الأصول في النحو - ج ١

أبي بكر محمّد بن السريّ بن سهل النحوي « ابن السراج »

الأصول في النحو - ج ١

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن السريّ بن سهل النحوي « ابن السراج »


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣١

١
٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدّمة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.

أما بعد :

فإن علم النحو ، أو علم ضبط النطق اللساني ، وإعراب الكلمات بحركاتها الصحيحة الخالية من اللحن ، علم من أجلّ العلوم التي وضعت لحفظ اللغة العربية ، وضبط قواعدها ، إذ بهذا العلم يتوصل إلى أعظم مطلوبين ، ألا وهما :

١ ـ المحافظة على كتاب الله تعالى من اللحن.

٢ ـ والمحافظة على كلام رسوله صلّى الله عليه وسلّم من اللحن أيضا ، إذ أن ذلك قد يدخل في الكذب عليه صلّى الله عليه وسلّم.

وقد رأيت أن أقدم بمقدمة مفيدة تكون دليلا لمحبي النحو ، أتحدث فيها عن اللغة ووضعها وأصلها ، وكيفية ثبوتها ، ومباحث مختصرة في علم النحو ، ليتبينوا أهمية هذا العلم وفائدته.

وقبل الشروع في الكتاب نصدّر بمقالة ذكرها أبو الحسين أحمد بن فارس في أول كتابه فقه اللغة : قال : اعلم أن لعلم العرب أصلا وفرعا ، أمّا الفرع فمعرفة الأسماء والصفات كقولنا : رجل وفرس وطويل وقصير ، وهذا هو الذي يبدأ به عند المتّعلم.

وأمّا الأصل فالقول على وضع اللغة وأوّليتها ومنشئها ثمّ على رسوم العرب في مخاطباتها وما لها من الافتنان تحقيقا ومجازا.

٥

والناس في ذلك رجلان : رجل شغل بالفرع فلا يعرف غيره ، وآخر جمع الأمرين معا ، وهذه هي الرّتبة العليا لأن بها يعلم خطاب القرآن والسّنة وعليها يعوّل أهل النظر والفتيا ، وذلك أن طالب العلم اللغوي يكتفي من أسماء الطويل باسم الطويل ، ولا يضيره ألّا يعرف الأشقّ والأمقّ وإن كان في علم ذلك زيادة فضل.

وإنما لم يضره خفاء ذلك عليه ؛ لأنه لا يكاد يجد منه في كتاب الله تعالى شيئا فيحوج إلى علمه ويقلّ مثله أيضا في ألفاظ رسول الله إذ كانت ألفاظه السّهلة العذبة.

ولو أنه لم يعلم توسّع العرب في مخاطباتها لعيّ بكثير من علم محكم الكتاب والسنة ، ألا ترى قوله تعالى : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ ...) إلى آخر الآية [الأنعام : ٥٢].

فسرّ هذه الآية في نظمها لا يكون بمعرفة غريب اللغة والوحشيّ من الكلام.

والفرق بين معرفة الفروع ومعرفة الأصول : أن متوسّما بالأدب لو سئل عن الجزم والتّسويد في علاج النّوق فتوقّف أو عيّ به ، أو لم يعرفه ، لم ينقصه ذلك عند أهل المعرفة نقصا شائنا ؛ لأن كلام العرب أكثر من أن يحصى ، ولو قيل له : هل تتكلم العرب في النفي بما لا تتكلم به في الإثبات؟ ثم لم يعلمه لنقصه ذلك في شريعة الأدب عند أهل الأدب ، لا أن ذلك يردّه عن دينه أو يجره لمأثم ، كما أن متوسّما بالنحو لو سئل عن قول القائل : [الطويل]

لهنّك من عبسية لوسيمة

على هنوات كاذب من يقولها

فتوقّف أو فكّر أو استمهل لكان أمره في ذلك عند أهل الفضل هيّنا ، لكن لو قيل له مكان (لهنك) : ما أصل القسم؟ وكم حروفه؟ وما الحروف المشبهة بالأفعال التي يكون الاسم بعدها منصوبا وخبره مرفوعا؟ فلم يجب لحكم عليه بأنه لم يشامّ صناعة النحو قط ، فهذا الفصل بين الأمرين.

وسوف نعرج الآن على ذكر المباحث التي نريد عرضها :

٦

المبحث الأول : في حد اللغة وتعريفها :

قال أبو الفتح ابن جني في" الخصائص" : حدّ اللغة أصوات يعبّر بها كلّ قوم عن أغراضهم.

ثم قال : وأما تصريفها فهي (فعلة) من لغوت ، أي : تكلّمت ، وأصلها لغوة ككرة وقلة وثبة كلّها لاماتها واوات ، لقولهم : كروت بالكرة ، وقلوت بالقلة ، ولأن ثبة كأنها من مقلوب ثاب يثوب.

وقالوا : فيها لغات ولغون كثبات وثبون.

وقيل منها لغي يلغى إذا هذى ، قال : [الرجز]

وربّ أسراب حجيج كظّم

عن اللّغا ورفث التّكلّم

وكذلك اللّغو قال تعالى : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) [الفرقان : ٧٢] أي : بالباطل.

وفي الحديث : " من قال في الجمعة صه فقد لغا" (١) أي : تكلّم. انتهى كلام ابن جني.

وقال إمام الحرمين في" البرهان" : اللغة من لغي يلغى من باب رضي إذا لهج بالكلام ، وقيل : من لغى يلغى.

وقال ابن الحاجب في" مختصره" : حدّ اللغة كلّ لفظ وضع لمعنى.

وقال الأسنوي في" شرح منهاج الأصول" : اللغات : عبارة عن الألفاظ الموضوعة للمعاني

المبحث الثاني : في بيان واضع اللغة أتوقيف هي ووحي أم اصطلاح وتواطؤ :قال الإمام السيوطي في" المزهر" : قال أبو الحسين أحمد بن فارس في" فقه اللغة" : اعلم أنّ لغة العرب توقيف ، ودليل ذلك قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) [البقرة : ٣٢].

فكان ابن عباس يقول : علّمه الأسماء كلها ، وهي هذه الأسماء التي يتعارفها الناس من دابّة وأرض وسهل وجبل وجمل وحمار ، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها.

__________________

(١) أخرجه أبو داود من حديث الإمام على بن أبي طالب (١٠٥١) ، وأخرجه أحمد في مسنده (٧٢١) ، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى ج ٣ / ٢٢٠.

٧

وروى خصيف عن مجاهد قال : علّمه اسم كلّ شيء.

وقال غيرهما : إنما علّمه أسماء الملائكة.

وقال آخرون : علّمه أسماء ذرّيّته أجمعين.

قال ابن فارس : والذي نذهب إليه في ذلك ما ذكرناه عن ابن عبّاس.

فإن قال قائل : لو كان ذلك كما تذهب إليه لقال : ثم عرضهنّ أو عرضها ، فلما قال :عرضهم ، علم أن ذلك لأعيان بني آدم أو الملائكة ؛ لأن موضوع الكناية في كلام العرب أن يقال لما يعقل : عرضهم ، ولما لا يعقل : عرضها أو عرضهنّ.

قيل له : إنما قال ذلك ـ والله أعلم ـ لأنه جمع ما يعقل وما لا يعقل فغلب ما يعقل ، وهي سنّة من سنن العرب ـ أعني : باب التغليب ـ وذلك كقوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) [النور : ٤٥].

فقال : (منهم) تغليبا لمن يمشي على رجلين وهم بنو آدم.

فإن قال : أفتقولون في قولنا : سيف وحسام وعضب إلى غير ذلك من أوصافه إنه توقيف حتى لا يكون شيء منه مصطلحا عليه قيل له : كذلك نقول.

والدليل على صحته إجماع العلماء على الاحتجاج بلغة القوم فيما يختلفون فيه أو يتفقون عليه ثم احتجاجهم بأشعارهم ، ولو كانت اللغة مواضعة واصطلاحا لم يكن أولئك في الاحتجاج بهم بأولى منّا في الاحتجاج (بنا) لو اصطلحنا على لغة اليوم ولا فرق.

ولعل ظانا يظنّ أن اللغة التي دللنا على أنها توقيف إنما جاءت جملة واحدة وفي زمان واحد ، وليس الأمر كذلك ، بل وقّف الله عزّ وجلّ آدم عليه السّلام على ما شاء أن يعلّمه إياه مما احتاج إلى علمه في زمانه ، وانتشر من ذلك ما شاء الله ، ثم علّم بعد آدم من الأنبياء صلوات الله عليهم نبيّا نبيّا ما شاء الله أن يعلّمه ، حتى انتهى الأمر إلى نبينا محمد فآتاه الله من ذلك ما لم

٨

يؤته أحدا قبله تماما على ما أحسنه من اللغة المتقدمة ، ثم قرّ الأمر قراره فلا نعلم لغة من بعده حدثت ، فإن تعمّل اليوم لذلك متعمّل وجد من نقّاد العلم من ينفيه ويردّه.

ولقد بلغنا عن أبي الأسود الدؤلي أن امرءا كلّمه ببعض ما أنكره أبو الأسود. فسأله أبو الأسود عنه فقال : هذه لغة لم تبلغك ، فقال له : يابن أخي إنه لا خير لك فيما لم يبلغني.

فعرّفه بلطف أن الذي تكلّم به مختلق.

وخلّة أخرى : إنه لم يبلغنا أن قوما من العرب في زمان يقارب زماننا أجمعوا على تسمية شيء من الأشياء مصطلحين عليه ، فكنا نستدلّ بذلك على اصطلاح قد كان قبلهم.

وقد كان في الصحابة رضي الله عنهم ـ وهم البلغاء والفصحاء ـ من النظر في العلوم الشريفة ما لا خفاء به وما علمناهم اصطلحوا على اختراع لغة أو إحداث لفظة لم تتقدمهم.

ومعلوم أن حوادث العالم لا تنقضي إلّا بانقضائه ولا تزول إلّا بزواله ، وفي كل ذلك دليل على صحّة ما ذهبنا إليه من هذا الباب. هذا كله كلام ابن فارس وكان من أهل السنة.

رأي ابن جني :

وقال ابن جني في" الخصائص" وكان هو وشيخه أبو عليّ الفارسي معتزليّين : باب القول على أصل اللغة إلهام هي أم اصطلاح؟

هذا موضع محوج إلى فضل تأمّل غير أن أكثر أهل النظر على أن أصل اللغة إنما هو تواضع واصطلاح ، لا وحي ولا توقيف ، إلّا أن أبا علي ـ رحمه الله ـ قال لي يوما : هي من عند الله واحتج بقوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) وهذا لا يتناول موضع الخلاف ، وذلك أنه قد يجوز أن يكون تأويله : أقدر آدم على أن واضع عليها.

وهذا المعنى من عند الله سبحانه لا محالة فإذا كان ذلك محتملا غير مستنكر سقط الاستدلال به.

وقد كان أبو علي رحمه الله أيضا قال به في بعض كلامه ، وهذا أيضا رأي أبي الحسن على أنه لم يمنع قول من قال إنها تواضع منه ، وعلى أنه قد فسّر هذا بأن قيل : إنه تعالى علّم آدم

٩

أسماء جميع المخلوقات بجميع اللّغات : العربية والفارسية والسريانية والعبرانية والرّومية وغير ذلك من سائر اللغات ، فكان آدم وولده يتكلمون بها ثم إن ولده تفرّقوا في الدنيا وعلق كلّ واحد منهم بلغة من تلك اللغات فغلبت عليه واضمحلّ عنه ما سواها لبعد عهدهم بها.

وإذا كان الخبر الصحيح قد ورد بهذا وجب تلقيه باعتقاده والانطواء على القول به.

فإن قيل : فاللغة فيها أسماء وأفعال وحروف وليس يجوز أن يكون المعلّم من ذلك الأسماء وحدها دون غيرها مما ليس بأسماء ، فكيف خصّ الأسماء وحدّها؟

قيل : اعتمد ذلك من حيث كانت الأسماء أقوى القبل الثلاثة ، ولا بد لكل كلام مفيد منفرد من الاسم ، وقد تستغني الجملة المستقلة عن كل واحد من الفعل والحرف ، فلما كانت الأسماء من القوّة والأوليّة في النفس والرتبة على ما لا خفاء به جاز أن يكتفى بها عمّا هو تال لها ومحمول في الحاجة إليه عليها.

قال : ثم لنعد فلنقل في الاعتلال لمن قال بأنّ اللغة لا تكون وحيا ، وذلك أنهم ذهبوا إلى أن أصل اللغة لا بدّ فيه من المواضعة.

قالوا : وذلك بأن يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعدا فيحتاجوا إلى الإبانة عن الأشياء المعلومات فيضعوا لكل واحد منها سمة ولفظا إذا ذكر عرف به ما مسمّاه ؛ ليمتاز عن غيره وليغني بذكره عن إحضاره إلى مرآة العين ، فيكون ذلك أقرب وأخفّ وأسهل من تكلّف إحضاره لبلوغ الغرض في إبانة حاله ، بل قد يحتاج في كثير من الأحوال إلى ذكر ما لا يمكن إحضاره ولا إدناؤه كالفاني ، وحال اجتماع الضدّين على المحلّ الواحد ، وكيف يكون ذلك لو جاز وغير هذا مما هو جار في الاستحالة والتّعذّر مجراه ، فكأنهم جاؤوا إلى واحد من بني آدم فأومؤوا إليه وقالوا : إنسان ، فأيّ وقت سمع هذا اللفظ علم أن المراد به هذا الضرب من المخلوق ، وإن أرادوا سمة عينه أو يده أشاروا إلى ذلك فقالوا : يد عين رأس قدم ، أو نحو ذلك ، فمتى سمعت اللفظة من هذا عرف معنيّها ، وهلمّ جرّا فيما سوى ذلك من الأسماء والأفعال والحروف.

١٠

ثم لك من بعد ذلك أن تنقل هذه المواضعة إلى غيرها فتقول : الذي اسمه إنسان فليجعل مكانه (مرد) ، والذي اسمه رأس فليجعل مكانه (سر) وعلى هذا بقية الكلام.

وكذلك لو بدئت اللغة الفارسيّة فوقعت المواضعة عليها لجاز أن تنقل ويولّد منها لغات كثيرة من الرومية والزّنجية وغيرهما ، وعلى هذا ما نشاهده الآن من اختراع الصّنّاع لآلات صنائعهم من الأسماء كالنّجار والصائغ والحائك والبنّاء ، وكذلك الملّاح قالوا : ولكن لا بد لأولها من أن يكون متواضعا عليه بالمشاهدة والإيماء.

قالوا : والقديم ـ سبحانه ـ لا يجوز أن يوصف بأن يواضع أحدا على شيء ؛ إذ قد ثبت أن المواضعه لا بدّ معها من إيماء وإشارة بالجارحة نحو المومأ إليه والمشار نحوه.

قالوا : والقديم ـ سبحانه ـ لا جارحة له فيصحّ الإيماء والإشارة منه بها ، فبطل عندهم أن تصحّ المواضعة على اللغة منه تقدست أسماؤه.

قالوا : ولكن يجوز أن ينقل الله تعالى اللغة التي قد وقع التواضع بين عباده عليها بان يقول : الذي كنتم تعبّرون عنه بكذا عبّروا عنه بكذا والذي كنتم تسمّونه كذا ينبغي أن تسمّوه كذا ، وجواز هذا منه ـ سبحانه ـ كجوازه من عباده ، ومن هذا الذي في الأصوات ما يتعاطاه الناس الآن من مخالفة الأشكال في حروف المعجم كالصورة التي توضع للمعميات والتراجم ، وعلى ذلك أيضا اختلفت أقلام ذوي اللغات كما اختلفت ألسن الأصوات المرتّبة على مذاهبهم في المواضعات فهذا قول من الظهور على ما تراه.

إلّا أنني سألت يوما بعض أهله فقلت : ما تنكر أن تصحّ المواضعة من الله سبحانه وإن لم يكن ذا جارحة بأن يحدث في جسم من الأجسام ـ خشبة أو غيرها ـ إقبالا على شخص من الأشخاص وتحريكا لها نحوه ويسمع ـ في حال تحرك الخشبة نحو ذلك الشخص ـ صوتا يضعه اسما له ويعيد حركة تلك الخشبة نحو ذلك الشخص دفعات مع أنه ـ عزّ اسمه ـ قادر على أن يقنع في تعريفه ذلك بالمرّة الواحدة فتقوم الخشبة في هذا الإيماء وهذه الإشارة مقام جارحة ابن آدم في الإشارة بها في المواضعة ، وكما أن الإنسان أيضا قد يجوز إذا أراد المواضعة أن يشير بخشبة نحو المراد المتواضع عليه فيقيمها في ذلك مقام يده لو أراد الإيماء بها نحوه.

١١

فلم يجب عن هذا بأكثر من الاعتراف بوجوبه ، ولم يخرج من جهته شيء أصلا فأحكيه عنه وهو عندي وعلى ما تراه الآن لازم لمن قال بامتناع كون مواضعة القديم تعالى لغة مرتجلة غير ناقلة لسانا إلى لسان ، فاعرف ذلك.

وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات كدويّ الريح وحنين الرعد وخرير الماء وشحيج الحمار ونعيق الغراب وصهيل الفرس ونزيب الظبي ونحو ذلك. ثم ولّدت اللغات عن ذلك فيما بعد ، وهذا عندي وجه صالح ومذهب متقبّل.

واعلم فيما بعد أنني على تقادم الوقت دائم التّنقير والبحث عن هذا الموضع ، فأجد الدّواعي والخوالج قوية التّجاذب لي مختلفة جهات التّغول على فكري ، وذلك أنني إذا تأملت حال هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة وجدت فيها من الحكمة والدّقّة الإرهاف والرّقّة ما يملك عليّ جانب الفكر حتى يكاد يطمح به أمام غلوة السّحر ، فمن ذلك ما نبّه عليه أصحابنا رحمهم الله ، ومنه ما حذوته على أمثلتهم فعرفت بتتابعه وانقياده وبعد مراميه وآماده صحة ما وفّقوا لتقديمه منه ولطف ما أسعدوا به ، وفرق لهم ، عنه وانضاف إلى ذلك وارد الأخبار المأثورة بأنها من عند الله تعالى فقوي في نفسي اعتقاد كونها توقيفا من الله سبحانه وأنها وحي.

ثم أقول في ضد هذا : إنه كما وقع لأصحابنا ولنا وتنبّهوا.

وتنبهنا على تأمّل هذه الحكمة الرائعة الباهرة كذلك لا ننكر أن يكون الله تعالى قد خلق من قبلنا وإن بعد مداه عنّا من كان ألطف منا أذهانا وأسرع خواطر وأجرا جنانا ، فأقف بين الخلّتين حسيرا وأكاثرهما فأنكفىء مكثورا ، وإن خطر خاطر فيما بعد يعلق الكف بإحدى الجهتين ويكفها عن صاحبتها قلنا به ، هذا كله كلام ابن جني.

وقال الإمام فخر الدين الرازي في" المحصول" وتبعه تاج الدين الأرموي في" الحاصل" وسراج الدين الأرموي في" التحصيل" ما ملخّصه : النظر الثاني في الواضع : الألفاظ إما أن تدل على المعاني بذواتها أو بوضع الله إياها أو بوضع الناس ، أو بكون البعض بوضع الله والباقي بوضع الناس ، والأول مذهب عباد بن

١٢

سليمان ، والثاني مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري وابن فورك ، والثالث مذهب أبي هاشم ، وأما الرابع فإما أن يكون الابتداء من الناس والتّتمّة من الله وهو مذهب قوم.

أو الابتداء من الله والتتمة من الناس وهو مذهب الأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني.

والمحققون متوقفون في الكل إلّا في مذهب عباد.

ودليل فساده : أن اللفظ لو دلّ بالذات لفهم كلّ واحد منهم كلّ اللغات لعدم اختلاف الدلالات الذاتية واللازم باطل فالملزوم كذلك.

واحتجّ عبّاد بأنه لو لا الدّلالة الذاتيّة لكان وضع لفظ من بين الألفاظ بإزاء معنى من بين المعاني ترجيحا بلا مرجّح وهو محال.

وجوابه : أن الواضع إن كان هو الله فتخصيصه الألفاظ بالمعاني كتخصيص العالم بالإيجاد في وقت من بين سائر الأوقات ، وإن كان هو الناس فلعلّه لتعيّن الخطران بالبال ودليل إمكان التوقّف احتمال خلق الله تعالى الألفاظ ووضعها بإزاء المعاني ، وخلق علوم ضرورية في ناس بأن تلك الألفاظ موضوعة لتلك المعاني.

ودليل إمكان الاصطلاح إمكان أن يتولّى واحد أو جمع وضع الألفاظ لمعان ثم يفهموها لغيرهم بالإشارة كحال الوالدات مع أطفالهن.

وهذان الدليلان هما دليلا إمكان التوزيع.

واحتجّ القائلون بالتوقيف بوجوه :

أولها ـ قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) فالأسماء كلها معلّمة من عند الله بالنّص وكذا الأفعال والحروف لعدم القائل بالفصل ، ولأن الأفعال والحروف أيضا أسماء لأن الاسم ما كان علامة والتمييز من تصرّف النحاة لا من اللغة ولأنّ التكلم بالأسماء وحدها متعذّر.

وثانيها ـ أنه سبحانه وتعالى ذمّ قوما في إطلاقهم أسماء غير توقيفيّة في قوله تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها) [النجم : ٢٣] وذلك يقتضي كون البواقي توقيفية.

١٣

وثالثها ـ قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) [الروم : ٢٢] والألسنة اللّحمانية غير مرادة لعدم اختلافها ، ولأن بدائع الصّنغ في غيرها أكثر فالمراد هي اللغات.

ورابعها ـ وهو عقليّ ـ لو كانت اللغات اصطلاحية لاحتيج في التخاطب بوضعها إلى اصطلاح آخر من لغة أو كتابة ويعود إليه الكلام ويلزم إما الدّور أو التسلسل في الأوضاع وهو محال فلا بد من الانتهاء إلى التوقيف.

واحتجّ القائلون بالاصطلاح بوجهين :

أحدهما ـ لو كانت اللغات توقيفية لتقدّمت واسطة البعثة على التوقيف والتقدّم باطل ، وبيان الملازمة أنها إذا كانت توقيفية فلا بدّ من واسطة بين الله والبشر وهو النبيّ ؛ لاستحالة خطاب الله تعالى مع كلّ أحد وبيان بطلان التّقدّم قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) [إبراهيم : ٤] وهذا يقتضي تقدّم اللغة على البعثة.

والثاني ـ لو كانت اللغات توقيفية فذلك إما بأن يخلق الله تعالى علما ضروريّا في العاقل أنّه وضع الألفاظ لكذا أو في غير العاقل أو بألّا يخلق علما ضروريا أصلا.

والأول باطل ، وإلّا لكان العاقل عالما بالله بالضرورة ؛ لأنه إذا كان عالما بالضرورة بكون الله وضع كذا لكذا كان علمه بالله ضروريّا ، ولو كان كذلك لبطل التكليف.

والثاني باطل ؛ لأن غير العاقل لا يمكنه إنهاء تمام هذه الألفاظ.

والثالث باطل ؛ لأن العلم بها إذا لم يكن ضروريا احتيج إلى توقيف آخر ولزم التسلسل.

والجواب عن الأولى من حجج أصحاب التوقيف : لم لا يجوز أن يكون المراد من تعليم الأسماء الإلهام إلى وضعها؟

ولا يقال : التعليم إيجاد العلم فإنا لا نسلّم ذلك بل التعليم فعل يترتب عليه العلم ولأجله يقال : علّمته فلم يتعلّم.

١٤

سلمنا أن التعليم إيجاد العلم لكن قد تقرّر في الكلام أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى فعلى هذا : العلم الحاصل بها موجد لله.

سلّمناه لكنّ الأسماء هي سمات الأشياء وعلاماتها مثل أن يعلّم آدم صلاح الخيل للعدو والجمال للحمل والثيران للحرث ، فلم قلتم : إن المراد ليس ذلك وتخصيص الأسماء بالألفاظ عرف جديد.

سلمنا أن المراد هو الألفاظ ولكن لم لا يجوز أن تكون هذه الألفاظ وضعها قوم آخرون قبل آدم وعلّمها الله آدم؟

وعن الثانية أنه تعالى ذمّهم لأنهم سمّوا الأصنام آلهة واعتقدوها كذلك.

وعن الثالثة : أن اللسان هو الجارحة المخصوصة ، وهي غير مرادة بالاتفاق والمجاز الذي ذكرتموه يعارضه مجازات أخر نحو : مخارج الحروف أو القدرة عليها فلم يثبت التّرجيح.

وعن الرابعة : أن الاصطلاح لا يستدعي تقدّم اصطلاح آخر بدليل تعليم الوالدين الطفل دون سابقة اصطلاح ثمة.

والجواب عن الأولى من حجّتي أصحاب الاصطلاح : لا نسلّم توقّف التوقيف على البعثة لجواز أن يخلق الله فيهم العلم الضروري بأن الألفاظ وضعت لكذا وكذا.

وعن الثانية : لم لا يجوز أن يخلق الله العلم الضروريّ في العقلاء أن واضعا وضع تلك الألفاظ لتلك المعاني وعلى هذا لا يكون العلم بالله ضروريا.

سلّمناه لكن لم لا يجوز أن يكون الإله معلوم الوجود بالضرورة لبعض العقلاء قوله :

(لبطل التكليف) قلنا : بالمعرفة أمّا بسائر التكاليف فلا. انتهى.

وقال أبو الفتح ابن برهان في كتاب" الوصول إلى الأصول" :اختلف العلماء في اللغة : هل تثبت توقيفا أو اصطلاحا؟ فذهبت المعتزلة إلى أن اللغات بأسرها تثبت اصطلاحا وذهبت طائفة إلى أنها تثبت توقيفا.

١٥

وزعم الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني : أن القدر الذي يدعو به الإنسان غيره إلى التّواضع يثبت توقيفا وما عدا ذلك يجوز أن يثبت بكل واحد من الطريقين.

وقال القاضي أبو بكر : يجوز أن يثبت توقيفا ويجوز أن يثبت اصطلاحا ويجوز أن يثبت بعضه توفيقا وبعضه اصطلاحا والكلّ ممكن.

وعمدة القاضي : أن الممكن هو الذي لو قدّر موجودا لم يعرض لوجوده محال ، ويعلم أن هذه الوجوه لو قدّرت لم يعرض من وجودها محال فوجب قطع القول بإمكانها.

وعمدة المعتزلة : أن اللغات لا تدلّ على مدلولاتها كالدلالة العقلية ، ولهذا المعنى يجوز اختلافها ولو ثبتت توقيفا من جهة الله تعالى لكان ينبغي أن يخلق الله العلم بالصّيغة ، ثم يخلق العلم بالمدلول ، ثم يخلق لنا العلم بجعل الصيغة دليلا على ذلك المدلول ، ولو خلق لنا العلم بصفاته لجاز أن يخلق لنا العلم بذاته ، ولو خلق لنا العلم بذاته بطل التكليف وبطلت المحنة.

قلنا : هذا بناء على أصل فاسد فإنا نقول : يجوز أن يخلق الله لنا العلم بذاته ضرورة ، وهذه المسألة فرع ذلك الأصل.

وعمدة الأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني : أن القدر الذي يدعو به الإنسان غيره إلى التواضع لو ثبت اصطلاحا لافتقر إلى اصطلاح آخر يتقدّمه وهكذا فيتسلسل إلى ما لا نهاية له.

قلنا : هذا باطل فإن الإنسان يمكنه أن يفهم غيره معاني الأسامي كالطفل ينشأ غير عالم بمعاني الألفاظ ، ثم يتعلّمها من الأبوين من غير تقدّم اصطلاح.

وعمدة من قال : إنها تثبت توقيفا قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها.) وهذا لا حجّة فيه من جهة القطع فإنه عموم والعموم ظاهر في الاستغراق وليس بنصّ.

قال القاضي : أما الجواز فثابت من جهة القطع بالدليل الذي قدّمته ، وأما كيفية الوقوع فأنا متوقف فإن دلّ دليل من السّمع على ذلك ثبت به.

١٦

وقال إمام الحرمين في" البرهان" : اختلف أرباب الأصول في مأخذ اللغات ، فذهب ذاهبون إلى أنها توقيف من الله تعالى ، وصار صائرون إلى أنها تثبت اصطلاحا وتواطؤا ، وذهب الأستاذ أبو إسحاق في طائفة من الأصحاب إلى أن القدر الذي يفهم منه قصد التواطؤ لا بدّ أن يفرض فيه التوقيف.

والمختار عندنا أن العقل يجوّز ذلك كلّه ، فأما تجويز التوقيف فلا حاجة إلى تكلّف دليل فيه ، ومعناه أن يثبت الله تعالى في الصدور علوما بديهيّة بصيغ مخصوصة بمعاني فتتبيّن العقلاء الصّيغ ومعانيها ، ومعنى التوقيف فيها أن يلقوا وضع الصيغ على حكم الإرادة والاختيار ، وأما الدليل على تجويز وقوعها اصطلاحا فهو أنه لا يبعد أن يحرك الله تعالى نفوس العقلاء لذلك ، ويعلم بعضهم مراد بعض ثم ينشئون على اختيارهم صيغا وتقترن بما يريدون أحوال لهم وإشارات إلى مسمّيات ، وهذا غير مستنكر ، وبهذا المسلك ينطلق الطفل على طوال ترديد المسمع عليه ما يريد تلقينه وإفهامه ، فإذا ثبت الجواز في الوجهين لم يبق لما تخيّله الأستاذ وجه والتعويل في التوقيف وفرض الاصطلاح على علوم تثبت في النفوس ، فإذا لم يمنع ثبوتها لم يبق لمنع التوقيف والاصطلاح بعدها معنى ، ولا أحد يمنع جواز ثبوت العلوم الضرورية على النحو المبيّن.

فإن قيل : قد أثبتّم الجواز في الوجهين عموما ، فما الذي اتفق عندكم وقوعه؟

قلنا : ليس هذا مما يتطرّق إليه بمسالك العقول ، فإن وقوع الجائز لا يستدرك إلّا بالسّمع المحض ، ولم يثبت عندنا سمع قاطع فيما كان من ذلك ، وليس في قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) دليل على أحد الجائزين ؛ فإنه لا يمتنع أن تكون اللغات لم يكن يعلمها فعلّمه الله تعالى إياها ، ولا يمتنع أن الله تعالى أثبتها ابتداء وعلّمه إياها.

وقال الغزالي في" المنخول" : قال قائلون : اللغات كلّها اصطلاحية إذ التّوقيف يثبت بقول الرسول عليه السّلام ، ولا يفهم قوله دون ثبوت اللغة.

وقال آخرون : هي توقيفية ؛ إذ الاصطلاح يعرض بعد دعاء البعض بالاصطلاح ، ولا بدّ من عبارة يفهم منها قصد الاصطلاح.

١٧

وقال آخرون ما يفهم منه : قصد التّواضع توقيفيّ دون ما عداه ، ونحن نجوّز كونها اصطلاحية بأن يحرّك الله رأس واحد فيفهم آخر أنه قصد الاصطلاح.

ويجوز كونها توقيفية بأن يثبت الربّ تعالى مراسم وخطوطا يفهم الناظر فيها العبارات ثم يتعلم البعض عن البعض.

وكيف لا يجوز في العقل كلّ واحد منهما ونحن نرى الصبيّ يتكلم بكلمة أبويه؟! ويفهم ذلك من قرائن أحوالهما في حالة صغره فإذن الكل جائز.

وأما وقوع أحد الجائزين فلا يستدرك بالعقل ولا دليل في السمع وقوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) ظاهر في كونه توقيفيا وليس بقاطع ، ويحتمل كونها مصطلحا عليها من خلق الله تعالى قبل آدم. انتهى.

وقال ابن الحاجب في مختصره : الظاهر من هذه الأقوال قول أبي الحسن الأشعري.

قال القاضي تاج الدين السبكي في" شرح منهاج البيضاوي" : معنى قول ابن الحاجب :

القول بالوقف عن القطع بواحد من هذه الاحتمالات ، وترجيح مذهب الأشعري بغلبة الظن.

قال : وقد كان بعض الضّعفاء يقول : إن هذا الذي قاله ابن الحاجب مذهب لم يقل به أحد ؛ لأن العلماء في المسألة بين متوقّف وقاطع بمقالته ، فالقول بالظهور لا قائل به.

قال : وهذا ضعيف ؛ فإن المتوقّف لعدم قاطع قد يرجّح بالظنّ ، ثم إن كانت المسألة ظنّية اكتفى في العمل بها بذلك التّرجيح ، وإلّا توقف عن العمل بها.

ثم قال : والإنصاف أن الأدلة ظاهرة فيما قاله الأشعري ، فالمتوقّف إن توقّف لعدم القطع فهو مصيب وإن ادّعى عدم الظهور فغير مصيب.

هذا هو الحقّ الذي فاه به جماعة من المتأخرين منهم الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في" شرح العنوان".

وقال في رفع الحاجب : اعلم ان للمسألة مقامين :

١٨

أحدهما : الجواز فمن قائل : لا يجوز أن تكون اللغة إلّا توقيفا ، ومن قائل : لا يجوز أن تكون إلّا اصطلاحا.

والثاني : أنه ما الذي وقع على تقدير جواز كلّ من الأمرين ، والقول بتجويز كل من الأمرين هو رأي المحققين ولم أر من صرّح عن الأشعري بخلافه.

والذي أراه أنه إنما تكلم في الوقوع وأنه يجوّز صدور اللّغة اصطلاحا ، ولو منع الجواز لنقله عنه القاضي وغيره من محقّقي كلامه ، ولم أرهم نقلوه عنه ، بل لم يذكره القاضي وإمام الحرمين وابن القشيري والأشعري في مسألة مبدأ اللغات البتّة ، وذكر إمام الحرمين الاختلاف في الجواز ، ثم قال : إن الوقوع لم يثبت وتبعه القشيري وغيره.

المبحث الثالث : في حدّ الوضع :

قال التاج السبكي في" شرح منهاج البيضاوي" : الوضع عبارة عن تخصيص الشيء بالشيء بحيث إذا أطلق الأوّل فهم منه الثاني.

قال : وهذا تعريف سديد ؛ فإنك إذا أطلقت قولك : (قام زيد) فهم منه صدور القيام منه.

قال : فإن قلت : مدلول قولنا : (قام زيد) صدور قيامه سواء أطلقنا هذا اللّفظ أم لم نطلقه ، فما وجه قولكم : بحيث إذا أطلق؟

قلت : الكلام قد يخرج عن كونه كلاما ، وقد يتغيّر معناه بالتّقييد فإنك إذا قلت : (قام الناس) اقتضى إطلاق هذا اللفظ إخبارك بقيام جميعهم.

فإذا قلت : (إن قام الناس) خرج عن كونه كلاما بالكليّة ، فإذا قلت : (قام الناس إلّا زيدا) لم يخرج عن كونه كلاما ، ولكن خرج عن اقتضاء قيام جميعهم إلى قيام ما عدا زيدا.

فعلم بهذا أن لإفادة (قام الناس) الإخبار بقيام جميعهم شرطين :

أحدهما : ألّا تبتدئه بما يخالفه.

والثاني : ألا تختمه بما يخالفه.

١٩

وله شرط ثالث أيضا وهو أن يكون صادرا عن قصد فلا اعتبار بكلام النائم والساهي ، فهذه ثلاثة شروط لا بدّ منها وعلى السامع التنبّه لها.

فوضح بهذا أنك لا تستفيد قيام الناس من قوله : (قام الناس) إلّا بإطلاق هذا القول فلذلك اشترطنا ما ذكرناه.

فإن قلت : من أين لنا اشتراط ذلك واللفظ وحده كاف في ذلك ؛ لأن الواضع وضعه لذلك؟

قلت : وضع الواضع له معناه أنه جعله مهيّأ لأن يفيد ذلك المعنى عند استعمال المتكلّم على الوجه المخصوص ، والمفيد في الحقيقة إنما هو المتكلم واللفظ كالآلة الموضوعة لذلك.

فإن قلت : لو سمعنا (قام الناس) ولم نعلم من قائله هل قصده أم لا؟ وهل ابتدأه أو ختمه بما يغيّره أو لا؟ هل لنا أن نخبر عنه بأنه قال : قام الناس؟

قلت : فيه نظر ؛ يحتمل أن يقال بجوازه لأن الأصل عدم الابتداء والختم بما يغيّره ويحتمل أن يقال : لا يجوز لأن العمدة ليس هو اللفظ ، ولكنّ الكلام النفساني القائم بذات المتكلم وهو حكمه واللفظ دليل عليه مشروط بشروط ولم تتحقّق.

ويحتمل أن يقال : إن العلم بالقصد لا بدّ منه لأنه شرط والشكّ في الشرط يقتضي الشّكّ في المشروط والعلم بعدم الابتداء والختم بما يخالفه لا يشترط لأنهما مانعان ، والشكّ في المانع لا يقتضي الشك في الحكم لأن الأصل عدمه.

قال : واختار والدي ـ رحمه الله ـ أنه لا بدّ من أن يعلم الثلاثة. انتهى.

المبحث الرابع : شروط ثبوت اللغة :

قال الزّركشيّ في" البحر المحيط" : قال أبو الفضل بن عبدان في" شرائط الأحكام" وتبعه الجيلي في" الإعجاز" : لا تلزم اللغة إلّا بخمس شرائط :

أحدها ـ ثبوت ذلك عن العرب بسند صحيح يوجب العمل.

والثاني ـ عدالة الناقلين كما تعتبر عدالتهم في الشّرعيات.

٢٠