دروس في البلاغة - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٥

١

٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على سيّدنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآله الطّيّبين الطّاهرين.

هذا هو الجزء الثّاني من كتابنا «دروس في البلاغة» أسأل الله أن يوفّقني لإتمامه لأنّه بالإجابة جدير.

٥
٦

[ثمّ قال] السّكّاكي (١) [ويقرب من (٢)] قبيل [هو قام ، زيد قائم في التّقوّي لتضمّنه] أي لتضمّن قائم [الضّمير (٣)] مثل قام ، فيحصل للحكم تقوّ ، [وشبّهه] أي شبّه السّكّاكي مثل قائم المتضمّن للضّمير [بالخالي عنه] أي عن الضّمير من جهة [عدم تغيّره في التّكلّم والخطاب والغيبة] نحو : أنا قائم ، وأنت قائم ، وهو قائم ، كما لا يتغيّر الخالي عن الضّمير نحو : أنا رجل ، وأنت رجل ، وهو رجل ، وبهذا الاعتبار (٤) قال ـ يقرب ـ ولم يقل : نظيره. وفي بعض النّسخ وشبّهه بلفظ الاسم مجرورا عطفا على تضمّنه يعني أنّ قوله : يقرب

______________________________________________________

(١) أي قال السّكّاكي في المفتاح ، ولفظ «ثمّ» إنّما لمجرّد التّعقيب في الذّكر.

(٢) اعلم أنّ «من» إذا استعمل مع القرب يكون بمعنى إلى فمعنى العبارة : يقرب إلى هو قام ، زيد قائم في إفادة تقوّي الحكم ، يعني أنّ هو قام فيه تقوّي من غير شبهة ، وزيد قائم فيه تقوّي مع شبهة عدمه ، فيكون الثّاني قريبا من الأوّل في إفادة التّقوّي.

(٣) أي لتضمّن قائم الضّمير الرّاجع إلى زيد تضمّنا مثل تضمّن قام ، فيتقوّى الحكم فيهما بتكرّر الإسناد ، لأنّ القيام مسند إلى الضّمير مرّة ، وإلى زيد مرّة أخرى.

قال السّكّاكي في وجه ذلك : إنّما يقرب ، دون أن نظيره ، لأنّ قائم لمّا لم يتفاوت في الخطاب والحكاية ، أي حكاية نفس المتكلّم والغيبة في أنا قائم ، وأنت قائم ، أشبه الخاليّ عن الضّمير ، وهذا ما أشار إليه المصنّف بقوله : «وشبّهه» أي شبّه السّكّاكي مثل قائم المتضمّن للضّمير «بالخالي عنه» أي عن الضّمير من جهة عدم تغيّره في التّكلّم والخطاب والغيبة ، كما لا يتغيّر الخالي عن الضّمير ، فقوله : «وشبّهه» بصيغة الماضي في قوّة التّعليل لأحد الأمرين اللّذين تضمّنهما قوله : «ويقرب» وهو انحطاط زيد قائم ، في التّقوّي عن هو قام ، كما أنّ قوله : «لتضمّنه» تعليل للأمر الآخر ، وهو أنّ فيه شيئا من التّقوّي.

(٤) أي باعتبار كون قائما كالخالي عن الضّمير لا يتغيّر قال السّكّاكي «يقرب» إلى قام ، ولم يقل نظير قام.

وحاصل الكلام في هذا المقام أنّ قائم المتضمّن للضّمير له جهتان جهة يشبه بها الفعل ، وهي جهة تحمّله للضّمير وجهة بها يشبه الاسم الجامد ، وهي عدم تغيّره في الحالات الثّلاث ، فكأنّه لا ضمير فيه ، فبالجهة الأولى قرب من هو قام ، في تقوّي الحكم ، وبالثّانية بعد عنه ، فلم يكن نظيره ، فلأجل هذا جعله قريبا منه ، ولم يجعله نظيرا له.

٧

مشعر بأنّ فيه (١) شيئا من التّقوّي ، وليس (٢) مثل التّقوّي في زيد قام ، فالأوّل (٣) لتضمّنه الضّمير ، والثّاني (٤) لشبهه بالخالي عن الضّمير [ولهذا] أي لشبهه بالخالي عن الضّمير [لم يحكم بأنّه] أي مثل قائم مع الضّمير (٥) وكذا مع فاعله الظّاهر أيضا (٦) [جملة ولا عومل] قائم مع الضّمير [معاملتها] أي معاملة الجملة [في البناء (٧)]

______________________________________________________

(١) أي في نحو : زيد قائم ، شيئا من التّقوّي.

(٢) أي ليس ذلك الشّيء مثل التّقوّي في زيد قام.

(٣) أي كون نحو : زيد قائم مشعرا بأنّ فيه شيئا من التّقوّي لتضمّنه الضّمير الرّاجع إلى المبتدأ ، وهو زيد فقوله : «لتضمّنه الضّمير» علّة لوجود التّقوّي فيه كما عرفت.

(٤) أي كون التّقوّي فيه دون التّقوّي الّذي في هو قام إنّما هو لأجل شبهه بالاسم الجامد الخالي عن الضّمير كرجل مثلا ، فقوله : «لشبهه بالخالي عن الضّمير» علّة للثّاني ، وهو أنّ التّقوّي فيه ليس مثل التّقوّي في زيد قام ، أو هو قام ، فلهذا قال «ويقرب» ولم يقل نظيره ، كما عرفت.

(٥) أي بل حكم أنّه خال عن الضّمير لعدم تغيّره في الخطاب والغيبة والتّكلّم.

(٦) أي كما لم يحكم مع فاعله الضّمير بأنّه مع الضّمير كذلك لم يحكم مع فاعله الظّاهر نحو : زيد قائم أبوه بأنّه جملة ، فزيد قائم أبوه ليس جملة ، ولا معاملا معاملتها لا لشبهه بالخالي بل حملا على ما رفع ضميرا ، فالمشابه بالمشابه بالشّيء مشابه بذلك الشّيء بقياس المساواة ، فلا قصور فيجعله قوله : «وكذا ...» في حيّز التّعليل بقوله : «ولهذا» ويستثنى من كون الاسم المشتقّ مع فاعله غير جملة صورتان ، وهما إذا وقع مبتدأ له فاعل سدّ مسدّ الخبر ، نحو : أقائم الزّيدان ، أو وقع صلة للموصول نحو : جاء القائم أبوه ، لأنّه لا يقدر بالفعل ، كما في حاشية السيّد على المفتاح.

(٧) أي لا يكون اسم الفاعل مع الضّمير مبنيّا كالجملة حيث تكون مبنيّة ، بل هو معرب.

لا يقال : إنّ الجملة من حيث هي لا تستحقّ إعرابا ولا بناء.

لأنّا نقول : إنّه ليس المراد بالبناء المعنى المصطلح ، بل المراد عدم ظهور إعراب متبوعها عليها ، يعني أنّه لم يعامل معاملة الجملة في عدم ظهور إعراب المتبوع عليها ، بل ظهر فيه إعراب المتبوع مخالفا للجملة ، مثل جاءني رجل قائم ، ورأيت رجلا قائما ، ومررت

٨

حيث أعرب في مثل رجل قائم ، ورجلا قائما ، ورجل قائم (١) [وممّا يرى (٢) تقديمه] أي من المسند إليه الّذي يرى تقديمه على المسند (٣) [كاللّازم (٤) لفظ مثل وغير] إذا استعملا على سبيل الكناية (٥) [في نحو : مثلك لا يبخل ، وغيرك لا يجود ،

______________________________________________________

برجل قائم ، فالوصف قد أعرب مع تحمّله للضّمير في هذه الأحوال ، أي أجري عليه إعراب المتبوع لفظا بخلاف الجملة نحو : جاءني رجل قام ، ورأيت رجلا قام ، ومررت برجل قام ، حيث كانت تلك الجملة صفة مبنيّة بمعنى أنّه لم يجر عليها إعراب المتبوع لفظا بل محلا.

(١) أي لو عومل معاملة الجملة في البناء لما تغيّر إعرابه ، لأنّ جزء الجملة لا يتغيّر إعرابه بدخول عوامل.

(٢) أي ممّا يعتقد أو يظنّ تقديمه من المسند إليه الّذي يرى تقديمه على المسند «كاللّازم» لفظ «مثل وغيره» فقوله : «لفظ مثل» مبتدأ مؤخّر «وممّا يرى» بلفظ مضارع مجهول خبر مقدّم.

ويجوز أن يكون على صيغة المتكلّم المبنيّ للفاعل أي «وممّا يرى تقديمه».

(٣) أي على الخبر الفعلي أي من الأسباب المقتضية لتقديم المسند إليه لفظ مثل وغيره.

(٤) أي مثل اللّازم في القياس من حيث إنّه لازم في الاستعمال ، والحاصل إنّه لم يقل لازما ، بل قال كاللّازم ، كي يكون إشارة إلى أنّ القواعد لا تقتضي وجوب التّقديم ، ولكن اتّفق أنّهما لم يستعملا في الكناية إلّا مقدّمين ، فأشبههما ما اقتضت القواعد تقديمه حتّى لو استعملا بخلافه عند قصد الكناية بأن قيل : لا يبخل مثلك ، ولا يجود غيرك كان كلاما منبوذا عند البلغاء ولو اقتضت القواعد جوازه ، وبالجملة إنّ تقديم مثل وغيره ، وإن لم يكن لازما قياسا ، إلّا أنّه كاللّازم في القياس. وخصّهما بالذّكر لأنّهما المستعملان في كلامهم مع أنّ القياس أيضا يقتضي أن يكون ما هو بمعناهما كالمماثل والمغاير كذلك.

(٥) أي وهي إطلاق اسم الملزوم وإرادة اللّازم بأن لا يقصد بلفظ مثل أو غير إنسان معيّن ، بل يقصد بهما غير معيّن ، أي كلّ إنسان يفرض مثلك في الصّفة في نحو : مثلك لا يبخل ، وكلّ إنسان هو مغاير لك كائنا من كان في نحو : لا يجود غيرك ، فإذا انتفى البخل عن كلّ مماثل للمخاطب يلزم نفيه عنه ، وإذا انتفى الجود عن كلّ غير ، انحصر الجود في المخاطب ، لأنّ الجود صفة وجوديّة لا بدّ لها من محلّ تقوم به ، هذا معنى الكناية ، ثمّ المجوّز لوقوع مثل وغير مبتدأ تخصيصهما بالإضافة وإن لم يتعرّفا بها لتوغّلهما في الإبهام.

٩

بمعنى أنت (١) لا تبخل ، وأنت تجود من غير إرادة تعريض بغير المخاطب (٢)] بأن يراد بالمثل والغير إنسان آخر مماثل للمخاطب (٣)

______________________________________________________

(١) أي لا بمعنى أنّ إنسانا آخر مثلك أو غيرك كذلك فقوله : «أنت لا تبخل وأنت تجود» لفّ ونشر مرتّب ، وتوضيح ذلك : أنّك إذا مثلك لا يبخل ، فقد نفيت البخل عن كلّ مماثل للمخاطب ، أي عن كلّ من كان متّصفا بصفاته ، والمخاطب من هذا العامّ لأنّه متّصف بتلك الصّفات ، فيلزم أنّه لا يبخل للزوم حكم الخاصّ لحكم العامّ ، فقد أطلق اسم الملزوم ، وهو نفي البخل عن المماثل وأريد اللّازم ، وهو نفيه عن المخاطب ، وكذا إذا قيل : غيرك لا يجود ، لأنّه إذا نفى الجود عن الغير على وجه العموم انحصر الجود في المخاطب على نحو الكناية ، فقد استعمل لفظ الغير في المعنى الموضوع له ، وهو نفي الجود عن كلّ مغاير ، وأريد لازمه وهو إثبات الجود للمخاطب ، وإنّما هو على سبيل الكناية إذا لم يكن هناك إرادة تعريض بغير المخاطب.

ومعنى التّعريض أن يتكلّم الإنسان بكلام يظهر من نفسه شيء ومراده شيء آخر ، كما يقال في التّعريض بمن يؤذي المسلمين : المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه ، فإنّه كناية عن نفي صفة الإسلام عن المؤذي.

قال صاحب الكشّاف : التّعريض : أن تذكر شيئا تدلّ به على شيء آخر لم تذكره ، كما يقول المحتاج للمحتاج إليه : جئتك لأسلّم عليك فكأنّه أمال الكلام إلى عرض يدلّ على المقصود ، ويسمّى التّلويح ، لأنّه يلوّح منه ما يريده.

(٢) إنّما قيّد بقوله : «من غير إرادة تعريض ...» لأنّه لو أريد بهما التّعريض لغير المخاطب يلزم خلاف المقصود ، لأنّ المراد بقولك : مثلك لا يبخل ، وغيرك لا يجود ، حين إرادة التّعريض ، هو إنسان غير المخاطب مماثل له ، أو غير مماثل. فمعنى مثلك لا يبخل ، أي أنت تبخل ، وغيرك لا يجود ، أي أنت لا تجود ، فيلزم انقلاب المدح إلى الذّمّ ، وهو خلاف المقصود ، فحينئذ يخرج لفظ مثل وغير ، ممّا نحن فيه ، فلا يكون تقديمهما كاللّازم ، لأنّ التّقديم إنّما كان كاللّازم فيما لم يراد منهما التّعريض بغير المخاطب.

(٣) في المثال الأوّل وهو مثلك لا يبخل ، «أو غير مماثل» في المثال الثّاني وهو غيرك لا يجود ، ثمّ قوله : «بأن يراد بالمثل والغير» إنسان آخر ... بيان لإرادة التّعريض.

١٠

أو غير مماثل ، بل المراد نفي البخل عنه (١) على طريق الكناية لأنّه (٢) إذا نفى عمّن كان على صفته من غير قصد إلى مماثل لزم نفيه عنه وإثبات الجود له بنفيه عن غيره (٣) مع اقتضائه محلا يقوم به ، وإنّما يرى التّقديم في مثل هذه (٤) الصّورة كاللّازم [لكونه] أي التّقديم [أعون على المراد (٥) بهما] أي بهذين التّركيبين لأنّ الغرض منهما إثبات الحكم بطريق الكناية الّتي هي أبلغ من التّصريح (٦)

______________________________________________________

(١) أي عن المخاطب على طريق الكناية كما سبق ، و «بل» إضراب من غير إرادة تعريض ، وقوله : «على طريق الكناية» لم يجعل هذين المثالين على طريق المجاز من ذكر الملزوم وإرادة اللّازم لجواز إرادة المعنى الحقيقيّ ، وفي المجاز لا يمكن بين إرادة المعنى المجازيّ والحقيقيّ ، لأنّ القرينة الدّالّة على المعنى المجازيّ مانعة عن إرادة المعنى الحقيقيّ.

(٢) توجيه للكناية ، وبيان للزوم المحقّق لها ، أي إذا نفى البخل عن كلّ مماثل للمخاطب ، وعن كلّ من كان على صفة المخاطب من غير قصد إلى إنسان معيّن مماثل للمخاطب لزم نفي البخل عن المخاطب فيرجع المعنى إلى قولنا : أنت لا تبخل وهو المقصود.

(٣) أي عن غير المخاطب فقوله : «وإثبات الجود له ...» توجيه للكناية في المثال الثّاني أعني غيرك لا يجود ، أي إثبات الجود للمخاطب ، إنّما هو بسبب نفي الجود عن غير المخاطب مع اقتضاء الجود من يقوم به ، فيرجع المعنى إلى قولنا : أنت تجود ، لأنّه إذا نفى الجود عن كلّ غير لزم إثباته للمخاطب ، فقوله : «مع اقتضائه محلا» من جملة الدّليل.

وجه الاقتضاء : أنّ الجود صفة موجودة في الخارج ، وكلّ ما هو موجود كذلك لا بدّ له من محلّ فإذا انتفى عن الغير تعيّن المخاطب.

(٤) الأولى أن يقول : في مثل هاتين الصّورتين.

(٥) أعون من التّأخير ، فاسم التّفضيل ليس على بابه لأنّ التّأخير لا إعانة فيه ، فالمعنى أنّ التّقديم كان معينا على المراد وهو المدح على سبيل المبالغة ، فالباء في قوله : «بهما» متعلّق ب «المراد» ، لا ب «أعون».

(٦) لأنّ الكناية كدعوى الشّيء ببيّنة ، إذ وجود الملزوم دليل على وجود اللّازم. فقولك : فلان كثير الرّماد ، في قوّة قولك : فلان كريم ، لأنّه كثير الرّماد ، وفي المقام قولك : غيرك لا يجود ، في قوّة قولك : أنت تجود ، لأنّ غيرك لا يجود.

١١

والتّقديم لإفادته (١) التّقوّي أعون على ذلك ، وليس معنى قوله (٢) : كاللّازم أنّه قد يقدّم ، وقد لا يقدّم ، بل المراد أنّه كان مقتضى القياس أن يجوز التّأخير ، لكن لم يرد الاستعمال إلّا على التّقديم كما نصّ (٤) عليه (٥) في دلائل الإعجاز [قيل (٦) : وقد يقدّم] المسند إليه المسوّر (٧) بكلّ على المسند المقرون بحرف النّفي.

______________________________________________________

(١) علّة لقوله : «أعون» مقدّم عليه ، فمعنى العبارة : أنّ التّقديم معيّن على ذلك ، أي على إثبات الحكم بالطّريق الأبلغ الحاصل بالكناية.

(٢) أي قول المصنّف.

(٣) أي لفظ مثل ، وهو المسند إليه قد يقدّم وقد لا يقدّم ، يعني أنّه ليس مراد المصنّف «بل المراد أنّه» أي الشّأن «كان مقتضى القياس أن يجوز التّأخير» وذلك لأنّ المطلوب وهو أنت لا تبخل ، أو أنت تجود ، حاصل بالكناية وهي حاصلة مع التّأخير كالتّقديم ، فإذا قلت : لا يبخل مثلك ولا يجود غيرك ، يحصل به المعنى المذكور أيضا «لكن لم يرد الاستعمال إلّا على التّقديم».

(٤) أي الشّيخ عبد القاهر.

(٥) أي على عدم الاستعمال.

(٦) أي القائل جماعة منهم ابن مالك ، وإنّما أتى بصيغة التّمريض لا لضعف ما قالوا ، فإنّ ما حكموا به مسلّم كما يأتي ، بل لضعف ما استدلّوا به ، ويظهر ما ذكرنا ممّا يأتي ، فانتظر. ثمّ الواو إمّا للعطف على ما قبله في كلام القائل أو للاستئناف.

(٧) أي المسوّر بلفظ كلّ ، والسّور لفظ دالّ على كمّيّة أفراد الموضوع ، وفي هذا الكلام إشارة إلى مذهب المنطقي في كون الموضوع مدخول كلمة كلّ ، وكلمة كلّ سور تدلّ على كمّيّة أفراد الموضوع ، وإلّا فالنّحاة يجعلون الموضوع لفظ كلّ ، أي لفظ كلّ هو الموضوع والمبتدأ عندهم.

والحاصل : أنّه يقدّم المسند إليه المسوّر بكلّ أو ما يجري مجراه في إفادة العموم لكلّ فرد فرد كاللّام الاستغراقيّة وغيرها ، وأشار الشّارح بهذا القيد إلى شرط واحد من شروط وجوب تقديم المسند إليه ، لأنّه لو لا المقارنة بكلّ لم يجب تقديمه نحو : زيد لم يقم ، ولم يقم زيد ، لعدم فوات العموم إذ لا عموم فيه وأشار بقوله : «المقرون بحرف النّفي» إلى الشّرط الثّاني ،

١٢

[لأنّه] أي التّقديم [دالّ على العموم (١)] أي على نفي الحكم (٢) عن كلّ فرد من أفراد ما أضيف إليه لفظ كلّ [نحو : كلّ إنسان لم يقم (٣)] فإنّه (٤) يفيد نفي القيام عن كلّ واحد من أفراد الإنسان [بخلاف (٥) ما لو أخّر نحو : لم يقم كلّ إنسان ،

______________________________________________________

فإنّه لو لا المقرونيّة المذكورة لم يجب تقديمه أيضا نحو : كلّ إنسان قام ، وقام كلّ إنسان لعدم فوات العموم فيه بالتّقديم والتّأخير لحصوله مطلقا سواء قدّم أو أخّر ، وبقي شرط ثالث وهو أن يكون الموضوع ، أي المسند إليه بحيث لو أخّر كان فاعلا لفظيّا بخلاف كلّ إنسان لم يقم أبوه ، فإنّه لو أخّر كلّ إنسان بأن قيل : لم يقم أبو كلّ إنسان لم يكن فاعلا لفظيّا لأخذ المسند فاعله فلا يجب التّقديم في تلك الحالة لعدم فوات العموم لأنّه حاصل على كلّ حال قدّم أو أخّر.

فإن من أين أخذ الشّارح التقييد بما ذكر مع أنّ كلام المصنّف مطلق.

من السّياق والأمثلة وحينئذ يكون «قد» في قوله : «وقد يقدّم» للتّحقيق كما في الدّسوقي.

(١) أي على عموم السّلب ، وهو نفي الحكم عن كلّ فرد فرد ، والحاصل أنّه إذا كان المسند إليه مستوفيا للشّروط المذكورة ، وكان قصد المتكلّم العموم ، فيجب عليه أن يقدّم المسند إليه لإفادة مقصوده ، وفي التّأخير لا يحصل مقصوده ، فالغرض من قول المصنّف «لأنّه دالّ على العموم» بيان للحالة الّتي لأجلها ارتكب التّقديم لا استدلال عقليّ إذ هذا أمر نقليّ ، والواجب إثباته بالنّقل.

(٢) والمراد بالحكم هنا هو المحكوم به.

(٣) أي لم يقم كلّ فرد من أفراد الإنسان.

(٤) أي تقديم المسند إليه ، وهو الإنسان «يفيد ...».

(٥) أي بخلاف تأخير المسند إليه المسوّر بكلّ عن المسند على تقدير كون ما مصدريّة فحينئذ لا توجد فائدة لكلمة «لو» فكان الأوضح بخلاف التّأخير من دون ما ولو ، وقيل : كلمة ما زائدة ، ولو شرطيّة ، جزاؤها قوله : «فإنّه يفيد ...» إن جاز وقوع الجملة الاسميّة جوابا للو ، كما في المغني ، ومحذوف إن لم يجز ، كما في الرّضى ، أي لم يدلّ على العموم وقوله : «فإنّه» تعليل له.

١٣

فإنّه (١) يفيد نفي الحكم عن جملة الأفراد لا عن كلّ فرد] فالتّقديم يفيد عموم السّلب وشمول النّفي ، والتّأخير لا يفيد إلّا سلب العموم ونفي الشّمول [وذلك (٢)] أي كون التّقديم مفيدا للعموم دون التّأخير [لئلّا يلزم (٣) ترجيح التّأكيد] وهو أن يكون لفظ كلّ لتقرير المعنى الحاصل قبله [على التّأسيس] وهو أن يكون لإفادة

______________________________________________________

(١) أي تأخير المسند إليه المسوّر بكلّ «يفيد نفي الحكم» أي المحكوم به «عن جملة الأفراد» أي عن بعض الأفراد ، فيلزم الإيجاب الجزئي ، أو معنى «عن جملة الأفراد» أي عن مجموع الأفراد من حيث المجموع «لا عن كلّ فرد» فلفظ كلّ في الصّورة الأولى ، أي تقديم المسند إليه نحو : كلّ إنسان لم يقم مفيد للعموم العددي الأفرادي ، وفي الصّورة الثّانية أعني قولنا : لم يقم كلّ إنسان مفيد للعموم المجموعي ، وإذا ثبت ذلك ، فالتّقديم يفيد عموم السّلب ، وشمول النّفي لكلّ فرد فرد ، والتّأخير لا يفيد ذلك ، بل يفيد سلب عموم الإيجاب ونفي شموله لكلّ فرد فرد ، فيجوز أن يكون بعضهم قاعدا وبعضهم قائما ، والفرق بين عموم السّلب المستفاد من التّقديم وبين سلب العموم المستفاد من التّأخير أنّ عموم السّلب معناه السّلب الكلّي المستلزم للسّلب الجزئيّ ، وسلب العموم معناه السّلب الجزئيّ المجامع مع الإيجاب الجزئي.

(٢) من هنا يبدأ المصنّف في ذكر الاستدلال على الفرق المذكور.

(٣) أي لو لم يكن التّقديم مفيدا لعموم النّفي والتّأخير مفيدا لنفي العموم ، بل كان الأمر بالعكس للزم ترجيح التّأكيد على التّأسيس ، لكنّ اللّازم والتّالي باطل ، لأنّ التّأسيس خير من التّأكيد ، إذ حمل الكلام على الإفادة كما هو في التّأسيس خير من حمله على الإعادة كما في التّأكيد ، فالملزوم والمقدّم مثله في البطلان ، والنّتيجة هي ترجيح التّأسيس على التّأكيد ، والقياس الاستثنائي إنّما ينتج إذا تمّ الأمران : الملازمة بين المقدّم والتّالي وإثبات بطلان التّالي ، وبطلان التّالي واضح في المقام ، وقد أشار إلى الملازمة بقوله : «وبيان لزوم ترجيح التّأكيد على التّأسيس ...».

وحاصل الكلام في بيان الملازمة أنّ تقديم المسند إليه المنكّر بدون كلّ ، نحو : إنسان لم يقم ، لسلب العموم ونفي الشّمول وتأخيره نحو : لم يقم إنسان لعموم السّلب ، وشمول النّفي ، فبعد دخول كلمة كلّ فيهما يجب أن يعكس الأمر ليكون لفظ كلّ للتّأسيس الرّاجح للتّأكيد

١٤

معنى جديد مع أنّ التّأسيس راجح ، لأنّ الإفادة خير من الإعادة ، وبيان لزوم ترجيح التّأكيد على التّأسيس أمّا في صورة التّقديم (١) ، فلأنّ قولنا : إنسان لم يقم موجبة مهملة أمّا الإيجاب ، فلأنّه حكم فيها بثبوت عدم القيام لإنسان لا بنفي القيام عنه لأنّ حرف السّلب وقع جزء من المحمول (٢) ، وأمّا الإهمال (٣) فلأنّه لم يذكر فيها ما يدلّ على كمّيّة أفراد

______________________________________________________

المرجوح ، كما في حاشية الدّسوقي.

فلو لم يكن التّقديم مفيدا لعموم النّفي والتّأخير مفيدا لنفي العموم يلزم ترجيح التّأكيد على التّأسيس واللّازم باطل ، لأنّ التّأسيس خير من التّأكيد ، إذ حمل الكلام على الإفادة خير من حمله على الإعادة والملزوم مثله في البطلان ، هذا ملخّص الكلام وأمّا التّفصيل فمذكور في الشّرح.

(١) أي أمّا بيان لزوم ترجيح التّأكيد على التّأسيس في صورة التّقديم إن لم يجعل لفظ كلّ لعموم السّلب «فلأنّ قولنا : إنسان لم يقم» قبل دخول كلّ «موجبة مهملة» أي لا سور لها ، أي أهمل فيها بيان كمّيّة أفراد المحكوم عليه معدولة المحمول ، لأنّ حرف السّلب قد جعل جزء من المحمول لا ينفصل عنه ، ثمّ أثبت للموضوع هذا المحمول المركّب من الإيجاب والسّلب ، فلا يمكن تقدير الرّابطة بعد حرف السّلب ، كما يمكن في زيد ليس بكاتب ، أي زيد ليس هو بكاتب.

فالحاصل إنّ قول الشّارح : «إنسان لم يقم موجبة مهملة» يتضمّن أمرين ، أي الإيجاب والإهمال ، فلابدّ من إثباتهما ، وقد أشار إلى إثبات الأوّل بقوله : «أمّا الإيجاب» أي أمّا كونها موجبة «فلأنّه» أي الشّأن «حكم فيها» أي في هذه القضيّة «بثبوت عدم القيام لإنسان» فتكون موجبة معدولة المحمول «لا بنفي القيام عنه» أي لم يحكم بنفي القيام عن الإنسان حتّى تكون سالبة محصّلة.

(٢) إذ لا يمكن تقدير الرّابطة بعد حرف السّلب الّذي هو «لم» فلا يصحّ أن يقال : إنسان لم هو يقم ، لأنّ لم شديدة الاتّصال بالفعل فلا يفصل بينهما بالرّابطة ، فيجب تقدير الرّابطة قبل حرف السّلب ، فتكون موجبة معدولة المحمول ، لأنّ فيها ربط السّلب ، ولا يصحّ سلب الرّبط كي تكون سالبة محصّلة ، فتعيّن أن تكون موجبة معدولة المحمول.

(٣) أي وأمّا كونها قضيّة مهملة «فلأنّه» أي الشّأن «لم يذكر فيها» أي في هذه القضيّة «ما

١٥

الموضوع مع أنّ الحكم فيها (١) على ما صدق عليه الإنسان (٢) وإذا كان إنسان لم يقم موجبة مهملة يجب أن يكون معناه نفي القيام عن جملة الأفراد (٣) لا عن كلّ فرد (٤) [لأنّ الموجبة (٥) المهملة المعدولة (٦) المحمول في قوّة السّالبة الجزئيّة] عند وجود الموضوع (٧) ، نحو : لم يقم بعض الإنسان ، بمعنى أنّهما متلازمان في الصّدق

______________________________________________________

يدلّ» أي أداة السّور الّتي تدلّ «على كمّيّة أفراد الموضوع» وهو الإنسان في هذه المسألة.

(١) أي في القضيّة ، هذا الكلام إنّما هو من تتمّة كونها مهملة واحترز به عن الطّبيعة كالإنسان ، فإنّ الحكم فيها على نفس الطّبيعة لا على الأفراد.

(٢) أي من الأفراد لا على الطّبيعة.

(٣) أي عن الأفراد مجملة غير مفصّلة بكونها كلّ الأفراد أو بعضها والمتيقّن منها بعض الأفراد ، فلا ينافي ما سيأتي في كلام الشّارح وهو قوله : «أعمّ من أن يكون جميع الأفراد أو بعضها» فمعنى كلام الشّارح يجب أن يكون محصّل معناها نفي القيام عن جملة الأفراد. ثمّ قوله : «وإذا كان إنسان لم يقم ...» مرتبط بقوله : «فلأنّ قولنا إنسان لم يقم موجبة مهملة».

(٤) أي لا عن كلّ فرد فقط كي ينافي قوله الآتي : «أعمّ من أن يكون جميع الأفراد ..».

(٥) هذا بيان لعلّة لزوم ترجيح التّأكيد على التّأسيس لو انعكس المفاد بالتّقديم.

(٦) للقضيّة تقسيمات ، كما في علم المنطق فمنها تقسيمها إلى المعدولة والمحصّلة ، وذلك إنّ حرف السّلب قد يجعل جزء للموضوع أو المحمول أو لهما. فعلى الأوّل : تسمّى معدولة الموضوع : كقولنا : اللّا حيّ جماد. وعلى الثّاني : تسمّى معدولة المحمول كقولنا : الجماد لا حيّ. وعلى الثّالث : تسمّى معدولة الطّرفين كقولنا : اللّاحي لا عالم.

وعلى جميع التّقادير إمّا سالبة أو موجبة ، ووجه التّسميّة بالمعدولة : أنّ حرف السّلب كليس وغير ولا ، إنّما وضعت في الأصل للسّلب والرّفع ، فإذا جعل جزء للقضيّة فقد عدل عن موضوعه الأصليّ إلى غيره فتسمّى معدولة من باب تسميّة الكلّ باسم الجزء ، وإذا لم يجعل حرف السّلب جزء من القضيّة تسمّى محصّلة لكون طرفيها أمرا محصّلا ووجوديّا.

(٧) وإنّما قال «عند وجود الموضوع» لأنّ المنفيّ عن البعض وثبوته لبعض لا يتصوّر إلّا في القضيّة التي موضوعها موجود ، إذ لو لم يوجد الموضوع لا يمكن كون الموجبة المهملة المعدولة في قوّة السّالبة الجزئيّة نحو : شريك الباريّ غير بصير ، لأنّ المعنى هو أنّ عدم

١٦

لأنّه (١) قد حكم في المهملة بنفي القيام عمّا صدق عليه الإنسان أعمّ من أن يكون جميع الأفراد أو بعضها ، وأيّا ما كان يصدق نفي القيام عن البعض ، وكلّما صدق نفي القيام عن البعض صدق نفيه عمّا صدق عليه الإنسان في الجملة فهي (٢) في قوّة السّالبة الجزئيّة المستلزمة (٣) نفي الحكم عن الجملة لأنّ (٤) صدق السّالبة الجزئيّة الموجودة الموضوع إمّا بنفي الحكم عن كلّ فرد أو نفيه عن البعض مع ثبوته للبعض ، وأيّا ما كان يلزمها (٥) نفي الحكم عن جملة الأفراد (٦)

______________________________________________________

البصر ثابت لشريك الباريّ فلابدّ أن يكون موجودا في نفسه حتّى يمكن ثبوت شيء له ، وهو ممتنع الوجود ، فلابدّ أن يكون الموضوع موجودا.

(١) بيان للملازمة بين الموجبة المهملة المعدولة محمولا وبين السّالبة الجزئيّة ، والضّمير للشّأن ، والحاصل إنّ مفاد المهملة المعدولة محمولا هو نفي القيام عمّا صدق عليه الإنسان أعمّ من أن يكون نفي القيام عن جميع الأفراد أو بعضها ، وعلى كلا التّقديرين يصدق نفي القيام عن البعض ، وبالعكس أي كلّما صدق نفي القيام عن البعض صدق نفيه عمّا صدق عليه الإنسان في الجملة أي بدون تفصيل الكلّ أو البعض وهو معنى الموجبة المهملة المعدولة المحمول.

(٢) أي الموجبة المهملة المعدولة «في قوّة السّالبة الجزئيّة» فقوله : «فهي ...» تفريع على الدّليل بشقّيه ، أي فظهر من هذا البيان أنّ الموجبة المهملة المعدولة في قوّة السّالبة الجزئيّة.

(٣) صفة للسّالبة الجزئيّة في قول المصنّف أي «السّالبة الجزئيّة المستلزمة نفي الحكم عن الجملة» أي عن جملة الأفراد لا عن كلّ فرد فيشمل نفي الحكم ـ بمعنى المحكوم به ـ عن البعض.

(٤) هذا التّعليل دليل لقول المصنّف : «المستلزمة نفي الحكم ...».

(٥) أي يلزم السّالبة الجزئيّة.

(٦) أي هذا بعينه مفهوم الموجبة المعدولة المحمول ، والحاصل إنّ الموجبة المهملة المعدولة المحمول مستلزمة للسّالبة الجزئيّة ، لأنّ نفي الحكم فيها إمّا عن الكلّ أو البعض ، وعلى التّقديرين ينفى الحكم عن البعض وهو معنى السّالبة الجزئيّة.

١٧

[دون كلّ فرد (١)] لجواز أن يكون منفيّا عن البعض ثابتا للبعض (٢) وإذا كان (٣) إنسان لم يقم بدون كلّ ، معناه نفي القيام عن جملة الأفراد لا عن كلّ فرد فلو كان بعد دخول كلّ أيضا معناه كذلك كان كلّ لتأكيد المعنى الأوّل ، فيجب أن يحمل على نفي الحكم عن كلّ فرد ليكون كلّ لتأسيس معنى آخر ترجيحا للتّأسيس على التّأكيد ، وأمّا (٤) في صورة التّأخير ، فلأنّ قولنا : لم يقم إنسان سالبة مهملة لا سور فيها (٥).

______________________________________________________

(١) أي دون النّفي عن كلّ فرد أعني إنّ النّفي عن كلّ فرد غير متيقّن ، وذلك لاحتمال أن يكون الحكم منفيّا عن البعض وثابتا للبعض ، بخلاف نفي الحكم عن البعض حيث يكون متيقّنا ، لأنّ نفي الحكم عن كلّ فرد مستلزم لنفي الحكم عن بعض الأفراد ، فالنّفي عن البعض هو المتيقّن ، هذا معنى كون الموجبة المهملة المعدولة المحمول في قوّة السّالبة الجزئيّة ، ثمّ السّالبة الجزئيّة أيضا تستلزم نفي الحكم عن جملة الأفراد ، وهذا معنى الموجبة المهملة المعدولة المحمول ، فثبت التّلازم بينهما.

(٢) أي ثابتا للبعض الآخر.

(٣) أي إذا ثبت أنّ معنى قولنا : إنسان لم يقم ، بدون لفظ كلّ ، هو نفي القيام عن جملة الأفراد لا عن كلّ فرد ، فلو كان بعد دخول كلّ أيضا كذلك كان لتأكيد المعنى الأوّل ، فيلزم ترجيح التّأكيد المرجوح على التّأسيس الرّاجح ، فيجب أن يحمل بعد دخول كلّ على نفي الحكم عن كلّ فرد ليكون لفظ كلّ لإفادة معنى آخر ترجيحا للتّأسيس على التّأكيد ، فقوله : «إذا كان إنسان لم يقم ...» مرتبط بقوله سابقا : «وإذا كان إنسان لم يقم موجبة مهملة».

(٤) بفتح الهمزة عطف على قوله : «أمّا في صورة التّقديم» ، فالمعنى وأمّا بيان لزوم ترجيح التّأكيد على التّأسيس في صورة تأخير المسند إليه عن المسند «فلأنّ قولنا : لم يقم إنسان سالبة مهملة لا سور فيها».

(٥) بيان للإهمال ، وتفسير لقوله : «مهملة» ، وحاصل الكلام : إنّ قولنا : لم يقم إنسان ، سالبة مهملة ، وهي في قوّة السّالبة الكلّيّة المقتضية لنفي الحكم عن كلّ فرد ، لأنّ وقوع النّكرة في سياق النّفي يفيد العموم ، أي نفي الحكم عن كلّ فرد ، فمعنى قولنا : لم يقم إنسان ، بدون كلّ هو نفي القيام عن كلّ فرد ، فلو كان بعد دخول كلّ أيضا كذلك كان لتأكيد المعنى الأوّل ، فيلزم ترجيح التّأكيد على التّأسيس ، عن جملة الأفراد ليكون كلّ لإفادة معنى آخر لئلّا يلزم

١٨

[والسّالبة المهملة في قوّة السّالبة الكلّيّة المقتضية (١) للنّفي عن كلّ فرد] نحو : لا شيء من الإنسان بقائم ، ولمّا كان هذا (٢) مخالفا لما عندهم من أن المهملة في قوّة الجزئيّة بيّنه (٣)

______________________________________________________

فيجب أن يحمل على نفي القيام ترجيح التّأكيد المرجوح على التّأسيس الراجح. هذا ملخّص الكلام ، والتّفصيل في كلام الشّارح.

(١) وإنّما قال المصنّف في الأوّل ـ أعني السّالبة الجزئيّة ـ المستلزمة ، وهنا المقتضية ، لأنّ السّالبة الجزئيّة تحتمل نفي الحكم عن كلّ فرد ، وتحتمل نفيه عن بعض وثبوته لبعض ، وعلى التّقديرين تستلزم نفي الحكم عن جملة الأفراد ، فلهذا قال بلفظ الاستلزام بخلاف السّالبة الكلّيّة ، فإنّها تقتضي بصريحها نفي الحكم عن كلّ فرد ، فلهذا قال بلفظ الاقتضاء.

(٢) أي لمّا كان هذا الحكم ـ أعني كون السّالبة المهملة في قوّة السّالبة الكلّيّة ـ «مخالفا لما» أي القاعدة «عندهم» أي عند المنطقيّين «من أنّ المهملة في قوّة الجزئيّة» بيان لما عندهم من القاعدة.

(٣) جواب لقوله : «لمّا» أي لمّا كان الحكم بأنّ السّالبة المهملة في قوّة السّالبة الكلّيّة مخالفا لما عند المنطقيّين من أنّ المهملة في قوّة الجزئيّة «بيّنه» أي بيّن المصنّف ذلك الحكم بقوله : «لورود موضوعها في سياق النّفي» فيكون هذا التّعليل من المصنّف مخصّصا لما تقرّر عند المنطقيّين من القاعدة أعني : أنّ المهملة في قوّة الجزئيّة.

وهذه القاعدة عندهم إنّما هي في غير ما موضوعها في سياق النّفي ، وهو نكرة غير مصدّرة بكلّ ، وهذا صادق في ثلاث صور :

الأولى : ما إذا كان موضوعها معرفة نحو : الإنسان لم يقم.

الثّانية : ما إذا كان موضوعها نكرة ، ولم يتقدّمه نفي نحو : إنسان لم يقم.

الثّالثة : ما إذا كان موضوعها نكرة وتقدّمه نفي ، ولكن كانت النّكرة مصدّرة بكلّ نحو : لم يقم كلّ إنسان ، فالمهملة السّالبة في هذه الصّورة في قوّة السّالبة الجزئيّة.

وهنا صورة رابعة : وهي إذا كان موضوعها نكرة غير مصدّرة بكلّ واقعا في سياق النّفي فإنّها تكون في قوّة السّالبة الكلّيّة نحو : لم يقم إنسان ، ولذا قال المصنّف «لورود موضوعها في سياق النّفي» احترازا عن الصّور الثّلاث المذكورة ، فالصّورة الرّابعة هي مفيدة لعموم النّفي دون الصّور الثّلاث.

١٩

بقوله : [لورود موضوعها] أي موضوع المهملة [في سياق النّفي] حال كونه نكرة غير مصدّرة بلفظ كلّ ، فإنّه (١) يفيد نفي الحكم عن كلّ فرد ، وإذا كان لم يقم إنسان بدون كلّ معناه (٢) نفي القيام عن كلّ فرد ، فلو كان بعد دخول كلّ أيضا كذلك كان كلّ لتأكيد المعنى الأوّل ، فيجب أن يحمل على نفي القيام عن جملة الأفراد ليكون كلّ لتأسيس معنى آخر وذلك (٣) لأنّ لفظ (٤) كلّ في هذا المقام لا يفيد إلّا أحد هذين المعنيين فعند انتفاء أحدهما يثبت الآخر ضرورة ، والحاصل (٥) إنّ التّقديم بدون كلّ لسلب العموم ونفي الشّمول والتّأخير (٦) لعموم السّلب وشمول النّفي ، فبعد دخول كلّ يجب أن يعكس (٧) هذا ليكون كلّ للتّأسيس الرّاجح دون التّأكيد المرجوح [وفيه (٨) نظر لأنّ النّفي عن الجملة في الصّورة الأولى]

______________________________________________________

(١) أي النّكرة في سياق النّفي أو الموضوع ، النّكرة في سياق النّفي «يفيد نفي الحكم عن كلّ فرد».

(٢) أي معنى قولنا : لم يقم إنسان ، بأن يكون لعموم السّلب ، وشمول النّفي قبل دخول كلّ ، فيجب أن يكون معناه لنفي الحكم عن جملة الأفراد بعد دخول كلّ لئلّا يلزم ترجيح التّأكيد على التّأسيس.

(٣) أي وجوب الحمل على نفي القيام عن جملة الأفراد ليكون كلّ للتّأسيس ثابت.

(٤) إشارة إلى جواب عن سؤال مقدّر وهو أنّه لا يلزم من نفي أحد هذين المعنيين ثبوت المعنى الآخر لاحتمال أن يثبت معنى آخر غيرهما عند دخول كلّ.

وحاصل الجواب : أنّه لم يوجد في هذا المقام معنى آخر غير هذين المعنيين ، فإذا انتفى أحدهما بدخول كلّ ثبت الآخر بالضّرورة لامتناع الخلوّ عنهما.

(٥) أي حاصل الصّورتين المذكورتين «إنّ التّقديم» أي تقديم المسند إليه المنكّر نحو : إنسان لم يقم «بدون كلّ لسلب العموم» أي السّلب الجزئيّ.

(٦) أي تأخير المسند إليه المنكّر نحو : لم يقم إنسان «لعموم السّلب وشمول النّفي» أي السّلب الكلّي.

(٧) أي بأن يكون التّقديم للسّلب الكلّي ، والتّأخير للسّلب الجزئيّ «ليكون كلّ للتّأسيس الرّاجح لا للتّأكيد المرجوح».

(٨) أي فيما قاله ذلك القائل نظر ، أي من حيث الدّليل أعني قوله : «لئلّا يلزم ترجيح

٢٠