مغنى اللبيب

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري

مغنى اللبيب

المؤلف:

أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري


المحقق: محمّد محيى الدين عبد الحميد
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات مكتبة الصادق للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٦٤
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

حرف النون

النون المفردة ـ تأتى على أربعة أوجه :

أحدها : نون التوكيد ، وهى خفيفة وثقيلة ، وقد اجتمعتا فى قوله تعالى : (لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً) وهما أصلان عند البصريين ، وقال الكوفيون : الثقيلة أصل ، ومعناهما التوكيد ، قال الخليل : والتوكيد بالثقيلة أبلغ ، ويختصان بالفعل ، وأما قوله :

٥٥٤ ـ [أريت إن جاءت به أماودا

مرجّلا ويلبس البرودا]

*أقائلنّ أحضروا الشّهودا*

فضرورة سوّغها شبه الوصف بالفعل.

ويؤكد بهما صيغ الأمر مطلقا ، ولو كان دعائيا كقوله :

٥٥٥ ـ فأنزلن سكينة علينا

[وثبّت الأقدام إن لاقينا]

إلا أفعل فى التعجب ؛ لأن معناه كمعنى الفعل الماضى ، وشذ قوله :

٥٥٦ ـ [ومستبدل من بعد غضبى صريمة]

فأحربه بطول فقر وأحريا

ولا يؤكد بهما الماضى مطلقا ، وشذّ قوله :

٥٥٧ ـ دامنّ سعدك لو رحمت متيّما

لولاك لم يك للصّبابة جانحا

والذى سهّله أنه بمعنى أفعل ، وأما المضارع فإن كان حالا لم يؤكد بهما ، وإن كان مستقبلا أكد بهما وجوبا فى نحو قوله تعالى (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) وقريبا من الوجوب بعد إمّا فى نحو (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ) (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ) وذكر ابن جنى أنه قرىء (فَإِمَّا تَرَيِنَّ) بياء ساكنة بعدها نون الرفع على حد قوله :

*يوم الصّليفاء لم يوفون بالجار* [٤٤٨]

٣

ففيها شذوذان : ترك نون التوكيد ، وإثبات نون الرفع مع الجازم. وجوازا كثيرا بعد الطلب نحو (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً) وقليلا فى مواضع كقولهم :

٥٥٨ ـ [إذا مات منهم سيّد سرق ابنه]

ومن عضة ما ينبتنّ شكيرها

الثانى : التنوين ، وهو نون زائدة ساكنة تلحق الآخر لغير توكيد ؛ فخرج نون حسن لأنها أصل ، ونون ضيفن للطفيلىّ لأنها متحركة ، ونون منكسر وانكسر لأنها غير آخر ، ونون (لَنَسْفَعاً) لأنها للتوكيد.

وأقسامه خمسة :

(١) تنوين التمكين ، وهو : اللاحق للاسم المعرب المنصرف إعلاما ببقائه على أصله وأنه لم يشبه الحرف فيبنى ، ولا الفعل فيمنع الصرف ، ويسمى تنوين الأمكنية أيضا ، وتنوين الصرف ، وذلك كزيد ورجل ورجال.

(٢) وتنوين التنكير ، وهو : اللاحق لبعض الأسماء المبنيّة فرقا بين معرفتها ونكرتها ، ويقع فى باب اسم الفعل بالسماع كصه ومه وإبه ، وفى العلم المختوم بويه بقياس نحو «جاءنى سيبويه وسيبويه آخر».

وأما تنوين رجل ونحوه من المعربات فتنوين تمكين ، لا تنوين تنكير ، كما قد يتوهم بعض الطلبة ، ولهذا لو سميت به رجلا بقى ذلك التنوين بعينه مع زوال التنكير.

(٣) وتنوين المقابلة ، وهو : اللاحق لنحو «مسلمات» جعل فى مقابلة النون فى «مسلمين» وقيل : هو عوض عن الفتحة نصبا ، ولو كان كذلك لم يوجد فى الرفع والجر ، ثم الفتحة قد عوّض عنها الكسرة ، فما هذا العوض الثانى؟ وقيل : هو تنوين التمكين ، ويرده ثبوته مع التسمية به كعرفات كما تبقى نون مسلمين مسمى به ، وتنوين التمكين لا يجامع العلّتين ، ولهذا لو سمّى بمسلمة

٤

أو عرفة زال تنوينهما ، وزعم الزمخشرى أن عرفات مصروف ، لأن تاءه ليست للتأنيث ، وإنما هى والألف للجمع ، قال : ولا يصح أن يقدّر فيه تاء غيرها ، لأن هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث تأبى ذلك ، كما لا تقدر التاء فى بنت مع أن التاء المذكورة مبدلة من الواو ، ولكن اختصاصها بالمؤنث يأبى ذلك ، وقال ابن مالك : اعتبار تاء نحو عرفات فى منع الصرف أولى من اعتبار تاء نحو عرفة ومسلمة ، لأنها لتأنيث معه جمعية ، ولأنها علامة لا تتغير فى وصل ولا وقف.

(٤) وتنوين العوض ، وهو : اللاحق عوضا من حرف أصلى ، أو زائد ، أو مضاف إليه : مفردا ، أو جملة.

فالأول كجوار وغواش ، فإنه عوض من الياء وفاقا لسيبويه والجمهور ، لا عوض لمن ضمة الياء وفتحتها النائبة عن الكسرة خلافا للمبرد ، إذ لو صح لعوض عن حركات نحو حبلى ، ولا هو تنوين التمكين والاسم منصرف خلافا للأخفش ، وقوله لما حذفت الياء التحق الجمع بأوزان الآحاد كسلام وكلام فصرف مردود ، لأن حذفها عارض للتخفيف ، وهى منويّة ، بدليل أن الحرف الذى بقى أخيرا لم يحرك بحسب العوامل ، وقد وافق على أنه لو سمى يكتف امرأة ثم سكن تخفيفا لم يجز صرفه كما جاز صرف هند ، وأنه إذا قيل فى جيأل علما لرجل جيل بالنقل لم ينصرف انصراف قدم علما لرجل ، لأن حركة تاء كتف وهمزة جيل منويّا الثبوت ، ولهذا لم تقلب ياء جيل ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها.

والثانى : كجندل ، فإن تنوينه عوض من ألف جنادل ، قاله ابن مالك ، والذى يظهر خلافه ، وأنه تنوين الصرف ، ولهذا يجر بالكسرة ، وليس ذهاب الألف التى هى علم الجمعية كذهاب الياء من نحو جوار وغواش.

والثالث : تنوين كلّ وبعض إذا قطعتا عن الإضافة نحو (وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ

٥

الْأَمْثالَ) (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) وقبل : هو تنوين التمكين ، رجع لزوال الإضافة التى كانت تعارضه.

والرابع : اللاحق لإذ فى نحو (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) والأصل فهى يوم إذ انشقت واهية ، ثم حذفت الجملة المضاف إليها للعلم بها ، وجىء بالتنوين عوضا عنها ، وكسرت الذال للساكنين. وقال الأخفش : التنوين تنوين التمكين والكسرة إعراب المضاف إليه.

(٥) وتنوين الترنم ، وهو : اللاحق للقوافى المطلقة بدلا من حرف الإطلاق ، وهو الألف والواو والياء ، وذلك فى إنشاد بنى تميم ، وظاهر قولهم أنه [تنوين] محصّل للترنم وقد صرح بذلك ابن يعيش كما سيأتى ، والذى صرح به سيبويه وغيره من المحققين أنه جىء به لقطع الترنم ، وأن الترنم وهو التّغنّى يحصل بأحرف الإطلاق لقبولها لمد الصوت فيها ، فإذا أنشدوا ولم يترنموا جاءوا بالنون فى مكانها ولا يختص هذا التنوين بالاسم ، بدليل قوله :

٥٥٩ ـ [أقلّى اللّوم عاذل والعتابن]

وقولى إن أصبت لقد أصابن

وقوله :

[أفد التّرحّل غير أنّ ركابنا]

لما تزل برحالنا وكأن قدن [٢٨٦]

وزاد الأخفش والعروضيون تنوينا سادسا ، وسموه الغالى ، وهو : اللاحق لآخر القوافى المقيدة ، كقول رؤبة :

٥٦٠ ـ وقاتم الأعماق خاوى المخترقن

[مشتبه الأعلام لمّاع الخفقن]

[ص ٣٦١]

وسمى غاليا لتجاوزه حدّ الوزن ، ويسمّى الأخفش الحركة التى قبله غلوا ، وفائدته الفرق بين الوقف والوصل ، وجعله ابن يعيش من نوع تنوين الترنم ، زاعما أن الترنم يحصل بالنون نفسها ، لأنها حرف أغنّ ، قال : وإنما سمى المغنى مغنيا ،

٦

لأنه يغنّن صوته : أى يجعل فيه غنّة ، والأصل عنده مغنن بثلاث نونات فأبدلت الأخيرة ياء تخفيفا ، وأنكر الزجاج والسيرافى ثبوت هذا التنوين البتة ؛ لأنه يكسر الوزن ، وقالا : لعل الشاعر كان يزيد «إن» فى آخر كل بيت ، فضعف صوته بالهمزة ، فتوهم السامع أن النون تنوين ، واختار هذا القول ابن مالك ، وزعم أبو الحجاج ابن معزوز أن ظاهر كلام سيبويه فى المسمى تنوين الترنم أنه نون عوض من المدة ، وليس بتنوين ، وزعم ابن مالك فى التحفة أن تسمية اللاحق للقوافى المطلقة والقوافى المقيدة تنوينا مجاز ، وإنما هو نون أخرى زائدة ، ولهذا لا يختص بالاسم ، ويجامع الألف واللام ، ويثبت فى الوقف.

وزاد بعضهم تنوينا سابعا ، وهو تنوين الضرورة ، وهو : اللاحق لما لا ينصرف كقوله :

٥٦١ ـ ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة

[فقالت : لك الويلات ؛ إنّك مرجلى]

وللمنادى المضموم كقوله :

٥٦٢ ـ سلام الله يا مطر عليها

[وليس عليك يا مطر السّلام]

وبقوله أقول فى الثانى دون الأول ؛ لأن الأول تنوين التمكين ؛ لأن الضرورة أباحت الصرف ، وأما الثانى فليس تنوين تمكين ، لأن الاسم مبنى على الضم.

وثامنا ، وهو التنوين الشّاذّ ، كقول بعضهم «هؤلاء قومك» حكاه أبو زيد ، وفائدته مجرد تكثير اللفظ ، كما قيل فى ألف قبعثرى ، وقال ابن مالك : الصحيح أن هذا نون زيدت فى آخر الاسم كنون ضيفن ، وليس بتنوين ، وفيما قاله نظر ؛ لأن الذى حكاه سمّاه تنوينا ؛ فهذا دليل منه على أنه سمعه فى الوصل دون الوقف ، ونون ضيفن ليست كذلك.

وذكر ابن الخباز فى شرح الجزولية أن أقسام التنوين عشرة ، وجعل كلا من

٧

تنوين المنادى وتنوين صرف ما لا ينصرف قسما برأسه ، قال : والعاشر تنوين الحكاية ، مثل أن تسمى رجلا بعاقلة لبيبة ؛ فإنك تحكى اللفظ المسمى به ، وهذا اعتراف منه بأنه تنوين الصرف ؛ لأن الذى كان قبل التسمية حكى (١) بعدها.

الثالث : نون الإناث ، وهى اسم فى نحو «النّسوة يذهبن» خلافا للمازنى ، وحرف فى نحو «يذهبن النّسوة» فى لغة من قال «أكلونى البراغيث» خلافا لمن زعم أنها اسم وما بعدها بدل منها ، أو مبتدأ مؤخر والجملة قبله خبره.

الرابع : نون الوقاية ، وتسمى نون العماد أيضا ، وتلحق قبل ياء المتكلم المنتصبة بواحد من ثلاثة :

أحدها : الفعل ، متصرفا كان نحو «أكرمنى» أو جامدا نحو «عسانى ، وقاموا ما خلانى وما عدانى وحاشانى» إن قدّرت فعلا ، وأما قوله :

[عددت قومى كعديد الطّيس]

إذ ذهب القوم الكرام ليسى [٢٨٣]

فضرورة ، ونحو (تأمروننى) يجوز فيه الفك ، والإدغام ، والنطق بنون واحدة ، وقد قرىء بهن فى السبعة ، وعلى الأخيرة فقيل : النون الباقية نون الرفع ، وقيل : نون الوقاية ، وهو الصحيح.

الثانى : اسم الفعل نحو «دراكنى» و «تراكنى» و «عليكنى» بمعنى أدركنى واتركنى والزمنى.

الثالث : الحرف نحو «إنّنى» وهى جائزة الحذف مع إنّ وأنّ ولكنّ وكأنّ ، وغالبة الحذف مع لعلّ ، وقليلته مع ليت.

وتلحق أيضا قبل الياء المخفوضة بمن وعن إلا فى الضرورة ، وقبل المضاف إليها لدن أو قد أو قط إلا فى القليل (٢) من الكلام ، وقد تلحق فى غير ذلك شذوذا كقولهم «بجلنى» بمعنى حسبى.

__________________

(١) فى نسخة «يحكى بعدها»

(٢) فى نسخة «إلا فى قليل الكلام».

٨

وقوله :

٥٦٣ ـ [وما أدرى وظنّى كلّ ظنّ]

أمسلمنى إلى قومى شراحى

يريد شراحيل ، وزعم هشام أن الذى فى «أمسلمنى» ونحوه تنوين لا نون ، وبنى ذلك على قوله فى ضاربنى إن الياء منصوبة ، ويرده قول الشاعر :

٥٦٤ ـ وليس الموافينى ليرفد خائبا

[فإنّ له أضعاف ما كان أمّلا]

وفى الحديث «غير الدّجّال أخوفنى عليكم» والتنوين لا يجامع الألف واللام ولا اسم التفضيل لكونه غير منصرف ، وما لا ينصرف لا تنوين فيه ، وفى الصحاح أنه يقال «بجلى» ولا يقال «بجلنى» وليس كذلك.

(نعم) بفتح العين ، وكنانة تكسرها ، وبها قرأ الكسائى ، وبعضهم يبدلها حاء ، وبها قرأ ابن مسعود ، وبعضهم يكسر النون إتباعا لكسرة العين تنزيلا لها منزلة الفعل فى قولهم نعم وشهد بكسرتين ، كما نزّلت بلى منزلة الفس فى الإمالة ، والفارسىّ لم يطلع على هذه القراءة وأجازها بالقياس

وهى حرف تصديق ووعدو إعلام ؛ فالأول بعد الخبر كقام زيد ، وما قام زيد. والثانى بعد افعل ولا تفعل وما فى معناهما نحو هلّا تفعل وهلّا لم تفعل ، وبعد الاستفهام فى نحو هل تعطينى ، ويحتمل أن تفسر فى هذا بالمعنى الثالث والثالث بعد الاستفهام فى نحو هل جاءك زيد ، ونحو (فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) (قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً) وقول صاحب المقرب «إنها بعد الاستفهام للوعد» غير مطرد ؛ لما بيناه قبل.

قيل : وتأتى للتوكيد إذا وقعت صدرا نحو «نعم هذه أطلالهم» والحق أنها فى ذلك حرف إعلام ؛ وأنها جواب لسؤال مقدّر ، ولم يذكر سيبويه معنى الإعلام البتة ، بل قال : وأما نعم فعدة وتصديق ، وأما بلى فيوجب بها بعد النفى ، وكأنه رأى أنه إذا قيل «هل قام زيد» فقيل نعم فهى لتصديق ما بعد الاستفهام ، والأولى

٩

ما ذكرناه من أنها للاعلام ؛ إذ لا يصح أن تقول لقائل ذلك : صدقت ؛ لأنه إنشاء لا خبر.

واعلم أنه إذا قيل «قام زيد» فتصديقه نعم ، وتكذيبه لا ، ويمتنع دخول بلى لعدم النفى. وإذا قيل «ما قام زيد» فتصديقه نعم ، وتكذيبه بلى ، ومنه (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي) ويمتنع دخول لا ؛ لأنها لنفى الإثبات لا لنفى النفى. وإذا قيل «أقام زيد» فهو مثل قام زيد ، أعنى أنك تقول إن أثبتّ القيام : نعم ، وإن نفيته : لا ، ويمتنع دخول بلى ، وإذا قيل «ألم يقم زيد» فهو مثل لم يقم زيد ، فتقول إذا أثبتّ القيام : بلى ، ويمنع دخول لا ، وإن نفيته قلت : نعم ، قال الله تعالى (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى) (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى) وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه لو قيل نعم فى جواب (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) لكان كفرا.

والحاصل أن «بلى» لا تأتى إلا بعد نفى ، وأن «لا» لا تأتى إلا بعد إيجاب ، وأن «نعم» تأتى بعدهما ، وإنما جاز (بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي) مع أنه لم يتقدم أداة نفى لأن (لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي) يدلّ على نفى هدايته ، ومعنى الجواب حينئذ بلى قد هديتك بمجىء الآيات ، أى قد أرشدتك لذلك (١) ، مثل (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ).

وقال سيبويه ، فى باب النعت ، فى مناظرة جرت بينه وبين بعض النحويين : فيقال له : ألست تقول كذا وكذا ، فإنه لا يجد بدا من أن يقول : نعم ، فيقال له : أفلست تفعل كذا؟ فإنه قائل : نعم ، فزعم ابن الطراوة أن ذلك لحن.

وقال جماعة من المتقدمين والمتأخرين منهم الشلوبين : إذا كان قبل النفى استفهام فإن كان على حقيقته فجوابه كجواب النفى المجرد ، وإن كان مرادا به التقرير فالأكثر أن يحاب بما يجاب به النفى رعيا للفظه ، ويجوز عند أمن اللبس أن يجاب بما يجاب به الإيجاب

__________________

(١) فى نسخة «قد أرشدتك بذلك» وكلاهما صحيح ، ولكل وجه.

١٠

رعيا لمعناه ، ألا ترى أنه لا يجوز بعده دخول أحد ، ولا الاستثناء المفرغ ، لا يقال : أليس أحد فى الدار ، ولا أليس فى الدار إلا زيد ، وعلى ذلك قول الأنصار رضى الله تعالى عنهم للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقد قال لهم : ألستم ترون لهم ذلك ـ نعم ، وقول جحدر :

٥٦٥ ـ أليس اللّيل يجمع أمّ عمرو

وإيّانا ؛ فذاك بنا تدانى

نعم ، وأرى الهلال كما تراه

ويعلوها النّهار كما علانى

وعلى ذلك جرى كلام سيبويه ، والمخطّىء مخطىء.

وقال ابن عصفور : أجرت العرب التقرير فى الجواب مجرى النفى المحض وإن كان إيجابا فى المعنى ، فإذا قيل «ألم أعطك درهما» قيل فى تصديقه : نعم ، وفى تكذيبه : بلى ، وذلك لأن المقرّر قد يوافقك فيما تدعيه وقد يخالفك ، فإذا قال نعم لم يعلم هل أراد نعم لم تعطنى على اللفظ أو نعم أعطيتنى على المعنى ؛ فلذلك أجابوه على اللفظ ، ولم يلتفتوا إلى المعنى ، وأما نعم فى بيت جحدر فجواب لغير مذكور ، وهو ما قدّره فى اعتقاده من أن الليل يجمعه وأم عمرو ، وجاز ذلك لأمن اللبس ؛ لعلمه أن كل أحد يعلم أن الليل يجمعه وأم عمرو ، أو هو جواب لقوله «وأرى الهلال ـ البيت» وقدمه عليه. قلت : أو لقوله : «فذاك بنا تدانى» وهو أحسن. وأما قول الأنصار فجاز لزوال اللّبس ؛ لأنه قد علم أنهم يريدون نعم نعرف لهم ذلك ، وعلى هذا يحمل استعمال سيبويه لها بعد التقرير ، اه.

ويتحرر على هذا أنه لو أجيب (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) بنعم لم يكف فى الإقرار ؛ لأن الله سبحانه وتعالى أوجب فى الإقرار بما يتعلق بالربوبية العبارة التى لا تحتمل غير المعنى المراد من المقرّ ؛ ولهذا لا يدخل فى الإسلام بقوله «لا إله إلّا الله» برفع إله ؛ لاحتماله لنفى الوحدة فقط ، ولعل ابن عباس رضى الله عنهما إنما قال إنهم لو قالوا نعم

١١

لم يكن إقرارا كافيا ، وجوز الشلوبين أن يكون مراده أنهم لو قالوا نعم جوابا للملفوظ به على ما هو الأفصح لكان كفرا ؛ إذ الأصل تطابق الجواب والسؤال لفظا ، وفيه حظر ؛ لأن التكفير لا يكون بالاحتمال.

حرف الهاء

الهاء المفردة ـ على خمسة أوجه :

أحدها : أن تكون ضميرا للغائب ، وتستعمل فى موضعى الجر والنصب ، نحو (قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ).

والثانى : أن تكون حرفا للغيبة ، وهى الهاء فى «إياه» فالحقّ (١) أنها حرف لمجرد معنى الغيبة ، وأن الضمير «إيّا» وحدها.

والثالث : هاء السكت ، وهى اللاحقة لبيان حركة أو حرف نحو (ما هِيَهْ) ونحو «هاهناه ، ووا زيداه» وأصلها أن يوقف عليها ، وربما وصلت بنية الوقف.

والرابع : المبدلة من همزة الاستفهام كقوله :

٥٦٦ ـ وأتى صواحبها فقلن : هذا الذى

منح المودّة غيرنا وجفانا؟

والتحقيق أن لا تعدّ هذه ؛ لأنها ليست بأصلية ، على أن بعضهم زعم أن الأصل «هذا» فحذفت الألف.

والخامس : هاء التأنيث ، نحو «رحمه» فى الوقف ، وهو قول الكوفيين ، زعموا أنها الأصل ، وأن التاء فى الوصل بدل منها ، وعكس ذلك البصريون ، والتحقيق أن لا تعدّ ولو قلنا بقول الكوفيين ؛ لأنها جزء كلمة لا كلمة.

__________________

(١) فى نسخة «والتحقيق أنها ـ إلخ»

١٢

(ها) على ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون اسما لفعل ، وهو خذ ، ويجوز مدّ ألفها ، ويستعملان بكاف الخطاب وبدونها ، ويجوز فى الممدودة أن يستغنى عن الكاف بتصريف همزتها تصاريف الكاف ؛ فيقال «هاء» للمذكر بالفتح و «هاء» للمؤنث بالكسر ، و «هاؤما» و «هاؤنّ» و «هاؤم» ومنه (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ).

والثانى : أن تكون ضميرا للمؤنث ، فتستعمل مجرورة الموضع ومنصوبته نحو (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها).

والثالث : أن تكون للتنبيه ، فتدخل على أربعة ؛ أحدها : الإشارة غير المختصة بالبعيد نحو «هذا» بخلاف ثمّ وهنّا بالتشديد وهنالك. والثانى : ضمير الرفع المخبر عنه باسم إشارة نحو (ها أَنْتُمْ أُولاءِ) وقيل : إنما كانت داخلة على الإشارة فقدمت ، فرد بنحو (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) فأجيب بأنها أعيدت توكيدا ، والثالث : نعت أىّ فى النداء نحو «يا أيها الرّجل» وهى فى هذا واجبة للتنبيه على أنه المقصود بالنداء ، قيل : وللتعويض عما تضاف إليه أىّ ، ويجوز فى هذه فى لغة بنى أسد أن تحذف ألفها ، وأن تضم هاؤها إتباعا ، وعليه قراءة ابن عامر (أيه المؤمنون) (أيه الثقلان) (أيه الساحر) بضم الهاء فى الوصل ، والرابع : اسم الله تعالى فى القسم عند حذف الحرف ، يقال «ها الله» بقطع الهمزة ووصلها ، وكلاهما مع إثبات ألف «ها» وحذفها.

(هل) : حرف موضوع لطلب التصديق الإيجابى ، دون التصور ، ودون التصديق السلبى ، فيمتنع نحو «هل زيدا ضربت» لأن تقديم الاسم يشعر بحصول التصديق بنفس النسبة ، ونحو «هل زيد قائم أم عمرو» إذا أريد بأم المتصلة ، و «هل لم يقم زيد» ونظيرها فى الاختصاص بطلب التصديق أم المنقطعة ، وعكسهما أم المتصلة ، وجميع أسماء الاستفهام فإنهن لطلب التصور لا غير ، وأعمّ من الجميع الهمزة فإنها مشتركة بين الطلبين.

١٣

وتفترق هل من الهمزة من عشرة أوجه :

أحدها : اختصاصها بالتصديق.

والثانى : اختصاصها بالإيجاب ، تقول «هل زيد قائم» ويمتنع «هل لم يقم» بخلاف الهمزة ، نحو (أَلَمْ نَشْرَحْ) (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) وقال :

*ألا طعان ألا فرسان عادية* [١٠٠]

والثالث : تخصيصها المضارع بالاستقبال ، نحو «هل تسافر؟» بخلاف الهمزة نحو «أتظنه قائما» وأما قول ابن سيده فى شرح الجمل : لا يكون الفعل المستفهم عنه إلا مستقبلا ؛ فسهو ، قال الله سبحانه وتعالى (فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) وقال زهير :

٥٦٧ ـ فمن مبلغ الأحلاف عنّى رسالة

وذبيان هل أقسمتم كلّ مقسم

والرابع والخامس والسادس : أنها لا تدخل على الشّرط ، ولا على إنّ ، ولا على اسم بعده فعل ، فى الاختيار ، بخلاف الهمزة ، بدليل (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ ، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) (أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) (أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ).

والسابع والثامن : أنها تقع بعد العاطف ، لا قبله وبعد أم نحو (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) وفى الحديث «وهل ترك لنا عقيل من رباع» وقال :

٥٦٨ ـ ليت شعرى هل ثمّ هل آتينهم

أو يحولنّ دون ذاك حمام؟

وقال تعالى (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ)

التاسع : أنه يراد بالاستفهام بها النفى ؛ ولذلك دخلت على الخبر بعدها إلا فى نحو (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) والباء فى قوله :

١٤

٥٦٩ ـ [يقول إذا اقلولى عليها وأقردت] :

ألا هل أخو عيش لذيذ بدائم؟

وصح العطف فى قوله :

٥٧٠ ـ وإنّ شفائى عبرة مهراقة

وهل عند رسم دارس من معوّل [ص ٤٨٣]

إذ لا يعطف الإنشاء على الخبر.

فإن قلت : قد مر لك فى صدر الكتاب أن الهمزة تأتى لمثل ذلك مثل (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ) ألا ترى أن الواقع أنه سبحانه لم يصفهم بذلك؟.

قلت : إنما مر أنها للانكار على مدّعى ذلك ، ويلزم من ذلك الانتفاء ، لا أنها للنفى ابتداء ، ولهذا لا يجوز «أقام إلا زيد» كما يجوز «هل قام إلا زيد» (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ) وقد يكون الإنكار مقتضيا لوقوع الفعل ، على العكس من هذا ، وذلك إذا كان بمعنى ما كان ينبغى لك أن تفعل ، نحو أتضرب زيدا وهو أخوك؟

ويتلخص أن الإنكار على ثلاثة أوجه : إنكار على من ادعى وقوع الشىء ، ويلزم من هذا النفى وإنكار على من أوقع الشىء ، ويختصان بالهمزة وإنكار لوقوع الشىء ، وهذا هو معنى النفى ، وهو الذى تنفرد به هل عن الهمزة.

والعاشر : أنها تأتى بمعنى قد ، وذلك مع الفعل ، وبذلك فسّر قوله تعالى (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) جماعة منهم ابن عباس رضى الله عنهما والكسائى والفراء والمبرد قال فى مقتضبه : هل للاستفهام نحو هل جاء زيد ، وقد تكون بمنزلة قد نحو قوله جل اسمه (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ) اه. وبالغ الزمخشرى فزعم أنها أبدا بمعنى قد ، وأن الاستفهام إنما هو مستفاد من همزة مقدرة معها ، ونقله فى المفصل عن سيبويه ، فقال : وعند سيبويه أن هل بمعنى

١٥

قد ، إلا أنهم تركوا الألف قبلها ؛ لأنها لا تقع إلا فى الاستفهام ، وقد جاء دخولها عليها فى قوله :

٥٧١ ـ سائل فوارس يربوع بشدّتنا

أهل رأونا بسفح القاع ذى الأكم

اه ولو كان كما زعم لم تدخل إلا على الفعل كقد ، وثبت فى كتاب سيبويه رحمه‌الله ما نقله عنه ، ذكره فى باب أم المتصلة ، ولكن فيه أيضا ما قد يخالفه ؛ فإنه قال فى باب عدّة ما يكون عليه الكلم ما نصه : وهل هى للاستفهام ، ولم يزد على ذلك. وقال الزمخشرى فى كشافه (هَلْ أَتى) أى قد أتى ، على معنى التقرير والتقريب جميعا ، أى أتى على الإنسان قبل زمان قريب طائفة من الزمان الطويل الممتد لم يكن فيه شيئا مذكورا ، بل شيئا منسيا نطفة فى الأصلاب ، والمراد بالإنسان الجنس بدليل (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) ه. وفسرها غيره بقد خاصة ، ولم يحملوا قد على معنى التقريب ، بل على معنى التحقيق ، وقال بعضهم : معناها التوقع ، وكأنه قيل لقوم يتوقعون الخبر عما أتى على الإنسان وهو آدم عليه الصلاة والسّلام ، قال : والحين زمن كونه طينا ، وفى تسهيل ابن مالك أنه يتعين مرادفة هل لقد إذا دخلت عليها الهمزة يعنى كما فى البيت ، ومفهومه أنها لا تتعين لذلك إذا لم تدخل عليها ، بل قد تأتى لذلك كما فى الآية ، وقد لا تأتى له ، وقد عكس قوم ما قاله الزمخشرى ، فزعموا أن هل لا تأتى بمعنى قد أصلا.

وهذا هو الصواب عندى ؛ إذ لا متمسك لمن أثبت ذلك إلا أحد ثلاثة أمور :

أحدها : تفسير ابن عباس رضى الله عنهما ، ولعله إنما أراد أن الاستفهام فى الآية للتقرير ، وليس باستفهام حقيقى ، وقد صرح بذلك جماعة من المفسرين ، فقال بعضهم : هل هنا للاستفهام التقريرى ، والمقرّر به من أنكر البحث ، وقد علم أنهم يقولون : نعم قد مضى دهر طويل لا إنسان فيه ، فيقال لهم : فالذى أحدث الناس

١٦

بعد أن لم يكونوا كيف يمتنع عليه إحياؤهم بعد موتهم؟ وهو معنى قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) أى فهلا تذكرون فتعلمون أنّه من أنشأ شيئا بعد أن لم يكن قادر على إعادته بعد عدمه؟ انتهى. وقال آخر مثل ذلك ، إلا أنه فسر الحين بزمن التصوير فى الرحم ، فقال : المعنى ألم يأت على الناس حين من الدهر كانوا فيه نطفا ثم علقا ثم مضغا إلى أن صاروا شيئا مذكورا. وكذا قال الزّجاج ، إلا أنه حمل الإنسان على آدم عليه الصلاة والسّلام ، فقال : المعنى ألم يأت على الانسان حين من الدهر كان فيه ترابا وطينا إلى أن نفخ فيه الروح؟ اه. وقال بعضهم : لا تكون هل للاستفهام التقريرى ، وإنما ذلك من خصائص الهمزة ، وليس كما قال ، وذكر جماعة من النحويين أن هل تكون بمنزلة إنّ فى إفادة التوكيد والتحقيق ، وحملوا على ذلك (هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) وقدّروه جوابا للقسم ، وهو بعيد.

والدليل الثانى : قول سيبويه الذى شافه العرب وفهم مقاصدهم ، وقد مضى أن سيبويه لم يقل ذلك.

والثالث : دخول الهمزة عليها فى البيت ، والحرف لا يدخل على مثله فى المعنى ، وقد رأيت عن السيرافى أن الرواية الصحيحة «أم هل» وأم هذه منقطعة بمعنى بل ؛ فلا دليل ، وبتقدير ثبوت تلك الرواية فالبيت شاذّ ؛ فيمكن تخريجه على أنه من الجمع بين حرفين لمعنى (١) واحد على سبيل التوكيد ، كقوله :

*ولا للما بهم أبدا دواء* [٢٩٩]

بل الذى فى ذلك البيت أسهل ؛ لاختلاف اللفظين ، وكون أحدهما على حرفين فهو كقوله :

__________________

(١) فى نسخة «بمعنى واحد».

١٧

٥٧٢ ـ فأصبح لا يسألنه عن بما به

أصعّد فى علو الهوى أم تصوّبا

(هو) وفروعه : تكون أسماء وهو الغالب ، وأحرفا فى نحو «زيد هو الفاضل» إذا أعرب فصلا وقلنا : لا موضع له من الإعراب ، وقيل : هى مع القول بذلك أسماء كما قال الأخفش فى نحو صه ونزال : أسماء لا محل لها ، وكما فى الألف واللام فى نحو «الضّارب» إذا قدرناهما اسما.

حرف الواو

(الواو المفردة) انتهى مجموع ما ذكر من أقسامها إلى أحد عشر :

الأول : العاطفة ، ومعناها مطلق الجمع ؛ فنعطف الشىء على مصاحبه نحو (فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ) وعلى سابقه نحو (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ) وعلى لاحقه نحو (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) ، وقد اجتمع هذان فى (وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) فعلى هذا إذا قيل «قام زيد وعمرو» احتمل ثلاثة معان ، قال ابن مالك : وكونها للمعية راجح ، وللترتيب كثير ، ولعكسه قليل ، اه. ويجوز أن يكون بين متعاطفيها تقارب أو تراخ نحو (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) فإن الرد بعيد إلقائه فى اليم والإرسال على رأس أربعين سنة ، وقول بعضهم «إن معناها الجمع المطلق» غير سديد ؛ لتقييد الجمع بقيد الإطلاق ، وإنما هى للجمع لا بقيد ، وقول السيرافى «إن النحويين واللغويين أجمعوا على أنها لا تفيد الترتيب» مردود ، بل قال بإفادتها إياه قطرب والرّبعىّ والفراء وثعلب وأبو عمرو الزاهد وهشام والشافعى ، ونقل الإمام فى البرهان عن بعض الحنفية أنها للمعية.

١٨

وتنفرد عن سائر أحرف العطف بخمسة عشر حكما :

أحدها : احتمال معطوفها للمعانى الثلاثة السابقة.

والثانى : اقترانها بإمّا نحو (إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً).

والثالث : اقترانها بلا إن سبقت بنفى ولم تقصد المعبة نحو «ما قام زيد ولا عمرو» ولتفيد أن الفعل منفىّ عنهما فى حالتى الاجتماع والافتراق ، ومنه (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) والعطف حينئذ من عطف الجمل عند بعضهم على إضمار العامل ، والمشهور أنه من عطف المفردات ، وإذا فقد أحد الشرطين امتنع دخولها ؛ فلا يجوز نحو «قام زيد ولا عمرو» وإنما جاز (وَلَا الضَّالِّينَ) لأن فى (غَيْرِ) معنى النفى ، وإنما جاز قوله :

٥٧٣ ـ فاذهب فأىّ فتى فى النّاس أحرزه

من حتفه ظلم دعج ولا حيل

لأن المعنى لا فتى أحرزه ، مثل (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) ، ولا يجوز «ما اختصم زيد ولا عمرو» لأنه للمعية لا غير ، وأما (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ، وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ ، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ، وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) فلا الثانية والرابعة والخامسة زوائد لأمن اللبس.

والرابع : اقترانها بلكن نحو (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ).

والخامس : عطف المفرد السببى على الأجنبى عند الاحتياج إلى الرّبط كـ «مررت برجل قائم زيد وأخوه» ونحو «زيد قائم عمرو وغلامه» وقولك فى باب الاشتغال «زيدا ضربت عمرا وأخاه».

والسادس : عطف العقد على السيف ، نحو أحد وعشرون.

والسابع : عطف الصفات.

١٩

٥٧٤ ـ بكيت ، وما بكا رجل حزين؟

على ربعين مسلوب وبالى

والثامن : عطف ما حقّه التثنية أو الجمع نحو قول الفرزدق :

٥٧٥ ـ إنّ الرّزيّة لا رزيّة مثلها

فقدان مثل محمّد ومحمّد

وقول أبى نواس :

٥٧٦ ـ أقمنا بها يوما ويوما وثالثا

ويوما له يوم الترحّل خامس

وهذا البيت يتساءل عنه أهل الأدب ، فيقولون : كم أقاموا؟ والجواب : ثمانية لأن يوما الأخير رابع ، وقد وصف بأن يوم الترحل خامس له ، وحينئذ فيكون يوم الترحل هو الثامن بالنسبة إلى أول يوم.

التاسع : عطف ما لا يستغنى عنه كاختصم زيد وعمرو ، واشترك زيد وعمرو.

وهذا من أقوى الأدلة على عدم إفادتها الترتيب ، ومن ذلك : جلست بين زيد وعمرو ، ولهذا كان الأصمعى يقول الصواب :

[قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللّوى] بين الدّخول وحومل [٢٦٦]

لا فحومل ، وأجيب بأن التقدير : بين نواحى الدخول ، فهو كقولك : «جلست بين الزّيدين فالعمرين» أو بأن الدّخول مشتمل على أماكن

وتشاركها فى هذا الحكم أم المتصلة فى نحو «سواء أقمت أم قعدت» فإنها عاطفة ما لا يستغنى عنه.

والعاشر والحادى عشر : عطف العام على الخاص ، وبالعكس ؛ فالأول نحو (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) والثانى نحو

٢٠