تاريخ دمشق - ج ١

تاريخ دمشق - ج ١

المؤلف:


المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: التكوين للتأليف والترجمة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٨٤٦

١
٢

٣
٤

الإهداء

إلى ابنتي ربى التي فيها من دمشق

العذوبة والصلابة

٥
٦

بسم الله الرحمن الرحيم

توطئة :

التطور سنة الكون ومثل ذلك التقدم ، فصحيح أن الأركان الأساسية لخطة موسوعتي هذه لم تتغير ، لكنها تطورت وتحسنت بالفهم والأداء ، فقد كنت من قبل قد نشرت مختارات من تاريخ دمشق لابن القلانسي ، لكن بعد إقدامي على نشر عدد من الأصول الأوربية كاملة ، لتقديم صورة «بانور امية» لما كان يجري في المشرق الشامي ، وفي الغرب الأوربي ، لأن ذلك يساعد على فهم أعمق لمختلف العوامل التي أسهمت في أحداث الحروب الصليبية ، إن سلبا أو إيجابا ، وجدت توفر الحاجة لتقديم نص عربي شامي مكافىء ، وصحيح أنني كنت قد نشرت كتاب الروضتين لأبي شامة مع ذيله بالكامل ، وجدت هناك حاجة لنشر المتوفر من الأصول التي اعتمد عليها أبو شامة ، ثم نشر ما كتب بعد أبي شامة ، ووجدت ضالتي في تاريخ دمشق لابن القلانسي ثم في الأجزاء الأخيرة من مرآة الزمان لسبط ابن الجوزي ، لكن بقيت الصورة غير كاملة ، فكان أن أكملتها من كتاب ذيل مرآة الزمان لليونيني ، وهنا اقتديت بسنة ابن القلانسي الذي كتب «ذيلا مذيلا» [انظر المقدمة المقبلة] فصنعت تكملة لهذا الذيل المذيل ، أوصلت به الرواية إلى ما بعد تحرير عكا ، وطي الصفحة الأهم في تاريخ الحروب الصليبية.

ومثلما كان ابن القلانسي شاهد عيان لأحداث الحملتين الصليبيتين الأولى والثانية ، كان سبط ابن الجوزي شاهد عيان للأحداث التي وقعت من بعد وفاة صلاح الدين حتى ما بعد الحملة الصليبية السادسة ، ومن بعد وفاته كان اليونيني شاهد عيان للغزو المغولي ، ولتأسيس سلطنة المماليك ، ولإنجازات السلاطين : بيبرس ، وقلاوون الألفي ، والأشرف خليل بن قلاوون.

٧

وسبط ابن الجوزي وإن كان عراقي الأصل إلا أنه كان شامي العطاء والإسهام والوفاة ، ومثله كان اليونيني ، فيونين بلدة من أعمال بعلبك ، لكنها وبعلبك كانت دمشقية شامية.

وتمت الإشارة من قبل إلى الدور الذي شغله علماء الدين الإسلامي في أيام الحروب الصليبية ، وإلى المكانة الرفيعة التي احتلوها منذ إصلاحات الوزير السلجوقي نظام الملك ، وفي العصرين السلجوقي والأيوبي ، غالبا ما أقدم الحكام على تكليف بعض العلماء بأعمال إدارية ، أو مهام دبلوماسية من سفارات ومفاوضات ، فبهذه الطريقة كان أبو المحاسن يوسف بن شداد قد تعرف على صلاح الدين ودخل في خدمته ، وهكذا فعل من بعده سبط ابن الجوزي بالتعرف على أبناء العادل الأيوبي وإسهامه في أحداث عصرهم.

وسبط ابن الجوزي هو حفيد المؤرخ الكبير ، والعالم الجليل المعطاء ابن الجوزي ، الذي احتل مرتبة الواعظ الأول في بغداد ، لكن مكانته قد تقلقلت كثيرا بعد ما أسس عبد القادر الجيلي زوايته في بغداد ، حيث أدخل التصوف في مرحلة تنظيمية جديدة ، قد يجد الإنسان فيها كثيرا من الاستعارات من تجربة الدعوة الاسماعيلية ، ولا سيما الجديدة منها ، التي أسسها حسن الصباح.

وكادت الزاوية الجيلية أن تلغي دور الواعظ ، حتى أن ابن الجوزي تعرض لمأساة انهيار مكانته ونفيه من بغداد إلى واسط ، وتأخر وصول التجربة الجيلية الجديدة إلى بلاد الشام ، وظل الواعظ يتمتع في دمشق بمكانة عالية ، ولعل من أسباب ذلك استمرار وضع المواجهة مع الصليبيين ثم مع المغول ، وبقاء روح الجهاد متقدة بين صفوف الدمشقيين ، ولهذا السبب بين أسباب أخرى ، جاء سبط ابن الجوزي إلى الشام ، وقام بالدور الوعظي الذي كان يقوم به جده في بغداد قبل محنته ، وشغل دوره في إثارة روح الجهاد في وجه الحرب المقدسة التي حمل

٨

رايتها الصليبيون منذ إعلان البابا أوربان الثاني عام ١٠٩٥ عن الحرب المقدسة ضد الإسلام والمسلمين.

وكان ابن الجوزي قد رزق بثلاثة أولاد ، وبعدد ، من البنات ، منهن واحدة حملت اسم رابعة ، زوجها أبوها للمرة الثانية بعد وفاة زوجها من حسام الدين قزا أوغلي بن عبد الله ، وكان تركيا من مماليك الوزير عون الدين يحيى بن هبيرة.

وكانت رابعة كأخواتها سمعت الحديث النبوي على أبيها ، وعلى غيره من المحدثين ، وأنجبت ابنها يوسف سنة ٥٨٢ ه‍ / ١١٨٦ م ، ولما ترعرع يوسف أخذه جده إليه ، وتكفل بتعليمه ، وتوجيهه ، فغدا أشبه الناس به ، لا سيما في مجال الوعظ والتأثير الشعبي ، وعندما غدا يوسف شابا يقارب العشرين من عمره ، كان جده قد توفي ، فقرر أن يفارق بغداد ويقصد بلاد الشام.

وعندما نقرأ الأجزاء الأخيرة من كتاب مرآة الزمان ، ومثل ذلك عندما نقرأ ذيل الروضتين لأبي شامة نلتقي مرارا بأخبار سبط ابن الجوزي ، ونشاطاته في بلاد الشام والجزيرة ، فهو قد حظي بمكانة رفيعة بين علماء دمشق ، وأقبل الناس على مجالس وعظة ، ونشأت له علاقات جيدة بأبناء العادل الأيوبي ، ولم تقتصر نشاطاته على الميادين العلمية ، والدعوة إلى الجهاد ، بل كان له دوره الفعال في نجدة أهل الشام للكامل الأيوبي أثناء التصدي للحملة الصليبية الخامسة ، ثم إنه جند بعد ذلك جيشا من المتطوعة غزا به الأراضي التي كان يحتلها الفرنجة في فلسطين.

ومثلما قلد سبط ابن الجوزي جده في أعمال الوعظ ، جذبه ميدان التاريخ ، فصنف على غرار منتظم جده «كتاب مرآة الزمان في تاريخ الأعيان» ، وعرض السبط ـ مثلما فعل جده ـ المواد الإخبارية وفق طريقة الحوليات ، كل حولية على حدة ، وأتبع ذلك بتراجم وفيات تلك

٩

السنة ، ورأيت في مكتبات العالم أكثر من نسخة مخطوطة من هذا الكتاب ، ووضح لدي أن السبط أعاد النظر في كتابة بعض أجزاء مصنفة أكثر من مرة ، لذلك تحتوي بعض النسخ الخطية على مواد أكثر سواها ، وامتلك الآن أكثر من نسخة مصورة من هذا الكتاب من جميع القطع التي نشرت منه ، وبودي تحقيق هذا الكتاب مع ذيله ـ إذا يسر الله ـ لأنهما من أهم الموسوعات التاريخية التي صنفت في بلاد الشام.

وأشرت من قبل إلى وطيد العلاقات التي قامت بين سبط ابن الجوزي وأبناء العادل الأيوبي ، لا سيما الملك الأشرف ، وأكثر الملك المعظم عيسى ، ولم ينغمس سبط ابن الجوزي في مسايرة رجالات السلطة الأيوبية ، ولم يتخل عن مبادئه ، وظل مخلصا لعقيدته ولإيمانه ، وكان أبناء العادل الأيوبي قد انشغلوا إلى أبعد الحدود في صراعاتهم الداخلية ، ولم يتورع بعضهم عن الاستعانة بقوى إسلامية خارجية مثل الخوارزمية ، بل انضوى بعضهم تحت راية الصليب وتحالف مع الفرنجة ، وضحى بمنجزات صلاح الدين ، واستدعى فردريك الثاني وتخلى له عن القدس ، وأفسد هذا العلاقات فيما بين سبط ابن الجوزي والملك الأشرف ، وانتقد السبط الأشرف مع أخيه السلطان الكامل ، وعدّ التخلي عن القدس خيانة ، وبعد موعظة شديدة النبرة ألقاها من على منبر جامع دمشق قال فيها : «انقطعت عن البيت المقدس وفود الزائرين ، يا وحشة المجاورين ، كم كان لهم في تلك الأماكن من ركعة ، وكم جرت لهم على تلك الأماكن من دمعة ، تا الله لو صارت عيونهم عيونا لما وفت ، ولو تقطعت قلوبهم أسفا لما شفت ، أحسن الله عزاء المؤمنين ، يا خجلة ملوك المسلمين ، لمثل هذه الحادثة تسكب العبرات ، لمثلها تتقطع القلوب من الزفرات ، لمثلها تعظم الحسرات» ، وأفتى بعد هذه الموعظة بشرعية قتال الكامل والأشرف لعقدهما صفقة تسليم القدس للامبراطور الألماني فردريك الثاني بشكل شائن.

١٠

واضطر سبط ابن الجوزي إثر هذا إلى مغادرة دمشق والالتجاء إلى قلعة الكرك ، حيث مكث فيها من سنة ٦٢٦ حتى سنة ٦٣٣ ه‍ / ١٢٢٩ ـ ١٢٣٦ م ، ثم رجع إلى دمشق حيث أقام مدة قصيرة ، وأخذ يتردد ما بين دمشق ، والقدس ، والكرك ، ثم قصد مصر سنة ٦٣٩ ه‍ / ١٢٤١ م ، وأقام بها حتى سنة ٦٥٣ ه‍ / ١٢٥٥ م ، حيث عاد إلى بلاد الشام ، فزار حماة لمدة وجيزة ، ثم رجع إلى دمشق حيث توفي فيها سنة ٦٥٤ ه‍ ـ ١٢٥٩ م.

وعلى هذا كان سبط ابن الجوزي في أيامه الشخصية العلمية والجماهيرية ، وشارك سبط ابن الجوزي السلطان العظيم صلاح الدين في اسمه ، واستعار منه لقبه «أبو المظفر» واستلهم سيرته وشجاعته ، فآثر مصالح الأمة على منافعه ، وفضل آخرته على عاجلته.

وكان لمدينة بعلبك مكانة مهمة في عصر الحروب الصليبية ، وغالبا ما كانت تابعة لدمشق ، وبرزت في هذه المدة الزمنية بلدة يونين ، فصارت من أهم المراكز الثقافية ، ويبدو أنه أسهم في ازدهار الحركة الثقافية فيها ، هو كونها كانت من المناطق التي اعتاد بعض أهالي دمشق على اللجوء إليها ، عندما كانت مدينتهم تتعرض للمخاطر الخارجية ، ولربما أيضا أثناء الصراعات بين حكام أجزاء بلاد الشام ، ومن يونين خرج عدد مهم من العلماء ، والمتصوفة ، الذين ظلت علاقاتهم وثيقة مع دمشق.

ويهمنا من بين شخصيات يونين المؤرخ قطب الدين موسى بن محمد ابن عبد الله الذي ولد في يونين سنة ٦٤٠ ه‍ / ١٢٤٢ م وفيها نشأ ، وكان والده من كبار العلماء ، ترجم له ابنه ترجمة واسعة ، وكذلك ترجم لعدد كبير من أعلام يونين.

ذلك أن قطب الدين اختصر كتاب مرآة الزمان ، ثم ذيل عليه حتى قبيل وفاته بسنوات قليلة ، فهو قد توفي سنة ٧٢٦ ه‍ / ١٣٢٦ م ، وجاءت وفاته في بعلبك «عن ست وثمانين سنة» ، وأودع اليونيني في

١١

كتابه مواد كثيرة عنه شخصيا وعن أسرته ، ويعد هذا الكتاب من أهم المصادر التاريخية ، ولذلك لاقى العناية منذ بعض الوقت حيث طبع نصفه في حيدر أباد الدكن في أربعة أجزاء (١٩٥٤ ـ ١٩٦١) ، وهذه الطبعة تعاني من اضطراب شديد وتصحيفات كثيرة جدا ، وهناك حاجة لأن يطبع الكتاب كله مع المرآة ، وأنا لدي صورة تحتوي على نسخة كاملة منه ، منها استخرجت المواد التي أكملت بها تتمة تاريخ دمشق لابن القلانسي ، وهنا أنا قد حرصت على إيراد أخبار كل حولية بشكل كامل ، لكن احتفظت فقط بتراجم الذين كانت لهم علاقة بالحياة السياسية والإدارية ، لأن مواد اليونيني وحدها إذا ما طبعت ستكون في أكثر من ألفين وخمسمائة صفحة ، وكامل الذيل الذي كتبه اليونيني لن يقل حجمه إذا ما طبع عن أربعة آلاف صفحة.

وكان اليونيني قد تلقى العلم على أبيه وعلى علماء دمشق ، وحماة ، والقاهرة ، وحظي بمكانة سامية في بعلبك ، قال عنه الذهبي : «كان عالما فاضلا ، مليح المحاضرة ، كريم النفس ، معظما جليلا ، حدثنا بدمشق وبعلبك ... وقد حسنت في آخر عمره حالته ، وأكثر من العزلة والعبادة ، وكان مقتصدا في لباسه وزيه ، صدوقا في نفسه ، مليح الشيبة ، كثير الهيبة ، وافر الحرمة» (١).

من الله جلت قدرته أرجو التوفيق ، وله جل وعلا الحمد والشكر ، وصلى الله على النبي المصطفى وعلى آله وأصحابه ومن أخذ بهداه إلى يوم الدين.

دمشق ٢٦ صفر ١٤٢٧ هـ

سهيل زكار

٢٥ / ٣ / ٢٠٠٦ م

__________________

(١) ـ شذرات الذهب لابن العماد (ط. دمشق ١٩٩٢) ج ٨ ص ١٣١ ـ ١٣٢. الدرر الكامنة لابن حجر (ط. دار الجيل ـ بيروت) ج ٤ ص ٣٨٢. من ذيول العبر للذهبي والحسيني (ط. الكويت ١٩٨٦) ص ١٤٥ ـ ١٤٦.

١٢

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم

لقد كان للفتح الإسلامي للشام ، أعظم الآثار على هذه البلاد ، من ذلك تثبيت طابع العروبة فيها ، وتبديل البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعمرانية ، فعلى صعيد السياسة الداخلية والخارجية تحول دور القبائل العربية من الهامش إلى الصميم ، وعلى صعيد المدن ، نجد قبل الفتح أن مدينة القدس كانت أهم مدن جنوبي بلاد الشام ، تتلوها دمشق ، وأن أنطاكية كانت أهم مدن الشمال وأبرزها دورا ، تتلوها قنسرين ، لكن بعد الفتح ، وبسبب انتشار الإسلام ، وانسلاخ البلاد عن الإمبراطورية البيزنطية ، وقيام الحروب الدائمة معها ، ثم قيام السلطان الأموي في الشام ، كل هذا أدى إلى تقهقر القدس ، حيث تقدمتها دمشق ، وتخلفت في الوقت نفسه مدينة بصرى ، واضمحل دورها كثغر تجاري لبلاد الشام على بوابات شبه جزيرة العرب ، وتأخرت أنطاكية في الشمال ووصلت قنسرين إلى حالة الاحتضار ، وتقدمت حلب وتبعتها معرة النعمان.

ووضح هذا الحال في العصر الأموي ، وتوطدت أركانه ، وبعد قيام الخلافة العباسية ، وانشغالها المطلق بمشاكل خراسان وبلاد ما وراء النهر ، وإهمالها للحدود مع بيزنطة ، وقيام نظام الثغور والعواصم صارت حلب مركز شمال الشمال سياسيا واقتصاديا وعقائديا وثقافيا ، وغدت دمشق هي المسؤولية عن جنوب الشام.

وتنافست كل من حلب ودمشق ، ووضح للعيان أن أحداث الشام باتت تدور على محورين أساسيين واحد في الشمال [حلب] وآخر في الجنوب ، [دمشق] ، ويمكن تعقب جذور هذه القضية إلى العصر الأموي ، فبعد وفاة يزيد بن معاوية حدث صراع شديد على الخلافة والسلطة ، وانقسم الشام إلى معسكرين : واحد تزعمته قبائل كلب في الجنوب ، وآخر

١٣

تزعمته قبائل كلاب في الشمال ، وكانت كلب قبائل يمانية الأصل ، وكلاب عدنانية ، وفي معركة مرج راهط انتصرت كلب على كلاب ، وأعيد تأسيس الحكم الأموي ، بزعامة الفرع المرواني ، لكن الشام انقسمت بشكل فعلي إلى دارين : دار في الجنوب لكلب ومن لف لفها ودار في الشمال لكلاب ومن قاربها بالنسب ، وفصل بين هاتين الدارين خط عرضاني وهمي انطلق شرقا وغربا من بلدة الرستن على العاصي.

وعندما دب الضعف في قلب الخلافة العباسية كانت الأجزاء الشمالية من بلاد الشام بزعامة حلب ، من أقدم البلدان التي أعلنت انفصالها ، وقامت فيها دولة مستقلة هي الدولة الحمدانية بزعامة سيف الدولة الحمداني.

ومن حلب حاول سيف الدولة مدّ سلطانه إلى الأجزاء الجنوبية من الشام ، فدخل دمشق ، لكنه لم يتمكن من الاحتفاظ بها ، فقبل استقلال حلب ، كانت مصر الإسلامية قد استقلت عن جسم الدولة العباسية ، وقامت فيها الدولة الطولونية ، ومارست الدولة الطولونية السياسة الخارجية التقليدية لمصر المستقلة بمحاولة إلحاق الشام بها والسيطرة عليها ، وقد نجحت ـ مع الدول التي تلتها في حكم مصر ـ في الاحتفاظ بالجزء الجنوبي من الشام ، وأخفقت في البقاء في الشمال.

وفي حلب أقام سيف الدولة بلاطا حاكى فيه بلاط بغداد ، وحوى هذا البلاط عددا كبيرا من العلماء في كل فن مع الشعراء والأدباء ، وشهدت الشام بشكل عام نشاطا ثقافيا كبيرا ومتميزا ، حيث عبر عن دور الشخصية الشامية العربية ، وعبرت كل من حلب ودمشق عن شخصيتها بالاتجاه نحو إنتاج تواريخ محلية ، وبالفعل جاء إلى الوجود عدد من المؤرخين منهم من عاش في المعرة أو مدينة حلب فأرخ لمدينة حلب والجزء الشمالي من البلاد مع مناطق الجزيرة ، ومنهم من عاش في دمشق أو اهتم بها ، فكتب في تاريخها إنما مع التعلق بالديار المصرية

١٤

والاهتمام بها ، وإذا كنا لسنا في موضع عرض لمراحل حركة التدوين التاريخي في الشام يكفي أن نذكر أن هذه الحركة وصلت الذروة على يدي ابن عساكر حين كتب تاريخ دمشق ، ثم ابن العديم حين كتب «بغية الطلب في تاريخ حلب» إنما يلاحظ هنا بأن هذين الكتابين العملاقين قد صنفا حسب نمط كتب التراجم ، وما جاء في بدايتي كل منهما من عرض تاريخي حسب الوقائع والحوليات ، شمل أخبار فتوح الشام ليس إلا ، وتميز ابن العديم عن ابن عساكر بأنه صنف كتابا مفردا أوقفه على العرض التاريخي الإخباري لمدينة حلب ، وهو كتاب «زبدة الحلب من تاريخ حلب» ولم يفعل ابن عساكر هذا ، لطبيعة منهجه وثقافته ، فهو إمام بالحديث في الدرجة الأولى ، ولذلك جاء كتابه الذي صنفه لدمشق مهتما بطبقات المحدثين والعلماء ، وموليا قليل الاهتمام لمن سواهم ، وخاصة رجال السلطة.

إن هذه الثغرة بالنسبة لدمشق قد جرى تداركها من قبل ثلاثة أجيال من المؤرخين : اثنان من العراق ، وثالثهما وهو المهم من دمشق الشام ، وأول هؤلاء المؤرخين هو ثابت بن سنان ، الذي كان واحدا من أفراد آل الصابىء ، الأسرة التي اشتهرت بالطب فنبغ منها عدد من الأطباء خدموا الخلفاء العباسيين ورجال دولتهم ، ويذكر بعض من ترجم لثابت بأنه كان مختصا بخدمة الخليفة الراضي [٣٢٢ ـ ٣٢٩ ه‍ / ٩٣٤ ـ ٩٤٠ م] وأنه كان بارعا بالطب ، تولى تدبير المارستان في بغداد ، وخدم عددا من الخلفاء بعد الراضي ، وذكر بعضهم أيضا أن ثابتا قد توفي في سنة ٣٦٣ ه‍ / ٩٧٣ ـ ٩٧٤ م ، وهذا وهم أصح منه أن وفاته كانت سنة ٣٦٥ ه‍ / ٩٧٥ ـ ٩٧٦ م ، وهذا ما تثبته قطعة مخطوطة فيها اختصار لما ورد في تاريخه عن أخبار القرامطة ، سوف أعود إليها بعد قليل ، ويضاف إلى هذه المخطوطة ما نقله ياقوت عن حفيد ثابت بن هلال بن المحسّن بن إبراهيم الصابىء ، وكان ثابت بن سنان مثله مثل

١٥

معظم آله متميزا إلى جانب كونه طبيبا ، بالاهتمام بالتاريخ وبتدوينه ، وقد صنف عددا من التواريخ أشهرها تاريخه الكبير الذي انتزعت منه أخبار القرامطة ، وكان ثابت قد بدأ تاريخه بأيام حكم الخليفة المقتدر [٢٩٥ ـ ٣٢٠ ه‍ / ٩٠٨ ـ ٩٣٢ م] ، وتوقف عن متابعة الكتابة فيه قبيل وفاته بأيام ، ولثابت تاريخ «مفرد بأخبار الشام ومصر في مجلد واحد» ، وله كتاب آخر دون فيه «وفاءات من توفي في كل سنة ، من سنة ثلاثمائة إلى السنة التي مات فيها» ، أي سنة ٣٦٥ ه‍.

وتاريخ ثابت الكبير ، تاريخ حولي شكل بداية سلسلة من التواريخ كتبت من قبل أفراد أسرة آل الصابىء ، وكلها يعد ذيولا متوالية لتاريخ الطبري ، وهي ـ على هذا ـ بحد ذاتها على درجة عالية من الأهمية ، تغطي مددا زمانية ، انفردت إلى أبعد الحدود برواية أخبار أحداثها ، ثم إن خدمة آل الصابىء للخلفاء العباسيين ورجالات الدولة وشخصياتها قد أعطى معلوماتهم ورواياتهم التاريخية مزية خاصة ، ودرجة عالية من الموثوقية ، ومفيد أن ننقل هنا ما كتبه القفطي (جمال الدين أبو الحسن علي ابن يوسف) في كتابه «تاريخ الحكماء» في هذا الباب : «وإذا أردت التاريخ متصلا فعليك بكتاب أبي جعفر الطبري رضي‌الله‌عنه ، فإنه من أول العالم وإلى سنة تسع وثلاثمائة ، ومتى شئت أن تقرن به كتاب أحمد بن أبي طاهر وولده عبيد الله ، فنعم ما تفعل ، لأنهما قد بالغا في ذكر الدولة العباسية ، وأتيا من شرح بما لم يأت به الطبري بمفرده ، وهما في الانتهاء قريبا المدة ، والطبري أزيد منهما قليلا ، ثم يتلو ذلك كتاب ثابت ، فإنه يداخل الطبري في بعض السنين ، ويبلغ إلى بعض سنة ثلاث (الأصح خمس) وستين وثلاثمائة ، فإن قرنت به كتاب الفرغاني الذي ذيل به كتاب الطبري فنعم الفعل تفعله ، فإن في كتاب الفرغاني بسطا أكثر من كتاب ثابت في بعض الأماكن ، ثم كتاب هلال بن المحسن بن إبراهيم الصابىء ، فإنه داخل كتاب خاله (جده) ثابت وتمم عليه إلى سنة سبع وأربعين

١٦

وأربعمائة ، ولم يتعرض أحد في مدته إلى ما تعرض له من أحكام الأمور والإطلاع على أسرار الدول ، وذلك أنه أخذ ذلك عن جده لأنه كان كاتب الإنشاء ويعلم الوقائع ، وتولى هو الإنشاء أيضا ، فاستعان بعلم الأخبار الواردة على ما جمعه ، ثم يتلوه كتاب ولده غرس النعمة محمد بن هلال ، وهو كتاب حسن إلى بعد سنة سبعين وأربعمائة» (١)

هذا وتمتاز مواد آل الصابىء بشكل عام على مواد الطبري ، أنهم كانوا المصدر بحكم المعاصرة والمشاهدة ، وبالتالي لم يكونوا نقله مما كتبه غيرهم ، فالطبري أجاد النقل ولم يجد التأريخ لأيامه.

وقد يتساءل الإنسان عن حجم مصنفي ثابت وهلال ، فلا يجد لسؤاله جوابا موثقا ، لأن تاريخ ثابت لم يصلنا ، وكان تاريخ هلال بحكم المفقود إلى جرى العثور في اليمن ، في مكتبة خاصة ، على آخر جزء منه ورقمه «الرابع والثلاثون» ، وحقق هذا الجزء رضوان أحمد الليث ونال عليه شهادة الماجستير من جامعة صنعاء عام ١٩٩٨.

وكان سبط ابن الجوزي ، صاحب مرآة الزمان ، قد استحوذ على مجمل ذيول آل الصابىء فاستفاد منها ونقل ، وقام في إحدى المراحل بإقحام محتويات تاريخ غرس النعمة كله في كتابه ، وكان غرس النعمة قد أطلق على مصنفه اسم «عيون التاريخ» ، وقد أرخ به للحقبة الممتدة ما بين ٤٤٨ إلى ٤٧٩ ه‍ ، وجعله بمثابة ذيل لتاريخ أبيه ، وذكر الأسباب التي حدت به إلى تأليفه بقوله : «وبعد ، فكان أبي وصىّ إليّ لما أحس بقدوم الوفاة ، ويئس من أيام الحياة ، ولمعت له لوامع المنية ، وقرعت سمعه قوارع البلية ، رغبة في زيادة الذكر ونمائه وانتشاره وبقائه ، بصلة كتاب التاريخ الذي ألفه إلى آخر سنة سبع وأربعين وأربعمائة تأليفا يعجز عنه من يروم مثله ،

__________________

(١) ـ تاريخ الحكماء لعلي بن يوسف القفطي (ط. ليبسك ١٣٢٠ ه‍) من ١٠٩ ـ ١١١. وفيات الأعيان لأحمد بن خلكان ـ ط. باريس ١٨٣٨. إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب (معجم الأدباء) لياقوت الحموي (ط. القاهرة ١٩٠٩) ج ٢ ص ٣٩٧.

١٧

ويفتضح فيه من يتعاطى فضله ، إذ هو السحر الحلال ، والعذب الزلال ، والصادر عن أوحد دهره ، وفريد عصره ، وشرع فيه وقد أتت عليه سنة [ولد هلال سنة ٣٥٩ ه‍] ، جرب فيها الأمور ومارسها وخبرها ولابسها ، وأنا عار من جميع صفاته ، وخال من سائر سماته.

وابن اللبون إذا ما لز في قرن

لم يستطع صولة البزل القناعيس

لكن قوله مستمع ، ومرسومه متبع ، وأمره مطاع ، ورأيه غير مضاع ......

وفي سنة ثمان وأربعين وأربعمائة ، وفي يوم الأربعاء سادس عشر رمضان توفي والدي ، الرئيس أبو الحسن ، هلال بن المحسن بن إبراهيم ابن هلال ، ومولده الأحد ، النصف من شوال سنة تسع وخمسين وثلاثمائة ، فانتقض السؤدد بمصابه ، وانثلم الفضل بذهابه».

والجزء الأخير الذي وصلنا من تاريخ هلال غير كامل ، ينتهي مع حوادث «أربعين وأربعمائة» لذلك لا يمكننا الحديث عن نوع ومدى التداخل بين تاريخ غرس النعمة وتاريخ أبيه ، ثم هل كان تاريخ هلال لوحده قد جاء في أربعة وثلاثين مجلدا ، أم تاريخه مع تاريخ ثابت بن سنان؟ والمهم أن تاريخ غرس النعمة يبدأ مع أحداث سنة / ٤٤٨ ه‍ /.

ووصلنا كتاب مخطوط صغير جاء ـ كما عنونه صاحبه ـ بمثابة مختصر لتاريخ ثابت بن سنان ، وضع فيه مختصر أخبار القرامطة ، ويتألف هذا المخطوط من إحدى وثلاثين ورقة من قطع ١٩* ٥ و ١٣ سم في كل صفحة (وجه) ما بين ٢٠ ـ ٢٣ سطرا ، في كل سطر ما بين ٧ ـ ٨ كلمات ، وهذه النسخة هي بحوزة المستشرق البريطاني برنارد لويس ، وكان قد حصل عليها من القاهرة أثناء إعداده لإطروحة الدكتوراه ، وقد تفضل فأعارني نسخة عنها ، قمت ـ بعد استئذانه ـ بنشرها ضمن محتويات كتابي الجامع في أخبار القرامطة ، ونسخة الأستاذ لويس هذه قد

١٨

كتبت من قبل ثلاثة نساخ على الأقل ، وقد تم الفراغ من كتابتها «في سلخ شوال سنة ألف وسبع وخمسين» [٢٧ تشرين الثاني سنة ١٦٤٧ م] وقد نسخت كما يبدو عن نسخة من تاريخ ثابت تم نسخها في «سلخ جمادى الأولى سنة سبع وسبعين وخمسمائة» [١١ ـ تشرين الأول سنة ١١٨١] ونسخت هذه النسخة ـ كما صرح ـ عن مسودة المؤلف.

إن خط هذه المخطوطة هو نسخي مقروء ، وحالة المخطوطة حسنة ، إنما يبدو أن المستوى الثقافي لنساخها ومعرفتهم بقواعد اللغة العربية كان ضعيفا ، لهذا تبعثرت الأخطاء النحوية والإملائية في كل مكان.

ويمكن تقسيم المعلومات التي تتضمنها إلى قسمين : قسم وردت معظم رواياته في تاريخ الطبري ، وقسم وقعت أحداث رواياته بعد وفاة الطبري ، فقام ثابت بتدوين أخبار هذه الأحداث ، وجلّ الأخبار في هذا القسم من عصر ثابت ، وعند ما نقرأ هذا القسم نلاحظ أمرا مدهشا ، حيث أن الكتاب يروي أخبار القرامطة ابتداء من «سنة مائتين وثمان وسبعين من الهجرة» حتى «سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة» بشكل كامل التسلسل سنة تلو أخرى ، ثم يقفز فيبدأ بأخبار «سنة ستين وثلاثمائة».

ولا ندري بشكل مؤكد سبب هذا ، لكن لدى قراءة المواد الأخيرة ومقارنتها بالمواد الأولى ، نجد أن المواد الأولى تولي قرامطة البحرين والعراق الاهتمام الأكبر ، في حين أن المواد الأخيرة موقوفة على نشاط القرامطة في الشام وصراعاتهم مع الخلافة الفاطمية في الشام ومصر.

إن هذا يدفعنا إلى الإفتراض بأن الذي جمع مواد مخطوطة الأستاذ لويس ، جمعها من كتابين لعلهما : تاريخ ثابت بن سنان الذي ذيل به على تاريخ الطبري ، وكتابه الآخر الذي أوقفه على تاريخ الشام ومصر ، ويبدو أن الكتاب الأول كان مبتورا ، فهو بالأصل «مسودة المؤلف» وأن الذي تولى عملية الاختصار لم ينتبه إلى الخرم الكبير ولا إلى طبيعة المواد المروية والاختلاف الذي لحقها ، أو أنه تنبه لكنه لم يخبرنا.

١٩

ومهما يكن الحال فإن المواد المتأخرة من مخطوطة الأستاذ لويس تتوافق ، لابل تتطابق تماما مع محتويات تاريخ ابن القلانسي عن دمشق ، وهو بيت القصيد في مقدمتنا هذه ، ويتألف كتاب ابن القلانسي من قسمين رئيسيين هما «الأساس» و «المذيل» ويبدأ الأساس بحوادث سنة ٣٦٠ ه‍ ويقف مع بداية حوادث سنة ٤٤٨ ه‍.

ومن المرجح أن مواد قسم الأساس قد وجدت في مصنف هلال بن المحسن ، فقد ذكر ابن خلكان في ترجمته لصلاح الدين الأيوبي أن ابن القلانسي جعل كتابه ذيلا على تاريخ هلال بن المحسن الصابىء : «وكان هلال بن المحسن قد ذيل على ذيل ثابت على الطبري بدأه بأخبار سنة ٣٦٠ ه‍» ، وهكذا تداخلت فيه حوادث السنوات ٣٦٠ ـ ٣٦٥ مع ما دونه ثابت ، وتطابقت المواد في القسم المتداخل ، وجاء الاختلاف في بعض التفاصيل فقط ، وهذا ما نخلص إليه لدى عقد مقارنة بين مواد مخطوطة الأستاذ لويس ومطلع كتاب ابن القلانسي ، ومثل هذا الاختلاف بشيء من التفاصيل كان أمرا طبيعيا ، نلاحظ ما يشبهه لدى مقارنة السنوات المتداخلة بين تاريخ ثابت بن سنان وتاريخ الطبري ، ولنحاول الآن أولا التعرف إلى شخصية ابن القلانسي ومن ثم نعود مجددا للربط بينه وبين تواريخ آل الصابىء.

ترجم لابن القلانسي عدد من المؤرخين يتصدرهم ابن عساكر ثم ياقوت وبعده الذهبي ، ولما ذكره ابن عساكر مكانة خاصة للزمان والمكان ، ومما قاله عنه ابن عساكر : «حمزة بن أسد بن علي بن محمد ، أبو يعلى التميمي ، المعروف بابن القلانسي ، العميد كانت له عناية بالحديث ، وكان أديبا له خط حسن ونثر ونظم ... وصنف تاريخا للحوادث بعد سنة أربعين وأربعمائة إلى حين وفاته ، وتولى رئاسة ديوان دمشق مرتين»

وقال عنه ياقوت : «حمزة بن أسد بن علي بن محمد ، أبو يعلى ، المعروف

٢٠