أحكام القرآن - ج ٤

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص

أحكام القرآن - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص


المحقق: محمّد الصادق قمحاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: دار إحياء التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٧

١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

باب التيمم

قال الله تعالى (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) فتضمنت الآية بيان حكم المريض الذي يخاف ضرر استعمال الماء وحكم المسافر الذي لا يجد الماء إذا كان جنبا أو محدثا لأن قوله تعالى (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) فيه بيان حكم الحدث لأن الغائط هو اسم للمنخفض من الأرض وكانوا يقضون الحاجة هناك فجعل ذلك كناية عن الحدث وقوله (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) مفيد لحكم الجنابة في حال عدم الماء ولما يستدل عليه إن شاء الله تعالى وقد دل ظاهر قوله (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) على إباحة التيمم لسائر المرضى بحق العموم لو لا قيام الدلالة على أن المراد بعض المرضى فروى عن ابن عباس وجماعة من التابعين أنه المجدور ومن يضره الماء ولا خلاف مع ذلك أن المريض الذي لا يضره استعمال الماء لا يباح له التيمم مع وجود الماء وإباحة التيمم للمريض غير مضمنة بعدم الماء بل هي مضمنة بخوف ضرر الماء على ما بينا وذلك لأنه تعالى قال (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) فأباح التيمم للمريض من غير شرط عدم الماء وعدم الماء إنما هو مشروط للمسافر دون المريض من قبل أنه لو جعل عدم الماء شرطا في إباحة التيمم للمريض لأدى ذلك إلى إسقاط فائدة ذكر المريض لأن العلة المبيحة للتيمم وجواز الصلاة به في المريض والمسافر لو كانت عدم الماء لما كان لذكر المريض مع ذكر عدم الماء فائدة إذ لا تأثير للمريض في إباحة التيمم ولا منعه إذ كان الحكم متعلقا بعدم الماء فإن قيل إذا جاز أن يذكر حال السفر مع عدم الماء وإن كان جواز التيمم متعلقا بعدم الماء دون السفر إذ لو كان واجدا للماء أجزأه التيمم لم يمتنع أن تكون إباحة التيمم للمريض موقوفة على حال عدم الماء قيل له إنما ذكر المسافر لأن الماء إنما يعدم في السفر في الأعم الأكثر فإنما ذكر السفر إبانة عن الحال التي يعدم الماء

٢

فيها في الأعم الأكثر كما قال صلّى الله عليه وسلّم لا قطع في ثمر حتى يأويه الجرين وليس المقصد فيه أن يأويه الجرين فحسب لأنه لو آواه بيت أو دار كان ذلك كذلك وإنما مراده بلوغ حال الاستحكام وامتناع إسراع الفساد إليه وإيواء الحرز لأن الجرين الذي يأويه حرز وكما قال في خمس وعشرين بنت مخاض ولم يرد به وجود المخاض بأمها وإنما أريد به أنه قد أتى عليها حول وصارت في الثاني لأنها إذا كانت كذلك كان بأمها مخاض في الأعم الأكثر فكان فائدة ذكر المسافر مع شرط عدم الماء ما وصفنا وليس كذلك المريض لأن المريض لا تعلق له بعدم الماء فعلمنا أن مراده ما يلحق من الضرر باستعمال الماء وعموم اللفظ يقتضي جواز التيمم للمريض في كل حال لو لا ما روى عن السلف واتفق الفقهاء عليه من أن المرض الذي لا يضر معه استعمال الماء لا يبيح له التيمم ومن أجل ذلك قال أبو حنيفة ومحمد ومن خاف برد الماء إن اغتسل جاز له التيمم لما يخاف من الضرر وقد روى في حديث عمرو بن العاص أنه تيمم مع وجود الماء لخوف البرد فأجازه النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم ينكره وقد اتفقوا على جوازه في السفر مع وجود الماء لخوف البرد فوجب أن يكون الحضر مثله لوجود العلة المبيحة له وكما لم يختلف حكم المرض في السفر والحضر كذلك حكم خوف ضرر الماء لأجل البرد وقوله تعالى (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) فإن أو هاهنا بمعنى الواو تقديره وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط وذلك راجع إلى المريض والمسافر إذا كانا محدثين ولزمهما فرض الصلاة وإنما قلنا إن قوله (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) بمعنى الواو لأنه لو لم يكن كذلك لكان الجائى من الغائط ثالثا لهما غير المريض والمسافر فلا يكون حينئذ وجوب الطهارة على المريض والمسافر متعلقا بالحدث ومعلوم أن المريض والمسافر لا يلزمهما التيمم إلا أن يكونا محدثين فوجب أن يكون قوله تعالى (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) بمعنى وجاء أحدكم كقوله (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) معناه ويزيدون وكقوله (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) ومعناه غنيا وفقيرا* وأما قوله تعالى (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً) فإن السلف قد تنازعوا في معنى الملامسة المذكورة في هذه الآية فقال على وابن عباس وأبو موسى والحسن وعبيدة والشعبي هي كناية عن الجماع وكانوا لا يوجبون الوضوء لمن مس امرأته وقال عمر وعبد الله بن مسعود المراد اللمس

٣

باليد وكانا يوجبان الوضوء بمس المرأة ولا يريان للجنب أن يتيمم فمن تأوله من الصحابة على الجماع لم يوجب الوضوء من مس المرأة ومن حمله على اللمس باليد أوجب الوضوء من مس المرأة ولم يجز التيمم للجنب واختلف الفقهاء في ذلك أيضا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والثوري والأوزاعي لا وضوء على من مس امرأة لشهوة أو لغير شهوة وقال مالك إن مسها لشهوة تلذذا فعليه الوضوء وكذلك إن مسته تلذذا فعليها الوضوء وقال إن مس شعرها تلذذا فعليه الوضوء وإذا قال لها شعرك طالق طلقت وقال الحسن بن صالح إن قبل لشهوة فعليه الوضوء وإن كان لغير شهوة فلا وضوء عليه وقال الليث إن مسها فوق الثياب تلذذا فعليه الوضوء وقال الشافعى إذا مس جسدها فعليه الوضوء لشهوة أو لغير شهوة* والدليل على أن لمسها ليس بحدث على أى وجه كان ما روى عن عائشة من طرق مختلفة بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقبل بعض نسائه ثم يصلّى ولا يتوضأ كما روى أنه كان يقبل بعض نسائه وهو صائم وقد روى الأمر ان جميعا في حديث واحد ولا يجوز حمله على أنه قبل خمارها وثوبها لوجهين أحدهما أنه لا يجوز أن يحمل اللفظ على المجاز بغير دلالة إذ حقيقته أن يكون قد باشر جلدها حيث قبلها وما ذكره الخصم يكون قبلة لخمارها والثاني أنه لا فائدة في نقله وأيضا فإنه لم يكن بين النبي صلّى الله عليه وسلّم من الوحشة وبين أزواجه أن يكون مستورات عنه لا يصيب منها إلا الخمار ومنه حديث عائشة أنها طلبت النبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة قالت فوقعت يدي على أخمص قدمه وهو ساجد يقول أعوذ بعفوك من عقوبتك وبرضاك من سخطك فلو كان مس المرأة حدثا لما مضى في سجوده لأن المحدث لا يجوز أن يبقى على حال السجود وحديث أبي قتادة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يصلّى وهو حامل أمامة بنت أبى العاص فإذا سجد وضعها وإذا رفع رأسه حملها ومعلوم أن من فعل ذلك لا يخلو من وقوع يده على شيء من بدنها فثبت بذلك أن مس المرأة ليس بحدث وهذه الأخبار حجة على من يجعل اللمس حدثا لشهوة أو لغير شهوة ولا يحتج بها على من اعتبر اللمس لشهوة لأنه حكاية فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يخبر فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان لشهوة ومسه أمامة قد علم يقينا أنه لم يكن لشهوة* والذي يحتج به على الفريقين أنه معلوم عموم البلوى بمس النساء لشهوة والبلوى بذلك أعم منها بالبول والغائط ونحوهما فلو كان حدثا لما أخل النبي صلّى الله عليه وسلّم الأمة من التوقيف عليه لعموم البلوى به

٤

وحاجتهم إلى معرفة حكمه ولا جائز في مثله الاقتصار بالتبليغ إلى بعضهم دون بعض فلو كان منه توقيف لعرفه عامة الصحابة فلما روى عن الجماعة الذين ذكرناهم من الصحابة أنه لا وضوء فيه دل على أنه لم يكن منه صلّى الله عليه وسلّم توقيف لهم عليه وعلم أنه لا وضوء فيه فإن قيل يلزمك مثله لخصمك لأن لو لم يكن فيه وضوء لكان من النبي صلّى الله عليه وسلّم توقيف للكافة عليه لأنه لا وضوء فيه لعموم البلوى به قيل له لا يجب ذلك في نفى الوضوء منه كما يجب في إثباته وذلك لأنه معلوم أن الوضوء منه لم يكن واجبا في الأصل فجائز أن يتركهم النبي صلّى الله عليه وسلّم على ما كان معلوما عندهم من نفى وجوب الطهارة ومتى شرع الله تعالى فيه إيجاب الوضوء فغير جائز أن يتركهم بغير توقيف عليه مع علمه بما كانوا عليه من نفى إيجابه لأن ذلك يوجب إقرارهم على خلاف ما تعبدوا به فلما وجدنا قوما من جلة الصحابة لم يعرفوا الوضوء من مس المرأة علمنا أنه لم يكن منه توقيف على ذلك فإن قيل جائز أن لا يكون منه صلّى الله عليه وسلّم توقيف في حال ذلك اكتفاء بما في ظاهر الكتاب من قوله تعالى (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) وحقيقته هو اللمس باليد وبغيرها من الجسد قيل له في الآية نص على أحد المعنيين بل فيها احتمال لكل واحد منهما ولأجل ذلك اختلفوا في معناها وسوغوا الاجتهاد في طلب المراد بها فليس إذا فيها توقيف في إيجاب الوضوء مع عموم الحاجة إليه وأيضا اللمس يحتمل الجماع على ما تأوله على وابن عباس وأبو موسى ويحتمل اللمس باليد على ما روى عن عمر وابن مسعود فلما روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قبل بعض نسائه ثم صلّى ولم يتوضأ أبان ذلك عن مراد الله تعالى ووجه آخر يدل على أن المراد منه الجماع وهو أن اللمس وإن كان حقيقة للمس باليد فإنه لما كان مضافا إلى النساء وجب أن يكون المراد منه الوطء كما أن الوطء حقيقته المشي بالأقدام فإذا أضيف إلى النساء لم يعقل منه غير الجماع كذلك هذا ونظيره قوله تعالى (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) يعنى من قبل أن تجامعوهن وأيضا فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر الجنب بالتيمم في أخبار مستفيضة ومتى ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم حكم ينتظمه لفظ الآية وجب أن يكون فعله إنما صدر عن الكتاب كما أنه لما قطع السارق وكان في الكتاب لفظ يقتضيه كان قطعه معقولا بالآية وكسائر الشرائع التي فعلها النبي صلّى الله عليه وسلّم مما ينطوى عليه ظاهر الكتاب وإذا ثبت أن المراد باللمس الجماع انتفى منه مس اليد من وجوه أحدها اتفاق السلف من الصدر الأول أن

٥

أن المراد أحدهما لأن عليا وابن عباس وأبو موسى لما تأولوه على الجماع لم يوجبوا نقض الطهارة بلمس اليد وعمر وابن مسعود لما تأولاه على اللمس لم يجيزا للجنب التيمم فاتفق الجميع منهم على أن المراد أحدهما ومن قال إن المراد هما جميعا فقد خرج عن اتفاقهم وخالف إجماعهم في أن المراد أحدهما وما روى عن ابن عمر أن قبلة الرجل لامرأته من الملامسة فلا دلالة فيه على أنه كان يرى المعنيين جميعا مرادين بالآية بل كان مذهبه في ذلك مذهب عمر وابن مسعود فبين في هذا الخبر بأن اللمس ليس بمقصور على اليد وإنما يكون أيضا بالقبلة وبغيره من المعانقة والمضاجعة ونحوها ووجه آخر يدل على أنه لا يجوز أن يرادا جميعا بالآية وهو أن اللمس باليد إنما يوجب الوضوء عند مخالفينا والجماع يوجب الغسل وغير جائز أن يتعلق بعموم واحد حكمان مختلفان فيما انتظمه ألا ترى إلى قوله تعالى (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) لما كان لفظ عموم لم يجز أن ينتظم السارقين لا يقطع أحدهما إلا في عشرة ويقطع الآخر في خمسة وإذا ثبت أن الجماع مراد بما وصفنا وهو يوجب الغسل انتفى دخول اللمس باليد فيه* فإن قيل لم يختلف حكم موجب اللفظ في إرادته الجماع واللمس باليد لأن الواجب فيها التيمم المذكور في الآية قيل له التيمم بدل والأصل هو الطهارة بالماء ومحال إيجاب التيمم إلا وقد وجب قبل ذلك الطهارة بالماء وهو بدل فيها فغير جائز أن يكون اللمس المذكور موجبا للوضوء في إحدى الحالتين وموجبا للغسل في الأخرى وأيضا فإن التيمم وإن كان بصورة واحدة فإن حكمه مختلف لأن أحدهما ينوب عن غسل جميع الأعضاء والآخر عن غسل بعضها فغير جائز أن ينتظمهما لفظ واحد فمتى وجب لأحد المعنيين فكأنه قد نص عليه وذكره بأن قال هو الجماع فلا يدخل فيه اللمس باليد ويدل على انتفاء إرادتهما أن اللمس متى أريد به الجماع كان اللفظ كناية وإذا أريد منه اللمس باليد كان صريحا وكذلك روى عن على وابن عباس أنهما قالا اللمس هو الجماع ولكنه كنى وغير جائز أن يكون لفظ واحد كناية صريحا في حال واحدة ومن جهة أخرى يمتنع ذلك وهو أن الجماع مجاز والحقيقة هو اللمس باليد ولا يجوز أن يكون لفظ واحد حقيقة مجازا في حال واحدة فإن قيل لم لا يكون عموما في اللمس من حيث كان الجماع أيضا مسا ويكون حقيقة فيهما جميعا* قيل له يمتنع ذلك من وجوه أحدها أنه قد روى عن على وابن عباس أنه كناية عن الجماع وهما أعلم بالغة من

٦

هذا القائل فبطل قول القائل أن اللمس صريح فيهما جميعا والآخر ما بينا من امتناع عموم واحد مقتضيا لحكمين مختلفين فيما دخلا فيه ولأن اللمس إذا أريد به مماسة في الجسد فقد حصل نقض الطهارة ووجب التيمم المذكور في الآية بمسه إياها قبل حصول الجماع لاستحالة أن يحصل جماع إلا ويحصل قبله لمس لجسدها فلا يكون الجماع حينئذ موجبا للتيمم المذكور في الآية لوجوبه قبل ذلك بمس جسدها ويدل على أن المراد الجماع دون لمس اليد أن الله تعالى قال (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ـ إلى قوله تعالى ـ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) أبان به عن حكم الحدث في حال وجود الماء ثم عطف عليه قوله (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ ـ إلى قوله ـ فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) فأعاد ذكر حكم الحدث في حال عدم الماء فوجب أن يكون قوله (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) على الجنابة لتكون الآية منتظمة لهما مبينة لحكمهما في حال وجود الماء وعدمه ولو كان المراد اللمس باليد لكان ذكر التيمم مقصورا على حال الحدث دون الجنابة غير مفيد لحكم الجنابة في حال عدم الماء وحمل الآية على فائدتين أولى من الاقتصار بها على فائدة واحدة وإذا ثبت أن المراد الجماع انتفى اللمس باليد لما بينا من امتناع إرادتهما بلفظ واحد فإن قيل إذا حمل على اللمس باليد كان مفيدا لكون اللمس حدثا وإذا جعل مقصورا على الجماع لم يفد ذلك فالواجب على قضيتك في اعتبار الفائدتين حمله عليهما جميعا فيفيد كون اللمس حدثا ويفيد أيضا جواز التيمم للجنب فإن لم يجز حمله على الأمرين لما ذكرت من اتفاق السلف على أنهما لم يرادا ولامتناع كون اللفظ مجازا حقيقة أو كناية وصريحا فقد ساويناك في إثبات فائدة مجدد بحمله على اللمس باليد مع استعمالنا حقيقة اللفظ فيه فما جعلك إثبات فائدة من جهة إباحة التيمم للجنب أولى ممن أثبت فائدته من جهة كون اللمس باليد حدثا قيل له لأن قوله تعالى (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) مفيد لحكم الأحداث في حال وجود الماء ونص مع ذلك على حكم الجنابة فالأولى أن يكون ما في نسق الآية من قوله (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ ـ إلى قوله ـ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) بيانا لحكم الحدث والجنابة في حال عدم الماء كما كان في أول الآية بيانا لحكمهما في حال وجوده وليس موضع الآية في بيان تفصيل الأحداث وإنما هي في بيان حكمها وأنت متى حملت اللمس على بيان الحدث فقد أزلتها عن مقتضاها وظاهرها فلذلك كان ما ذكرناه أولى ووجه آخر وهو أن حمله على

٧

الجماع يفيد معنيين أحدهما إباحة التيمم للجنب في حال عوز الماء والآخر أن التقاء الختانين دون الإنزال يوجب الغسل فكان حمله على الجماع أولى من الاقتصار به على فائدة واحدة وهو كون اللمس حدثا ودليل آخر على ما ذكرنا من معنى الآية وهو أنها قد قرئت على وجهين أو لامستم النساء ولمستم فمن قرأ أو لامستم فظاهره الجماع لا غير لأن المفاعلة لا تكون إلا من اثنين إلا في أشياء نادرة كقولهم قاتله الله وجازاه وعافاه الله ونحو ذلك وهي أحرف معدودة لا يقاس عليها أغيارها والأصل في المفاعلة أنها بين اثنين كقولهم قاتله وضاربه وسالمه وصالحه ونحو ذلك وإذا كان ذلك حقيقة اللفظ فالواجب حمله على الجماع الذي يكون منهما جميعا ويدل على ذلك أنك لا تقول لامست الرجل ولامست الثوب إذا مسسته بيدك لانفرادك بالفعل فدل على أن قوله (أَوْ لامَسْتُمُ) بمعنى أو جامعتم النساء فيكون حقيقته الجماع وإذا صح ذلك وكانت قراءة من قرأ [أو لمستم] يحتمل اللمس ويحتمل الجماع وجب أن يكون ذلك محمولا على ما لا يحتمل إلا معنى واحدا لأن ما لا يحتمل إلا معنى واحدا فهو المحكم وما يحتمل معنيين فهو المتشابه وقد أمرنا الله تعالى بحكم المتشابه على المحكم ورده إليه بقوله (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) الآية فلما جعل المحكم أما للمتشابه فقد أمرنا بحمله عليه وذم متبع المتشابه باقتصاره على حكمه بنفسه دون رده إلى غيره بقوله (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) فثبت بذلك أن قوله [أو لمستم] لما كان محتملا للمعنيين كان متشابها وقوله (أَوْ لامَسْتُمُ) لما كان مقصورا في مفهوم اللسان على معنى واحد كان محكما فوجب أن يكون معنى المتشابه مبينا عليه* فإن قيل لما قرئت الآية على الوجهين اللذين ذكرت وكان أحد الوجهين لا يحتمل إلا معنى واحدا وهو قراءة من قرأ أو لامستم النساء والوجه الآخر يحتمل اللمس باليد ويحتمل الجماع وجب أن نجعل القراءتين كالآيتين لو وردتا أحدهما كناية عن الجماع فنستعملها فيه والأخرى صريحة في اللمس باليد خاصة فتستعملها فيه دون الجماع ويكون كل واحد من اللفظين مستعملا على مقتضاه من كناية أو صريح إذ لا يكون لفظ واحد حقيقة مجاز ولا كناية صريحا في حال واحدة ونكون مع ذلك قد استعملنا حكم القراءتين على فائدتين دون الاقتصار بهما على فائدة واحدة* قيل له لا يجوز ذلك لأن السلف من الصدر الأول

٨

المختلفين في مراد الآية قد عرفوا القراءتين جميعا لأن القراءتين لا تكونان إلا توقيفا من الرسول للصحابة عليهما وإذا كانوا قد عرفوا القراءتين ثم لم يعتبروا هذا الاعتبار ولم يحتج بهما موجبو الوضوء من اللمس علمنا بذلك بطلان هذا القول وعلى أنهم مع ذلك لم يحملوهما على المعنيين بل اتفقوا على أن المراد أحدهما وحمله كل واحد من المختلفين على معنى غير ما تأوله عليه صاحبه من جماع أو لمس بيد دون الجماع فثبت بذلك أن القراءتين على أى وجه حصلتا لم تقتضيا بمجموعهما ولا بانفراد كل واحدة منهما الأمرين جميعا ولم يجعلوهما بمنزلة الآيتين إذا وردتا فيجب استعمال كل واحدة منهما على حيالها وحملها على مقتضاها وموجبها وكان أبو الحسن الكرخي يجيب عن ذلك بجواب آخر وهو أن سبيل القراءتين غير سبيل الآيتين وذلك لأن حكم القراءتين لا يلزم معا في حال واحدة بل بقيام أحدهما مقام الأخرى ولو جعلناهما كالآيتين لوجب الجمع بينهما في القراءة وفي المصحف والتعليم لأن القراءة الأخرى بعض القرآن ولا يجوز إسقاط شيء منه ولكان من اقتصر على إحدى القراءتين مقتصرا على بعض القرآن لا على كله وللزم من ذلك أن المصاحف لم يثبت فيها جميع القرآن وهذا خلاف ما عليه جميع المسلمين فثبت بذلك أن القراءتين ليستا كالآيتين في الحكم بل تقرآن على أن تقام أحدهما مقام الأخرى لا على أن يجمع بين أحكامهما كما لا يجمع بين قراءتهما وإثباتهما في المصحف معا* ويدل على أن اللمس ليس بحدث أن ما كان حدثا لا يختلف فيه الرجال والنساء ولو مست امرأة امرأة لم يكن حدثا كذلك مس الرجل إياها وكذلك مس الرجل الرجل ليس بحدث فكذلك مس المرأة ودلالة ذلك على ما وصفنا من وجهين أحدهما أنا وجدنا الأحداث لا تختلف فيها الرجال والنساء فكل ما كان حدثا من الرجل والمرأة فقوله خارج عن الأصول ومن جهة أخرى أن العلة في مس المرأة المرأة والرجل الرجل أنه مباشرة من غير جماع فلم يكن حدثا كذلك الرجل والمرأة* فإن قيل قد أوجب أبو حنيفة الوضوء على من باشر امرأته وانتشرت آلته وليس بينهما ثوب ولا فرق بين مسها بيده وبين مسها ببدنه* قيل له لم يوجب أبو حنيفة هاهنا الوضوء بالمباشرة وإنما أوجبه إذ التقى الفرجان من غير إيلاج كذلك رواه محمد عنه وذلك لأن الإنسان لا يكاد يبلغ هذه الحال إلا ويخرج منه شيء وإن لم يشعر به فلما كان الغالب في هذه الحال خروج شيء منه وإن

٩

لم يشعر به أوجب الوضوء له احتياطا فحكم له بحكم الحدث كما أنه لما كان الغالب من حال النوم وجود الحدث فيه حكم له بحكم الحدث فليس إذا في ذلك إيجاب الوضوء من اللمس والله أعلم بالصواب.

باب وجوب التيمم عند عدم الماء

قال الله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) قال أبو بكر شرط الوجود مختلف فيه والجملة التي اتفق أصحابنا عليها أن الوجود إمكان استعمال الماء الذي يكفيه لطهارته من غير ضرر فلو كان معه ماء وهو يخاف العطش أو لم يجده إلا بثمن كثير تيمم وليس عليه أن يغالى فيه إلا أن يجده بثمن كما يباع بغير ضرورة فيشتريه وإن كان أكثر من ذلك فلا يشتريه وجعل أصحابنا جميعا شرط الوجود أن يكفيه لجميع طهارته وأما العلم بكونه في رحله فمختلف فيه أنه من شرط الوجود وسنذكره إن شاء الله* واختلف أيضا في وجوب الطلب وهل يكون غير واجد قبل الطلب وإنما قلنا أنه إذا خاف العطش باستعماله للطهارة فهو غير واجد للماء المفروض به الطهارة لأنه متى خاف الضرر في استعماله كان معذورا في تركه إلى التيمم كالمريض قال الله تعالى (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) فنفى الحرج عنا وهو الضيق وفي الأمر باستعمال الماء الذي يخاف فيه العطش أعظم الضيق وقد نفاه الله تعالى نفيا مطلقا وقال تعالى (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) ومن العسر استعمال الماء الذي يؤديه إلى الضرر وتلف النفس ألا ترى أنه لو اضطر إلى شرب الماء وحضرته الصلاة ولا ماء معه غيره أنه مأمور بشربه وترك استعماله للطهارة فكذلك إذا خاف العطش في المستأنف باستعماله* وروى نحو هذا القول فيمن خاف العطش عن على وابن عباس والحسن وعطاء وإنما شرطنا أن يجده بثمن مثل قيمته في غير الضرورة من قبل أن المقدار الفاضل عن قيمته غير مستحق عليه إتلافه لأجل الطهارة إذ لا يحصل بإزائه بدل فكان إضاعة للمال لأن من اشترى ما يساوى درهما بعشرة دراهم فهو مضيع للتسعة وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن إضاعة المال وأيضا لو كان على ثوبه نجاسة ولم يجد الماء لم يكن عليه قطع موضع النجاسة لأجل الصلاة بل عليه أن يصلّى فيه لأجل ما يلحقه من الضرر بقطعه فكذلك شرى الماء بثمن غال وأما إذا وجده بثمن مثله فعليه أن يشتريه ويتوضأ

١٠

ولا يجزيه التيمم من قبل أنه ليس فيه تضييع المال إذ كان يملك بإزاء ما أخرج من ماله مثله وهو الماء الذي أخذه فكان عليه شراؤه والوضوء به وقد اختلف الفقهاء فيمن وجد من الماء ما لا يكفيه لطهارته فقال أصحابنا جميعا يتيمم وليس عليه استعماله وكذلك لو كان جنبا فوجد ما يكفيه لوضوئه ولا يكفيه لغسله يتيمم وقال مالك والأوزاعى لا يستعمل الجنب هذا الماء في الابتداء ويتيمم فإن أحدث بعد ذلك وعند ما يكفيه لوضوئه يتيمم أيضا وقال أصحابنا في هذه المسألة الأخيرة يتوضأ بهذا الماء ما لم يجد ما يكفيه لغسله وقال الشافعى عليه غسل ما قدر على غسله ويتيمم لا يجزيه غير ذلك قال أبو بكر قال الله تعالى (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) * إلى قوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً) فاقتضى ذلك وجوب أحد شيئين إما الماء عند وجوده أو التراب عند عدمه لأنه أوجبه بهذه الشريطة ولا خلاف أن من فرض هذا الرجل التيمم وإن صلاته غير مجزية إلا به فعلمنا أن هذا الماء ليس هو الماء المفروض به الطهارة إذ لو كان الماء المفروض به الطهارة موجودا لم تكن صحة صلاته موقوفة على فعل التيمم منه فإن قيل قال الله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) فأباح التيمم عند عدم ماء منكور وذلك يتناول كل جزء منه سواء كان كافيا لطهارته أو غير كاف فلا يجوز التيمم مع وجوده قيل له الدليل على فساد هذا التأويل اتفاق الجميع على أن من فرضه التيمم وإن استعمل الماء فلو كان هذا القدر من الماء مأمورا باستعماله بالآية لما لزمه التيمم معه لأن الله تعالى إنما أوجب عليه التيمم عند عدم الماء الذي تصح به صلاته فإن قيل فنحن لا نجيز تيممه إلا بعد عدم هذا الماء باستعماله إياه فحينئذ يتيمم قيل له لو كان هذا على ما ذكر لاستغنى عن التيمم باستعمال الماء الذي معه فلما اتفقوا على أن عليه التيمم بعد استعماله ثبت أن هذا الماء ليس هو المفروض به الطهارة ولا ما أبيح التيمم بعدمه وأيضا لما كان وجود هذا الماء بمنزلة عدمه في باب استباحة الصلاة به صار بمنزلة ما ليس بموجود فجاز له التيمم وأيضا لما لم يجز الجمع بين غسل إحدى الرجلين والمسح على الخف في الرجل الأخرى لكون المسح بدلا من الغسل فلم يجز الجمع بينهما وجب أن لا يلزمه الجمع بين غسل الأعضاء والتيمم لهذه العلة وأيضا فإن التيمم لا يرفع الحدث كالمسح لا يرفع الحدث عن الرجل فلم يجز الجمع بين ما يرفع الحدث وبين ما لا يرفعه في المسح كذلك لا يجوز الجمع بين التيمم والغسل في بعض الأعضاء على أن يكونا

١١

من فرضه وأيضا فإن التيمم بدل من غسل جميع الأعضاء وغير جائز وقوعه عن بعض الأعضاء دون بعض ألا ترى أنه ينوب عن الغسل تارة وعن الوضوء أخرى على أنه قام مقام جميع الأعضاء التي أوجب الحدث غسلها فلو أوجبنا عليه غسل ما يمكنه غسله مع التيمم لم يخل التيمم من أن يقوم مقام غسل بعض أعضائه أو جميعه فإن قام مقام ما لم يغسل منه فقد صار التيمم إنما يقع طهارة عن بعض الأعضاء وذلك مستحيل لأنه لا يتبعض فلما بطل ذلك لم يبق إلا أن يقوم مقام جميعها فيصير حينئذ متوضئا متيمما في الأعضاء المغسولة وذلك محال لأن الحدث زائل عن العضو المغسول فلا ينوب عنه التيمم فثبت أنه لا يجوز اجتماعهما في الوجوب وعلى أن الشافعى يوجب عليه غسل الوجه والذراعين بذلك الماء ويتيمم مع ذلك لهذين العضوين فيكون تيممه في هذين العضوين قائما مقامهما ومقام العضوين الآخرين فيكون قد ألزمه طهارتين في هذين العضوين فكيف يجوز أن يكون طهارة في العضوين المغسولين وهو إذا حصل طهارة لم يرفع الحدث ويكون حكم الحدث باقيا مع وجوده فكيف يجوز وقوعه مع عدم رفع الحدث عما وقع فيه فإن قيل يلزمك مثله إذا قلت فيما غسل بعض أعضائه لأنه ملزم التيمم ويكون ذلك طهارة لجميعه قيل له لا يلزمنا ذلك لأنا لا نوجب عليه استعماله فسقط حكمه إن استعمله وأنت توجب استعماله كما نوجبه لو وجد ما يكفيه لجميع أعضائه فكان بمنزلة من توضأ وأكمل وضوءه فلا يجوز أن يقوم التيمم مقام شيء منه فإن قال فقد يجوز عندكم الجمع بين التيمم والوضوء ولا ينافي أحدهما الآخر وهو الذي يجد سؤر الحمار ولا يجد غيره قيل له إن طهارته أحد هذين لإجماعهما ولذلك أجزنا له أن يبدأ بأيهما شاء لأنه مشكوك فيه عندنا فلم يسقط عنه فرض الطهارة بالشك فإذا جمع بينهما فالمفروض أحدهما كما قالوا جميعا فيمن نسى أحدى الصلوات الخمس ولا يدرى أيها هي يصلّى خمس صلوات حتى يصلّى على اليقين وإنما الذي عليه واحدة لا جميعها كذلك هاهنا وأنت تزعم أن المفروض هما جميعا في مسألتنا وأيضا لما كان التيمم بدلا من الماء كالصوم بدلا من الرقبة لم يجز اجتماع بعض الرقبة والصوم وجب مثله في التيمم والماء فإن قيل الصغيرة قد تجب عدتها بالشهور فإن حاضت قيل انقضائها وجب الحيض* وكذلك ذات الحيض لو اعتدت بحيضة ثم يئست وجبت الشهور مع الحيضة المتقدمة

١٢

قيل له إذا طرأ عليها ما ذكرت قبل انقضاء العدة خرج ما تقدم من أن يكون عدة معتدا به وأنت لا تخرج ما غسل من أن يكون طهارة وكذلك التيمم ودليل آخر في المسألة وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء والدلالة من هذا قوله ما لم يجد الماء فأدخل عليها الألف واللام وذلك لأحد وجهين إما أن تكون لاستغراق الجنس أو المعهود فإن كان أراد به استغراق الجنس صار في التقدير كأنه قال التراب طهور ما لم يجد مياه الدنيا وإن كان أراد به المعهود فهو قولنا أيضا لأنه ليس هاهنا ماء معهود يجوز أن ينصرف الكلام إليه غير الماء الذي يقع به كمال الطهارة وذلك لم يوجد في مسألتنا فجاز تيممه بظاهر الخبر واختلفوا في العلم بكون الماء في رحله هل هو شرط في الوجود أم لا فقال أبو حنيفة ومحمد إذا نسى الماء في رحله وهو مسافر فتيمم وصلّى أجزأه ولا يعيد في الوقت ولا بعده وقال مالك ولا يعيد في الوقت ولا يعيد بعده وقال أبو يوسف والشافعى يعيد في الأحوال كلها والأصل فيه قوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) والناسي غير واجد لما هو ناس له إذ لا سبيل له إلى الوصول إلى استعماله فهو بمنزلة من لا ماء في رحله ولا بحضرته وقال الله (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) فاقتضى ذلك سقوط حكم المنسى وأيضا قال الله تعالى (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) ومعلوم أن هذا الخطاب لم يتوجه إلى الناسي لأن تكليف الناسي لا يصح وإذا لم يكن مأمورا مكلفا بالغسل فهو مأمور بالتيمم لا محالة لأنه لا يجوز سقوطهما جميعا عنه مع الإمكان فثبت جواز تيممه وأيضا لا يختلفون أنه لو كان في مفازة وطلب في الماء فلم يجده فتيمم وصلى ثم علم أنه كان هناك بئر مغطى الرأس لم تجب عليه الإعادة ووجود الماء لا يختلف حكمه بأن يكون مالكه أو في نهر أو في بئر فلما كان جهله بماء البئر مخرجه من حكم الوجود كذلك جهله بالماء الذي في رحله فإن قيل لو نسى الطهارة أو الصلاة لم يسقطها النسيان فكذلك نسيان الماء قيل له ظاهر قوله صلّى الله عليه وسلّم رفع عن أمتى الخطأ والنسيان يقتضى سقوطه وكذلك نقول والذي ألزمناه عند الذكر هو فرض آخر غير الأول وأما الأول فقد سقط وإنما ألزمنا الناسي فعل الصلاة وألزمناه الطهارة المنسية بدلالة أخرى وإلا فالنسيان يسقط عنه القضاء لو لا الدلالة وأيضا فلا تأثير للنسيان بانفراده في سقوط الفرض إلا بانضمام معنى آخر إليه فيصيران عذرا في سقوطه نحو السفر الذي هو حال عدم الماء

١٣

فإذا انضم إليه النسيان صار جميعا عذرا في سقوطه وأما نسيان الطهارة والقراءة والصلاة ونحو ذلك فلم ينضم إلى النسيان في ذلك معنى آخر حتى يصير عذرا في سقوط هذه الفرائض ومن جهة أخرى إنا جعلنا النسيان عذرا في الانتقال إلى بدل لا في سقوط أصل الفرض وفي المسائل التي ذكرتها فيها إسقاط الفروض لا نقلها إلى أبدال فلذلك اختلفا* فإن قيل الناسي للماء في رحله هو واجد له* قيل له ليس الوجود هو كون الماء في رحله دون إمكان الوصول إلى استعماله من غير ضرر يلحقه ألا ترى أن من معه ماء وهو يخاف على نفسه العطش يجوز له التيمم وهو واجد للماء فالناسى أبعد من الوجود لتعذر وصوله إلى استعماله ألا ترى أن من ليس في رحله ماء وهو قائم على شفير نهر إنه واجد للماء وإن لم يكن له مالكا لإمكان الوصول إلى استعماله فعلمنا أن الوجود هو إمكان التوصل إلى استعماله من غير ضرر ألا ترى أن الماء لو كان في رحله ومنعه منه مانع جاز له التيمم فعلمنا أن الوجود شرطه ما ذكرنا دون الملك* فإن قيل ما تقول لو كان* على ثوبه نجاسة فنسي الماء في رحله ولم يغسله وصلى فيه هل يجزيه* قيل له لا نعرفها محفوظة عن أصحابنا وقياس قول أبى حنيفة أنه يجزى وكذلك كان يقول أبو الحسن الكرخي فيمن نسى في رحله ثوبا وصلى عريانا أنه يجزيه واختلفوا في تارك الطلب إذا لم يكن بحضرته ماء هل هو غير واجد فقال أصحابنا إذا لم يطمع في الماء ولم يخبره مخبر فليس عليه الطلب ويجزيه التيمم وقال الشافعى عليه الطلب وإن تيمم قبل الطلب لم يجزه وقال أصحابنا إن طمع فيه أو أخبره مخبر بموضعه فإن كان بينه وبينه ميل أو أكثر فليس عليه إتيانه لما يلحقه من المشقة والضرر بتخلفه عن أصحابه وانقطاعه عن أهل رفقته وإن كان أقل من ميل أتاه وهذا إذا لم يخف على نفسه وما معه من لصوص أو سبع ونحوه ولم ينقطع عن أصحابه وإنما قالوا فيمن كانت حاله ما قدمنا أنه يجزيه التيمم وليس عليه الطلب من قبل أنه غير واجد للماء وقال الله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) وهذا غير واجد فإن قالوا لا يكون غير واجد إلا بعد الطلب قيل له هذا خطأ لأن الوجود لا يقتضى طلبا قال الله تعالى (فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ) فأطلق اسم الوجود على ما لم يطلبوه وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم من وجد لقطة فليشهد ذوى عدل ويكون واجدا لها وإن لم يطلبها وقال في الرقبة (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) ومعناه

١٤

ليس في ملكه ولا له قيمتها لا أنه أوجب عليه أن يطلبها فإذا كان الوجود قد يكون من غير طلب فمن ليس بحضرته ماء ولا هو عالم به فهو غير واجد إذا تناوله إطلاق اللفظ لم يجز لنا أن نزيد فيه فرض الطلب لأن فيه إلحاق الزيادة بحكم الآية وذلك غير جائز ويدل عليه أيضا قوله صلّى الله عليه وسلّم جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء وقال لأبى ذر التراب كافيك ولو إلى عشر حجج فإذا وجدت فامسسه جلدك ويدل أيضا على أن الوجود لا يقتضى الطلب أنه قد يكون واجدا لما يحصل عنده من شيء من غير طلب منه من ماء أو غيره فيقال هذا واجد للرقبة إذا كانت عنده وإن لم يطلبها فإن قال قائل ما أنكرت أنه جائز أن يقال إنه واجد لما لم يطالبه ولا يقال إنه غير واجد إلا أن يكون قد طلبه قيل له إذا كان الوجود لا يقتضى الطلب وليس ذلك شرطه فنفى الوجود مثله لأنه ضده فما جاز إطلاقه عليه جاز على عدمه ألا ترى أنه يصح أن يقال هو غير واجد لألف دينار وإن لم يتقدم منه طلب ولو ضاع منه مال جاز أن يقال إنه لم يجده وإن لم يكن منه طلب كما يقال هو واجده وإن لم يطلبه فالوجود ونفيه سواء في أن كل واحد منهما لا يتعلق إطلاق الاسم فيه بالطلب وقد قال الله تعالى (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) فأطلق الوجود في النفي كما أطلقه في الإثبات مع عدم الطلب فيهما* فإن قيل لو كان مع رفيق له ماء فلم يطلبه لم يصح تيممه حتى يطلبه فيمنعه وهذا يدل على وجوب الطلب ويؤكده ما روى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لعبد الله بن مسعود ليلة الجن هل معك ماء فطلبه قيل له أما طلبه من رفيقه فقد روى عن أبى حنيفة أن صلاته جائزة وإن لم يطلبه وأما على قول أبى يوسف ومحمد فإنه لا يجزيه حتى يطلبه فيمنعه وهذا عندنا إذا كان طامعا منه في بذله له وأنه إن لم يطمع في ذلك فليس عليه الطلب ونظيره إن يطمع في ماء موجود بالقرب أو يخبره به مخبر فلا يجوز تيممه لأن غالب الظن في مثله يقوم مقام اليقين كما لو غلب في ظنه أنه إن صار إلى النهر وهو بالقرب منه افترسه سبع أو اعترض له قاطع طريق جاز له أن يتيمم وإن غلب على ظنه السلامة لم يجز له التيمم فليس هذا من قول من يوجب الطلب في شيء وأما حديث عبد الله بن مسعود وسؤال النبي صلّى الله عليه وسلّم إياه الماء وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم وجه عليا في طلب الماء فإن فعله صلّى الله عليه وسلّم ليس على الوجوب وهو عندنا مستحب كما فعله النبي صلّى الله عليه وسلّم وأيضا لا يخلو الذي

١٥

في المفازة وليس بحضرته ماء ولم يطمع فيه من أن يكون واجدا أو غير واجد فإن كان غير واجد جاز تيممه بقوله (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) وبقول النبي صلّى الله عليه وسلّم التراب طهور المسلم ما لم يجد ماء ، فإن قيل إذا كان شرط جواز التيمم عدم الماء فواجب أن لا يجزى حتى يتيقن وجود شرطه كما أنه لما كان شرط جواز الصلاة حضور الوقت لم يجزه فعلها إلا بعد حصول اليقين بدخول الوقت قيل له الفصل بينهما أن الأصل هو عدم الماء في مثل ذلك الموضع وذلك يقين عنده وإنما لا يعلم هل هو موجود في غيره وهل يكون موجودا إن طلب أم لا فليس عليه أن يزول عن اليقين الأول بما لا يعلمه ويشك فيه ووقت الصلاة أيضا كان غير موجود فغير جائز له فعلها بالشك حتى يتيقن وجوده فيهما سواء في هذا الوجه في باب البناء على اليقين الذي كان الأصل فإن قيل قال الله تعالى (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ـ إلى قوله ـ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) فالغسل أبدا واجب وعليه التوصل إليه كيف أمكن فإذا كان قد يمكنه التوصل إليه بالطلب فذلك فرضه قيل له الذي قال (فَاغْسِلُوا) هو الذي قال (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) فوجوب الغسل مضمن بوجود الماء وجواز التيمم مضمن بعدمه وهو عادم له في الحال لا محالة وإنما يزعم المخالف أنه جائز أن يكون واجدا عند الطلب فغير جائز ترك ما حصل من شرط إباحة التيمم لما عسى يجوز أن يكون ويجوز أن لا يكون والذي قاله المخالف كان يلزم لو طمع في الماء وغلب على ظنه وجوده وأخبره به مخبر فأما مع فقد ذلك فقد حصل شرط الآية على الوجه الذي يبيح التيمم فغير جائز لأحد إسقاطه وإيجاب اعتبار معنى غيره وإنما قدر أصحابنا أقل من ميل من قبل لزوم استعماله إذا علم بموضعه وغلب في ظنه ولم يوجبوه ذلك في ميل فصاعدا اجتهادا ولأن الميل هو الحد الذي تقدر به المسافات ولا تقدر بأقل منه في العادة فاعتبروه في ذلك دون ما هو أقل منه كما قلنا في اعتبار أبى يوسف الكثير الفحش أنه شبر في شبر لأنه أقل المقادير التي تقدر بها المساحات ولا تقدر في العادة بأقل منه وروى نافع عن ابن عمر أنه كان يكون في السفر من الماء على غلوتين أو ثلاث فيتيمم ويصلّى ولا يميل إليه وعن سعيد بن المسيب في الراعي يكون بينه وبين الماء ميلان أو ثلاثة وتحضره الصلاة أنه يتيمم ويصلّى وقال الحسن وابن سيرين لا يتيمم من رجا أن يقدر على الماء في الوقت واختلف فيمن وجد الماء وخاف ذهاب الوقت إن لم يتيمم فقال أصحابنا والثوري

١٦

والأوزاعى والشافعى من وجد الماء من مسافر أو مقيم وهو في مصر وهو في آخر الوقت فخاف إن توضأ أن يفوته الوقت لم يجزه إلا الوضوء وقال مالك يجزيه التيمم إذا خاف فوات الوقت وقال الليث بن سعد إذا خاف فوات الوقت إن توضأ يصلّى بتيمم ثم أعاد بالوضوء بعد الوقت والأصل فيه قوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) فأوجب استعمال الماء في حال وجوده ونقله عنه إلى التراب عند عدمه فغير جائز نقله إليه مع وجوده لأنه خلاف الآية وحين أمره الله تعالى بغسل هذه الأعضاء لم يقيده بشرط بقاء الوقت وإدراك فعل الصلاة فيه فهو مطلق في الوقت وبعده وقال الله تعالى (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) فمنعه من فعل الصلاة إذا كان جنبا إلا بعد تقديم الغسل ولم يذكر فيه بقاء الوقت ولا غيره ويدل عليه من جهة السنة قوله صلّى الله عليه وسلّم لأبى ذر التراب كافيك ولو إلى عشر حجج فإذا وجدت الماء فأمسسه جلدك فمتى كان واجدا فعليه استعمال الماء سواء خاف فوت الوقت أو لم يخف لعموم قوله (فَاغْسِلُوا) ولقوله صلّى الله عليه وسلّم التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء فمتى كان وجدا للماء فليس التراب طهورا له فلا تجزيه صلاته ومن جهة النظر أن فرض الطهارة آكد من فرض الوقت بدلالة أنه لا تجز صلاة بغير طهارة وهي جائزة مع فوات الوقت فإن قيل إذا خاف فوت الوقت صلّى بتيمم ليدرك فضيلة الوقت قيل له كيف يكون مدركا لفضيلة الوقت وهو غير مصل لأنه صلّى بغير طهارة فإن قيل التيمم طهور قيل له إنما هو طهور مع عدم الماء كما قال الله تعالى وكما شرطه النبي صلّى الله عليه وسلّم وأما مع وجوده فليس بطهور فالواجب عليك أن تدل أو لا على أنه طهور مع وجود الماء وإمكان استعماله من غير ضرر حتى تبنى عليه بعد ذلك مذهبك في أنه مدرك لفضيلة الوقت فإن قال قائل المسافر إنما أبيح له التيمم ليدرك الوقت لا لأجل عدم الماء قيل له لو كان كذلك لما جاز له التيمم في أول الوقت في حال عدم الماء لأنه غير خائف فوت الوقت وفي اتفاق الجميع على جواز تيممه في أول الوقت دلالة على أن شرط جواز التيمم ليس هو لأجل فوت الوقت* فإن قال لو كان شرط التيمم عدم الماء لما جاز للمريض ولمن يخاف العطش أن يتيمم مع وجود الماء قيل له إنما قلنا بجوازه لأن الوجود هو إمكان استعماله بلا ضرر ولا مشقة لأن الله قد ذكر المريض والمسافر فعدم الماء على الإطلاق شرط وخوف الضرر

١٧

باستعماله أيضا شرط وأنت فلم تلجأ في اعتبارك الوقت لا إلى آية ولا إلى أثر بل الكتاب والأثر يقضيان بطلان قولك فإن قيل لما جازت الصلاة في حال الخوف مع الاختلاف والمشي إلى غير القبلة وراكبا لأجل إدراك الوقت دل على وجوب اعتبار الوقت في جوازها بالتيمم إذا خاف فوته قيل له إنما أبيحت صلاة الخائف على هذه الوجوه لأجل الخوف لا للوقت ولا لغيره والخوف موجود والدليل على ذلك جواز صلاة الخوف في أول الوقت مع غلبة الظن بانصراف العدو قبل خروج الوقت فدل على أنها إنما أبيحت للخوف لا ليدرك الوقت والتيمم إنما أبيح له لعدم الماء فنظير صلاة الخوف من التيمم أن يكون الماء معدوما فيجوز له التيمم فأما حال وجود الماء فهو بمنزلة زوال الخوف فلا يجوز له فعل الصلاة إلا على هيئتها في حال الأمن وإنما جعل صلاة الخوف بمنزلة الإفطار للمسافر وبمنزلة المسح على الخفين في أنها رخصة مخصوصة بحال لا لخوف فوات الوقت وأيضا فإنه إن فات وقته باشتغاله بالوضوء فإنه يصير إلى وقت آخر لها لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال من نام عن صلاة أو نسيها فليصليها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها فأخبر أن وقت الذكر مع فواتها وقت لها كما كان الوقت الذي كان قبله وقتا لها فإذا كان وقت الصلاة باقيا مع فواتها عن الوقت الأول لم يجز لنا ترك الطهارة بالماء لخوف فواتها من وقت إلى وقت وقد وافقنا مالك على وجوب الترتيب بين الفائتة وبين صلاة الوقت وأن الفائتة أخص بالوقت من التي هي في وقتها حتى أنه لو بدأ بصلاة الوقت قبلها لم يجزه فلو كان خوف فوت الوقت مبيحا له التيمم لوجب أن يباح له التيمم بعد الفوات أيضا لأن كل وقت يأتى بعد الفوات هو وقت لها لا يسعه تأخيرها عنه فيلزم مالكا أن يجيز لمن فاتته صلاة أن يصليها بتيمم في أى وقت كان لأن اشتغاله بالوضوء يوجب تأخيرها عن الوقت المأمور بفعلها فيه والمنهي عن تأخيرها عنه ولما اتفق الجميع على أنه غير جائز له فعلها بالتيمم مع خوف فوات وقتها الذي هو مأمور بفعلها فيه إذا اشتغل باستعمال الماء صح أن الوقت لا تأثير له في ترك الطهارة بالماء إلى التيمم* وأما قول الليث بن سعد أنه يتيمم ويصلّى في الوقت ثم يتوضأ ويعيد بعد الوقت فلا معنى له لأنه معلوم أنه لا يعتد بتلك الصلاة فلا معنى لأمره بها وتأخير الفرض الذي عليه تقديمه* واختلف فيمن حبس في موضع قذر لا يقدر على ماء ولا تراب نظيف فقال أبو حنيفة ومحمد وزفر

١٨

لا يصلّى حتى يقدر على الماء إذا كان في المصر وهو قول الثوري والأوزاعي وقال أبو يوسف والشافعى يصلّى ويعيد والحجة لأبى حنيفة ومن قال بقوله قوله تعالى (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ـ إلى قوله ـ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يقبل الله صلاة بغير طهور ومن صلّى بغير وضوء ولا تيمم فقد صلّى بغير طهور فلا يكون ذلك صلاة فلا معنى لأمرنا إياه بأن نفعل ما ليس بصلاة لأجل أن عليه فرض الصلاة وقد قال أبو يوسف إنه يصلّى بالإيماء ثم يعيد فلم يعتد به وأمره بالإعادة فلو كانت هذه صلاة لما كان مأمورا بالإعادة ألا ترى أنه من لم يقدر على الركوع والسجود صلّى بالإيماء ولا يؤمر بالإعادة* فإن قيل قد يأمره إذا كان محبوسا في بيت نظيف أن يتيمم ويعيد* ووجوب الإعادة لم يسقط عنه فعلها بالتيمم* قيل له قد روى الحسن بن أبى مالك عن أبى يوسف عن أبى حنيفة أنه لا يتيمم ولا يصلّى حتى يخرج فهذا مستمر على هذا الأصل وذكر في الأصل أنه يتيمم ويصلّى ويعيد ولم يذكر خلافا وجائز أن يكون هذا قول أبى يوسف وحده فإن كان قولهم جميعا فوجه هذه الرواية على قول أبى حنيفة إن الصلاة بالتيمم قد تكون صلاة صحيحة بحال وهو حال عدم الماء أو خوف الضرورة فلما كان عادما للماء في هذه الحال جاز له التيمم وكان القياس أن يكون كالمسافر إذا كان الماء منه قريبا وخاف السبع أو اللصوص فيجوز له التيمم ولا يعيد فهذا هو القياس إلا أنه ترك القياس وأمره بالإعادة وفرق بين حال السفر والحضر لأن الماء موجود في الحضر وإنما وقع المنع بفعل آدمي وفعل الآدمي في مثله لا يسقط الفرض ألا ترى أنه لو منعه رجل مكرها من فعل الصلاة أصلا أو من فعلها بركوع وسجود وصلّى بالإيماء أنه يعيد ولو كان المنع من فعل الله تعالى بإغماء ونحوه سقط عنه الفرض ولو كان مريضا سقط عنه فعل الركوع إلى الإيماء فاختلف حكم المنع إذا كان بفعل الله أو بفعل الآدمي فكذلك حال الحضر لما كانت حال وجود الماء لم يسقط فرض استعماله بمنع الآدمي منه فأمره بالتيمم وإعادتها بالماء وعلى الرواية الأولى لم يأمره بفعلها لأنه لا يعتد بها فلا معنى للأمر بها فإن قيل فأنت تأمر المحرم الذي لا شعر على رأسه وأراد الإحلال أن يمر الموسى على رأسه متشبها بالحالقين وإن لم يحلق فهلا أمرت المحبوس الذي لا يقدر على الماء والتراب أن يصلّى متشبها بالمصلين وإن لم يكن مصليا وكما تأمر الأخرس بتحريك

١٩

لسانه بالتلبية استحبابا وإن لم يكن ملبيا قيل له الفصل بينهما أن أفعال المناسك قد ينوب عنه الغير فيها في حال فيصير حكم فعله كفعله فجاز أن ينوب عن الحلق إمرار الموسى على رأسه كما يفعله الغير عنه فيجزى وكذلك تلبية الغير قد تنوب عند أبى حنيفة في حال الإغماء فلذلك استحب له تحريك لسانه بها وإن لم يكن ملبيا إذا كان أخرس وأما الصلاة فلا ينوب عنه فيها غيره ولا يجوز أن يفعل ما ليس بصلاة متشابها بالمصلين فيصير هذا الفعل وتركه سواء لا معنى له فلذلك لم يستحبه فإن احتجوا بما روى في قصة قلادة عائشة حين صلت وأن أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم الذين بعثهم لطلب القلادة صلوا بغير تيمم ولا وضوء وأخبروه بذلك ثم نزلت آية التيمم ولم ينكر عليهم فعلها بغير وضوء ولا تيمم قيل له إن آية التيمم لم تكن نزلت وقت ما صلوا ولم يكن التيمم واجبا وأيضا فإنهم لم يؤمروا بالإعادة فينبغي أن يدل على أن لا إعادة على من صلّى بغير وضوء ولا تيمم إذا لم يجدهما فلما قال مخالفونا إنه يعيد علمنا أن حكم من ذكر مخالف لأولئك وأيضا فإن أولئك كانوا واجدين للتراب غير واجدين للماء وأنت لا تقول ذلك فيمن كان في مثل حالهم* واختلف في جواز التيمم قبل دخول الوقت فقال أصحابنا جائز قبل دخول وقت الصلاة لمن لا يجد الماء ويصلّى به الفرض إذا دخل الوقت وقال مالك بن أنس والشافعى لا يجوز إلا بعد دخوله ودليلنا قوله (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) فأمر بالتيمم بعد الحدث إذا عدم الماء ولم يفرق فيه بين حاله قبل دخول الوقت أو بعده وأيضا قال (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) وقد دللنا في أول الكتاب أن معناه إذا أردتم القيام وأنتم محدثون ثم عطف عليه التيمم وأباحه في الحال التي أمر فيها بالوضوء لو كان واجدا للماء وأيضا لما قال تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) وأمر بتقديم الطهارة لها في غير هذه الآية وكانت الطهارة شيئين الماء عند وجوده والتراب عند عدمه اقتضى ذلك جواز تقديم التيمم على الوقت ليصلّى في أوله على شرط الآية ويدل عليه قوله صلّى الله عليه وسلّم التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء وقوله لأبى ذر التراب كافيك ولو إلى عشر حجج ولم يفرق بينه قبل الوقت أو بعده وإنما علق جوازه بعدم الماء لا بالوقت فإن قيل على استدلالنا بقوله تعالى (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) أن ذلك معطوف على قوله (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) وهو مضمر فيه فكان تقديره إذا قمتم إلى الصلاة

٢٠