شرح ابن طولون - ج ١

أبي عبد الله شمس الدين محمّد بن علي بن طولون الدمشقي الصالحي [ ابن طولون ]

شرح ابن طولون - ج ١

المؤلف:

أبي عبد الله شمس الدين محمّد بن علي بن طولون الدمشقي الصالحي [ ابن طولون ]


المحقق: الدكتور عبد الحميد جاسم محمّد الفيّاض الكبيسي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3522-8
الصفحات: ٥٠٤
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

الإهداء

إلى منسكنا في شغاف القلب ... فلم يبرحا منه أبداً ...

وحلا في سويدائه ... فغمراه حبا وحناناً ...

وبددا ظلمة دربي ... فأضاءا لي طريق

الحياة الطويل ...

«أبي وأمي»

فذكرا كما سلوة في وحدتي ...

وطيفكما أنس في غربتي ...

وحنيني إليكما لن تكدره السنون ...

* * *

وإلى الذين وقفوا معي في رحلة البحث الطويلة ...

فشددت بهم العزم ... واجتزت بأنفاسهم

الطريق الوعر ... فكانوا البلسم الذي حفّف

عني الحزن الموجع في سنّي الاغتراب ...

فزرعوا في الأمل ... وحملوا عنّي العناء ...

«أشقائي»

د. عبد الحميد

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

الحمد لله الذي حفظ لنا لغتنا الغراء ، بروائعها ، ورقيها ، وسمو معانيها ، فأنزل بها قرآنا عربيا بيّنا لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، والصلاة والسّلام على من أوتي جوامع الكلم ، وبدائع الحكم ، وفصل الخطاب ، سيدنا محمد خير ولد عدنان ، وعلى آله وصحبه الهادين المهديين ، ومن تبعهم بإحسان وفضل إلى يوم الدين أما بعد :

فمن المعلوم عند كل مطلع أن المحفّز الأقوى إلى وضع علم النحو هو الحرص الشديد على المحافظة على لغة القرآن الكريم ، خوفا من أن يتسرب إليها لحن ، أو تنتابها عوارض التحريف ، لذا تجد علماء المسلمين منذ القرن الأول للهجرة قد عكفوا على وضع أصوله ، وتقعيد قواعده ، وترتيب مسائله ، فجمعوا غرائبه ، وصانوا فرائده ، حتى كمل بنيانه ، وعلا صرحه ، وأوفى على الغاية التي ليس وراءها نهاية لمستزيد ولا مرتقى لذي همة. وقد حدا بي مقام البحث والتنقيب في تراث أمتنا العريق إلى اختيار هذا الكتاب للعمل على دراسته وتحقيقه ، حيث إنه ثمرة جهد يانعة من بديع فكر وثقافة إمامين في علوم ثرة ، هما : الإمام ابن مالك الأندلسي ، ذلك البحر المعرفي الزخار ، الذي غاص في أعماق العربية ، واستخلص منها دررها ونفائسها ، ليبدع في صنعتها ، ويتألف في نظم عقدها ، فكان منها الخلاصة المشهورة بـ «الألفية» ، التي اختصرها من منظومته الطويلة «الكافية الشافية» ، والتي تقع فيما يقرب من ثلاثة آلاف بيت ، فأودع فيها جلّ قواعد العربية ، التي كانت غاية في الإتقان ، ورائعة من روائع الزمان ، فتلقفها علماء الأمة في عصره ، وإلى عصرنا الحاضر ، بالشرح والبحث والتحليل ، سبرا لأغوارها ، وإظهارا لبديع رونقها.

والإمام الثاني هو ابن طولون الدمشقي الذي لم يأل جهدا في شرح غوامض هذه الألفية ، والإفصاح عن مجملها ، فاستخلص أكثر مادته العلمية الثرية من عدة شروح مشهورة لها ، فجمع النقول ، وسرد الأقوال ، وأخذ وردّ ، ورجح وناقش بأسلوب عذب ، وعرض رائع ، وعبارة شيقه ، فكان بحق دوحة غناء يسرّ بها كل باحث عبر حقب الزمان الطويلة.

وقد التزمت في ضبط نص الكتاب وتصحيحه وتحقيق مسائله والتعليق عليه بما يأتي :

١ ـ تحرير النص وفق القواعد الإملائية المعاصرة وضبطه بالشكل.

٢ ـ تصحيح ما وقع في الكتاب من تحريف أو خطأ أو سقط ، ونحو ذلك مستعينا في

٥

ذلك بالرجوع إلى كتب المؤلف نفسه ، وإلى الشروح الأخرى للألفية ، التي استقى منها مادته العلمية وغيرها من الشروح الكثيرة.

٣ ـ توثيق الآراء والأقوال التي وردت في الكتاب بالطرق العلمية المتعارف عليها في هذا المجال.

٤ ـ نسبة ما أمكنني نسبته من الآراء والأقوال التي لم يعزها المؤلف إلى أصحابها ، أو عزاها إلى بعضهم ، أو صدرها بـ «قيل» ونحو ذلك.

٥ ـ تخريج الشواهد القرآنية بقراءتها المتعددة ، وضبطها بالشكل على وفق القراءة المستشهد بها.

٦ ـ تخريج الأحاديث النبوية الشريفة ، والإشارة إلى أماكن وجودها في كتب النحو.

٧ ـ تخريج آثار الصحابة رضوان الله عليهم من مصادرها المعتمدة.

٨ ـ تخريج أمثال العرب وأقوالهم المأثورة من الكتب المعتمدة في ذلك.

٩ ـ تخريج شواهد الشعر والرجز من دواوين الشعراء ، وكتب اللغة والأدب والنحو ، والكتب التي اختصت بشرح الشواهد ، وذلك بالطرق العلمية المعتمدة في ذلك.

١٠ ـ الاعتناء بتحقيق المسائل التي أوردها المؤلف في الكتاب ، والتعليق على ما أراه محتاجا منها إلى ذلك ، وإيراد مذاهب العلماء واختلافهم فيها ، والإشارة إلى أماكن وجودها في أهم المراجع النحوية.

١١ ـ وضع عناوين لأبواب الكتاب.

١٢ ـ الترجمة للأعلام الوارد ذكرهم في الكتاب ، وإثبات مصادرها.

١٣ ـ التعريف بالقبائل والأماكن والبلدان غير المعروفة التي تضمنها الكتاب.

١٤ ـ وضع فهارس عامة وشاملة للكتاب.

هذا ، فإن كنت قد وفقت في إنجاز هذا العمل على الوجه الأكمل والصورة اللائقة فذلك من فضل الله عليّ وتوفيقه لي ، وإن كانت الأخرى ، فعذري أني بذلت ما في وسعي ، وأقصى جهدي ، وتحريت الصواب ، والكمال لله وحده ، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

ولا يسعني في هذا المقام إلا أن أقدم تحية إكبار وإجلال لكل من الأساتذة : أ. د. فائز ذكي دياب ، أ. د. محمد محمد سعيد ، أ. د. غريب عبد المجيد نافع ، أساتذة اللغويات في كلية اللغة العربية / جامعة الأزهر ، الذين عرفت فيهم سمات الخلق والأدب والمروءة ، قوة علم ، وعفة لسان ، وطهارة قلب ، سائلا المولى عزوجل أن يجعلهم ذخرا لرواد العلم ، وقاصدي المعرفة ، وأن يجزيهم عني خير الجزاء وأكمله ، والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الأربعاء ١٢ / شوال / ١٤٠٩ ه‍ ـ الموافق ١٧ / مايو / ١٩٨٩ م

٦

الفصل الأول

ابن مالك الأندلسي

صاحب الألفية

هو محمد بن عبد الله (١) بن عبد الله الطائي الجياني الأندلسي ، جمال الدين ، أبو عبد الله.

ولد هذا الإمام النابه في جيّان سنة ٦٠٠ ه‍ ، وقيل ٥٩٧ ه‍ ، وقيل : ٥٩٨ ه‍ ، وقيل : ٦٠١ ه‍ ، وتوفي في دمشق لاثنتي عشرة ليلة خلت من شعبان سنة ٦٧٢ ه‍ ، ودفن بسفح جبل قاسيون.

نشأ ابن مالك في بلاد الأندلس نشأة علمية قوية ، ثم رحل إلى بلاد الشام ، فأخذ عن كبار علمائها ، ولم يزل كذلك حتى ظهر علمه ، وعلا كعبه ، وتصدر لإقراء العربية ، وأمّ بالمدرسة السلطانية في حلب ، ومن ثم بالمدرسة العادلية في دمشق ، فكان إماما. حاذقا في القراءات وعللها ، وإليه المنتهى في اللغة ، أما النحو والتصريف فهو فيهما بحر لا يجارى ، وحبر لا يبارى ، سهل عليه نظم الشعر ، رجزه وطويله وبسيطه ، هذا مع ما تملّك نفسه من الدين المتين ، والصدق والنقاء ، وكثرة النوافل ، والسمت الحسن ، إضافة إلى رقة القلب ، وكمال العقل ، والوقار والتؤدة.

كثر شيوخه الذين أخذ عنهم ، نذكر منهم : أبو علي الشلوبيني ، المتوفى سنة

__________________

(١) انظر ترجمته في بغية الوعاة للسيوطي : ٥٣ ، طبقات الشافعية الكبرى للسبكي : ٥ / ٢٨ ، نفح الطيب للمقري : ٢ / ٢٢٢ ، الأعلام للزركلي : ٦ / ٢٣٣ ، معجم المؤلفين لكحالة : ١٠ / ٢٣٤ ، البداية والنهاية لابن كثير : ١٣ / ٢٦٧ ، طبقات القراء لابن الجزري : ٢ / ١٨٠ ، النجوم الزاهرة لابن تغري بردي : ٧ / ٢٤٣ ، المختصر في أخبار البشر لأبي الفداء : ٨ ـ ٩ ، شذرات الذهب لابن العماد : ٥ / ٣٣٩ ، مفتاح السعادة لطاش كبرى زاده ، ١ / ١١٥ ، شرح المكودي مع ابن حمدون : ١ / ٩ ، شرح الهواري للألفية (٢ / ب) مخطوط ، هداية السالك إلى ترجمة ابن مالك لابن طولون : ٢٦٩ ، القلائد الجوهرية لابن طولون : ٢ / ٥٣٩ ، ١ / ٣٤٣.

٧

٦٤٥ ه‍ (١) ، العلم السخاوي ، المتوفى سنة ٦٤٣ ه‍ (٢) ، ابن يعيش الأسدي ، المتوفى سنة ٦٤٣ ه‍ ، وابن عمرون ، المتوفى سنة ٦٤٩ ه‍.

ومن تلامذته : شرف الدين النووي ، المتوفى سنة ٦٠٧ ه‍ ، بدر الدين ابن جماعة ، المتوفى سنة ٧٣٣ ه‍ ، شرف الدين البارزي ، المتوفى سنة ٧٣٨ ه‍ ، وابنه بدر الدين محمد ابن الناظم ، المتوفى سنة ٦٨٦ ه‍.

وقد أثنى عليه علماء عصره ، وأشادوا بجهوده الكبيرة في العربية وعلومها ، وهو الجدير بذلك ، فقال عنه أبو حيان الأندلسي : «إن ابن مالك نظم في هذا العلم كثيرا ونثر ، وجمع باعتكافه ومراجعته غرائب ، وحوت مصنفاته نوادر وعجائب ، وإن من عرف ما في تسهيله لا يكون تحت السماء من هو أنحى منه».

وكانت له مؤلفات كثيرة بلغت نحو ستين مؤلفا ما بين مخطوط ومطبوع ، لاقت قبولا كبيرا ورواجا متميزا في أنحاء المعمورة ، شملت النحو والصرف واللغة والعروض والقراءات وغيرها ، دلت على سعة علمه واتساع أفقه ، وعلو كعبه ، ورفعة مقامه ، وسأقتصر هنا على بعض مؤلفاته في النحو والصرف فقط.

فمنها : أجوبة على أسئلة جمال الدين اليمني في النحو ، إكمال العمدة وشرحه ، إيجاز التعريف في علم التصريف ، تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد وشرحه ، الخلاصة المشهورة بـ «الألفية» وشرحها (على ما ذكره بعضهم) ، سبك المنظوم وفك المختوم ، شرح الجزولية ، شرح عمدة الحافظ وعدة اللافظ ، الفوائد النحوية والمقاصد المحوية ، الكافية الشافية وشرحها ، المؤصل في نظم المفصل ، نكت على مقدمة ابن الحاجب وغيرها.

__________________

(١) انظر ترجمته في بغية الوعاة : ٣٦٤ ، شذرات الذهب لابن العماد : ٥ / ٢٣٢ ، مرآة الجنان لليافعي : ٤ / ١١٣ ، أنباه الرواة للقفطي : ٢ / ٣٣٢ ، البداية والنهاية لابن كثير : ١٣ / ١٧٣ ، الأعلام : ٥ / ٦٢ ، معجم المؤلفين : ٧ / ٣١٦.

(٢) انظر ترجمته في البداية والنهاية : ١٣ / ١٧٠ ، طبقات القراء لابن الجزري : ١ / ٥٦٨ ، أنباه الرواة : ٢ / ٣١١ ، بغية الوعاة : ٣٤٩ ، طبقات الشافعية : ٥ / ١٢٦ ، مرآة الجنان : ٤ / ١١٠ ، شذرات الذهب : ٥ / ٢٢٢ ، معجم المؤلفين : ٧ / ٢٠٩.

٨

الفصل الثاني

ابن طولون الدمشقي صاحب الشرح

هو محمد بن علي (١) بن أحمد (المدعو محمد) بن علي بن خمارويه بن طولون ، الدمشقي الصالحي الحنفي ، شمس الدين ، أبو الفضل ، أبو عبد الله.

ولد هذا العالم الجليل سنة ٨٨٠ ه‍ تقريبا ، من شهر ربيع الأول تحقيقا ، في منزله الكائن بحكر الحجاج ، الشهير الآن بحكر بني القلانسي ، قبلي مدرسة الشيخ ابن عمر ، بصالحية دمشق ، من سفح جبل قاسيون.

وتوفي يوم الأحد ، العاشر أو الحادي عشر أو الثاني عشر من جمادى الأولى ، سنة ٩٥٣ ه‍ ، ودفن بتربة أسرته عند عمه القاضي جمال الدين ، بالسفح قبلي الكهف والخوارزمية ، ولم يعقب أحدا ولم تكن له زوجة حين مات.

نشأ ابن طولون في كنف عمه جمال الدين ، الذي أرشده إلى طلب العلم ، فسعى به إيمانه الراسخ ، وهمته العالية إلى حفظ القرآن الكريم ، فحفظه بمكتب مسجد الكوافي ، ثم انطلق يرتشف أنواع العلوم والمعارف ، مقبلا على النهل منها بردح عالية ، ونفس مشحونة بالصدق والإخلاص ، فحفظ الكثير من الكتب والمصنفات ، وتلا القرآن بالقراءات السبع إفرادا وجمعا من طريقي الشاطبية ، ثم إلى تلاوته بالثلاثة تتمة العشرة.

ويمكن لنا الإطلاع على المزيد من سيرته العلمية مفصلة في كتابه المعروف «الفلك المشحون في أحوال محمد بن طولون» ، التي ندرك مدى اتصاف هذا العالم الجليل من همة قوية ، وشخصية علمية رائعة ، وفكر وقاد ، وذكاء مميز ، فهو موسوعة علمية ثقافية مزيدة في المجتمع الإسلامي ، تتطلع إليها الأنظار في كل زمان ومكان.

__________________

(١) انظر ترجمته في الفلك المشحون في أحوال محمد بن طولون للمؤلف ، الكواكب السائرة للغزي : ٢ / ٥٢ ، شذرات الذهب : ٨ / ٢٩٨ ، الأعلام : ٦ / ٢٩١ ، معجم المؤلفين : ١١ / ٥١ ، المستدرك على معجم المؤلفين : ٧١٤ ، تاريخ الأدب العربي لكارل بروكلمان (الأصل ـ ترجمة علي شوشان ـ دار الأمم للترجمة) : ٢ / ٤٨١ ـ ٤٨٣ ، (الملحق ـ ترجمه علي شوشان ـ دار الأمم للترجمة) : ٢ / ٤٩٤ ـ ٤٩٥.

٩

وكان له شعر وصفه في كتابه الفلك المشحون بأنه وان كان ركيكا لكنه لا يخلو من فائدة تلقى ، وموعظة تثبت ولا تنفى ، وغزل ينشي بقهوته الحاسي ، ويلين القلب القاسي ، وقال : وما أحسن قول الإمام الشافعي رضي‌الله‌عنه :

ولو لا الشعر بالعلماء يزري

لكنت اليوم أشعر من لبيد

وله ديوانا شعر ، الأكبر والأصغر.

وقد تعدد شيوخه تبعا لتلك الشخصية الواسعة الآفاق والمدارك ، نذكر منهم هنا : زين الدين بن العيني ، المتوفى سنة ٨٩٣ ه‍ ، ناصر الدين بن زريق ، المتوفى سنة ٩٠٠ ه‍ ، جمال الدين بن طولون ، المتوفى سنة ٩٣٧ ه‍ ، جمال الدين بن المبرد ، المتوفى سنة ٩٠٩ ه‍.

ومن تلامذته الذين أخذوا منه ، ورووا عنه : شهاب الدين الطيبي ، المتوفى سنة ٩٧٩ ه‍ ، علاء الدين بن عماد الدين ، المتوفى سنة ٩٧١ ه‍ ، نجم الدين البهنسي ، المتوفى سنة ٩٨٦ ه‍ ، إسماعيل النابلسي ، المتوفى سنة ٩٩٣ ه‍. وقد مدحه وأثنى عليه علماء عصره من شيوخ وتلامذه وغيرهم ، من خلال ما كتبوه له في عوض أو إجازة ، ونحو ذلك ، ووضعوه بعبارات الإطراء ، وعلو الشأن ، ورفعة المقام ، ذكر الكثير منها في كتابه الفلك المشحون ص (٧ ـ ١٠) ، (١٨ ـ ٢٠) ، (٤٩ ـ ٥٢). أما عن آثاره العلمية فمما لا شك فيه أنه نتيجة لسعة اطلاع ابن طولون ، وغزارة علمه ، ورحابه أفقه كانت له مؤلفات كثيرة تفوق الحصر ، تبعا لذلك ، فقد ألف كما هائلا وعددا ضخما من المصنفات العلمية في علوم كثيرة متنوعة ، نذكر منه : النحو وأصوله ، التصريف ، اللغة ، العروض والقوافي ، البلاغة ، المنطق ، التجويد ، القراءات ، علوم القرآن ، الحديث وأصوله ، الفقه وأصوله ، الفرائض ، علم الكلام ، التصوف ، التاريخ ، الحساب ، الهندسة ، الفلك ، الطب ، إضافة إلى الأبحاث الدينية والأدبية والاجتماعية ، وغيرها.

وقد بلغ ما استطعت حصره منها (٧٦١) مؤلفا ، ذكر جلها في كتابه الفلك المشحون ، فأضاف بذلك رصيدا ضخما وثروة عظيمة إلى المكتبة الإسلامية والعربية ، استفاد منها خلق كثير على مر العصور والأجيال.

ولكثرة هذه المؤلفات سأقتصر هنا على ذكر بعض مؤلفاته في علوم العربية ، فمنها : إتحاف البنهاء بنحو الفقهاء ، إرشاد الأعمى إلى خواص الأسماء ، ولإلمام بشرح حقيقة الاستفهام ، الأنوار الشمسية في حل الخزرجية ، بغية المعاني لعلم المعاني ، تحفة الأمجد في أصل أبجد. وغيرها كثير.

١٠

الفصل الثالث

الكتاب

(شرح ألفية ابن مالك)

المبحث الأول

توثيق نسبة الكتاب

يمكنني القول إن نسبة هذا الكتاب «شرح ألفية ابن مالك» إلى محمد بن طولون الدمشقي أمر مقطوع بصحته ، وإن لم يورده ابن طولون ضمن مؤلفاته في كتابه الفلك المشحون ، اعتمادا على ما توافر لي من أدلة بنية على ذلك.

أولا : كتب على الورقة الأولى من النسخة الفريدة التي حصلت عليها من دار الكتب الظاهرية بدمشق : «كتاب شرح الخلاصة «الألفية» ، تأليف الإمام العالم العامل الفاضل الكامل الشيخ شمس الدين محمد بن طولون الحنفي رحمه‌الله تعالى آمين».

وكتب أسفل منها على الجهة اليمنى بيتان من الشعر في مدحه ، هما :

يا بن طولون طلت رأس الشّمال

واقتطفت العلوم درّا تحاكي

فإذا النفس حاولت برء داء

فانهضي نحوه لتلقي شفاك

وكتب على الورقة الأخيرة من هذه النسخة «ونقلت هذه النسخة اللطيفة من نسخة المصنف التي هي للإمام الهمام الفاضل الكامل الورع الزاهد ، فريد عصره وأوانه ، الشيخ شمس الدين محمد بن طولون الحنفي ، أفاض الله علينا من بركاته وعلومه في الدنيا والآخرة ، يا رب العالمين ، يا أرحم الراحمين».

ثانيا : أشير إلى نسبة هذا الكتاب لابن طولون في فهرس الكتب الظاهرية (قسم النحو) ص ٢٦٧ ، كما أشير إليها أيضا في المستدرك على معجم المؤلفين ص ٧١٥.

ثالثا : ذكر ابن طولون في كتابه هذا ـ في أثناء شرحه لنظم الألفية ـ ثلاثة كتب من مؤلفاته ، هي : «شرح توضيح الخزرجية ، المقدمة الموضوعة لأوائل التصانيف ، إعراب الخزرجية».

١١

وبمطالعتنا لمؤلفاته في كتابه الفلك المشحون نجد أنه أورد فيه كتابين من هذه الثلاثة ، سمى أولهما فيه بتسميتن :

الأولى : الأنوار الشمسية في شرح حل الخزرجية المسمى بالتوضيح في علمي العروض والقوافي (١).

الثانية : شرح ممزوج على توضيح الخزرجية في علمي العروض والقوافي (٢).

وسمى ثانيهما فيه «إيفاء العهد في مقدمة الحمد» ، وقال : «وهو مشتمل على أربعة وعشرين فصلا ومقدمة وخاتمة ، يشتمل كل منها على فوائد وغرائب وتحقيقات ، تتعلق بأوائل الكتب من الكلام على البسملة وتوابعها» (٣).

رابعا : لابن طولون كتاب ترجم فيه لابن مالك ، سماه «هداية السالك إلى ترجمة ابن مالك» ، كما ترجم له أيضا في كتابه «القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية» ، وهذان الكتابان مقطوع بنسبتهما إليه ، حيث إنه أوردهما في كتابه «الفلك المشحون».

وبمقابلة هذه الترجمة في هذين الكتابين بالترجمة التي أوردها في شرحه ، عند قول الناظم :

قال محمد هو ابن مالك

 ...

 ـ ثبت لنا دليل قوي على أنها جميعا صادرة من معين واحد ، وعطاء فكر واحد ، وخطت بقلم واحد.

أما ما يخص زمن تأليف الكتاب فإنه ليس هناك نص قاطع فيه ، لكن يرجح أنه ألفه بعد سنة ٩٥٠ ه‍ ، حيث إن ابن طولون لم يذكر هذا الكتاب ضمن مؤلفاته التي أوردها في «الفلك المشحون» علما أنه لم يعرض فعلا كل مؤلفاته ، وكانت آخر الوقائع التي ذكرت فيه سنة ٩٥٠ ه‍ (٤) ، فيمكن القول : لو أنه ألفه قبل ذلك التاريخ لضمه إلى مؤلفاته التي أوردها فيه.

ومن المحتمل أنه ألفه قبل سنة ٩٥٠ ه‍ ، لكن لم ينته بعد من تدوينه ، فلم يرد ذكره ضمن مولفاته قبل أن يتم ويكمل ، علما أنه أشار إلى بعض مؤلفاته أنّه كتب منها قطعة ، أو لم تكتمل ، وبين سبب إعراضه عن إكمال بعضها ، بأنه وجد مؤلفا لأحد العلماء في ذلك الغرض الذي يرمي إليه.

__________________

(١) الفلك المشحون ص ٢٦.

(٢) الفلك المشحون ص ٣٩.

(٣) الفلك المشحون ص ٢٦.

(٤) الفلك المشحون ص ٢٥.

١٢

المبحث الثاني

نسخة الكتاب المخطوطة ووضعها

مخطوطة هذا الكتاب الذي عنيت بتحقيقه نسخة فريدة مودعة في دار الكتب الظاهرية برقم (٩٨٧٨ ـ عام) تقع في (٢٨٥) ورقة من القطع المتوسط ، مقاس الصفحة ٥ ر ٢٠* ١٥ سم ، عدد الأسطر في كل صفحة (١٧) سطرا ، متوسط عدد الكلمات في السطر الواحد تسع كلمات.

وقد احتفظت مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض بنسخة مصورة عنها ، برقم (ف ١٤٤٥) (١) ، وليس الأمر كما يدعي بعضهم بعيدا عن الدليل العلمي : أنها نسخة ثانية لهذه المخطوطة.

كتب أبيات النظم في هذه النسخة بالحمرة وشكلت بالسواد ، وكتب الشرح السواد بخط النسخ ، وترك هامش بعرض ٥ ر ٣ سم ، فيه بعض التصويبات والتعليقات.

تبتدئ المخطوطة من الورقة (٢ / أ) ، وتنتهي عند الورقة (٢٨٥ / أ) ، كتب على الورقة الأولى منها «كتاب شرح الخلاصة الألفية تأليف الإمام ...» (٢) ، وفي أسفلها كتب «هدية الآنسة فلك طرزي إلى دار الكتب الظاهرية». وعلى هذه الورقة أيضا قيود تملك باسم عبد القادر بن الشيخ إسماعيل بن الشيخ عبد الغني النابلسي ، وباسم محيي الدين النابلسي ، وعبد القادر النابلسي ، وأحمد النابلسي ، ثم محمد بن محيي الدين.

وجاء في الورقة الأخيرة من هذه المخطوطة قول ناسخها «تم الشرح المبارك والحمد لله وحده ، وصلّى الله على من لا نبي بعده ، وصحبه وتابعيه وحزبه ، والله تعالى أعلم بالصواب».

يلي ذلك تاريخ الفراغ من النسخ ، وهو أواخر جمادى الأولى سنة ١٠٣٠ ه‍ ، فاسم الناسخ ، وهو «محمد بن عمر» ، ولم يذكر مكان النسخ.

__________________

(١) فهرس المخطوطات المصورة في مكتبة جامعة الإمام محمد بن مسعود (النحو والصرف واللغة والعروض) ، إعداد : علي حسين النواب ، الطبعة الأولى ١٤٠٧ ه‍ ـ ١٩٨٧ م ، ص ١٢٥.

١٣

١٤

١٥

١٦

بسم الله الرحمن الرحيم

وبالله المستعان

أمّا بعد :

حمدا لله الذي من نحا نحوه ظفر بقصده ، والصّلاة والسّلام على سيّدنا محمد وآله وصحبه من بعده.

فهذا شرح لطيف على الألفية الموسومة بالخلاصة لسيبويه العصر جمال الدين ابن مالك تغمّده الله برحمته ، وأسكنه بحبوحة جنّته ، يحلّ للمشتغلين مشكلها ، ويفتح للمتأملين مقفلها ، من غير تعرّض للنقل عليها ، ولا إضافة غيرها إليها ، ولا إنشاد شواهد إلّا ما لا بدّ منه ، ولا إيراد مذاهب إلا ما لا مندوحة عنه.

سألني بعض الإخوان الذين هم بمنزلة العين للإنسان (١) أدام الله بهجته ، وحرس للأنام مهجته (أن أضع له شرحا) (٢) على نحو ما ذكرته ، وعلى حسب ما وصفته (٣) فبادرت إلى امتثاله ، وإن لم أكن من هذا القبيل ولا من أمثاله ، والله تعالى هو المستعان وعليه التعويل ، وهو حسبنا (٤) ونعم الوكيل.

__________________

(١) في الأصل : والعين للإنسان. زيادة.

(٢) ما بين القوسين ساقط من الأصل. انظر شرح المكودي : ١ / ٨.

(٣) في الأصل : وضعته. انظر شرح المكودي : ١ / ٨.

(٤) في الأصل لفظ «الله» زيادة. انظر شرح الهواري : (٢ / ب).

١٧
١٨

خطبة الألفيّة

قال محمد هو ابن مالك (١)

أحمد ربّي الله خير مالك

كان حقّ النّاظم أن يعبّر بالفعل المستقبل ، لأنّ المقول لم يقع ، كما فعل ابن معط (٢) في ألفيّته قبله (٣) ، ولكنّه عبّر بالماضي لوجوه :

/ منها : أنّه يجوز أن يكون قد تأخّر نظم «قال» عن المحكيّ به ، فيكون على ظاهره.

ومنها : أن يكون أوقع الماضي موضع المستقبل تحقيقا له ، وتنزيلا منزلة الواقع ، كما في قوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١].

ومنها : أن يكون وضع كلمة «قال» أوّل نظمه ليحكي بها عند (قضاء) (٤) الحاجة والفراغ (من المحكيّ) (٥)(٦).

__________________

(١) وفي إعراب الألفية (٣) : «ابن ملك» ، وهو الأولى هنا ليتفق مع قوله بعد : «وحذفت ألف «مالك» الأول خطأ».

(٢) ابن معطي : هو يحيى بن عبد المعطي بن عبد النور الزواوي الحنفي المعروف بابن معطي ، أبو الحسين عالم بالعربية والأدب ، ولد سنة ٥٦٤ ه‍ ، وتتلمذ على الجزولي وغيره وتوفي بالقاهرة سنة ٦٢٨ ه‍. ومن آثاره : الدرة الألفية في علم العربية ، منظومة في العروض ، منظومة في القراءات السبع ، ديوان شعر ، وديوان خطب.

انظر ترجمته في معجم الأدباء للحموي : ٢٠ / ٣٥ ، البداية والنهاية لابن كثير : ١٣ / ١٢٩ ، ١٣٤ ، المختصر في أخبار البشر لأبي الفداء : ٣ / ١٥٩ ، بغية الوعاة للسيوطي : ٤١٦ ، شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي : ٥ / ١٢٩ ، مرآة الجنان لليافعي : ٤ / ٦٦ ، معجم المؤلفين لعمر كحالة : ١٣ / ٢٠٩ ، الأعلام : ٨ / ١٥٥ ، وانظر ص ٢٧ فقد ترجم له المؤلف هناك. وفي الأصل : ابن معطي. انظر شرح المرادي : ١ / ٥.

(٣) حيث قال في الدرة الألفية :

يقول راجي ربّه الغفور

يحيى بن معط عبد النّور

انظر الدرّة الألفية : ص ٢ ، كشف الظنون : ١ / ١٥٥.

(٤ ـ ٥) ما بين القوسين ساقط من الأصل. انظر شرح المرادي : ١ / ٦.

(٦) قال المرادي في شرحه (١ / ٦) : «ونظيره ما أجازه السيرافي في قول سيبويه رحمه‌الله : «هذا باب علم ما الكلم من العربية» أن يكون وضع كلمة الإشارة غير مشير بها إلى شيء ليشير بها عند الحاجة والفراغ من المشار إليه» وانظر الكتاب : ١ / ٢.

١٩

وقد عرّف المصنف باسمه فقال : «قال محمّد» ثمّ نبّه على المعرفة الّتي بها يعرّفه الناس ، فقال : «هو ابن مالك».

واعلم أنّ المصنف هو محمد بن عبد الله (١) بن عبد الله بن عبد الله (٢) ابن مالك الطّائيّ النّسب (٣) ، الأندلسيّ الإقليم ، الجيّانيّ المنشأ ـ وجيّان مدينة من مدن الأندلس (٤) ، وبها كان مولده ، سنة ثمان وتسعين وخمسمائة (٥) ـ الدمشقيّ الدار ، بعد أن تنقل في بلادها ، وسكن بحلب ، وحماة ، ثمّ انتهى آخرا إلى صالحيّتها (٦) ، وبها كانت وفاته لاثنتي عشرة (٧) ليلة خلت من شعبان سنة

__________________

(١) انظر ترجمته في بغية الوعاة : ٥٣ ، مفتاح السعادة لطاش كبري زاده : ١ / ١١٥ ، القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية لابن طولون : ٢ / ٥٣١ ـ ٥٣٤ ، شذرات الذهب : ٥ / ٣٣٩ ، مرآة الجنان : ٤ / ١٧٢ ، المختصر في أخبار البشر : ٨ ـ ٩ ، النجوم الزاهرة لابن تغري بردي : ٧ / ٢٤٤ ، معجم المؤلفين : ١٠ / ٢٣٤ ، الأعلام : ٦ / ٢٣٣ ، المكودي مع ابن حمدون : ١ / ٩ ، شرح الهواري (٢ / ب) ، البداية والنهاية : ١٣ / ٢٦٧ ، نفح الطيب للمقري : ٢ / ٢٢٢ ، طبقات الشافعية للسبكي : ٥ / ٢٨ ، إيضاح المكنون للبغدادي : ١ / ٢٦٠ ، ٢ / ٧٣ ، هداية السالك إلى ترجمة ابن مالك لابن طولون (مخطوط) ، تاريخ الأدب العربي لبروكلمان : ٥ / ٢٧٥.

(٢) انفرد ابن طولون من بين من ترجم له بذكر نسبه هكذا وقيل : إن «عبد الله» مذكور في نسبه مرتين متواليتين. وأكثر من ترجم له قال : «هو محمد بن عبد الله بن مالك» ، وفي تاريخ الأدب العربي لبروكلمان : «محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن مالك».

(٣) في الأصل : إلى. زيادة. انظر هداية السالك لابن طولون : ٢٦٩.

(٤) في الأصل : الأندلسي. انظر هداية السالك : ٢٦٩ ، وجيان : مدينة واسعة بالأندلس بينها وبين قرطبة سبعة عشر فرسخا ، وهي كورة كبيرة تجمع قرى وبلدانا كثيرة. انظر معجم البلدان للحموي : ٢ / ١٩٥ ، مراصد الاطلاع لصفي الدين البغدادي : ١ / ٣٦٤ ، تقويم البلدان : لأبي الفداء : ١٧٧.

(٥) انظر شرح الألفية للهواري (٢ / ب) ، طبقات القراء : ٢ / ١٨٠ (وفيه : وقيل : ٦٠٠) ، والمفهوم من كلام الأشموني (١ / ٨) ، والمكودي (١ / ٩ و١٠) في شرحيهما : أن ولادته كانت سنة ٥٩٧ ه‍ حيث نصا على أن وفاته كانت سنة ٦٧٢ ه‍ وهو ابن خمس وسبعين سنة ، وفي الأعلام (٦ / ٢٣٣) ، والبداية والنهاية (١٣ / ٢٦٧) أنها كانت سنة (٦٠٠ ه‍) ، وفي النجوم الزاهرة (٧ / ٢٤٣) أنها كانت سنة (٦٠١ ه‍) ، وفي شذرات الذهب (٥ / ٣٣٩) ، وبغية الوعاة (٥٣) ، ومعجم المؤلفين (١٠ / ٢٣٤) ، ونفح الطيب (٢ / ٢٢٢) أنها كانت سنة ٦٠٠ ه‍ ـ أو سنة ٦٠١ ه‍ ، وفي هداية السالك (٢٦٩). قال ابن طولون : «وميلاده : قال البرهان بن القيم والتقي الأسدي : سنة ستمائة أو إحدى وستمائة ، وقال الشمس الهواري : سنة ثمان وتسعين وخمسمائة ، وانظر القلائد الجوهرية : ٢ / ٥٣٢.

(٦) أي : صالحية دمشق ، وهي قرية كبيرة ذات أسواق وجامع في سفح جبل قاسيون من غوطة دمشق وفيها قبور جماعة من الصالحين ، وأكثر أهلها ناقلة من نواحي بيت المقدس على مذهب الإمام أحمد بن حنبل. انظر معجم البلدان : ٣ / ٣٩٠ ، مراصد الاطلاع : ٢ / ٨٣٠.

(٧) في الأصل لاثني عشر. انظر شرح الهواري : (٣ / أ).

٢٠