المهدي المنتظر في الفكر الإسلامي

المهدي المنتظر في الفكر الإسلامي

المؤلف:


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
الطبعة: ٠
ISBN: 964-319-023-4
الصفحات: ١٨٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

١

٢

٣

٤

كلمة المركز

اللهمَّ إنّا نفتتحُ الثناءَ بحمدكَ وأنتَ مسدّدٌ للصواب بمنّك.

إنَّ الإشكالية الأساسية التي تعاني منها البشرية اليوم هي حالة الفراغ العقيدي والخواء الروحي ، هذه الإشكالية هي التي تفسّر لنا حالة التخبط والفوضى ، والقلق والاضطراب على الصعيد الفكري والنفسي ، كما تفسر لنا حالة الانحدار الأخلاقي المريع الذي بلغته أكثر المجتمعات الغربية وبعض المجتمعات المسلمة.

لقد أصبح عالمنا المعاصر يشهد إحباطات متتالية وموضات مختلفة في الفكر والسياسة والعلاقات الاجتماعية بل والدولية.

فلغة القوة والعنف أصبحت اللغة السائدة اليوم ، والقهر والظلم والاضطهاد سمات ظاهرة ، والارهاب والتشويش الفكري والحضاري يترك بصماته على كلّ المجالات حتى ليصحَّ القول : إنَّ الدنيا بدأت تمتلئ ظلماً وجوراً وطغياناً وكفراً.

إنَّ المعايير الأخلاقية والإنسانية لا يكاد يحتكم اليها. وإنَّ قيم العدالة والإنصاف لا يعتمد عليها إلاّ نادراً ، وإنَّ منطق العلم وقواعد المنطق الصحيح لم تعد لها المرجعية والحسم إلاّ في مناسبات محدودة وموارد معدودة.

إنَّ هذه الظواهر أصبحت مشخّصة في أكثر المجتمعات البشرية بما لا يحتاج معه إلى البرهنة عليها.

وفي مثل هذه الأجواء المشحونة بالخوف من المستقبل والملبّدة بسُحبٍ كثيفة تكاد تحجب الحقائق الناصعة ، وفي ظل هواجس ومخاوف يعيشها الإنسان المسلم وبخاصةٍ بعد أن مارسَ ضده الاعلام الغربي ـ بكل أساليبه الخبيثة ـ عمليات غسل الدماغ والتلويث الفكري تحت شعارات

٥

خلاّبة وعناوين كبيرة حتى كادوا أن يسترهبوا قطاعات واسعة من المثقفين من أبناء الأمّة الإسلامية ، وأوشكوا أن يخرجوهم من ملتهم.

إستناداً إلى ذلك كلّه ، واستجابةً للتحدي الحضاري الكبير الذي تواجهه الأمّة المسلمة ، وبغيةَ نشر حقائق الإسلام ومعارفه وأحكامه ومبادئه ورؤاه ونظرياته في مختلف مجالات الحياة الإنسانية المتنوعة ، ومن أجل التنوير والتبصير ، وأخذاً بيد الشباب المثقف لحمايتهم من غوائل المتربصين بالإسلام ، وفتنتهم وكيدهم ومكرهم ، من أجل ذلك كلّه جاء مشروع ( مركز الرسالة ) ليؤدي دوراً في هذا المجال ، ونشاطاً علمياً وثقافياً يتكامل مع الانشطة والفعاليات الثقافية التي تنهض بها مؤسسات ومراكز إسلامية تنتشر في شرق الارض وغربها.

لذلك كلّه ارتأى مركزنا أن يفتتح باكورة أعماله وأنشطته الثقافية بقضيةٍ عقائدية من عقائد الإسلام ، أُحيطت بالتشويش ، وتعرضت لمحاولات التشكيك والطعن على امتداد عصور متعاقبة ، وهي تتعرض اليوم إلى حملات ثقافية شرسة ، اجتمع على التخطيط لها دهاقنة الغرب الصليبي الكافر ، وخصوم الاسلام ، كما نشهده ونلاحظه من كثرة الكتابات والدراسات التي تناولت موضوع ( المهدي الموعود ) متذرعةً بلباس العلمية ، وهي تهدف إلى توجيه سهام النقد والتشويش لعقائدنا ورؤانا الدينية المستندة إلى الوحي الإلهي قرآناً وسنةً.

وإذا كان ذلك يعدُّ مبرراً كافياً لبدء انشطتنا العلمية ـ كما نعتقد ـ فإننا سنحاول رفد المكتبة الإسلامية بما هو نافع ومفيد وأصيل إن شاء الله تعالى.

ومنه تعالى نستمد العون والتسديد وهو حسبنا ونعم الوكيل

مركز الرسالة

٦

المقدِّمة

الحمد لله ربِّ العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين ، وصحبه المخلصين ، ومن اتّبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد ..

اعتقد المسلمون منذ فجر الرسالة الإسلامية وإلى اليوم بصحة ما بشّر به النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ظهور رجل من أهل بيته عليهم‌السلام في آخر الزمان ـ يسمى المهدي ـ يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً. وعلى ذلك كان ترقّب المؤمنين وانتظارهم مهدي أهل البيت قرناً فقرناً ، ولم يشذّ عنهم إلاّ شرذمة قليلة من دعاة التجديد والتحضّر ، نتيجة لتأثرهم بالدراسات والبحوث الاستشراقية غير الموضوعية من أمثال ماكتبه فان فلوتن ، ودونالدسن ، وجولدزيهر ، وغيرهم من المستشرقين الذين حاولوا ـ بتطرفهم المعهود في التحليل والاستنتاج بخصوص ما يتصل بعقائد المسلمين ـ إنكار ظهور المهدي عليه‌السلام في آخر الزمان.

وقد يكون بعض من اغترّ بمناهجهم حَسَن النيّة في الدعوة إلى التجديد في فهم القضايا الإسلامية ومحاولة إبراز توافقها وانسجامها مع المفاهيم الحضارية التي فرضتها المدنية المعاصرة ، فرأى أنّ في إنكار فكرة ظهور المهدي عليه‌السلام ردّاً حاسماً على الدعوات الصليبية ـ المقنّعة بقناع الاستشراق ـ التي استهدفت الإسلام فصورته ـ ببحوثها وكتاباتها ـ آلة جامدة لا تنبض بالحياة.

وهكذا انعكست آثار بعض الدراسات الاستشراقية على ثقافة البعض منّا ، مما أسهم في إيجاد خرق من الداخل ، ترى من خلاله تأويل بعض

٧

الثوابت الدينية ، والتشكيك بقسم منها كقضية ظهور الإمام المهدي عليه‌السلام في آخر الزمان ، وربما قد تسمع الترديد المملّ لأقوال المستشرقين إزاء مسألة الظهور ، وما كان هذا ليتم لولا التفاعل اللامدروس مع تلك الثقافات المحمومة ، والتأثّر بها لدرجة الاعتقاد بأنّها حقائق مسلّمة على الرغم مما فيها من خبث ودهاء وتطرّف في التحليل والاستنتاج ، وكيد بالإسلام والمسلمين ، وكيف لا ، وهذا جولدزيهر ، ودي بوير ، ومكدونالد ، وبندلي جوزي يصرّحون بتناقض القرآن الكريم (١) ؟! فلا غرابة أن نجد ـ في حركات التبشير الصليبي ـ من يطعن بعقيدة المسلمين بظهور المهدي (٢) ، هذا مع أنّ فكرة الظهور لم تكن حكراً على المسلمين وحدهم كما سيتبين من دراستها في هذه المقدمة :

عالمية الاعتقاد بالمهدي :

إنّ فكرة ظهور المنقذ العظيم الذي سينشر العدل والرخاء بظهوره في آخر الزمان ، ويقضي على الظلم والاضطهاد في أرجاء العالم ، ويحقق العدل والمساواة في دولته الكريمة ، فكرة آمن بها أهل الأديان الثلاثة ، واعتنقتها معظم الشعوب.

فقد آمن اليهود بها ، كما آمن النصارى بعودة عيسى عليه‌السلام ، وصدّق بها الزرادشتيون بانتظارهم عودة بهرام شاه ، واعتنقها مسيحيو الأحباش بترقّبهم عودة ملكهم تيودور كمهديٍّ في آخر الزمان ، وكذلك الهنود

__________________

(١) المستشرقون والأسلام / الدكتور عرفان عبد الحميد : ١٧ ، ودراسات في الفكر الفلسفي الاسلامي / الدكتور حسام الدين الآلوسي : ٦٨ ، و بحوث في القرآن الكريم ، للدكتور عبدالجبار شرارة : ٥٢ ـ ٥٤ ، فقد بيّن مزاعم المستشرقين وأقوالهم بتناقض القرآن الكريم ، وفنّد جميع مفترياتهم.

(٢) عقيدة الشيعة / دونالدسن : ٢٣١ ، والسيادة العربية / فان فلوتن : ١٠٧ و ١٣٢.

٨

اعتقدوا بعودة فيشنو ، ومثلهم المجوس إزاء ما يعتقدونه من حياة أُوشيدر.

وهكذا نجد البوذيين ينتظرون ظهور بوذا ، كما ينتظر الأسبان ملكهم روذريق ، والمغول قائدهم جنگيزخان.

وقد وجد هذا المعتقد عند قدامى المصريين ، كما وجد في القديم من كتب الصينيين (١).

وإلى جانب هذا نجد التصريح من عباقرة الغرب وفلاسفته بأنَّ العالم في انتظار المصلح العظيم الذي سيأخذ بزمام الاُمور ويوحّد الجميع تحت راية واحدة وشعار واحد :

منهم : الفيلسوف الانجليزي الشهير برتراند راسل ، قال : ( إنّ العالم في انتظار مصلح يوحّد العالم تحت عَلَمٍ واحد وشعار واحد ) (٢).

ومنهم : العلاّمة آينشتاين صاحب ( النظرية النسبية ) ، قال : ( إنّ اليوم الذي يسود العالم كلّه الصلح والصفاء ، ويكون الناس متحابِّين متآخين ليس ببعيد ) (٣).

والأكثر من هذا كلّه هو ما جاء به الفيلسوف الانكليزي الشهير برناردشو حيث بشّر بمجيء المصلح في كتابه ( الإنسان والسوبرمان ).

وفي ذلك يقول الاستاذ الكبير عباس محمود العقاد في كتابه ( برناردشو ) معلّقاً : « يلوح لنا أنّ سوبرمان شو ليس بالمستحيل ، وأنّ دعوته إليه لا تخلو من حقيقة ثابتة » (٤).

__________________

(١) المهدية في الإسلام / سعد محمد حسن : ٤٣ ـ ٤٤ ، والإمامة وقائم القيامة / الدكتور مصطفى غالب : ٢٧٠.

(٢) المهدي الموعود ودفع الشبهات عنه / السيد عبد الرضا الشهرستاني : ٦.

(٣) المهدي الموعود ودفع الشبهات عنه : ٧.

(٤) برناردشو / عباس محمود العقاد : ١٢٤ ـ ١٢٥.

٩

أما عن المسلمين فهم على اختلاف مذاهبهم وفرقهم يعتقدون بظهور الإمام المهدي في آخر الزمان وعلى طبق ما بشّر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولايختص هذا الاعتقاد بمذهب دون آخر ، ولا فرقة دون أُخرى. وما أكثر المصرّحين من علماء أهل السنة ابتداءً من القرن الثالث الهجري وإلى اليوم بأنّ فكرة الظهور محلّ اتّفاقهم ، بل ومن عقيدتهم أجمع ، الأكثر من هذا إفتاء الفقهاء منهم : بوجوب قتل من أنكر ظهور المهدي ، وبعضهم قال : بوجوب تأديبه بالضرب الموجع والاِهانة حتى يعود إلى الحقّ والصواب على رغم أنفه ـ على حدّ تعبيرهم ـ كما سنشير إليه في الفتوى الصادرة على طبق معتقد المذاهب الأربعة.

ولهذا قال ابن خلدون معبّراً عن عقيدة المسلمين بظهور المهدي : « اعلم أنّ المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممرّ الأعصار : أنّه لابدّ في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت ، يؤيد الدين ، ويُظهر العدل ، ويتبعه المسلمون ، ويستولي على الممالك الإسلامية ، ويسمى المهدي ». (١)

وقد وافقه على ذلك الاُستاذ أحمد أمين الأزهري المصري ـ على الرغم مما عرف عنهما من تطرّف إزاء هذه العقيدة ـ فقال معبّراً عن رأي أهل السُنّة بها : « فأما أهل السُنّة فقد آمنوا بها أيضاً » (٢) ، ثم ذكر نصّ ما ذكره ابن خلدون (٣).

ثم قال : « وقد أحصى ابن حجر الأحاديث المروية في المهدي فوجدها نحو الخمسين » (٤).

ثم ذكر ما قرأه من كتب أهل السنة حول المهدي فقال : « قرأت رسالة

__________________

(١) تاريخ ابن خلدون ١ : ٥٥٥ / الفصل ٥٢.

(٢) المهدي والمهدوية / أحمد أمين : ٤١.

(٣) المهدي والمهدوية : ١١٠.

(٤) المهدي والمهدوية : ٤٨.

١٠

للاُستاذ أحمد بن محمد بن الصديق في الردّ على ابن خلدون سماها : ( إبراز الوهم المكنون من كلام ابن خلدون ) ، وقد فنّد كلام ابن خلدون في طعنه على الأحاديث الواردة في المهدي وأثبت صحّة الأحاديث ، وقال : إنّها بلغت التواتر » (١).

وقال في موضع آخر : « قرأتُ رسالة أُخرى في هذا الموضوع عنوانها : « الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة » لأبي الطيب بن أبي أحمد بن أبي الحسن الحسني » (٢).

وقال أيضاً : « قد كتب الإمام الشوكاني كتاباً في صحة ذلك سماه : التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر والدجال والمسيح » (٣).

إذن لا فرق بين الشيعة وأهل السنّة من حيث الإيمان بظهور المنقذ مادام أهل السنّة قد وجدوا في ذلك خمسين حديثاً من طرقهم ، وعدّوا ظهور المهدي من أشراط الساعة ، وأثبتوا بطلان كلام ابن خلدون في تضعيفه لبعض الأحاديث الواردة في ذلك ، وأنّهم ألَّفوا في الرد أو القول بالتواتر كتباً ورسائل ، بل لا فرق بين جميع المسلمين وبين غيرهم من أهل الأديان والشعوب الاُخرى من حيث الإيمان بأصل الفكرة وإن اختلفوا في مصداقها ، مع اتّفاق المسلمين على أنّ اسمه ( محمد ) كإسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولقبه عندهم هو ( المهدي ).

ومن هنا يعلم أنّ اتّفاق أهل الأديان السابقة ومعظم الشعوب والقوميات وعباقرة الغرب وفلاسفته ـ مع تعدد الأديان ، وتباين المعتقدات ، واختلاف الأفكار والآراء والعادات ـ على أصل الفكرة ،

__________________

(١) المهدي والمهدوية : ١٠٦.

(٢) المهدي والمهدوية : ١٠٩.

(٣) المهدي والمهدوية : ١١٠.

١١

لا يمكن أبداً أن يكون بلا مستند لاستحالة تحقّق مثل هذا الاتّفاق جزافاً. فإذا أضفنا إلى ذلك اتّفاق المذاهب الإسلامية جميعاً على صحة الاعتقاد بظهور الإمام المهدي في آخر الزمان وأنّه من أهل البيت عليهم‌السلام ـ كما سيأتي مفصلاً ـ علم أنّ اتّفاقهم هذا لابد وأن يكون معبّراً عن إجماع هذه الاُمة التي لا تجتمع على ضلالة على ما هو مقرر في محلّه ، وحينئذٍ فلا يضرّ اعتقادهم بظهور مهدي أهل البيت عليهم‌السلام اختلاف تشخيصه عند من سبقهم من أهل الأديان والشعوب ، إذ بالإمكان معرفته حق معرفته من خلال مصادر المسلمين المعتمدة لما عُرِف عنهم من اتّباع منهج النقل عن طريق السماع والتحديث شفةً عن شفة وصولاً إلى مصدر التشريع ، وبما لانظير له في حضارات العالم أجمع.

ومع هذا نقول :

إنّ اعتقاد أهل الكتاب بظهور المنقذ في آخر الزمان لا يبعد أن يكون من تبشير أديانهم بمهدي أهل البيت عليهم‌السلام كتبشيرها بنبوّة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ أنّهم أخفوا ذلك عناداً وتكبّراً إلاّ من آمن منهم بالله واتّقى.

ويدلّ على ذلك وجود مايشير في أسفار التوراة إلى ظهور المهدي في آخر الزمان ، كما في النصّ الذي نقله الكاتب أبو محمد الاُردني من ( سفر أرميا ) وإليك نصه : « اصعدي أيّتها الخيل وهيّجي المركبات ، ولتخرج الأبطال : كوش وقوط القابضان المجنّ ، واللوديُّون القابضون القوس ، فهذا اليوم للسيد ربِّ الجنود ، يوم نقمة للانتقام من مبغضيه ، فيأكل السيف ويشبع ... لأن للسيد ربِّ الجنود ذبيحة في أرض الشمال عند نهر الفرات » (١).

__________________

(١) الكتاب المقدس تحت المجهر / عودة مهاوش أبو محمد الاردني : ١٥٥ ، والنص نقله من سفر إرميا : ٤٦ / ٢ ـ ١١.

١٢

وهناك ما هو أوضح من هذا بكثير جداً ، فقد قال الباحث السني سعيد أيوب في كتابه ( المسيح الدجال ) : « ويقول كعب : مكتوب في أسفار الأنبياء : المهدي ما في عمله عيب » ثمّ علّق على هذا النصّ بقوله : « وأشهد أنني وجدته كذلك في كتب أهل الكتاب ، لقد تتبع أهل الكتاب أخبار المهدي كما تتبعوا أخبار جده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فدلت أخبار سفر الرؤيا إلى امرأة يخرج من صلبها اثنا عشر رجلاً ، ثمّ أشار إلى امرأة أُخرى ، أي : التي تلد الرجل الأخير الذي هو من صُلب جدته ، وقال السفر : إنَّ هذه المرأة الأخيرة ستحيط بها المخاطر ، ورمز للمخاطر باسم « التنّين » وقال : ( والتنّين وقفَ أمام المرأة العتيدة حتى تلد ليبتلع ولدها متى ولدت ) سفر الرؤيا ١٢ / ٣ ، أي : أنَّ السلطة كانت تريد قتل هذا الغلام ، ولكن بعد ولادة الطفل. يقول باركلي في تفسيره : « عندما هجمت عليها المخاطر اختطف الله ولدها وحفظه ».

والنص : ( واختطف الله ولدها ) سفر الرؤيا ١٢ / ٥ ، أي : أنَّ الله غيّب هذا الطفل كما يقول باركلي.

وذكر السفر أنّ غيبة الغلام ستكون ألفاً ومئتين وستين يوماً ، وهي مدة لها رموزها عند أهل الكتاب ، ثم قال باركلي عن نسل المرأة عموماً : إنّ التنّين سيعمل حرباً شرسة مع نسل المرأة كما قال السفر : ( فغضب التنّين على المرأة ، وذهب ليصنع حرباً مع باقي نسلها الذين يحفظون وصايا الله ) سفر الرؤيا ١٢ / ١٣ (١).

__________________

(١) المسيح الدجال / سعيد أيوب : ٣٧٩ ـ ٣٨٠ ، الطبعة الثالثة.

أقول : المهدي عند الشيعة هو الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت وأولهم علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وحديث « المهدي حق وهو من ولد فاطمة » مقطوع بصحته ومصرح بتواتره عند أهل السنة كما سيوافيك ، وهو عند الشيعة المولود الثاني عشر لفاطمة عليها‌السلام : ثلاثة بالمباشرة ، وهم :

١٣

وهذا وإن لم يصحّ لمسلم الاحتجاج به لما مُنيت به كتب العهدين من تحريف وتبديل ، إلاّ أنّه يدلّ وبوضوح على معرفة أهل الكتاب بالمهدي ، ثم اختلافهم فيما بعد في تشخيصه ، إذ ليس كلّ ما جاء به الإسلام قد تفرّد به عن الأديان السابقة ، فكثير من الاُمور الكلِّية التي جاء بها الإسلام كانت في الشرائع السابقة قبله.

قال الشاطبي : ( وكثير من الآيات أُخبر فيها بأحكام كلّية كانت في الشرائع المتقدمة وهي في شريعتنا ، ولا فرق بينهما ) (١).

وإذا تقرر هذا فلايضرُّ اعتقاد المسلم بصحة ما بشّر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ظهور رجل من أهل بيته في آخر الزمان ، أن يكون هذا المعتقد موجوداً عند أهل الكتاب ( اليهود والنصارى ) أو عند غيرهم ممن سبق الإسلام ، ولايخرج هذا المعتقد عن إطاره الإسلامي بعد أن بشّر به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعد الإيمان بأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( ما يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إن هوَ إلاّ وحيٌ يُوحى ) (٢).

وأما عن اعتقادات الشعوب المختلفة بأصل هذه الفكرة كما مرّ فيمكن تفسيرها على أساس أنّ فكرة ظهور المنقذ لاتتعارض مع فطرة الإنسان وطموحاته وتطلّعاته ، ولو فكّر الإنسان قليلاً في اشتراك معظم الشعوب بأصل الفكرة لاَدرك أنّ وراء هذا الكون حكمة بالغة في التدبير ، يستمد

__________________

الحسنان ومحسن ، وتسعة بدونها وهم الأئمة من ولد الحسين عليه‌السلام ، واما عن أولاد الحسن عليهم‌السلام فهم كذلك من بني فاطمة عليها‌السلام إلاّ أنهم اُخرجوا من مجموع الاثني عشر لكونهم ليسوا بأئمة ، ولا يرد مثل هذا على ما لم يكن إماماً وهو محسن ، لأن ولادته من فاطمةعليها‌السلام بالمباشرة ، ولهذا قال الاستاذ سعيد أيوب : ( هذه هي أوصاف المهدي ، وهي نفس أوصافه عند الشيعة الإمامية الاثني عشرية ) ثم علق عليه في هامش ص ٣٧٩ بما يدلّ على تقارب الاَوصاف. وهذا وإن كان ممكناً إلاّ أنّ اعتقاد الشيعة وغيرهم بظهور المهدي في آخر الزمان لم يكن على أساس الاستدلال بما في كتب العهدين كما سنبينه مفصّلاً في هذا الكتاب.

(١) الموافقات / الشاطبي المالكي ٣ : ١١٧ ، المسألة الرابعة.

(٢) سورة النجم : ٥٣ : ٣ ـ ٤.

١٤

الإنسان من خلالها قوّته في الصمود إزاء مايرى من انحراف وظلم وطغيان ، ولا يُترك فريسة يأسه دون أن يزوّد بخيوط الاَمل والرجاء بأنّ العدل لابدّ له أن يسود.

وأما عن اختلاف أهل الأديان السابقة والشعوب في تشخيص اسم المنقذ المنتظر ، فلا علاقة له في إنكار ما بشّر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وليس هناك ما يدعو إلى بيان فساد تشخيصهم لاسم المنقذ ، مادام الإسلام قد تصدى بنفسه لهذه المهمة فبيّن اسمه ، وحسبه ، ونسبه ، وأوصافه ، وسيرته ، وعلامات ظهوره ، وطريقة حكمه ، حتى تواترت بذلك الأخبار واستفاضت بكثرة رواتها من طرق أهل السنّة ، كما صرّح بذلك أعلامهم وحفّاظهم وفقهاؤهم ومحدثوهم ، وقد روى تلك الأخبار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يزيد على خمسين صحابياً كما سنبرهن عليه في هذا البحث.

وأما عن اختلاف المسلمين فيما بينهم من حيث تشخيص اسم المهدي كما هو معلوم بين أهل السنة والشيعة ، فليس فيه أدنى حجة للمستشرقين وأذنابهم ، بل هو ـ على العكس ـ من الأدلّة القاطعة عليه ؛ لأنّه من قبيل الاختلاف في تفاصيل شيء متحقق الوجود ، كاختلافهم في القرآن الكريم بين القول بقِدَمِه وحدوثه من الله تعالى ، مع اتّفاقهم على تكفير منكره ، وقس عليه سائر اختلافاتهم الاُخرى في تفاصيل بعض العقائد دون اُصولها.

تهافت القول باُسطورية فكرة الظهور :

إنّ النتيجة المنطقية لما تقدم قاضية بتفاهة مزاعم المستشرقين ومن وافقهم باُسطورية فكرة ظهور المهدي في آخر الزمان ، ذلك لأن الاُسطورة التي ينتشر الإيمان بها بمثل هذه الصورة ، لاشك أنّها سلبت عقول المؤمنين بها ، وصنعت لهم تاريخاً ، ولكن التاريخ لا يعرف أُمّة

١٥

خلقت تاريخها أُسطورة ، فكيف الحال مع أُمّة هي من أرقى أُمم العالم حضارة في القرون الوسطى باعتراف المستشرقين أنفسهم ؟!

والعجيب ، أنّ القائلين بهذا يعترفون برقيّ الحضارة الإسلامية وسموّها بين الحضارات العالمية ، ولا ينكرون دور الإسلام العظيم في تهذيب نفوس المؤمنين من سائر البدع والخرافات والعادات البالية التي تمجّها النفوس ، وتستنكرها العقول ، ولم يلتفتوا إلى أنّ أُمة كهذه لا يمكن اتّفاقها على الاعتقاد بأُسطورة ، وأغلب الظنّ أنَّ هؤلاء المستشرقين لمّا وجدوا عقائد أسلافهم ملأى بالخرافات والأساطير والضلالات ، كبُر عليهم أن يكتبوا عن الإسلام ـ الذي هو أنقى من الذهب الابريز ـ دون أن يُضيفوا عليه شيئاً من أحقادهم ، ولهذا وصفوا ما تواتر نقله عن النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشأن ظهور المهدي في آخر الزمان بأنّه من الأساطير.

والمصيبة ليست هنا ، لأنّا نعلم أنَّ القوم ( كَبُرَت كَلِمَةً تَخرُجُ مِنْ أفْوَاهِهِم إن يَقُولُونَ إلاّ كَذِباً ) (١) ، بل المصيبة تكمن في كتابات من تقمّص لباس السيد جمال الدين الأفغاني ، والشيخ محمد عبده ونظائرهما من قادة الإصلاح ، مما ساعد على إخفاء حقيقتها وواقعها الذي لم يكن غير الاستظلال بفيء الخصوم ، وطلب الهداية ممن غرق في بحر الضلال ، من دون تروٍ مطلوب ، ولا التفات مسؤول إلى ما يهدّد تراث الإسلام الخالد ، ويستهدف أُصوله الشامخة.

ومن هنا وجب التحذير من هؤلاء وأُولئك ، والاحتراز عن كل ما يُنفَث ، أو يُبَثّ ، قبل بيان الدليل القاطع على عقيدة المسلمين بالمهدي في فصول هذا البحث.

والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم

__________________

(١) الكهف : ١٨ / ٥.

١٦

الفصل الأول

المهدي في الكتاب والسُنّة

١٧
١٨

بعض الآيات المُفَسّرة في المهدي :

لا يخفى أنّ القرآن الكريم والسنّة النبويّة صنوان لمشرّع واحد. وعقيدة المسلمين بالمهدي المتواترة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا شك ولا شبهة ـ كما سيأتي في هذا الفصل ـ قد أيدها القرآن الكريم بجملة من الآيات المباركة التي حملها الكثير من المفسرين على المهدي المبشَّر بظهوره في آخر الزمان.

وإذا ما تواتر شيء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلابد من التسليم بأنّ القرآن الكريم لم يهمله بالمرّة وإن لم تدركه عقولنا؛ لقوله تعالى : ( وَنَزّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وهُدىً ورَحمةً وبُشرى للمُسلِمينَ ) (١).

إذن استجلاء هذه العقيدة من الآيات المباركة منوط بمن يفهم القرآن حق فهمه ، ولا شك بأنّ أهل البيت عليهم‌السلام هم عدل القرآن بنصّ حديث الثقلين المتواتر عند جميع المسلمين ، وعليه فإنّ ماثبت تفسيره عنهم عليهم‌السلام من الآيات بالمهدي لابد من الاذعان إليه والتصديق به.

وفي هذا الصدد قد وقفنا على الكثير من أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام المفسرة لعدد من الآيات المباركة بالإمام المهدي. وسوف لن نذكر منها إلاّ ما كان مؤيداً بما في تفاسير أصحاب المذاهب الاُخرى ورواياتهم.

١ ـ فمنها : ما نمهّد له بالقول : إنّ أعداء هذا الدين من أهل الكتاب والمنافقين والمشركين ومن والاهم ( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبى اللهُ إلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ ولَوْ كَرِهَ الكافِرُونَ ) (٢).

__________________

(١) النحل : ١٦ / ٨٩.

(٢) التوبة : ٩ / ٣٢.

١٩

فهذه الآية العجيبة بينت لنا أنّ حال هؤلاء كحال من يريد بنفخة فم إطفاء نور عظيم منبثّ في الآفاق ، ويريد الله تعالى أن يزيده ويُبلِغَهُ الغاية القُصوى في الإشراق والإضاءة. وفي هذا منتهى التصغير لهم والتحقير لشأنهم والتضعيف لكيدهم ؛ لاِنَّ نفخة الفم القادرة على إطفاء النور الضعيف ـ كنور الفانوس ـ لن تقدر على إطفاء نور الإسلام العظيم الساطع.

وهذا من عجائب التعبير القرآني ، ومن دقائق التصوير الإلهي ، لما فيه من تمثيل فنّي رائع بلغ القمة في البيان ، ولن تجد له نظيراً قط في غير القرآن.

ثم تابع القرآن الكريم ليبين لنا بعد هذا المثال ، إرادة الله عزَّ وجل الظهور التام لهذا الدين رغم أنوفهم ، فقال تعالى : ( هُوَ الَّذِي أرْسَلَ رَسُولَهُ بالهُدى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ ) (١).

والمراد بدين الحق هو دين الإسلام بالضرورة ؛ لقوله تعالى : ( وَمَن يَبْتَغ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهْوُ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ ) (٢).

وقوله تعالى : ( ليُظهِرَهُ عَلى الَّدينِ كُلَّه ) ، أي : لينصره على جميع الأديان ، والضمير في قوله تعالى : ( ليُظهِرَهُ ) راجع إلى دين الحق عند معظم المفسرين وأشهرهم ، وجعلوه هو المتبادر من لفظ الآية.

وهذه بشرى عظيمة من الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنصرة هذا الدين وإعلاء كلمته ، وقد اقترنت هذه البشرى بالتأكيد على أنّ إرادة أعداء الدين إطفاء نور الإسلام سوف لن تغلب إرادته تعالى إظهار دينه القويم على سائر الأديان ، ولو كره المشركون.

والإظهار في الآية لا يراد به غير الغلبة والاستيلاء ، قال الرازي في

__________________

(١) التوبة : ٩ / ٣٣.

(٢) آل عمران : ٣ / ٨٥.

٢٠