شرح الشّواهد الشعريّة في أمّات الكتب النحويّة - ج ١

محمّد محمّد حسن شرّاب

شرح الشّواهد الشعريّة في أمّات الكتب النحويّة - ج ١

المؤلف:

محمّد محمّد حسن شرّاب


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٣

١
٢

٣

٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

أما بعد :

فهذا معجم رتبت فيه جلّ الشواهد الشعرية المتداولة في كتب النحو وشروحاتها ، بدءا بكتاب سيبويه ، إمام أهل النحو المتوفى سنة ١٨٠ ه‍ ـ ٧٩٦ م ، وربّما عرّجت على مصدر يعدّ من أوثق ما كتب في العصر الحديث ، وهو كتاب «جامع الدروس العربية» للشيخ مصطفى الغلاييني المتوفى سنة ١٣٦٤ ه‍ ـ ١٩٤٤ م.

وقد سبقني إلى هذا الجمع والترتيب ، مؤلّفان ، مع الاختلاف في المضمون.

أما الأول : فهو الأستاذ شيخ المحققين ، عبد السّلام محمد هارون ، حيث صنع «معجم شواهد العربية» جمع فيه بين شواهد النحو وشواهد العروض ، وعلوم البلاغة ، وخصائص العربية وأسرارها. ولكنه لم يذكر من الشواهد إلا قوافيها ، وأثبت أمام كل شاهد مصادره.

وأما الثاني : فهو الدكتور حنّا جميل حداد ، (من دائرة اللغة العربية وآدابها) في جامعة اليرموك بالأردن. حيث صنع (معجم شواهد النحو الشعرية) وأثبت الشواهد كاملة ، وذكر لكل شاهد مصادره. وطبعته الأولى (١٤٠٤ ه‍ ـ ١٩٨٤ م) كثيرة الأخطاء والتحريفات ، ولكن هذه الأخطاء لم تأت من قبل المؤلف ، لأنه عالم بما صنع ، وإنما جاءت الأخطاء من مأمن المؤلف ، «ومن مأمنه يؤخذ الحذر» حيث أوكل أمر «تصحيح النّسخة الأولى» إلى الآنسة ابتسام نجيب حداد ، ويظهر أنها لم تكن من أهل اللغة ، فلم تستطع تقويم الأخطاء المطبعيّة ... وكلا العملين يستحق الشكر

٥

والتقدير ، وكلاهما يستوجب عليّ أن أقول له ؛ كما قال ابن مالك في ألفية ابن معطي :

وهو بسبق حائز تفضيلا

مستوجب ثنائي الجميلا

ولكنني وجدت عملهما مقصورا نفعه على العلماء والباحثين الذين يمتلكون المصادر النحوية التي حوت الشواهد ، أما طلبة العلم وصغار الباحثين ، والمعلمون وهواة قراءة الشعر ، والمتأدّبون ... فإنهم لا يستفيدون من المعجمين السابقين ، وقد لا يبلّ هذان المصدران عطشهم ، لأنّ امتلاك المصادر النحويّة كلها أمر عسير ولأن بيئات المثقفين متباينة : بعضهم يسكن المدينة الكبيرة التي تتوفر فيها المكتبات العامة والخاصة ، وبعضهم يسكن القرية أو المدينة الصغيرة التي لا يوجد فيها إلا القليل من المكتبات ، وإذا وجدت المكتبة ، فلا تضم إلا نماذج قليلة من الكتب.

وعنيت من بين من ذكرتهم المعلمين الذين يعملون في مدارس نائية عن العاصمة والمدن الكبرى ، وليس في مكتبات مدارسهم إلا القليل من الكتب ، فمثل هؤلاء إذا أراد أحدهم أن يعرف مدلول شاهد نحوي ، وكان عنده أحد المعجمين السابقين ، فإنه لن يجد ضالته فيهما ، وقد يدلانه على مصدر ليس موجودا في مكتبته أو مكتبة مدرسته ، وبهذا لا يفيد نفسه ولا يفيد تلاميذه. ولذلك فكّرت في صناعة معجم للشواهد النحوية ، خفيف حمله ، كثير نفعه ، قد يغني عن حمل بعير من كتب النحو ، وضمنته ما يلي :

١ ـ الشواهد التي جاءت في جميع كتب النحو التي ألفت قبل العصر الحديث وضممت إليها شواهد كتاب واحد من كتب المحدثين ، هو «جامع الدروس العربية» للشيخ مصطفى الغلاييني ، ذلك أنني ورثت حبّ هذا الكتاب عن شيخي سعيد الأفغاني لكثرة ثنائه عليه ، ولأن هذا الكتاب جامع حقا لموضوعات العربية ، بأسلوب يجمع بين الأصالة والمعاصرة ، مع فهم عميق لمدلول النصّ والشاهد.

٦

٢ ـ أثبتّ الشاهد تاما مع ضبط حروفه.

٣ ـ عزوت الشاهد إلى الشاعر ، إن كان معلوما ، وكثيرا ما ضممت إليه ما قبله وما بعده ليفهم من السياق ، إن كان لا يفهم إلا بما سبق أو لحق ، وربما ذكرت مطلع القصيدة التي كان الشاهد منها.

٤ ـ ذكرت المصدر النحوي الذي استشهد بالبيت ، وإذا تعددت المصادر ذكرتها جميعها أو ذكرت أكثرها.

٥ ـ شرحت ما ظهر لي أنه غامض من معنى البيت.

٦ ـ دللت على موضع الشاهد الذي استشهد النحاة بالبيت من أجله وقد يكون في البيت شاهدان ، فأدلّ عليهما أو أكتفي بواحد منهما. وقد أعرب ما ظهر لي أنه يحتاج إلى الإعراب من البيت غير موطن الشاهد.

٧ ـ إذا كان الشاهد محل خلاف بين النحويين ، فربما أدليت بدلوي في الدلاء ، فانفردت برأي ، أو رجحت أحد الأقوال.

٨ ـ مزجت بين الرأي النحوي ، والذوق الأدبي ، وربما رجحت الذوق الأدبي على الصنعة النحوية ؛ لأن الذوق الأدبي هو الدافع إلى التعبير أو هو الموجه للتعبير.

٩ ـ قوّمت قصة ومناسبة البيت ، أو القصيدة التي انتخب منها البيت ، واعتمدت في التقويم على النقد التاريخي ، أو اللغوي أو الأدبي.

١٠ ـ قد أنفعل بمضمون البيت ، فأستنبط منه عبرة تاريخية ، وأربط بين الماضي والحاضر من حوادث الأمّة ، وربّما ظنّ القارىء أن بعض الانفعالات كانت ذاتيّة ، ولكن هذا ظنّ قصير النظر ؛ لأن ما يهمّ فردا أو أفرادا من إقليم أو مجموعة من الناس ، لا بدّ أن ينفعل به أهل الأقاليم الأخرى ، بعيدة ، أو قريبة ، وإن تغير المفهوم القومي في العصر الحديث ، أو في أيامنا المعاصرة ، وأدّى إلى تقوقع الانفعالات وخصوصيتها ، حتى وصلت إلى حدّ الإقليميّة الضيقة.

٧

أرجو الله أن يكتبه في سجل أعمالي التي لا تنقطع ، وآمل من القرّاء أن يدعوا لي بالخير إن وجدوا خيرا ، وأن يلتمسوا العذر لهفواتي ، وما أكثرها. فالعصمة لا تكون إلا لنبي. والحمد لله رب العالمين.

محمد محمد حسن شرّاب

داريا الشام في الحادي والعشرين من

ربيع المولد النبوي ١٤١٧ ه‍ ـ ١٩٩٦ م

٨

المصادر النحويّة مرتبة هجائيا

١ ـ الأشموني (علي بن محمد) المتوفى سنة ٩٠٠ ه‍ ، وهو مؤلف كتاب «منهج السالك إلى ألفية ابن مالك» وهو شرح ألفية ابن مالك ، ويذكر في المصادر «الأشموني» ويراد به كتابه «منهج السالك ...».

٢ ـ «الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين» للشيخ كمال الدين أبي البركات عبد الرحمن بن محمد بن أبي سعيد «الأنباري» المتوفى سنة ٥٧٧ ه‍. والطبعة المعتمدة بشرح محمد محيي الدين عبد الحميد.

٣ ـ «أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك». لابن هشام الأنصاري ، وقد يعرف بكتاب «التوضيح».

٤ ـ «تحصيل عين الذهب من معدن جوهر الأدب في علم مجازات العرب» ، وهو في شرح شواهد كتاب سيبويه ، ومطبوع مع كتاب سيبويه في طبعة بولاق سنة ١٣١٦ ه‍. والكتاب منسوب للأعلم الشّنتمري يوسف بن سليمان الأندلسي ، المتوفى سنة ٤٧٦ ه‍ ويعرف بالأعلم لأنه كان مشقوق الشفة العليا ، والشنتمري : نسبة إلى بلدة شنتمرية.

٥ ـ «تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد» لابن مالك ط سنة ١٩٦٨ بالقاهرة وقد يعرف بكتاب «التسهيل».

٦ ـ «التصريح على التوضيح» للشيخ خالد بن عبد الله الأزهري المتوفى سنة ٩٠٥ ه‍. وهو شرح لكتاب «أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك» المعروف

٩

«بالتوضيح» ويرمز إليه في المصادر بـ «التصريح» أو «شرح التصريح» وهو العنوان المثبت على الكتاب.

٧ ـ «الجنى الداني في حروف المعاني» للمرادي : بدر الدين حسن بن قاسم أو «ابن أم قاسم» المتوفى سنة ٧٤٩ ه‍.

٨ ـ «حاشية الأمير على مغني اللبيب» والأمير هو محمد بن محمد بن أحمد السنباوي الأزهري المتوفى سنة ١٢٣٢ ه‍ ـ ١٨١٧ م وعرف بالأمير ؛ لأن جده أحمد كانت له إمرة في الصعيد.

٩ ـ «حاشية الصبّان» محمد بن علي المصري ، المتوفى سنة ١٢٠٦ ه‍ على شرح الأشموني للألفية (منهج السالك ...) وهو مطبوع في أسفل الكتاب السابق.

١٠ ـ «حاشية ياسين على كتاب التصريح» ، وهو ياسين بن زين الدين العليمي الحمصي المتوفى سنة ١٠٦١ ه‍ وهو شرح لكتاب التصريح المارّ ذكره ، ومطبوع على جوانب كتاب التصريح.

١١ ـ «خزانة الأدب ، ولبّ لباب لسان العرب» : المعروف اختصارا بـ «خزانة الأدب» تأليف عبد القادر بن عمر البغدادي المتوفى سنة ١٠٩٣ ه‍ والخزانة شرح لشواهد الرضيّ على الكافية (محمد بن الحسن) المتوفى سنة ٦٨٦ ه‍. [انظر شرح الكافية]. وقد اعتمدت الطبعة المحققة التي نشرها عبد السّلام محمد هارون.

١٢ ـ «الخصائص» لابن جني المتوفى سنة ٣٩٢ ه‍ بتحقيق الشيخ محمد علي النجار في ثلاثة أجزاء ط / ١٩٥٢ م.

١٣ ـ «الدرر اللوامع» على «همع الهوامع شرح جمع الجوامع» تأليف أحمد بن أمين الشنقيطي ، المتوفى سنة ١٣٣١ ه‍ ـ ١٩١٣ م.

ويرمز إليه في المصادر بلفظ «الدرر». واعتمدت على الطبعة القديمة ، بمطبعة كردستان العلمية سنة ١٣٢٨ ه‍.

١٠

وطبع الكتاب حديثا طبعة محققة بقلم الدكتور عبد العال سالم مكرم ، بالكويت سنة ١٤٠١ ه‍ ـ ١٩٨١ م في سبعة أجزاء صغيرة.

١٤ ـ سيبويه إمام أهل النحو المتوفى سنة ١٨٠ ه‍. ويذكر في المصادر اسم سيبويه ، ويراد به كتابه ، ويحيل الباحثون دائما إلى طبعة بولاق سنة ١٣١٦ ه‍. وقد نشره الأستاذ عبد السّلام هارون سنة ١٣٨٥ ه‍ ـ ١٩٦٦ م ، وذيله بحواشي مفيدة توضح بعض الغموض الذي يلفّ عبارات سيبويه ، لاختلاف المصطلح النحوي الذي استعمله سيبويه عن المصطلح النحوي المتداول في كتب المتأخرين. ولا يكاد يفهم عبارة سيبويه إلا المتخصصون في علم النحو.

١٥ ـ «شذور الذهب في معرفة كلام العرب» ، لابن هشام عبد الله بن يوسف بن هشام المتوفى سنة ٧٦١ ه‍. وأشهر طبعاته طبعة الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد. وهو في الحقيقة «شرح شذور الذهب» لأن الشذور متن وضعه ابن هشام ، ثم شرحه ، ويقال : شذور الذهب ، اختصارا.

١٦ ـ «شرح أبيات مغني اللبيب» صنفه عبد القادر بن عمر البغدادي والطبعة المعتمدة نشرة دار المأمون في دمشق بتحقيق أحمد الدقاق ، وعبد العزيز رباح. وللسيوطي «شرح شواهد المغني» طبع آخر مرّة سنة ١٩٦٦ م وهو دون شرح البغدادي في المنزلة.

١٧ ـ «شرح الألفية» ، للأشموني. (انظر ـ الأشموني).

١٨ ـ «شرح التصريح» (انظر ـ التصريح على التوضيح).

١٩ ـ «شرح الشنتمري» (انظر ـ تحصيل عين الذهب).

٢٠ ـ «شرح شواهد الشافية» ، لعبد القادر بن عمر البغدادي ، طبع سنة ١٣٥٦ ه‍. والشافية ، كتاب في الصرف ألفه ابن الحاجب عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس ، المتوفى سنة ٦٤٦ ه‍ كان أبوه حاجبا فقيل : ابن الحاجب. وقد شرح الرضيّ (محمد بن الحسن) المتوفى سنة ٦٨٦ ه‍ ، الشافية في علم الصرف.

٢١ ـ «شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك». وابن عقيل هو عبد الله بن

١١

عبد الرحمن توفي سنة ٧٦٩ ه‍. والطبعة المعتمدة بعناية الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد.

٢٢ ـ «شرح الكافية» : من تأليف محمد بن الحسن ، المشهور بـ «الرضيّ» الأستراباذي ، من أهل أستراباذ من أعمال طبرستان (في إيران) تسمى اليوم «مازندران» فتحها العرب على يد سعيد بن العاص ، وأطلقوا عليها اسم «طبرستان» و «الكافية» كتاب في النحو ألفه ابن الحاجب ، مؤلف كتاب «الشافية» في الصرف ، وقد شرح الرضيّ كلا الكتابين ، وشرح البغدادي شواهد الكتابين ، وسمّى شرح شواهد الكافية بـ «خزانة الأدب» وهو موسوعة نحوية شعرية أدبية نقديّة ، لا يوجد لها مثيل في المؤلفات العربية ، فمن حواها قيل له «كل الصيد في جوف الفرا».

٢٣ ـ «شرح المفصّل» لابن يعيش ، المتوفّى سنة ٦٤٣ ه‍ وهو يعيش بن علي بن يعيش ، ويعرف بابن يعيش ، وبابن الصانع ، والمفصّل الذي شرحه ابن يعيش من تأليف الزمخشري ، محمود بن عمر ، المتوفى سنة ٥٣٨ ه‍. والطبعة المعتمدة هي الطبعة المصرية سنة ١٩٢٨ م. في عشرة أجزاء.

٢٤ ـ الشنتمري : انظر «تحصيل عين الذهب».

٢٥ ـ الصبّان. انظر «حاشية الصبّان».

٢٦ ـ العيني : يرمز به لكتاب «المقاصد النحوية في شرح شواهد شروح الألفية». والعيني مؤلفه ، وهو بدر الدين محمود بن أحمد بن موسى الحلبي العيني ، نسبة إلى بلدة «عينتاب» في جنوب تركية بالقرب من الحدود السورية. ولعلها تسمى اليوم «غازي عينتاب» أو «غازيناتاب» أو «غازنتاب» ، وتوفي بالقاهرة سنة ٨٥٥ ه‍. وكتاب «المقاصد» جمع فيه شواهد أربعة من شروح الألفية ، وهي شرح ابن الناظم ، وابن أم قاسم ، وابن هشام ، وابن عقيل.

ورمز بالحرف «ظ» لابن الناظم و «ه» لابن هشام و «ق» لابن أم قاسم و «ع» لابن عقيل. وقد طبع هذا الكتاب على جوانب كتاب خزانة الأدب المطبوع في مطبعة بولاق سنة ١٢٩٩ ه‍.

١٢

ويعرف الكتاب أيضا باسم «الشواهد الكبرى» واختصره العيني في كتاب آخر سماه «فرائد القلائد في مختصر شرح الشواهد» وهو المعروف «بالشواهد الصغرى».

وقد رأيت للعيني في شروحه أوهاما وعثرات ، تدل على أنه ليس حجة في باب الأدب والنحو.

٢٧ ـ (شرح) «قطر الندى وبل الصدى» لابن هشام. والطبعة المعتمدة بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد.

٢٨ ـ «الكتاب» (كتاب سيبويه) انظر «سيبويه».

٢٩ ـ «مغني اللبيب عن كتب الأعاريب» لابن هشام عبد الله بن يوسف بن هشام المتوفى سنة ٧٦١ ه‍. واعتمدت في ذكر المصادر على شرح البغدادي لأبياته ، فما كان في الشرح ، فهو موجود في الأصل.

٣٠ ـ «المقاصد النحوية». (انظر العيني).

٣١ ـ «منهج السالك إلى ألفية ابن مالك». (انظر الأشموني).

٣٢ ـ «همع الهوامع شرح جمع الجوامع» : لجلال الدين السيوطي المتوفى سنة ٩١١ ه‍.

٣٣ ـ ياسين. انظر «حاشية ياسين».

١٣

الحصيلة النّقدية ، لقراءة الشواهد النحويّة

في هذا المعجم ما يقرب من أربعة آلاف بيت شعر ، لنحو تسع مئة شاعر وشاعرة ، وراجز وراجزة. وإذا كتب لهذا المعجم أن ينشر ، واحتواه الناس في مكتباتهم ، فإنهم لن يقرؤوه دفعة واحدة ، وإنما يرجعون إليه ، كلما عنّ لهم بيت ، وأرادوا أن يعرفوا شيئا عنه. وربما قرأه باحث أراد أن يقدم دراسة إحصائية استقرائية لجانب من الجوانب التي تدل عليها الشواهد ، وتبقى جوانب أخرى لم يأبه لها هذا الباحث.

أمّا مصنّف هذا المعجم ، فلعله القارىء الوحيد الذي أمعن النظر والتدقيق في كل بيت ، ولفت انتباهه جوانب متعددة مما تدل عليها الأبيات. وقد تجمعت عندي ملاحظات نقدية ، أحبّ أن أنقلها إلى القارىء ، وقد يوافقني عليها بعض القراء ، ويدفعها آخرون .. وهذا ليس غريبا في باب الأدب ، والنقد ، لأنه نقد قد يعتمد على الذوق الذاتي ، وقد يعتمد على المحاكمة العقلية المحكومة بالدليل. فما كان معتمدا على الذوق الذاتي تختلف فيه الآراء ، لاختلاف الأذواق ، ولكن الاختلاف في الأذواق لا يعني فساد ذوق فئة ، وصحة ذوق فئة أخرى ، وإنما هو اختلاف طبعي ، أو اختلاف تربوي ، والطبيعة والتربية تؤثران في ذوق الإنسان ، ولكنهما لا تفسدانه ، وينطبق على حال اختلاف الأذواق ، القول :

«وللناس فيما يشتهون مذاهب».

أما الاختلاف المعتمد على المحاكمة العقلية المحكومة بالدليل ، فإنه لا يخوض فيه إلا من امتلك دليلا يزعم أنه الأقوى ، أو امتلك فهما في نصّ الدليل غاب عن الطرف الآخر.

وإليك الحصيلة النقدية التي سجلتها :

١٤

١ ـ البيت ليس وحدة القصيدة العربية القديمة :

زعم نقّاد الشعر العربي القديم ، أن القصيدة العربية مفككة الأوصال ، ولا يربطها رابط ، وأن البيت وحدة القصيدة وليس بين أبيات القصيدة وأجزائها وحدة عضوية. وقد شاعت هذه المقولة منذ بداية العصر الحديث ، وأصبحت من المسلّمات التي يتناقلها النقاد خلفا عن سلف ، وما زالت سائدة في الكتب الجامعية والمدرسية.

وفي المعجم الذي بين يديك أيها القارىء نحو أربعة آلاف شاهد شعري وإذا تتبعت الشواهد التي استلّت من مقطوعة أو قصيدة ، فإنك ستجد مئات أو آلافا من الشواهد التي تبطل مقولة النّقاد.

إننا نجد البيت المفرد في كتاب النحو ؛ لأن المؤلف لا يهمه إلا كلمة واحدة من هذا البيت ، ولذلك يرويه مفردا ، ولكن مفهوم البيت لا يتم إلا بقراءة سابقة ولاحقة.

وقد أصدر النقّاد حكمهم بناء على قراءة ناقصة لنماذج قليلة من الشعر الجاهلي مع عدم استشعار الروح الفنية التي تسود في القصيدة الواحدة ، ويمكننا أن نقول : إن الذين أصدروا هذه الأحكام كانوا غرباء عن الحياة العربية ، ولم يتقمصوا شخصية الشاعر وهم يقرؤون قصيدته.

ونحن نقول : إنّ قراءة نماذج قليلة من قصائد الشعر الجاهلي ، لا تؤدي إلى إصدار حكم عام .. لأن كثيرا من النماذج الجاهلية ، جاءها التفكك المزعوم من الرواية ، فربما قدم الرواة ما حقه التأخير ، وربما أنقص بعضهم أبياتا ، وزاد بعضهم أبياتا أخرى. وكيف يقولون إن البيت وحدة القصيدة ـ يعني أنه يفهم وحده ـ ونحن نجد آلاف النماذج من الأبيات التي لا تفهم إلا في سياق ما بعدها ، وما قبلها. واقرأ قول عنترة بن شداد :

ومدجج كره الكماة نزاله

لا ممعن هربا ولا مستسلم

فهذا البيت لا يفهم إلا إذا قرأت ما بعده ، وهو :

جادت يداي له بعاجل طعنة

بمثقّف صدق الكعوب مقوّم

١٥

واقرأ قوله :

ولقد حفظت وصاة عمي بالضّحا

إذ تقلص الشّفتان عن وضح الفم

في حومة الحرب ...

لما رأيت القوم ...

يدعون عنتر والرماح كأنّها

أشطان بئر في لبان الأدهم

ما زلت أرميهم ..

فازورّ من وقع القنا ..

لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ...

فكل هذه الأبيات متعانقة تأخذ برقاب بعضها البعض ؛ لأنها تؤدي معاني متسلسلة ، وكل بيت يمثل حلقة.

واقرأ مطولات «المفضليات» واقرأ ما كتبه المحققان أحمد محمد شاكر وعبد السّلام محمد هارون ، تحت عنوان «جوّ القصيدة» فإن هذا الجوّ يشعرك بالرابط النفسي ، والرابط المعنوي بين أبيات القصيدة وأجزائها مهما كانت طويلة.

وقد وضع المرزوقي في مقدمة شرحه «الحماسة» ، معيار الشعر الجيد ، مستنبطا من نصوص الشعر العربي فقال : «فالواجب أن يتبيّن ما هو عمود الشعر المعروف عند العرب ؛ ليتميز تليد الصنعة من الطريف ، وقديم نظام القريض من الحديث ، ولتعرف مواطىء أقدام المختارين فيما اختاروه ، ومراسم إقدام المزيّفين على ما زيّفوه ، ويعلم أيضا فرق ما بين المصنوع والمطبوع ... فنقول ، وبالله التوفيق : إنهم كانوا يحاولون شرف المعنى وصحته ، وجزالة اللفظ واستقامته ، والإصابة في الوصف ، ومن اجتماع هذه الأسباب الثلاثة ، كثرت سوائر الأمثال وشوارد الأبيات والمقاربة في التشبيه ، والتحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن ، ومناسبة المستعار منه للمستعار له ، ومشاكله اللفظ للمعنى ، وشدة اقتضائها للقافية حتى لا منافرة بينهما. فهذه سبعة أبواب هي عمود الشعر ، ولكل باب منها معيار».

١٦

ويعنينا هنا أن نذكر ما قاله في المعيار الدال على وحدة القصيدة والتئام أجزائها ، أو ما يسمونه اليوم : «الوحدة العضويّة» ، وهو التحام أجزاء النظم ـ حيث يقول :

«وعيار التحام أجزاء النظم والتئامه على تخير من لذيذ الوزن : الطبع واللسان. فما لم يتعثر الطبع بأبنيته وعقوده ولم يتحبس اللسان في فصوله ووصوله بل استمرا فيه واستسهلاه ، بلا ملال ولا كلال ، فذاك يوشك أن تكون القصيدة منه كالبيت والبيت كالكلمة تسالما لأجزائه وتقارنا وألّا يكون كما قيل فيه :

وشعر كبعر الكبش فرّق بينه

لسان دعيّ في القريض دخيل

وكما قال خلف :

وبعض قريض الشعر أولاد علّة

يكدّ لسان الناطق المتحفّظ (١)

وكما قال رؤبة لابنه عقبة وقد عرض عليه شيئا مما قاله فقال :

قد قلت لو كان له قران. [المرزوقي ١٠ / ١١].

ونقتبس بعض ما كتبه ابن قتيبة في مقدمة كتابه «الشعر والشعراء» مما له دلالة على التحام أجزاء النظم في القصيدة العربية ، حيث يقول : «وتتبيّن التكلّف في الشعر بأن ترى البيت فيه مقرونا بغير جاره ، ومضموما إلى غير لفقه ، ولذلك قال عمر بن لجأ ـ شاعر أموي ـ لبعض الشعراء : أنا أشعر منك ، قال : وبم ذلك؟ فقال : لأني أقول البيت وأخاه ، ولأنك تقول البيت وابن عمه. وقال عبد الله بن سالم لرؤبة بن العجاج : مت يا أبا الجحاف إذا شئت! قال رؤبة : وكيف ذلك؟ قال : رأيت ابنك عقبة ينشد شعرا له أعجبني ـ يريد أنه وجد من يرثك ويخلّد ذكرك ـ قال رؤبة : نعم ، ولكن ليس لشعره قران» يريد أنه لا يقارن البيت بشبهه».

* ونفهم من مجموع الأقوال السابقة : أن من أركان القصيدة العربية : أن تكون مترابطة الأجزاء ، ويأتي هذا الترابط : من وحدة القصيدة الموسيقية ، باختيار لذيذ

__________________

(١) أولاد علّة : بنو رجل واحد من أمهات شتى ، فهم مختلفون.

١٧

الوزن. وتأتي الوحدة أيضا : من أنّ كلّ بيت ، يسلمك إلى ما بعده ، لارتباطه به معنى ونظما. وقد تؤدي بعض الأبيات معنى مستقلا ، ولكن هذا لا يجعله منفكا عما قبله وعمّا بعده ، بل يكون البيت في القصيدة بمنزلة الكلمة في البيت ، والكلمة في البيت تؤدي معنى لغويا وهي منفردة ، ولكنها لبنة في بناء البيت ، لا يتمّ إلا بها. وتكون القصيدة كلها كالبيت منظومة في سلك واحد ، كما تنتظم الكلمات في البيت.

فالتفكك إذن عيب في الشعر ، فكيف يجعلونه من خصائص قصيدهم. وانظر عشرات المقطعات التي أوردها أبو تمام في الحماسة مع شرحها ، فإنك تجد مصداق ما قال المرزوقي في مقدمته. فالبحث يطول ويحتاج إلى كتاب منفرد ، لعرض النماذج التي تبين بطلان زعم الزاعمين بتفكّك القصيدة العربية وأن البيت وحدتها .. وحتى أبيات الحكمة التي تؤدي معاني منفردة فإنها مربوطة بخيط دقيق ، يتصل بالتجربة التي عاناها الشاعر. فلا تلتفتنّ إلى ما قال النقاد ، فهم مقلدون لأول من قال ، وأول من قال جاهل بالشعر العربي.

٢ ـ ينحصر زمن شعراء الشواهد بين العصر الجاهلي ، ونهاية العصر الأموي وإذا وجدنا بيتا لشاعر عباسي ، قالوا : إنه للتمثيل وليس للاستشهاد. وأنا أرى أنهم حجروا فضيّقوا ، وكان أمامهم سعة للاختيار من العصر العباسي ، مع صحّة ربّما تضاهي أو تفوق صحة بعض ما استشهدوا به من العصر الذي حددوه ، وفي هذا المقام أذكر الملاحظات التالية :

أ ـ قسموا الشعراء إلى أربع طبقات : ثلاثة منها يستشهد بشعرهم وهم : الجاهليون ، والمخضرمون ، وشعراء العصر الأموي. والطبقة الرابعة وهم المولّدون أو المحدثون ، ولا يستشهد بشعرهم. وفي مجال الشعر الجاهلي يأخذون كلّ شعر منسوب إلى شاعر جاهلي. وليس عندهم سند متصل موثوق بأن كلّ الشعر الجاهلي منسوب إلى أصحابه. ونذكر على سبيل المثال : شعر امرىء القيس : فقد وصل إلينا من شعره الذي نسب إليه زهاء ألف بيت منسجمة في مئة قطعة ، بين طويلة وقصيرة ، نجدها في ديوانه ولكن ابن رشيق يقول : «لا يصحّ له إلا نيّف وعشرون شعرا بين طويل وقطعة». [العمدة ١ / ٦٧]. وبعض شعره ، الذي نسب

١٨

إليه ، قاله في طريق رحلته إلى ملك الروم المزعومة ، وكان معه في الرحلة عمرو بن قميئة ، وقد فطس امرؤ القيس في طريق العودة ومات أيضا عمرو بن قميئة في طريق هذه الرحلة. فمن الذي أوصل إلى الرواة شعره الذي قال فيه :

بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه

وأيقن أنّا لاحقان بقيصرا

ومن الذي نقل إلينا عند موته «وإني مقيم ما أقام عسيب»؟! وينقلون شعرا يزعمون أنه قاله في ابنة القيصر ، وأن حوارا دار بينه وبينها.

وقصيدة الأعشى في مدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مع أنها قريبة العهد من العصر الإسلامي بل زعموا أنه قالها بعد صلح الحديبية. ولكنني لم أجد لها سندا صحيحا متصلا ، بل روايات قصتها متعددة ومتضاربة ، وفيها من المعاني الإسلامية ما لا يقوله إلا من قرأ القرآن وفهمه ، وجالس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وليس للأعشى نصيب من هذا ... وقد جاء في كتب النحو عشرات من أبياتها.

وقصيدة أبي طالب في مدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لم يصحّ عندنا منها إلا البيت الذي يقول فيه «وأبيض يستسقى الغمام بوجهه» ولكنها قد تصل في بعض المراجع إلى مئة بيت. وفي كتب النحو شواهد كثيرة منها.

ب ـ نحن لا نرى أن كلّ ما ذكرنا من النماذج موضوع ومنحول ، قد يكون لهذا الشعر أصل قليل ، ثم زيد عليه ، ولكن من الذي زاد وطوّل في هذا القصيد؟.

الجواب : إنّ أكثر من نسب إليهم وضع الشعر ونحله ، ينتمون إلى ما بعد العصر الذي يستشهدون بشعر أهله ... فإذا كان الأمر كذلك فلماذا نستشهد بشعر الوضّاعين من أهل العصر العباسي ، ولا نستشهد بشعر بعض الشعراء الذين شهروا بفصاحة القول وجزالة اللفظ ، وقوة التركيب ، من أهل العصر العباسي ، أمثال : بشار بن برد ، وأبي نواس ، والعباس بن الأحنف ، والشريف الرضي ، وأبي تمام ، والمتنبي.

ج ـ وقد اختار الزمخشري ، والرضيّ ، الاستشهاد بشعر بعض من سموهم المولدين ممن يوثق بكلامهم. فقد استشهد الزمخشري في تفسيره ببيت من شعر

١٩

أبي تمام وقال : «وهو وإن كان محدثا ، لا يستشهد بشعره في اللغة ، فهو من علماء العربية ، فأجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه ، ألا ترى إلى قول العلماء : (الدليل عليه ببيت الحماسة) فيقنعون بذلك ، لوثوقهم بروايته وإتقانه» [انظر الخزانة ١ / ٧]. قال أبو أحمد : أليس الاستشهاد بشعر أبي تمام أولى من الاستشهاد بشعر منسوب إلى الزبّاء؟ وأخبرني من الذي سمع ونقل أن الزبّاء قالت :

ما للجمال مشيها وئيدا

أجندلا يحملن أم حديدا

وهل كانت الزبّاء تتكلم العربية القرشيّة؟

وهناك شعر منسوب إلى رجال من قوم عاد ، وهناك شعر منسوب إلى تبابعة اليمن مع أنّ علماء اللغة والتاريخ يقولون إن لغة أهل اليمن القديمة هي اللغة الحميرية وليست اللغة القرشية.

٣ ـ لا يؤخذ التاريخ من القصص الأدبي.

فكل بيت من الشعر له ، أو لقصيدته ، مناسبة قيل فيها. والمناسبة ذات صلة بالتاريخ والمجتمع. ويجتهد رواة الشعر أن يوجدوا مناسبة لكل بيت أو قصيدة ، لتكون عونا على فهم النص ، ولكن القصة التي يرويها رواة الشعر بعيدة العهد عنهم ، وليس في روايات الأدب أسانيد متصلة إلى زمن قول الشعر ، فرواة الشعر ، وجدوا نصوصا يرويها الناس ، وليس معها قصة ، فحرصوا على أن يكون لكل بيت قصة ، فوقعوا في شرك الوضع والكذب والاختلاق والظنّ ، فرووا ما قيل لهم ، أو تخيلوا قصة ، إذا قرأها القارىء ظنّها من الواقع التاريخي ، فنقلها على أنها من التاريخ ، وهي بعيدة عن الواقع التاريخيّ. وقد نبهت في هذا المعجم إلى كثير من المناسبات التاريخيّة المصنوعة ، وبينت كذبها.

فقصص مغامرات امرىء القيس مع بنات العرب ومع ابنة القيصر ، كاذبة ولا تمثل واقعا ، ولا يصحّ وقوعها ، وإنما هي من خيالاته.

وقصص عمر بن أبي ربيعة في العصر الإسلامي كاذبة وهي من خيال الشاعر. والشعر الذي يروونه في فتنة الجمل وصفين أكثره موضوع ولا تصح مناسبته.

٢٠