رحلة ابن معصوم المدني أو سلوة الغريب وأسوة الأريب

السيد علي صدر الدين المدني

رحلة ابن معصوم المدني أو سلوة الغريب وأسوة الأريب

المؤلف:

السيد علي صدر الدين المدني


المحقق: شاكر هادي شكر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٠

١
٢

٣
٤

ترجمة المؤلف في سطور (*)

ـ هو السيد علي صدر الدين بن الأمير أحمد نظام الدين بن محمد معصوم المدني. يتصل نسبه بزيد الشهيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع).

ـ ولد بالمدينة المنورة ليلة السبت الخامس عشر من جمادى الأولى سنة ١٠٥٢ ه‍. وأمّه كريمة العلّامة الشيخ أحمد المنوفي إمام الشافعية في الحجاز.

ـ هاجر إلى الهند سنة ١٠٦٦ ه‍ بطلب من والده الذي كان يشغل وظيفة نائب السلطنة في حيدر آباد أيام السلطان عبد الله قطب شاه.

ـ بوفاة السلطان المذكور تغلّب أحد الوزراء على الملك ، وفرض على المؤلف وعلى أبيه الإقامة الجبرية ، ومات الأب في الحجر سنة ١٠٨٦ ه‍ ، وعندئذ شعر الابن بمؤامرة تدبّر لقتله فهرب إلى برهان بور ملتحقا بالسلطان محمد أورنك زيب شاه.

ـ ضعف السلطان المذكور لتقدّمه بالسن ، وأصبحت أخلاقه لا تطاق ، فوجد المؤلف نفسه غير قادر على القيام بواجبات وظيفته ـ رئاسة الديوان في البلاط ـ فسعى جاهدا للعودة إلى الحجاز ، وبعد لأي تمكّن من استحصال الإذن بالسفر بحجة أداء فريضة الحج. فسافر هو وعائلته سنة ١١١٤ ه‍.

__________________

(*) مقتبسة من مقدمتي لكتاب أنوار الربيع للمؤلف نفسه.

٥

ـ وصل إلى مكة المكرمة ـ وهو ينوي الإقامة في الحجاز ـ ولما حلّ الموسم أدّى فريضة الحج ، ثم قصد المدينة لزيارة قبر النبي عليه أفضل الصلاة والسلام ، وتحرّى الوضع في المدينتين المذكورتين فوجد كل شيء فيهما قد تغير ولا يكاد يعرف أحدا من الناس بعد غياب دام (٤٨) سنة.

ـ واصل سفره إلى العراق ، وزار البصرة والنجف وكربلاء وبغداد ، ودرس الحالة عن كثب فلم يجد في العراق آنذاك الجوّ الملائم للتأليف والتدريس اللّذين نذر لهما ما بقي من أيام حياته ، فقرر مواصلة السفر إلى إيران.

ـ دخل البلاد الإيرانية وزار أمّهات المدن مثل خراسان ، وقم وأصفهان ـ العاصمة ـ وكان يودّ الإقامة فيها ، غير أنه وجد الأمور مضطربة على السلطان حسين الصفوي فواصل سفره إلى شيراز وهي آنذاك عامرة بالعلم والعلماء ، فألقى بها عصا الترحال ، واتخذ المدرسة المنصورية مقرّا لعمله في التدريس والتأليف.

ـ توفي بشيراز سنة ١١٢٠ ه‍ على أصح الأقوال ، ولم يرم القلم من يده إلّا قبيل وفاته ببضع ساعات ، ودفن بحرم السيد أحمد بن الإمام موسى بن جعفر الملقب بشاه جراغ.

ـ له مؤلفات عديدة ، المعروف منها :

(١) كتابه هذا ـ سلوة الغريب وأسوة الأريب.

(٢) سلافة العصر في محاسن الشعراء بكل مصر ـ مطبوع.

(٣) أنوار الربيع في أنواع البديع طبع مرتين ، والثانية بتحقيقي.

(٤) الدرجات الرفيعة ـ طبع جزء واحد منه ـ.

(٥) رياض السالكين في شرح الصحيفة السجادية ـ طبع على الحجر مرتين ـ.

(٦) الحدائق النديّة في شرح الصمدية للشيخ البهائي الحارثي في النحو ـ مطبوع على الحجر أكثر من مرة ـ.

٦

(٧) شرحان على الصمدية أيضا ـ متوسط وكبير ـ.

(٨) الكلم الطيّب والغيث الصيّب في الأدعية المأثورة.

(٩) موضع الرشاد في شرح الإرشاد في النحو.

(١٠) المخلاة في المحاضرات.

(١١) الزهرة في النحو.

(١٢) ملحقات سلافة العصر.

(١٣) الطراز في اللغة.

(١٤) رسالة في أغلاط الفيروز أبادي في القاموس.

(١٥) التذكرة في الفوائد النادرة.

(١٦) رسالة في المسلسلة بالآباء شرح فيها الأحاديث الخمسة المسلسلة بآبائه.

(١٧) نفثة المصدور.

(١٨) محك القريض.

(١٩) نغمة الأغان في عشرة الأخوان وهي أرجوزة تقارب السبعمائة بيت ، وجدتها في بعض المخطوطات ملحقة بديوان شعره.

(٢٠) ديوان شعره وهو كبير يضم بين دفتيه حوالي خمسة آلاف بيت ، وقد فرغت من تحقيقه ، وسيطبع إن شاء الله في أقرب فرصة ممكنة.

٧
٨

التعريف بالمخطوطات المعتمدة في التحقيق

وقفت على ثلاث نسخ مخطوطة من الكتاب ، اثنتان منها في مكتبة مديرية الآثار العامة ببغداد :

الأولى : مسجلة برقم ٩٦٣٦ وهي من كتب المرحوم الأستاذ عباس العزاوي المحامي ، خطّها نسخي غاية في الجودة ، ولكنها غير مضبوطة وكثيرة التصحيف والأخطاء الإملائية. جاء في آخرها (وافق الفراغ منه نهار الأربعاء لليلتين بقيتا من شهر رمضان المبارك سنة ١٠٧٥ ه‍ على يد أقل عباد الله وأحوجهم إلى مغفرته ورحمته ، الفقير جلال الدين بن الشريف حسن النجفي العباسي الشهيرين أهله بآل ظفر).

يستفاد من هذا التاريخ أن هذه المخطوطة كتبت في الهند بعد الفراغ من تأليف الكتاب بثلاثة أشهر ، وأنها أقدم النسخ ، ولكنها على كل حال ليست نسخة المؤلف بدليل أنها محشوة بالتصحيفات والأخطاء.

الثانية : مسجلة برقم ١٤٦٢٠ وهي من كتب الأستاذ السيد صادق كمونه المحامي. خطها نسخي متوسط الجودة ، خالية من الضبط ، وهي بالإضافة إلى ما فيها من تصحيفات وأخطاء لا تخلو من تصرف في بعض الجمل يوحي أنه من عمل النسّاخ وقد أشرت إلى ذلك في مواضعه من الكتاب. كتابتها حديثة جاء في آخرها (كان الفراغ من تسويد هذه النسخة ضحى يوم السبت السابع عشر من جمادى الثانية سنة ألف واثنتين ومائة حامدا مصليا مسلما مستغفرا). ثم يأتي بعد ذلك ما نصه (وقد كتبها لنفسه محمد بن الشيخ طاهر السماوي النجفي على نسخة كتبها علي بن ابراهيم الدرازي أصلا ،

٩

والشاخوري (١) مسكنا. وظنّي بهذا التاريخ المتقدم في حياة المصنف. ونسخته كثيرة التصحيف والغلط ، فصحح الضعيف ما أمكنه ، وكان كتبها في النجف على استعجال ، وفرغ منها ليلة الاثنين لثمان بقين من ذي الحجة من شهور سنة خمس وستين وثلاثمائة وألف حامدا مصليا داعيا إلى الله تعالى أن ينفع بها أنه على كل شيء قدير ، وله الحمد والشكر في البدء والختام).

أما النسخة الثالثة : فهي في مكتبة مديرية الأوقاف العامة ببغداد ومسجلة لديها برقم ١٢٣١٧. خطّها نسخي لا بأس به ، خالية من الضبط وهي كسابقتيها من ناحية التصحيف والأغلاط. جاء في آخرها ما نصه (وقع الفراغ من نسخ هذه الرحلة على يد كاتبها المفتقر إلى عفو ربه الجليل عبد الله بن عيسى بن اسماعيل ، الشهير بالعباسي ، غفر الله له الزلل ، وستر له الخلل ، ووفقه لصالح العمل ، هو ووالديه وإخوانه ومحبيه في الله وسائر المسلمين ، في اليوم الخامس عشر من ذي الحجة الحرام من شهور سنة إحدى وثلاثين بعد المائتين والألف من هجرة من له العز والشرف صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذرياته وسلم تسليما كثيرا ، والحمد لله ربّ العالمين سبحانه وتعالى.

قابلتها وأصلحتها. وإلّا (كذا) فالمرجو من الاخوان المسامحة على ما فيها من التحريف ، وأن يصلحها من هو أهل لذلك لتخلو من التصحيف. والله سبحانه وتعالى يصفح عن الجميع بمنه وكرمه آمين).

ولما لم أوفّق إلى العثور على نسخة المؤلف أو نسخة مقروءة عليه ، لم أشأ التوسع في الحصول على نسخ أخرى لا يجني المحقق منها غير التعجيز ، وتضخيم الكتاب بكثرة الشروح لبيان ما فيها من تصحيفات وما يوجد بينها من اختلافات ، ومثل هذا العمل في الواقع إحصائي أكثر منه أدبي ، ويكفي المحقق أن يطمئن إلى سلامة النص ، ويتثبت من صحة عمله.

__________________

(١) لعلها الشاغوري ، نسبة إلى الشاغور : محلة خارج الباب الصغير من قبلي دمشق ظاهر المدينة.

١٠

المنهج الذي سلكته في التحقيق

اعتبرت النسخ الثلاثة التي مر ذكرها معتمدة في التحقيق ، الواحدة منها تكمل الأخرى ، وجعلت للنسخة الأولى ـ نسخة العزاوي فضلا على النسختين الثانية والثالثة لقدم كتابتها أولا ، ولجمال خطها وسهولة قراءته ثانيا.

ـ فإذا وجدت تصحيفا أو خطأ في إحداهن ، وكان الوارد في الأخرى صحيحا أخذت بالصحيح دون أن أشير إلى ذلك في الهامش تجنبا للإطالة ، فلو ذكرت كل تصحيف أو خطأ وارد في كل نسخة من النسخ الثلاث ـ وهي كثيرة جدّا ـ لطغت الهوامش على الكتاب دون أن يستفيد منها الباحث أو القارئ.

ـ إذا اختلفت النسخ في الرواية وكانت الروايات كلها مقبولة أخذت بما في نسخة العزاوي حتى ولو كان الذي في سواها أرجح معنى وأقوى مبنى ثم أشير إلى ذلك في الهامش.

ـ إذا كان الاختلاف في نص منقول عن أحد المصادر ، فإني آخذ برواية النسخة التي تنطبق روايتها مع ذلك المصدر ، ثم أنوّه عنه في الهامش.

ـ أرجعت النصوص المنقولة إلى مصادرها ـ على قدر المستطاع ـ وأحلت عليها في الهامش ، وذكرت فيه كل اختلاف وقفت عليه ، وأهملت الأخطاء والتصحيفات الواردة في تلك المصادر.

ـ عزوت ـ على قدر الإمكان ـ الأشعار التي لم ينسبها المؤلف ، إلى أصحابها.

ـ اكتفيت بإيضاح أسماء الأعلام من الرجال وبذكر تواريخ وفياتهم ، وأشرت إلى مصادر تراجمهم ، ولأجل أن لا أطيل في تعداد تلك المصادر فقد عوّلت في الأعم الأغلب على (١) ـ الأعلام للزركلي و (٢) ـ معجم المؤلفين لكحالة و (٣) ـ هوامش أنوار الربيع لابن معصوم ، لأن في هذه الكتب تراجم مختصرة تفي بالغرض ، وفي عقب كل ترجمة قائمة بالمصادر التي ترجمت لذلك العلم.

ـ أهملت ذكر من لم أتوصل إلى معرفته.

١١

ـ عرّفت بالكتب والمواقع التي ورد ذكرها في الكتاب إلّا ما تعذّر الوقوف عليه.

ـ لم أتوسّع في شرح الغريب من اللغة.

ـ استعملت في الهوامش الرموز الآتية :

(ع) مخطوطة الأستاذ عباس العزاوي التي انتقلت ملكيتها إلى مكتبة مديرية الآثار العامة ببغداد (مسجلة برقم ٩٦٣٦).

(ك) مخطوطة الأستاذ صادق كمونه التي انتقلت ملكيتها أيضا إلى مكتبة مديرية الآثار العامة ببغداد (مسجلة برقم ١٤٦٢٠).

(أ) مخطوطة مكتبة مديرية الأوقاف العامة ببغداد (مسجلة برقم ١٢٣١٧).

(*) وضعت هذه الإشارة إلى جنب أسماء بعض الأعلام للدلالة على أنه قد سبق التعريف به.

وختاما فإني في الوقت الذي أعترف فيه بقصوري عن أن أقدّم للقارئ الكريم عملا متكاملا يسعدني أنني بذلت في إخراج هذا الكتاب بهذا الشكل غاية جهدي خدمة لأمتي العظيمة ولغتها المقدسة ، سائلا المولى جلّ وعلا أن يتقبل أعمالنا التي حسنت فيها نياتنا (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا ، رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ).

المحقق

١٢

مقدّمة المؤلف

الحمد لله الذي جعل الأرض مهادا ، وسلك فيها سبلا ، وأودعها من عجائب صنعه ما شاهدته أبصار أولي الأسفار قبلا (١). سبحانه ما أعجب ما قدّر في أمور عباده ، وألطف ما دبّر في أرضه وبلاده. أنفذ كيف شاء في خلقه أحكامه ، فقضى على هذا بشعث السفر ، وعلى هذا بلمّ الإقامة ، والصلاة والسلام على نبيّه الذي بعثه بأشرف البقاع ، وشرّف بمواطئ أقدامه الشريفة كثيرا من الفجاج والقاع ، وجعل دينه المنيف مألفا لعباده بلا حيف ، فأغناهم عن إيلافهم رحلة الشتاء والصيف ، وعلى آله وصحبه البررة الهادين الذين مهّدوا طرق الحق ، وأوضحوا مناهج الدين.

وبعد ، فيقول المفتقر إلى ربّه الغني علي صدر الدين بن أحمد نظام الدين الحسيني الحسني ، هداهما الله إلى سواء السبيل ، وأنالهما من جزيل ما ينيل : غير خاف إنّ شيمة الأيام وسخيمة (٢) صدور اللئام هما كمد نفس كلّ فاضل ، ورمد جفون الأفاضل ، فما من ذي فضل إلا مني بدهر عبوس ، أو غمر ببنيه كؤوس الهمّ والبوس. ذاك ينصب له المصايد وهذا يجرّعه غصص المكايد ، فقلّما انتدب ذو أدب لنيل أرب إلّا وأدركته حرفة الأدب ، أو جدّ واحتشد لأمر برشد إلّا عاقة ذو حسد. بهذا جفّ القلم فيما ألمّ ، وقضى القضا فيما مضى. ومن هنا استولى النقص على الكمال ، واستعلى على الرشد الضلال ، وركدت ريح الفضل وخوى (٣) طالعه وخبت مصابيح الأدب ودجت

__________________

(١) قبلا (بضمتين) : عيانا.

(٢) السخيمة : الضغينة ، والموجدة.

(٣) خوت النجوم : أمحلت ، أي سقطت ولم تمطر في نوئها.

١٣

مطالعه. حتى سئمت الفضائل أهلها ، وحمد من الأراذل جهلها ، فشكا كلّ أديب من دهره ، وبكى كلّ أريب من رعاع عصره.

هذا زمان ليس فيه

سوى النّذالة والجهاله

لم يرق فيه صاعد

إلّا وسلّمه النّذاله

ثم هذا ليس إشارة إلى هذا الزمن العديم ، بل العلّة عاديّة ، والبلاء قديم حتى قيل : ما فسد الناس ، وإنّما اطّرد القياس ، ولا اظلمّت الأيّام وإنّما امتدّ الظلام ، وهل يفسد الشيء إلّا عن صلاح ، ويمسي المرء إلّا عن إصباح ، وقديما ما بثّت الأفاضل خطوب الدهر ونكوب الزمن ، ونثت (١) من أهوال أحوالها بخس الحظ ووكس الثمن ، وكم جدّت بجدودها العواثر في هذه الدنيا لنيل العلياء ، فضربت شرقا وغربا ، وأوغلت بعدا وقربا ، فلم تحصل على طائل ، وما أشبه الأواخر بالأوائل.

وإذا السّعي لم يلاحظ بسعد

فالتماس المنى من الحرمان (٢)

وهيهات مع شرف العلم عزّ المال ، ومع حرفة الأدب بلوغ الآمال ، ولا سيما من انتمى إلى بيت النبوّة ، وارتدى مع ذلك رداء صيت الفتوّة ، فإنّ الدهر أشدّ حقدا عليه ، وأسرع نهدا إليه.

نحن بني المصطفى ذوو محن

يجرعها في الحياة كاظمنا

عجيبة في الأنام محنتنا

أوّلنا مبتلى وخاتمنا (٣)

هذا وإنّي منذ كبر عن الطوق عمري (٤) ، وارتفع عن منافثة الأتراب عمري ، لم أزل أصابح وأماسي ما يهدّ أيسره الرواسي ، وأكابد وأقاسي ما يليّن أهونه القواسي. أسوق من دهر قصصا ، وأسيغ من غمر غصصا.

__________________

(١) نثت : حدّثت وأذاعت.

(٢) في ك ، وأ (فالتماس المنى به حرمان).

(٣) الشعر للخليفة الفاطمي العزيز بالله نزار بن معد المتوفى سنة ٣٨٦ ه‍ (أنوار الربيع ٤ / ٩١). في ك (في الأنام) مكان (في الحياة).

(٤) إشارة إلى المثل القائل (شبّ عمرو عن الطوق).

١٤

كلّ يوم لي خصيم [ضالع]

والمقادير لها حكم شطط (١)

وإذا كشّفت ما يرمضني

من مضيض الدّاء قال الحلم غط

ولقد منيت بكربة الغربة ، وتشعّث الحال وعهد الصّبا مخيّم ما همّ بالارتحال ، وبليت بورود منهل البين الأكدر ، وباهر العمر مشرق أشرف على الكمال وما أدبر. رمتني مرامي النوى بجهدها ، وأبدلتني عن خير بلاد الله المشرّفه بأرض هندها ، وناهيك بأرض شاسعة نائية ، وبلد أهلها كفرة طاغية ، وليس ذلك والله لطلب نائل ، أو بلوغ وطر امتثلت له قول القائل :

وارحل ركابك عن ربع ظمئت به

إلى الجناب الذي يهمي به المطر (٢)

كيف وقد علمت أنّ الحرمان من شيم الزمان ، وربّ عطب تحت طلب ، ولكن قضاء حتم ، وأمر لزم فأين المفر ، وهيهات طلب المستقر.

لو أنصف الدهر دلّتني غياهبه

على العلى بضياء العقل والحسب

ما ينفع المرء أحساب بلا جدة

أليس ذا منتهى حظّي وذاك أبي

وكنت بعد أن نزلت على حكم القدر في تحمّل شقّة البين ، وفارقت الأهل والوطن فراق الجفن للعين ، حريصا على أن لا يكون فعلي إلّا فعل امرئ جدّ في طلب العلى جدّه.

وما رأيه في عسجد يستفيده

ولكنّه في مفخر يستجدّه (٣)

وإن زعم قوم أني على خلاف ذلك فالحسد يقحم مقتفيه أضلّ المسالك.

__________________

(١) البيتان من قصيدة طويلة للشريف الرضي (محمد بن الحسين) المتوفى سنة ٤٠٦ ه‍ (أنوار الربيع ـ ١ / ٤١ ، وبين البيتين أكثر من ثلاثين بيتا. ضالع : جائر. في الأصول (طالع) والتصويب من الديوان.

(٢) البيت للحريري (القاسم بن علي) المتوفى سنة ٥١٦ ه‍ (انوار الربيع ١ / ١١١ وهو من ضمن قطعة وردت في مقامته السابعة والثلاثين (الصعيدية).

(٣) البيت لأبي الطيب المتنبي (أحمد بن الحسين) المتوفى سنة ٣٥٤ ه‍ (أنوار الربيع ١ / ٣٨). والظاهر أن المؤلف حوّره ليلائم غرضه ، وإلا فراوية الديوان له :

وما رغبتي في عسجد أستفيده

ولكنّها في مخفر أستجدّه

١٥

وقد سرّني أنّي من المال مقتر

ولا الوجه مبذول ولا العرض منهوب

كما سرّني أنّي من الفضل موسر

على أنّه فضل من الرّزق محسوب

فجهدت على أن لا أظفر بنكتة طريفة إلّا نمّقتها ، أو فائدة ظريفة إلّا علّقتها ، أو شعر فائق إلّا كتبته ، أو نثر رائق إلّا أثبتّه ، حافظا لذلك حفظ الجفن لمقلته ، والصدر لمهجته ، والشحيح لدرهمه ، والجريح لمرهمه. حتى كأنّي استدبرت وطنا واستقبلت وطرا ، وسلوت عن قديم ما سلف بحديث ما طرا ، فاجتمع لديّ من نخب اللطائف ما رقّ وراق ، واقتطفته النواظر من ثمرات الأوراق ، وانتخبته نتائج الأفكار ، وجنحت إليه جنوح المفرخ إلى الأوكار ، وتملّت به النفوس ، وتحلّت به المهارق (١) والطروس.

ملح إذا ذكرت بناد خلته

من نشرها البادي تضمّخ طيبا

ولكم بها قد قام ربّ فضيلة

بين البريّة في البلاد خطيبا

فأزمعت على أن أجمع ما وقع لي من ذلك رحلة تكون لأولي الألباب من ذوي الآداب نحلة ، أثبت فيها ما وقفت عليه ، وما سأقف إن شاء الله تعالى جانحا إليه ، إلى أن يمنّ الله سبحانه بالعود إلى الوطن ، والأوب إلى العطن ، وأورد خلال ذلك من الطرائف المستظرفة ، والظرائف المستطرفة ما يروق النواظر ، ويجلو صدأ الخواطر ، وتقرّط به المسامع ، ويطرب له الناظر والسامع. فإذ أشرق من أفق الكمال بدرها المنير ، وتفتّق عن حجب الكمام زهرها النضير سمّيتها :

«سلوة الغريب وأسوة الأريب»

ليطابق الاسم مسمّاه ، ويوافق اللفظ معناه ، وفيها أقول :

رحلتي المشتهاة تزري

بالرّوض عند الفتى الأريب

فإن تغرّبت فاصطحبها

فإنّها سلوة الغريب

__________________

(١) المهارق جمع المهرق (بالضم) : ثوب حرير أبيض يسقى بالصمغ ويصقل ثم يكتب فيه.

١٦

فها هي كالمنية قد أنجحت لراجيها ، أو العروس قد أبرزت في ناديها ، فخذها بارك الله لك فيها.

مقدّمة : فيما جاء في السفر والاغتراب من نثر ونظم ذما ومدحا ، والناس متفاوتون في التفضيل بين التغرب والإقامة ، فلنذكر من كلّ طرفا يعدّه الناظر طرفا.

أمّا ما جاء في الذمّ في ذلك فقد قال الله عزوجل (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ)(١) فقرن جلّ اسمه الخروج من الوطن بقتل النفس.

وروي عن سيّد البشر الشفيع المشفّع في المحشر أنّه قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (السفر قطعة من العذاب ، يمنع أحدكم نومه وطعامه ، فإذا قضى أحدكم مهمّته من وجهه فليعجّل إلى أهله).

وقيل لبعضهم : إنّ السفر قطعة من العذاب ، فقال : بل العذاب قطعة من السفر ، ونظمه من قال :

كلّ العذاب قطعة من السّفر

يا ربّ فارددني إلى ريف الحضر

وكان الحجاج بن يوسف (٢) يقول : لولا فرحة الإياب لما عذّبت أعدائي إلّا بالسفر وقيل : السفر ، والسقم ، والقتال ، ثلاثة متقاربة. فالسفر سفينة الأذى ، والسقم حريق الجسد ، والقتال منبت المنايا.

وقال حكيم : في السفر خصال مذمومة منها مفارقة الإنسان من يألفه.

وعلى ذلك لعلي بن موسى بن سعيد المغربي (٣) :

عجبت ممّن يبتغي بغية

عن حبّه في نيلها يذهب

__________________

(١) سورة النساء / ٦٦.

(٢) والي العراق المشهور في عهد عبد الملك بن مروان. توفي سنة ٩٥ ه‍ (أنوار الربيع ٣ / ٢٥).

(٣) هو صاحب التصانيف الكثيرة منها (المغرب في حلى المغرب) توفي في حدود سنة ٦٨٥ ه‍ وقيل غير ذلك. (أنوار الربيع ١ / ٦٩).

١٧

أقم فلا كانت منى في نوى

من فقد المحبوب ما يطلب

ومنها مصاحبة الإنسان من لا يشاكله ، والمخاطرة بما يملكه ، ومخالفة العادة في أكله ونومه ، ومباشرة الحرّ والبرد بجسمه.

وقيل : السفر اغتنام لولا أنّه اغتمام ، والغربة دربه لولا أنّها كربة.

وقيل : شيئان لا يعرفهما إلّا من ابتلي بهما : السفر الشاسع ، والبناء الواسع.

وقال محمد بن ظفر في السلوان (١) : حروف الغربة مجموعة من أسماء دالّة على محصول الغربة. فالغين من غرور ، وغبن ، وغلّة وهي حرارة الحزن ، وغرّة ، وغول وهي كلّ مهلكة ، والراء من روع ، وردى ، ورزء ، والباء من بلوى ، وبؤس ، وبرح وهي الداهية ، وبوار وهو الهلاك ، والهاء من هول ، وهون ، وهمّ ، وهلك.

وقيل : إذا كنت في بلد غيرك فلا تنس نصيبك من الذلّ.

وقيل : الغريب ميّت الأحياء (كالغرس الذي زايل أرضه فهو ذاو لا يثمر وذابل لا ينضر) (٢).

وقيل : الغريب كالوحش الذي غاب عن وطنه ، فهو لكلّ سبع فريسة ولكلّ رام رميّة.

وقيل : عسرك في بلدك خير من يسرك في بلد غيرك وأنشدوا :

لقرب الدار في الإعسار خير

من العيش الموسّع في اغتراب (٣)

وقيل لبعض الحكماء : ما السرور؟ فقال : الكفاية في الأوطان ، والجلوس مع الاخوان.

__________________

(١) هو شمس الدين محمد بن ظفر الصقلي. من مؤلفاته (سلوان المطاع في عدوان الأتباع. توفي سنة ٥٦٥ ه‍ (معجم المؤلفين ١٠ / ٢٤١).

(٢) في ك (كالفرس الذي زايل أخيّته فهو حائل لا يثمر وذابل لا ينظر).

(٣) ورد البيت في زهر الآداب ١ / ٣٨٧ من دون عزو أيضا.

١٨

طريفة : قال القاضي أبو الحسن الجرجاني (١) كان الصاحب بن عباد (٢) يقسم لي من إقباله وإكرامه بجرجان أكثر ممّا يتلقّاني به في سائر البلدان فاستعفيته يوما من فرط تحفيته بي ، وتواضعه لي فأنشدني :

أكرم أخاك بأرض مولده

وأمدّه من فعلك الحسن

فالعزّ مطلوب وملتمس

وأعزّه ما نيل في الوطن

الأعشى (٣) :

ومن يغترب عن قومه لم يزل يرى

مصارع مظلوم مجرّا ومسحبا (٤)

وتدفن منه الصّالحات وإن يسئ

يكن ما أساء النار في رأس كبكبا

وقال آخر :

ومن ينأ عن دار العشيرة لا تزل

عليه رعود جمّة وبروق

وقال آخر :

وإنّ اغتراب المرء من غير خلّة

ولا همّة يسمو بها لعجيب

فحسب الفتى ذلّا وإن أدرك الغنى

ونال ثراء أن يقال غريب

وأنشد أبو منصور الثعالبي (٥) في يواقيت المواقيت (٦) قال : أنشدني أبو

__________________

(١) هو القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني المتوفى سنة ٣٩٢ ه‍. (أنوار الربيع ٤ / ١٨٦).

(٢) هو أبو القاسم اسماعيل بن عباد. توفي سنة ٣٨٥ ه‍ (أنوار الربيع ١ / ٥٨).

(٣) هو صناجة العرب ميمون بن قيس. توفي قبيل فتح مكة ولم يسلم (أنوار الربيع ١ / ٢٢٥).

(٤) البيت مأخوذ من بيتين وردا في ديوان الأعشى هكذا :

متى يغترب عن قومه لا يجد له

على من له رهط حواليه مغضبا

ويحطم بظلم لا يزال يرى له

مصارع مظلوم مجرّا ومسحبا

(٥) هو أبو منصور عبد الملك بن محمد المتوفى سنة ٤٢٩ وقيل ٤٣٠ ه‍ (أنوار الربيع ١ / ١٧٢).

(٦) هو كتاب في مدح الأشياء وذمها ، ورد ذكره في دائرة المعارف الإسلامية ٦ / ١٩٥ ضمن مؤلفات الثعالبي.

١٩

الفتح البستي (١) لنفسه :

لا يعدم المرء كنّا يستكنّ به

وصفّة بين أهليه وأصحابه (٢)

ومن نأى عنهم قلّت مهابته

كاللّيث يحقر إمّا غاب عن غابه

ناصر الدين ابن النقيب (٣) :

ليس من بات معتقا من أماني

ه كمن بات للأمانيّ رقّا

إنّ للمرء في الحياة على اللّ

ه إلى أن يموت قوتا ورزقا

خلّني من حديث كدّ وسعي

واضطراب في الأرض غربا وشرقا

ما الّذي أقتنيه من عرض يف

نى إذا كان جوهري ليس يبقى

وأما ما جاء من المدح في ذلك :

فقد مدح الله جلّ اسمه المسافرين فقال (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ)(٤).

وفي الحديث (سافروا تصحّوا وتغنموا).

وفي التوراة (ابن آدم أحدث سفرا أحدث لك رزقا).

وقيل : إنّما سمي السفر سفرا لأنه يسفر عن آيات الله ، وقيل : لأنّه يسفر عن أخلاق الرجال.

ومن كلامهم : السفر ميزان الأخلاق. السفر مرآة الأعاجيب. ربما أسفر

__________________

(١) هو أبو الفتح علي بن محمد البستي المتوفى سنة ٤٠٠ ه‍ (يتيمة الدهر ٤ / ٣٠٢ ، وأنوار الربيع ١ / ٩٨).

(٢) الصفّة (بالضم وتشديد الفاء) : الموضع المظلّل ، وأهل الصفة : ضيوف الإسلام من فقراء المهاجرين ممن ليس لهم منزل ، فكانوا يأوون إلى مواضع مسقوفة بجريد النخل. وفي يتيمة الدهر (ومتعة) مكان (وصفة).

(٣) هو الحسن بن شاور بن طرخان الكناني المعروف بابن النقيب النفيسي المصري المتوفى سنة ٦٨٧ ه‍ (أنوار الربيع ٢ / ٢٠٥).

(٤) سورة المزمل / ٢٠.

٢٠