البلدانيّات

شمس الدين محمّد بن عبد الرحمن السخاوي [ السخاوي ]

البلدانيّات

المؤلف:

شمس الدين محمّد بن عبد الرحمن السخاوي [ السخاوي ]


المحقق: حسام بن محمّد القطّان
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار العطاء للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٠

١
٢

٣

٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة التّحقيق

الحمد لله الكريم البرّ الجواد ، الهادي إلى سبيل الرّشاد ، الذي خصّ هذه الأمّة ـ دون غيرها من الأمم ـ بخصيصة الإسناد ، وتكفّل بحفظ دينه إلى يوم التّناد ، فندب لذلك الجهابذة النّقّاد ؛ أهل الهدى والسّداد ، فرحلوا في سبيل ذلك إلى البلاد ، وفارقوا الأهل والأولاد ، وهجروا لذلك لذيذ الرّقاد ، وأنفقوا في ذلك الطّارف والتّلاد.

والصّلاة والسّلام على سيّدنا محمد ، خيرته من الخلق ، وصفوته من العباد ، أدّى الأمانة ، وبلّغ الرسالة ، ونصح الأمة ، وجاهد في الله حقّ الجهاد ، صلاة وسلاما دائمين أدّخرهما عند ربي زادا ليوم المعاد.

أما بعد :

فإنّ من أفضل الطّاعات ، وخير ما صرفت فيه نفائس الأوقات ، الاشتغال بالعلم الشّرعي الذي يقرّب من ربّ الأرض والسّماوات ، ومن أعظمه نفعا وأكثره عوائد علم الحديث ؛ الذي به يعرف صحيح الحديث من سقيمه ، وصدقه من مكذوبه ، وسالمه من معلوله ، ومتّصله من منقطعه.

وقد بدأ تدوين الحديث في وقت مبكّر من حياة هذه الأمّة المباركة ، فكان عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي‌الله‌عنهما ـ يكتب كلّ ما يسمعه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانت له صحيفة كتبها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وكان يقول فيها : «هذه

٥

الصّادقة ؛ فيها ما سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وليس بيني وبينه أحد». وكذا غيره من الصحابة رضي‌الله‌عنهم.

ثمّ من جاء بعدهم ؛ فكانت صحيفة همّام بن منبّه عن أبي هريرة ، وكانت تسمّى الصّحيفة الصّحيحة.

إلى أن رأى عمر بن عبد العزيز ـ رحمه‌الله ـ أن يجمع حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويحفظه خشية ضياعه. فأمر ابن شهاب الزهريّ وغيره بجمع حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فجمع في قراطيس وأوراق على غير ترتيب معيّن.

«ثم شاع التّدوين في النّصف الأوّل من القرن الهجريّ الثاني بين العلماء ، حتّى أصبح من النادر ألّا ترى لأحدهم تصنيفا أو جامعا فيه بعض أبواب في الحديث»(١).

فمن مصنّف على الجوامع ، ومن مصنّف على المسانيد ، ومن مصنّف على الأبواب ، ومن مقتصر على الصّحيح ، وهكذا.

ثم شاع فيمن أتى بعدهم وتأخّر عنهم طريقة الإملاء ، حيث إنّ المحدّث ينتقي من حديثه أعلاه ، وأكثره فوائد .. مع عنايتهم بالبدل ، والمساواة ، والموافقة ، والمصافحة (٢).

ومنهم من كان يملي في تخريج أحاديث كتاب معيّن ؛ كأمالي الحافظ ابن حجر ـ رحمه‌الله ـ على كتاب «الأذكار»للنّووي ـ رحمه‌الله ـ ولم يتمّ ، وأماليه على «مختصر ابن الحاجب»المسمى ب «موافقة الخبر الخبر في تخريج أحاديث المختصر».

وحذا حذوه واقتفى أثره تلميذه ـ مصنّف كتابنا ـ الحافظ شمس الدين

__________________

(١) «السّنّة قبل التدوين»للدكتور محمد عجاج الخطيب صفحة (٣٥٧).

(٢) سيأتي تعريف كلّ منها إن شاء الله تعالى.

٦

السّخاوي (١) ، وكان من جملة أماليه كتابنا هذا «البلدانيات». ذكر فيه البلاد والقرى التي دخلها ، وقد بلغت الثمانين ، خرّج «في كل بلد أو قرية عن واحد من أهلها أو القادمين إليها حديثا ، أو أثرا ، أو شعرا ، أو حكاية»(٢). «آتيا في غضون ذلك بفوائد ، راويا الكثير من عيون الزّوائد»(٣).

وها أنا أقدّمها لطلبة العلم راجيا من الله تعالى أن تقع منهم موقع الرضى ؛ وقد حقّقت أصلها ، واجتهدت في ضبط نصّها ، وعزوت الأقوال إلى قائليها ، وخرّجت الأحاديث بحسب الوسع.

وقد نبّهت في أثناء الكتاب على أشياء ركب فيها المصنّف خلاف الصّواب ؛ غير منتقص منه ، ولا طاعن فيه ؛ وإنّما استيضاحا للحقّ والصّواب ، واسترباحا للأجر والثّواب ، وإنّما الأعمال بالنيات.

__________________

(١) قال المصنّف ـ رحمه‌الله ـ : «وتوجّه له [أي : الإملاء] على وجهه جهابذة النقاد قديما وحديثا ، بحيث لم يخل عصر من الأعصار منه ، وكان من أواخرهم المزيّ ، ثم تلميذه العلائيّ ، ثم تلميذه العراقيّ ، وكذا ابن الملقّن ولم يرتض شيخنا صنيعه ، ثم الولي ابن العراقي ، وشيخنا ، وانقطع بعده على الوجه المعتبر قليلا ؛ إلى أن تصدّيت له بإشارة شيخنا الشّمّني ، فأمليت بمكة ، وبعدّة أماكن من القاهرة ، ما كتبه عنّي الأكابر من الفضلاء والأعيان ، وحضر عندي من الشّيوخ من كان يحضر إملاء شيخنا ورفيقه ، بل شيخهما ، وبلغ عدد ما أمليته أزيد من ستّ مئة مجلس ، لو لم يكن فيها إلا «تكملة الأذكار»الذي مات شيخنا وهو يملي فيه ، فلله الحمد. هذا مع رغبة النّاس عنه ، وعدم موقعه منهم ، وتمييز مراتبه لقلّة الاعتناء به ، ولذا قطعته مع المراجعة من كثيرين لي ، حتّى من أعيان المكيين هناك ، والأعمال بالنيات»ا ه.

وقوله هذا في كتابه «غنية اللّبيب في شرح التّقريب»شرح فيه كتاب «التقريب»للإمام النووي ـ رحمه‌الله ـ. وقد ألّفه بعد كتابه «فتح المغيث». وطريقته في شرحه تشبه طريقة شيخه في «نزهة النظر»من حيث سبك عبارة المتن مع الشرح. وقد شارفت على الانتهاء من تحقيقه ، يسّر الله إتمامه ، وجعله خالصا لوجهه الكريم.

(٢) «الجواهر والدرر»للمصنف ١ / ١٩٧. وانظر «الضوء اللامع»له أيضا ٨ / ١٥.

(٣) مقدمة المصنف ل «البلدانيات».

٧

أسأل الله تعالى أن يتقبّل منّي عملي ، وينفع به.

كما أسأله سبحانه أن يغفر لوالديّ ، ويعلي درجتهما في الدّنيا والآخرة جزاء إحسانهما إليّ ، إنّه بكلّ جميل كفيل ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وكتبه

أبو محمد حسام بن محمد القطان

الرياض ـ في اللّيلة التي يسفر صباحها عن يوم السّبت ،

لسبع بقين من شهر شعبان ، لعام واحد وعشرين

وأربع مئة وألف من هجرة النبي العدنان صلى‌الله‌عليه‌وسلم

***

٨

الباب الأول

ويتضمّن :

ـ ترجمة المصنّف.

ـ اسمه ـ نسبه ـ مولده ـ نشأته.

ـ ثناء العلماء عليه.

ـ ما وقع بينه وبين عصريّه السّيوطي.

ـ وفاته.

ـ مؤلّفاته.

٩
١٠

ترجمة المصنف (١)

اسمه ونسبه :

هو العلّامة ، الحافظ ، شمس الدّين ، محمد بن عبد الرحمن بن محمد ، السّخاويّ الأصل ـ نسبة ل «سخا»بلدة بمصر ـ ، القاهريّ ، الشّافعيّ.

وربّما يقال له : ابن البارد ، شهرة لجدّه بين أناس مخصوصين ، ولذا لم يشتهر بها أبوه بين الجمهور ولا هو ؛ بل يكرهها ، كابن عليّة (٢) ، وابن الملقّن في الكراهة ، ولا يذكره بها إلا من يحقره.

__________________

(١) مختصرة من ترجمة المصنف لنفسه في «الضوء اللامع»٨ / ٢ ـ ٣٢. وقد أفرد ترجمته بمؤلف خاص سماه : «إرشاد الغاوي بل إسعاد الطالب والراوي للإعلام بترجمة السخاوي»كما في «التحفة اللطيفة»٣ / ٦٣٠ ـ وفيه : «إرشاد الغاوي»ـ ، وانظر كتاب «التراجم الذاتية»ضمن كتاب «النظائر»للشيخ بكر أبو زيد صفحة (١٤٥). وانظر لترجمة المصنّف أيضا :

ـ شذرات الذهب ١٠ / ٢٣.

ـ الكواكب السائرة ١ / ٥٣.

ـ تاريخ النّور السّافر عن أخبار القرن العاشر صفحة (١٨ ـ ٢٣).

ـ البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع ٢ / ١٨٤ ـ ١٨٧.

ـ نظم العقيان في أعيان الأعيان صفحة (١٥٢ ـ ١٥٣).

ـ هديّة العارفين في أسماء الكتب وآثار المصنفين ٢ / ٢١٩ ـ ٢٢١.

ـ فهرس الفهارس والأثبات ٢ / ٩٨٩ ـ ٩٩٣.

ـ الأعلام ٦ / ١٩٤ ـ ١٩٥.

وغيرها ممن تجده في حاشية كتاب «مؤلّفات السخاوي»صفحة (١١ ـ ١٢).

(٢) في المطبوع من «الضوء»: «عليبة»وأشار في الحاشية إلى أنه في الأصل : «علية». قلت : وهو الصواب. وتصحف عند بعض من نقل عنه إلى : «كليبة».

١١

مولده ونشأته :

ولد في ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين وثمان مئة ، بحارة بهاء الدّين ؛ علو الدّرب المجاور لمدرسة شيخ الإسلام البلقيني ، محلّ أبيه وجدّه. ثمّ تحوّل منه حين دخل في الرابعة مع أبويه لملك اشتراه أبوه مجاور لسكن شيخه ابن حجر ، ممّا كان له الأثر البالغ في انتفاعه به كما سيأتي.

حفظ كثيرا من المختصرات ، وقرأ على ابن خضر ، والجمال ابن هشام الحنبلي ، وصالح البلقيني ، والشرف المناوي ، والشّمّني ، وابن الهمام ، وابن حجر ، وداوم الملازمة له حتى حمل عنه علما جمّا ، واختصّ به كثيرا ؛ حتّى كان من أكثر الآخذين عنه. وأعانه على ذلك قرب منزله منه ، فكان لا يفوته ممّا يقرأ عليه إلّا النادر ؛ إما لكونه حمله ، أو لأنّ غيره أهمّ منه. وينفرد عن سائر الجماعة بأشياء.

وعلم ابن حجر شدّة حرصه على ذلك ، فكان يرسل خلفه أحيانا بعض خدمه لمنزله يأمره بالمجيء للقراءة.

وقرأ على شيخه الاصطلاح بتمامه ، وسمع عليه جلّ كتبه ، وأذن له في الإقراء والإفادة والتّصنيف ، وصلّى به إماما التراويح في بعض ليالي رمضان ، وتدرّب به في طريق القوم ، ومعرفة العالي والنّازل ، والكشف عن التّراجم والمتون ، وسائر الاصطلاح ، وغير ذلك.

ولم ينفكّ عن ملازمة شيخه ولا عدل عنه بملازمة غيره من علماء الفنون ؛ خوفا على فقده ، ولا ارتحل إلى الأماكن النائية ؛ بل ولا حجّ إلا بعد وفاته ، لكنّه حمل عن شيوخ مصر والواردين إليها كثيرا من دواوين الحديث وأجزائه ، بقراءته وقراءة غيره في الأوقات التي لا تعارض أوقاته عليه غالبا.

١٢

ثناء العلماء عليه :

قال الإمام الشوكانيّ ـ رحمه‌الله ـ في «البدر الطالع»٢ / ١٨٥ : «وبالجملة فهو من الأئمة الأكابر».

وقال تلميذه الشيخ جار الله بن فهد المكيّ فيما كتبه عقب ترجمة المصنّف لنفسه في «الضوء اللامع»ما نصه :

«إن شيخنا صاحب التّرجمة حقيق بما ذكره لنفسه من الأوصاف الحسنة ، ولقد ـ والله العظيم ـ لم أر في الحفّاظ المتأخرين مثله ، ويعلم ذلك كلّ من اطّلع على مؤلفاته ، أو شاهده. وهو عارف بفنّه ، منصف في تراجمه. ورحم الله جدّي حيث قال في ترجمته : إنّه انفرد بفنّه ، وطار اسمه في الآفاق به ، وكثرت مصنفاته فيه وفي غيره ، وكثير منها طار شرقا وغربا ، شاما ويمنا ، ولا أعلم الآن من يعرف علوم الحديث مثله ، ولا أكثر تصنيفا ولا أحسن. وكذلك أخذها عنه علماء الآفاق من المشايخ والطلبة والرّفاق ، وله اليد الطّولى في المعرفة بأسماء الرّجال ، وأحوال الرّواة ، والجرح والتعديل ، وإليه يشار في ذلك. ولقد قال بعض العلماء : «لم يأت بعد الحافظ الذّهبيّ مثله (١) ، سلك هذا المسلك»وبعده مات فنّ الحديث ، وأسف النّاس على فقده ، ولم يخلف بعده مثله»(٢).

وقرّض له شيخه على غير واحد من تصانيفه ، وكان من دعواته له قوله : «والله المسؤول أن يعينه على الوصول إلى الحصول ؛ حتى يتعجب السّابق من اللاحق».

وقال الزّين قاسم الحنفي : «وقد كان هذا المصنّف ـ يعني : السّخاويّ ـ

__________________

(١) وهذا فيه غلو ظاهر ، فإن الناظر في كتبه وكتب شيخه يعلم فضل علم شيخه على علمه ، هذا فضلا عن الحافظ العراقي ؛ ورحمة الله على الجميع.

(٢) البدر الطالع ٢ / ١٨٥ ـ ١٨٦.

١٣

بالرّتبة المنيفة في حياة حافظ العصر وأستاذ الزّمان ، حتى شافهني بأنه أنبه طلبتي الآن.

وقال أيضا : حتى كان ينوّه بذكره ، ويعرّف بعلى فخره ، ويرجّحه على سائر جماعته المنسوبين إلى الحديث وصناعته ؛ كما سمعته منه ، وأثبتّه بخطّي قبل عنه.

وقد كان السّخاويّ حريصا على تسجيل ثناء أهل عصره عليه ، بحيث جمع في ذلك مؤلّفا مستقلا سمّاه : «من أثنى عليه من العلماء والأقران»وعقد فصلا طويلا في ترجمته من «الضوء اللامع»لمن أثنى عليه.

ما وقع بين السخاوي وعصريّه الحافظ السيوطي :

وقع بين السّخاويّ وعصريّه السّيوطيّ ما يقع عادة بين الأقران ؛ حتّى ألّف كلّ منهما رسائل في الردّ على الآخر (١) ، والله يعفو عنهما. والأصل أن كلام الأقران يطوى ولا يذكر ، ولا يقبل قول كلّ واحد منهما في الآخر.

قال الحافظ الذهبي في «الميزان»١ / ١١١ في ترجمة أبي نعيم الأصبهاني : «كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به ، لا سيّما إذا لاح لك أنه لعداوة ، أو لمذهب ، أو لحسد ؛ ما ينجو منه إلا من عصم الله ، وما علمت أنّ عصرا من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء ، والصديقين ، ولو شئت لسردت من

__________________

(١) ألّف السّيوطيّ في ذلك رسائل منها : «الكاوي في تاريخ السّخاوي» و «القول المجمل في الردّ على المهمل». وألّف السخاوي رسائل منها : «انتقاد مدعي الاجتهاد» و «الاعتبار والموعظة لزاعم رؤية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في اليقظة». واستمر هذا حتى بعد وفاة السّخاوي ، حيث ألّف تلميذه أحمد بن الحسين المكي رسالتين في الردّ على السّيوطي وهما : «الشهاب الهاوي على قلال الكاوي» و «المنتقد اللّوذعي على المجتهد المدعي»والله المستعان. انظر «الضوء اللامع»٤ / ٦٥ ـ ٧٠ ، و «التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة»١ / ١٧٧ ـ ١٧٨ كلاهما للسخاوي ، و «نظم العقيان في أعيان الأعيان»للسيوطي صفحة (١٥٢).

١٤

ذلك كراريس. اللهمّ ، فلا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم».

وقال الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي في «الردّ الوافر»صفحة (٤٨ ـ ٤٩) : «.. لكنّ بعض الأعيان تكلّم في بعض الأقران ، مثل كلام أبي نعيم في ابن منده ، وابن منده فيه ، فلا نتخذ كلامهما في ذلك عمدة ، بل ولا نحكيه ؛ لأنّ النّاقد إذا بحث عن سبب الكلام في مثل ذلك وانتقد ، رآه إما لعداوة ، أو لمذهب ، أو لحسد. وقلّ أن يسلم عصر بعد تلك القرون الثلاثة من هذه المهلكات ، ومن نظر في التاريخ الإسلامي ـ فضلا عن غيره ـ حقّق ذلك ، وما وقع منه في الأغلب كان سببه المذهب».

وفاته :

قال تلميذه جار الله بن فهد : «وكانت وفاته في مجاورته الأخيرة بالمدينة الشريفة ، في عصر يوم الأحد ، سادس عشر شعبان ، سنة (٩٠٢) اثنتين وتسع مئة»(١).

مؤلفاته :

شرع المصنّف ـ رحمه‌الله ـ في التصنيف في وقت مبكّر من حياته ، فقد ذكر في «الضوء اللامع»٨ / ١٥ أنه شرع في التصنيف قبل الخمسين ؛ أي : قبل سنة خمسين وثمان مئة ، فكان سنه حينها قريبا من التاسعة عشر ، فكان من أكثر أهل عصره تأليفا ، وقد عدّد مؤلّفاته في ترجمته في «الضوء اللامع»؛ فبلغت ما يقرب من مئتي عنوان. وقد نقل الكتانيّ في «فهرس الفهارس»٢ / ٩٨٩ أن مؤلّفاته تنيف على أربع مئة مجلّد ، كما ذكر وفصّل في كثير من إجازاته.

__________________

(١) البدر الطالع ٢ / ١٨٦.

١٥

وللأستاذين : مشهور بن حسن وأحمد شقيرات جهد مشكور في جمع مؤلّفات السّخاوي (١) وحصرها ، مع ذكر مواضع ورودها في مصنّفات السخاويّ نفسه ، أو في مصادر من ترجم له ، وذكر طبعات الكتاب ـ إن كان مطبوعا ـ وذكر أماكن وجوده في مكتبات العالم ـ إن كان مخطوطا ـ ؛ مما يرجى لهما معه الأجر والثّواب ، فأكتفى بالإحالة إليه ، اختصارا للوقت ، وعدم الإطالة.

***

__________________

(١) وقد استفدت من عملهما في ذكر من عزا الكتاب إلى مصنفه.

١٦

الباب الثاني

ويتضمن :

ـ وصف النّسخة المعتمدة في التحقيق.

ـ إثبات نسبة الكتاب إلى مصنفه.

ـ تحقيق اسم الكتاب.

ـ المآخذ على المصنف.

ـ تعريف بمصطلحات يكثر ورودها في الكتاب.

ـ عملي في الكتاب.

١٧
١٨

وصف النّسخة المعتمدة في التحقيق :

اعتمدت في تحقيق هذا الكتاب على نسخة وحيدة ـ فيما أعلم ـ أصلها في مكتبة تشستربتي برقم (٣٦٦٤ / ١) (١).

وهي بخطّ تلميذ المصنّف أبي بكر بن محمد بن أبي بكر الحيشي ، الشافعي. حيث فرغ من نسخها في رابع عشر جمادى الآخرة من سنة ستّ وثمانين وثمان مئة ، كما صرّح به في خاتمة الكتاب.

ويقع الكتاب في أربعين ورقة ، في كل ورقة لوحتان ، في كلّ لوحة ما يقرب من خمسة وعشرين سطرا. وقد كتبت بخطّ جيد ؛ مشكول شكلا قريبا من التمام ، وعليها إلحاقات في الهامش.

وهذه النسخة مقروءة على المؤلّف ، كما جاء في خاتمتها بخطّ المصنّف : «وبعد : فقد قرأ عليّ جميع هذه «البلدانيات»من نسخته هذه للمقابلة بعد أن سمعها من لفظي ..».

إثبات نسبة الكتاب إلى مصنّفه :

الكتاب ـ بحمد الله ـ ثابت النّسبة إلى مصنّفه ويدلّ على ذلك أمور :

١ ـ ذكر المصنّف له ضمن مؤلّفاته ـ كما في «الضوء اللامع»٨ / ١٥ ـ حيث قال : «الأحاديث البلدانيات ، في مجلّد ، ترجم فيه الأماكن مع ترتيبها على حروف المعجم ، مخرّجا في كلّ مكان حديثا ، أو شعرا ، أو حكاية عن واحد من أهلها أو الواردين عليها ، مستفتحة بمن سبقه أيضا لذلك ، وإن لم ير من تقدّمه لمجموع ما جمعه فيها أيضا».

٢ ـ خطّ المصنّف ؛ وذلك في إجازته في خاتمة «البلدانيات»لتلميذه أبي بكر

__________________

(١) وقد أمدّني بها الأخ محمد زياد تكلة وفقه الله.

١٩

الحيشي حيث قال : «وبعد : فقد قرأ علي جميع هذه البلدانيات ..».

٣ ـ نسبة الكتاب له وذلك من قبل العلماء الذين ترجموا له ، فقد نسبه له عبد الحي الكتاني في «فهرس الفهارس»٢ / ٩٩١ ، وإسماعيل بن محمد البغدادي في «إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون»٣ / ٢٩ ، وفي «هدية العارفين»٢ / ٢١٩.

تحقيق اسم الكتاب :

جاءت تسمية الكتاب بخطّ المصنف عند إجازته لتلميذه أبي بكر الحيشي ـ كما سبق قريبا ـ : «البلدانيات»، وكذا جاء في السّماعات ، وكذا عند الكتاني في «فهرس الفهارس»٢ / ٩٩١.

وجاءت تسميته في «الضوء اللامع»٨ / ١٥ ، وفي «إيضاح المكنون» و «هدية العارفين»: «الأحاديث البلدانيات».

وأثبت ما جاء أولا ؛ لأنّه ألصق بمضمون الكتاب ، فإنّه ربّما يذكر البلدة التي دخلها ولا يروي ولا يذكر فيها حديثا أصلا ، بل يذكر ما وقع له من شعر ، أو حكاية ، أو غير ذلك. والأمر في هذا قريب والله أعلم.

المآخذ على المصنّف :

١ ـ إنّ النّاظر في تصانيف السّخاوي ـ رحمه‌الله تعالى ـ ولا سيّما كتب التراجم ك «الضوء اللامع» و «التحفة اللّطيفة»، وغيرهما يتبيّن له بجلاء تأثّر المصنّف ـ رحمه‌الله تعالى ـ بما كان سائدا في ذلك العصر ؛ من تعظيم للمشاهد والمزارات ، وبناء للقباب عليها ، والثناء على من قصدها بالنذور والقربات وغير ذلك ، مما هو مصادم في حقيقته لأصل دعوة التوحيد التي تتابع عليها الأنبياء من لدن آدم حتى خاتمهم محمد عليهم أفضل الصّلاة والسلام.

ونتيجة لهذا التأثّر نجد المصنّف ـ رحمه‌الله ـ يورد في تصانيفه بعض

٢٠