محافظة دمشق ، وهي الى الشرق من الكسوة تبعد عنها / ٨ كم / وعن دمشق / ٢٨ كم /. التقسيمات الادارية في الجمهورية العربية السورية ، ط. دمشق ١٩٦٨ ص ١٣.

(٣) من المرجح المراد به «الجامع الأموي».

(٤) كانت مقابل الباب الصغير : الأعلاق الحظيرة ، قسم دمشق ط. دمشق ، ١٩٥٦ ص : ١٥٢.

(٥) من أشهر مناطق مدينة دمشق ما تزال تحمل هذا الاسم.

(٦) معروف مكانه في دمشق على مقربة من القنوات ما يزال يحمل هذا الاسم ، منه كان الانطلاق إلى الجابية ، أشهر مناطق تجمع القبائل العربية في جنوب الشام ، والجابية الآن على مقربة من بلدة نوى في حوران ، ولم أهتد إلى معرفة ورد بن زياد هذا. أنظر تاريخ دمشق لابن عساكر : ٢ / ١٨٧.

١١

فأقبلوا يريدون بيته ، وانتشرت خيلهم ورجالتهم في أرض قينية إلى لؤلؤة والقنوات إلى باب الجابية وباب الحديد (١) ، فظفروا بالقصارين عند باب الحديد ، فأخذوا ما كان معهم من الثياب ، فصاح الناس : «النفير» ، ولبسوا السلاح ، وخرج أصحاب ظالم مع الرعية ، وزحفت المغاربة حتى بلغوا قريبا من سور البلد وليس في مقابلتهم من يذودهم ويدافعهم ، فنفر إليهم أهل البلد من (٨ ظ) كل ناحية ونشب القتال ، ونكا النشاب في المغاربة أعظم نكاية ، وقصدوا الباب الصغير وامتد الناس خلف المغاربة وصعدوا على طاحون الأشعريين يرمونهم بالحجارة وطرحوا النار فيها فاحترقت ، وهي أول نار طرحت في البلد وزحفت الرعية وأصحاب ظالم إلى المغاربة وضايقوهم مضايقة ألجؤوهم إلى الصعود فوق مسجد ابراهيم ، وكان ذلك منهم جهلا واغترارا وكان في الطريق الأعلى نحو البيمارستان العتيق (٢) شرذمة قليلة فحملوا على الأحداث وأصحاب ظالم فانهزموا من المرج الى خلف المرمى ، وتبعتهم المغاربة ، فلما علم ظالم هزيمتهم خرج من دار الإمارة حتى وقف عند الجسر المعقود على بردى ، وأمر بغلق باب الحديد (٣) ، ورتب قوما من أصحابه على جسر باناس لئلا ينهزم الناس ، فلما شاهد انهزام الناس والمغاربة في إثرهم ضرب بيده على فخذه ، ثم استدعى رمحه ، وعبر الجسر ومعه فرقة من أصحابه ، وحمل على أوائل المغاربة فردهم عن أحداث البلد ، وصاح الناس في الميدان «النفير» ، فانهزم ظالم وأصحابه وجاءت المغاربة نحو الفراديس ، ودخلوا الدروب ، وملكوا السطوح وطرحوا النار في الفراديس (٤) ، وكان هناك من البنيان

__________________

(١) ذكره ابن عساكر في تاريخه : ٢ / ١٨٦ بقوله : «هو الآن خاص بالقلعة التي أحدثت غربي البلد».

(٢) كان تحت المنارة الغربية للمسجد الأموي ، تاريخ دمشق لابن عساكر ط. دمشق ١٩٥٤ : ٢ / ١٥٨.

(٣) في موقع قلعة دمشق حاليا ، سمي بذلك لأن كله حديد. تاريخ دمشق : ٢ / ١٨٦.

(٤) محلة من محال دمشق ، كان لها باب خاص نسب إليها ، حيث منطقة العمارة حاليا. تاريخ دمشق : ٢ / ١٨٦. منادمة الأطلال لعبد القادر بدران ط. دمشق ١٣٧٩ : ٤٢.

١٢

الرفيع الغاية في الحسن والبهاء ما لم ير مثله ، وهو أحسن مكان كان بظاهر دمشق ، وامتدت النار مشرقة حتى بلغت مسجد القاضي (١) فأتت على دور لبني حذيفة وأخذت النار قلة ، فأتلفت ما كان بين الفاخورة وحمام قاسم وكنيسة مريوحنا (٢) وحين انهزم الناس وتكامل العسكر في المرج والميدان ، وارتفع صياح المغاربة ، وانهزم من على السطح من الرماة والنظارة ، وامتدوا الى القنوات ودخلوا باب الحديد ، وانتشروا ، فلما عرفوا انهزام ظالم قصدت خيلهم ناحية الشمّاسية (٣) في طلبه ، فلما حصلوا بها أقبلت الأحداث تجول فيها مع المغاربة فطرحوا النار في لؤلؤة الكبرى (٤) والصغرى والقنوات وقينية (٥) وأقبل الليل ، وبات الناس على أسوأ حال وأشدّ خوف عظيم ، وأعظم وجل ، وتمكنت النار في تلك الليلة (٩ ـ و) ، فأحرقت درب الفحامين ، ودرب القصارين ، ثم أخذت مغربة إلى مسجد معاوية (٦) ، وأحرقت درب السماقي وما حوله إلى حمام العجمي (٧) ، ثم أخذت في زقاق المشّاطين والقنوات وقويت النار في اللؤلؤة الكبرى والصغرى ، وبلغت الى ناحية المشرق ، واتت على الرصيف جميعه ، وكانوا في وقت تمكنهم من باب الحديد ، قد طرحوا النار في دار عمرو (٨) بن مالك ، ودار ابن طغج بن جفّ ، فقويت

__________________

(١) انظر الأعلاق الخطيرة لابن شداد ، قسم دمشق ، ط. دمشق ١٩٥٦ : ١٥٧.

(٢) تحدث ابن عساكر عن بناء الجامع الأموي من قبل الوليد بن عبد الملك ، وهدم كنيسة مر يوحنا فقال : «وأعطاهم ـ النصارى ـ الوليد مكان الكنيسة التي في المسجد ، الكنيسة التي تعرف بحمام القاسم بحذاء دار أم البنين في الفراديس». تاريخ دمشق : ٢ / ٢٠.

(٣) عند مسجد القدم. غوطة دمشق : ٢٣٦.

(٤) هي محلة الحلبوني الحالية بدمشق. غوطة دمشق : ٢٤٣.

(٥) كانت القينية مقابل الباب الصغير. غوطة دمشق : ٢٤٢.

(٦) من أرض قينية على طريق المزة وداريا. الأعلاق الخطيرة ـ قسم دمشق : ١٥٢.

(٧) في منطقة العقيبة. الأعلاق الخطيرة ـ قسم دمشق : ٣٠٠.

(٨) أنظر ابن عساكر : ٢ / ١٣٧.

١٣

النار في أخشاب وبطاين سقوف منقوشة ، وظهر لها في الليل ألسنة عالية وشرر عظيم ، وكذلك النار التي ألقيت في الفراديس كان لها شرر مرتفع ، وألقوا النار أيضا في باب الحديد ، والمظلمة بإزاء دار الحمامي إلى الطريق الآخذ إلى حجر الذهب (١) ووصلوا الى رحبة السماكين مقابل دار ابن مقاتل (٢) ووجدوا بين أيديهم من الرعيّة من منعهم دخول الزقاق ، ودخل قوم من الرعية المظلمة وأدركوا [النار] وأطفؤوها ، وقويت النار في دار ابن مالك فاحترقت وما يليها من الطاحون إلى حد حمام ضحاك ، ثم أخذت النار نحو القبلة فأتت على ما كان من الدور حول دار ابن طغج وما يليها إلى قصر عاتكة (٣) وسوق الجعفري والحوانيت ، والتقت على قصر (٤) حجاج ، وأشرق الصبح وقد خلا المكان واجتمع قوم في تلك الليلة من حجر الذهب والفسقار (٥) والنّواحي المعروفة بباب الحديد ، وعملوا على المحاربة عن الدروب والأزقة وأبواب الدور ، فما لاح الصباح بضيائه إلا وقد بنوا حائط باب الحديد ، وسدوا الباب وأتى الله بالفرج.

وقد كانت المغاربة في تلك الليلة في لهو ولعب وزفن (٦) وفرح وسرور بأخذ البلد من عدوهم ، ينظرون الى النار تعمل في جنباته ، وقد أتت عليه ، فلما أصبحوا انحدر العسكر من الدكة يريد البلد ، وكان الناس قد غدوا إلى الميدان ، وصعدوا السطح ينظرون نزول العسكر ، وقد حارت عقول كثير من

__________________

(١) من المعتقد أن محلة حجر الذهب كانت حيث العصرونية الآن شرقي القلعة. الأعلاق الخطيرة ـ قسم دمشق : ١٢٣.

(٢) لم أقف عليها في المصادر المتوفرة.

(٣) من أحياء دمشق الآن خارج باب الجابية يطلق عليه الآن «قبر عاتكة». غوضة دمشق : ٢٥٦ ـ ٢٥٧.

(٤) محلة كبيرة في ظاهر باب الجابية نسبت إلى الحجاج بن عبد الملك بن مروان. غوطة دمشق : ٢٥٣ ـ ٢٥٤.

(٥) من المعتقد أنه سوق مدحت باشا الحالي. الأعلاق الخطيرة ـ قسم دمشق : ٩٣.

(٦) الزفن : اللعب والدفع. النهاية لابن الأثير.

١٤

الناس من الخوف ، فلما نظرت الدبادبة من كان على السطح ، انحدر العسكر ، وقد علت الأصوات بالنفير ، فلما سمع الناس النفير بادروا الخروج بالسلاح التام ، وعدد الحرب وآلاتها وخرج قوم بمثل حربة (٩ ظ) وعصا وفاس وكساء ومقلاع ، وحمر عليها حجارة ، واشتد الناس في القتال ، ونزل القائد أبو محمود في عسكره ، فضرب في الميدان خيمة وأصبح الناس في شدة عظيمة ، وبلية هائلة [واجتمع الأشراف](١) وظهروا من البلد ، وقد تبعهم الخلق الكثير من الأخيار والمستورين يطلبون من الله تعالى الفرج ، فلما قربوا من عسكر المغاربة صاح نفر منهم ، فنفرت من الصياح خيل هناك ، فقيل لهم : أشراف البلد يريدون الوصول إلى القائد ، فأذن لهم فلما حضروا لديه ، وسلموا عليه ، أحسن الرد عليهم ، وبشّ بهم وقال : ما حالكم وما الذي جاء بكم؟ فشكوا إليه أحوالهم ، والإضرار بهم ، والمضايقة لهم ، وخضعوا وذلوا له ولطفوا به ، فقال : ما نزلت في هذا المكان لقتالكم ، وإنما نزلت لأردّ هؤلاء الكلاب المفسدين عنكم ـ يعني أصحابه ـ وما أوثر قتال رعية ، فشكروا ودعوا له وأثنوا عليه ، وانصرفوا عنه مستبشرين بما سمعوه منه ، وجاؤوا إلى خيمته واختلطوا بأصحابه وقد خف الخوف والوجل عنهم ، ودخلت المغاربة البلد لقضاء حوائجهم ، وعاد القائد أبو محمود في عسكره إلى الدكة منزله.

وولى الشرطة لرجلين يقال لهما حمزة المغربي والآخر يقال له ابن كشمرد من الاخشيدية ، فدخلا في جمع كثير من الخيل والرجالة فطافا في البلد بالملاهي والزفن ، وجلسا في مجلس الشرطة ، وطاف في الليل جماعة من الرجال بالعدد والسلاح ممن يريد الفساد وإثارة الفتن ، ووجد الطائف الدروب قد ضيقت ،

__________________

(١) من المقدر وجود سقط بالأصل ، ولعل ما أثبت بين الحاصرتين فيه تقويم وايضاح.

١٥

فشكا ذلك إلى القائد أبي محمود فشقّ هذا الأمر عليه وضاق له صدره ، فلما كان في بعض الليالي اجتاز الطائف في ناحية المحاملين على جسر المصلى (١) ، يريد باب الصغير في جمع وافر ، ووصل إلى سوق (٢) الغنم ، فوجد درب سوق الغنم مسدودا ، فعظم ذلك عليه ، وغضب لأجله ، وعاد إلى ورائه منكفئا حتى دخل من ناحية البطّاطين (٣) فشكا إلى أبي محمود ، فقال : إن القوم على ما هم عليه من العصيان والخلاف ، وكثرت الأقوال في مجلسه ولم يكن صاحب رأي سديد ولا تدبير حميد ولا حسن سياسة ، واستدعى مشايخ البلد إليه (١٠ و) فدخلوا عليه فتوعدهم وأغلظ القول لهم ، وقال : إن لم يفتح هذا الباب وإلّا فأنتم مقيمون على الخلاف والعصيان ، فقالوا : أيها القائد لم يسدّ هذا الباب لعصيان ولا خلاف ، وإنما كان سده بحيث لا يدخل منه من لا يعلمه القائد ولا يؤثره من أهل الفساد ومن يؤثر إثارة الفتنة والعناد ، فقال : قد أمهلتكم ثلاثة أيام وإن لم يفتح هذا الباب لأركبن إليه ولأحرقنه ولأقتلن كل من أصادفه فيه ، فقالوا : نحن نطيع أمرك ولا نخالفه إذا استصوبت ذلك.

وخرجوا من عنده متحيرين في أمرهم ولا يعلمون كيف يسوسون جهلة الناس وأمور السلطان ، فصاروا إلى باب الصغير ، واجتمع اليهم أهل الشرّة وغيرهم ، وفيهم المعروف بالمارود رأس شطّار الأحداث ، وأحاطوا بهم وسألوهم عن حالهم فأعادوا عليهم ما سمعوه من القائد أبي محمود بسبب سد الباب ، فقال بعضهم : يفتح ولا يجري مثل ما جرى أولا فنخرب البلد ،

__________________

(١) المصلى قبلي دمشق من خارج محلة الميدان ، ولم أجد عند ابن عساكر وابن شداد ذكرا لجسر المصلى فأحدد مكانه. أنظر منادمة الأطلال : ٣٨٩.

(٢) يستدل من الأعلاق الخطيرة ـ قسم دمشق : ١٣٤ ، أن هذا السوق كان على مقربة من باب الصغير.

(٣) لم أقف على ذكر لهذه الناحية.

١٦

وقال قوم من أصحاب السلاح بالضد ، فقالت المشايخ : نحن نفتح هذا الباب وإن جرى أمر مكروه عند دخول المغاربة وغيرهم ، أو ثارث منه فتنة كنتم أنتم أصل ذلك وسببه ، ثم إنهم فتحوه من وقتهم ، فلما شاهد المشايخ ذاك حاروا بين الفريقين ، وقال بعضهم لبعض : ما قال أبو محمود ، وما قال أهل الشره ، وقد فتح الباب بأمركم ، ولسنا نأمن أمرا يكون من المغاربة فتكونوا أنتم السبب فيه ، ففكروا في الخلاص من لائمة الفريقين ، وأعملوا الرأي فيما بينهم ، وقالوا : الصواب أن نأمرهم بسده ، وكان ذلك منهم رأيا سديدا وتدبيرا [سليما](١) وجرى بين رجل من أكابر المغاربة ورجل من أهل الشرة منازعة بسبب صبي أراد المغربي أن يغلب عليه ، فرفع البلدي سيفه وضرب المغربي فقتله في سوق (٢) البقل ، فغلظ الأمر واضطرب البلد ، وغلقت حوانيت الأسواق ، وثار العسكر بسبب المقتول ، فعند ذلك وجدت المشايخ الحجّة في سدّ الباب لهذا الحادث ، وانتهى الخبر الى القائد أبي محمود ، ففرّق السلاح في أصحابه ، وثار أهل البلد وتأهبوا للمحاربة ، وأصبح العسكر منحدرا يريد باب الصغير ، (١٠ ظ) وكان عندهم العلم بتفريق السلاح ، والاستعداد للحرب ، فتيقّظ الناس ، فاحترزوا الى حين ارتفع النهار ، وفتح الناس حوانيتهم وكان المعروف بابن المارود رأس الأحداث قد عرف هو وأصحابه أن قصد العسكر باب الصغير لأجلهم (٣) ، وصاح الناس «النفير» ، وارتفعت الأصوات وتقدمت الرجالة ، وانتشروا في سوق الدواب ، (٤) وعبروا الجسر وطرحوا النار في الطاحون قبليّ الجسر ، وانتشروا في الطريق والمقابر يشاهدون

__________________

(١) فراغ في الأصل ، مقدار كلمة ، ولعل ما وضعته بين حاصرتين يفي بالمعنى.

(٢) أنظر تاريخ دمشق : ٢ / ٦٢. الأعلاق الخطيرة ـ قسم دمشق : ١٠٣.

(٣) يستخلص من هذا الخبر وأخبار أخرى سيوردها ابن القلانسي حول الأحداث أن منطقة الباب الصغير كانت أشبه بقاعدة تجمع لقوى أحداث دمشق أو بمثابة ثكنة لهم.

(٤) أنظر الأعلاق الخطيرة ـ قسم دمشق : ١٥٥.

١٧

النار في دور عند مسجد الخضر ، وامتدت الأحداث والرعية في المقابر ووقع «النفير» في الأسواق ، وكانوا في غفلة ، فصاح فيهم صايح : أما يستيقظ من هو غافل ، أما ينتبه من هو راقد ، فغلقت حوانيت الأسواق وأضحى الناس من استشعار البلاء على ساق [وقدم](١) ونزل القائد أبو محمود في محراب المصلى وكانت رجالته منتشرة في المقابر ، فاجتمعت مشايخ البلد إلى القائد أبي محمود من باب الجابية ، والمحاربة على باب الصغير ، وكان فيهم الشريف أبو القاسم أحمد بن أبي هشام العقيقي العلوي ، فقال له : الله الله أيها القائد في الحرم والأطفال وأتقياء الرجال ، ولم يزل يخضع له ويلطف به إلى أن أمسك بعد سؤال متردد ، وعاد منكفئا بعسكره إلى مخيمه بالدكة في يوم الأربعاء لست مضين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين وثلاثمائة وكف عن القتال ، ودخل صاحب النظر إلى البلد ، وانتشر الفساد في سائر الضياع والجهات ، وطرحت النار في الأماكن والحارات ، وثارت الفتنة واشتدت النار ، وعظم الخوف وفني العدد الكثير من الفريقين ، ولم تزل الحرب متصلة مدة صفر وربيع الأول ، وبعض ربيع الآخر ، وتقررت المصالحة (٢) والموادعة إلى أن ولي جيش بن الصمصامة البلد من قبل خاله القائد أبي محمود المقدم ذكره في سنة ثلاث وستين وثلاثمائة ، وصرف القائد ظالم بن موهوب العقيلي عن ولايته.

__________________

(١) أضيف ما بين الحاصرتين كيما يستقيم السياق.

(٢) كانت المصالحة سنة وأربع وستين وثلاثمائة ، وذكر ثابت بن سنان : «ثم استقر الرأي بين الدمشقيين والقائد أبي محمود على اخراج ظالم من البلد ويخلفه جيش بن الصمصامة ، وهو ابن أخت أبي محمود» وكان «قدم إلى القاهرة فيمن قدم إليها مع المعز ، وخرج مع خاله أبي محمود ابراهيم بن جعفر ابن فلاح الى الشام». أنظر أخبار القرامطة : ٦٤ ـ ٦٥. مدخل الى تاريخ الحروب الصليبية : ٣٤٥.

١٨

شرح الحال في ذلك

لما استقر الصلح والموادعة بين أهل دمشق والقائد أبي محمود مقدم العسكر المصري المعزي على ما تقدم شرحه ، وخمدت نار الفتنة بعض الخمود ، وركدت ريحها بعض (١١ و) الركود وسكنت نفوس أهل البلد واطمأنت القلوب بين الفريقين اعتمد القائد أبو محمود على ابن أخته جيش بن الصمصامة في ولاية دمشق وحمايتها ولمّ ما تشعث منها بالفتنة المتصلة ، لما رجاه عنده من الكفاية والصرامة ، وقدره فيه من النهضة والشهامة ، فدخلها واليا ونزل بقصر الثقفيّين (١) في الدار المعروفة بالروذبادي ، وأقام بها أياما.

فلما كان يوم من الأيام عبرت طائفة من عسكر المغاربة بالفراديس فعاثت فيه ، فثار الناس عليها وقتلوا من لحقوه منهم ، وصاروا إلى قصر الثقفيّين ، فهرب منهم جيش ابن الصمصامة الوالي في أصحابه فانتهبوا ما كان لهم فيه ، وأصبح القائد منحدرا من العسكر في جمع كثير ، وقصد جهة من البلد ، وكبس موضعا كان قد سلم ووجد فيه أربعة من أهله فأخذ رؤوسهم وطرح النار فيه فاحترق ، وقال القائد أبو محمود : إن أهل الشرّة في موضع يقال له سقيفة جناح قريب من باب كيسان قبلي البلد ، فقصدهم من ناحية الباب (٢) الصغير والمقابر ، فوقع «النفير» فقاتلتهم الأحداث والرعية أشد قتال ، وقد غلظ الأمر عليهم في أخذ رؤوس من يظفرون به ، ونشبت الفتنة والشر بينهم منذ أول جمادي اولى ، ونشبت الحرب بينهم بياض ذلك اليوم الى أن أقبل الليل ،

__________________

(١) على الأرجح أن قصر الثقفيين كان محلة من محال دمشق ، حيث موقع القلعة اليوم مع جزء من العصرونية. انظر ابن عساكر : ٢ / ٧٦. قصور الحكام في دمشق مقال لعبد القادر ريحاوي نشر في مجلة الحوليات الأثرية م ٢٢ ـ ٢٣ ص : ٤٢ ـ ٤٣.

(٢) في الأصل : الخامس ، وهو تصحيف صوابه ما أثبتنا.

١٩

فاضطرب البلد واشتد خوف أهله ووجلهم ، وخربت المنازل ، وضعفت النفوس ، وانقطعت المواد ، واستدت بالخوف المسالك والطرقات ، وبطل البيع والشراء ، وقطع الماء عن البلد ، وعدم الناس القني والحمامات ، ومات ضعفاء الناس على الطرقات ، وهلك الخلق الكثير من الجوع والبرد في أكثر الجهات ، وانتهت الحال في ذلك إلى أن تجددت ولاية القائد ريّان الخادم عقيب هذه الفتنة في بقية سنة ثلاث وستين وثلاثمائة.

شرح الأمر في ذلك

قد كانت الأخبار تنتهي إلى المعز لدين الله بما يجري على أهل دمشق من الحروب ، وإحراق المنازل ، والنهب والقتل والسلب ، وإخافة المسالك ، وقطع الطرقات ، وأن القائد أبا محمود المقدم على الجيش المصري لا يتمكن من كف أهل الفساد والمنع (١١ ظ) لمن يقصد الشر من أهل العيث والعناد ، ولذلك فقد خربت الأعمال ، واختلت الجهات ، وترادفت الأنباء بذلك إليه وتواترت الأخبار بجلية الحال عليه ، فأنكر استمرار مثل ذلك ، وأكبره واستبشعه ، وكتب إلى القائد ريّان الخادم والي طرابلس يأمره بالمسير الى دمشق ، لمشاهدة حالها ، وكشف أمور أهلها ، والمطالعة بحقيقة الأمر فيها ، وأن يصرف القائد أبا محمود عنها ، فامتثل القائد ريّان الأمر في ذلك ، وسار من طرابلس ، ووصل إلى دمشق ، فشاهدها وكشف أحوال أهلها وأمور الرعية بها ، وتقدم الى القائد أبي محمود بالانكفاء عنها ، فرحل عن دمشق الى الرملة في عدّة خفيفة من عسكره ، وبقي الأكثر مع القائد ريّان ، وكان ذلك بقضاء الله وتقديره ونفاذ حكمه ، وتمادت الأيام في ذلك إلى أن تجددت ولاية أبي منصور الفتكين التركي المعزي البويهي الواصل (١).

__________________

(١) الواصل من العراق.

٢٠