التّعليقات

أبو علي حسين بن عبد الله بن سينا [ شيخ الرئيس ابن سينا ]

التّعليقات

المؤلف:

أبو علي حسين بن عبد الله بن سينا [ شيخ الرئيس ابن سينا ]


المحقق: الدكتور عبد الرحمن بدوي
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مكتب الإعلام الإسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٩٩

١
٢

٣
٤

تصدير

هذا كتاب «التعليقات» لابن سينا ، أملاه وعلقه عنه تلميذه بهمنيار. وكما يدل عليه اسمه إن هو إلا جمل وأقوال شتى تشمل معظم موضوعات الفلسفة ، وعلى الأخص المنطق وما بعد الطبيعة والطبيعة وعلم النفس. ومذهب ابن سينا فيها هو بعينه ذلك الذي نجده فى سائر كتبه. ولعل أقرب كتبه نسبا إلى هذا الكتاب من ناحية طريق التأليف هو كتاب «المباحثات» الذي نشرناه فى كتابنا «أرسطو عند العرب» (القاهرة سنة ١٩٤٧ ، ص ١٢٢ ـ ص ٢٣٩).

وبعض هذه التعليقات يبدأ بقوله : «قوله ...». وأغلب الظن أن المقصود هاهنا هو أرسطو ، وإن كان من العسير ، لقصر العبارة وعدم تمامها ، أن نحدد فى أى كتاب من كتب أرسطو ورد هذا القول. لكن هذا النوع قليل فى ثنايا الكتاب ، مما يدل على أنه ليس المقصود من هذه التعليقات أن تكون شروحا على مواضع فى النص الأصلى لأرسطو ، «أو التعليم الأول» على حد تعبير ابن سينا فى كتاب «الشفاء» حين يشير إلى نص أرسطو الأصلى.

وينسب إلى ابن سينا كتب أخرى توصف «بالتعاليق» و«التعليقات» مما علقه تلاميذه عنه. منها :

١ ـ «كتاب تعاليق علقه عنه تلميذه أبو منصور بن زيلا» (أو زيله) (١).

٢ ـ «تعليقات استفادها أبو الفرج الطبيب الهمذانى من مجلسه وجوابات له» (٢).

________________

١) ابن أبى أصيبعة : «عيون الأنباء فى طبقات الأطباء» ج‍ ٢ ص ١٩ س ١٩. نشرة ملر ، القاهرة سنة ١٨٨٢ م.

٢) ابن أبى أصيبعة : «عيون الأنباء» ح‍ ٢ ص ٢٠ س ١١ ، نشرة ملر ، القاهرة سنة ١٨٨٢ م.

٥

تاريخ تأليفه

ولما كان هذا الكتاب ـ كتاب «التعليقات» ـ تعليقات علقها بهمنيار بن المرزبان عن أستاذه ابن سينا ، فلا بد أن يكون تعليقه إياها فى الفترة التي كان فيها بهمنيار يلازم ابن سينا. (١) و قد كان ذلك فيما بين سنة ٤٠٤ ه‍ وسنة ٤١٢ ه‍ ، لما أن كان ابن سينا وزيرا لأبى طاهر شمس الدولة بن فخر الدولة بن بويه الديلمى فى همذان. وكان شمس الدولة قد قرب ابن سينا إليه بعد أن عالجه من قولنج «كان قد أصابه ، وعالجه (ابن سينا) حتى شفاه اللّه تعالى. وفاز من ذلك المجلس (أى مجلس شمس الدولة فى همذان) بخلع كثيرة ... وصار من ندماء الأمير. ثم اتفق نهوض الأمير إلى قرميسين لحرب عناز. وخرج الشيخ (ـ ابن سينا) فى خدمته. ثم توجه نحو همذان منهزما راجعا. ثم سألوه تقلد الوزارة. فتقلدها. ثم اتفق تشويش العسكر عليه ، وإشفاقهم منه على أنفسهم ، فكبسوا داره وأخذوه إلى الحبس ، وأغاروا على أسبابه (ـ أمواله) وأخذوا جميع ما كان يملكه. وسألوا الأمير (شمس الدولة) قتله. فامتنع منه ، وعدل إلى نفيه عن الدولة طلبا لمرضاتهم. فتوارى (ابن سينا) فى دار الشيخ أبى سعد (أو أبى سعيد) بن دخدوك أربعين يوما. فعاود الأمير شمس الدولة علة القولنج. وطلب الشيخ (ـ ابن سينا) فحضر مجلسه ، واعتذر الأمير إليه بكل الاعتذار. فاشتغل بمعالجته ، وأقام عنده مكرما مبجلا. وأعيدت الوزارة إليه ثانيا». وفى أثناء توليه الوزارة لشمس الدولة بن فخر الدولة كان «يجتمع كل ليلة فى داره طلبة العلم ... وكان التدريس بالليل لعدم الفراغ بالنهار خدمة للأمير» (٢).

ولا بد أن هذه «التعليقات» التي علقها بهمنيار عن أستاذه ابن سينا كانت فى أثناء مجلس العلم هذا الذي كان يعقده ابن سينا فى داره لطلبة العلم أثناء الليل.

ويحسن بنا أن نورد ترجمة لبهمنيار الذي علق هذا الكتاب عن أستاذه ابن سينا.

________________

١) القفطي : «إخبار العلماء بأخبار الحكماء» ص ٤١٩. نشرة لپرت ، ليپتسك ، سنة ١٩٠٣.

٢) النفطى : الكتاب نفسه ، ص ٤٢٠.

٦

بهمنيار

هو أبو الحسن بهمنيار بن المرزبان وأصله من أذربيجان وكان مجوسيا قليل العلم بالعربية .. وأسلم.

توفى حوالى سنة ٤٣٠ ه‍ (١٠٣٨ م) كما ذكر بروكلمن ، وفى سنة ٤٥٨ ه‍. كما ذكر الخضيرى (١).

راجع عنه : البيهقى : «تتمة صوان الحكمة» ٩١؛ محمد باقى الخونسارى : «روضات الجنات» ص ١٤٠ ، «جهار مقالة» ٢٥٢.

وله من الكتب :

١ ـ رسالة فى مراتب الموجودات ـ مخطوطة فى ليدن برقم ١٤٨٢.

٢ ـ رسالة فى موضوع العلم المعروف بما بعد الطبيعة ، ومنها مخطوط فى ليدن برقم ١٤٨٤. وطبعت فى القاهرة سنة ١٣٢٩ ه‍ فى مطبعة كردستان العلمية.

وقد نشر پوپر S. Poper هاتين الرسالتين تحت عنوان :

Bahmanyar ben El ـ Marzuban, der persiche Aristoteliker aus Avicen ـ nas Schule, zwei metaphysische Abhandlungen von ihm, arabisch und deutsch mit Anmerkungen. Leipzig, ١٨٥١.

٣ ـ ويوجد مستخلص من رسائله مع ابن سينا فى مخطوط ليدن برقم ١٤٨٥ ، وبودلى ١ : ٤٥٦ ، وأمبروزيانا ٣٢٠ أ.

٤ ـ «التحصيلات» ، وهو عرض لمذهب ابن سينا كما عرضه هذا فى كتابه دانش نامه علائى ، فى ثلاث مقالات :

(ا) المنطق.

(ب) ما بعد الطبيعة.

(ح‍) فى الموجودات.

ومنه نسخة فى ليدن برقم ١٤٨٢ (٤) والمتحف البريطانى برقم ٩٧٨ ، والفاتيكان فاتيكانى برقم ١٤١٠ ، وبيروت برقم ٣٨٠ ، وطهران ١ : ٢٨ ، ٢ : ١١١ ،

________________

١) محمد محمود الخضيرى : «سلسلة متصلة من تلاميذ ابن سينا» بحث التي فى المهرجان الألفي لذكرى ابن سينا ونشر فى «الكتاب الذهبى للمهرجان الألفي لذكرى ابن سينا» ، ص ٥٥. القاهرة سنة ١٩٥٢ م.

٧

وآصفية ٣ : ٤٨٨ (٣٧٢ ـ ٣٧٣) ، ورامفور : ٣٧٩ (١١٧) ، وبنكيبور ٢١ : ٢٢٢٠ يتنا. وطبع فى القاهرة سنة ١٣٢٩ ، يتنا ١ : ٢٠٩ (١٠٦٢). وقد طبع فى القاهرة سنة ١٣٢٩ ه‍.

أبو العباس اللوكرى

أما واضع فهرس «التعليقات» الوارد فى أوائل بعض النسخ فهو أبو العباس الفضل بن محمد اللوكرى ، الذي ذكره ظهير الدين البيهقى فى تتمة «صوان الحكمة» فقال عنه إنه «كان تلميذ بهمنيار ، وبهمنيار تلميذ أبى على (بن سينا). ومن الأديب أبى العباس انتشرت علوم الحكمة بخراسان. وكان عالما بأجزاء علوم الحكمة دقيقها وجليلها ... وله تصانيف كثيرة ، منها «بيان الحق بضمان الصدق» وقصيدة مع شرحها بالفارسية ، ورسائل أخرى وتعليقات ومختصرات وديوان شعر» (١).

وكتاب «بيان الحق وضمان الصدق» هذا موجود منه نسخة بهذا العنوان (٢) نفسه فى المكتبة الأهلية بباريس تحت رقم ٥٩٠٠ عربى ، بخط نسخى من القرن العاشر الهجرى ، فى ١٢٩ ورقة ، مقاس ٢٥ * ١٧ سم. وهو فى الطبيعيات ، وينقسم إلى خمسة فصول ، ويعتمد فيها اللوكرى على كتاب «السماع الطبيعى» لأرسطو كما لخصه وعرضه ابن سينا.

وله شعر بالعربية وبالفارسية.

واللوكرى نسبة إلى لوكر (بالفتح ثم السكون وفتح الكاف والراء) : «قرية كانت كبيرة على نهر مرو قرب بنج ده مقابلة لقرية يقال لها بركدز لوكر على شرقي النهر ، وبركدز على غربيه ، ولم يبق من لوكر غير منارة قائمة وخراب كثير يدل على أنها كانت مدينة. رأيتها فى سنة ٦١٦ وقد خربت بطرق العساكر لها ، فانها على طريق هراة وبنج ده من مرو» ـ كما قال ياقوت (٣).

ويذكر بروكلمن (GAL,,١ P.٦٠٢) عنه أنه كان معاصرا لعمر الخيام ، وأنه توفى سنة ٥١٧ ه‍ (ـ ١١٢٣ م) ، ولسنا ندرى من أين استقى هذا التاريخ. وعمر الخيام أغلب الظن أنه توفى سنة ٥٢٦ ه‍ (١١٣٢ م) :

________________

١) ظهير الدين البيهقى : «تتمة صوان الحكمة» ، ص ١٢٠ ـ ص ١٢١. نشرة محمد شفيع فى لاهور.

٢) وليس بعنوان «بيان الحق بميزان الصدق» كما قرأ الخضيري خطأ.

٣) معجم البلدان ج‍ ٤ ص ٣٧٠ ، نشرة فستنفلد.

٨

نسخ «التعليقات»

(ا)

أحمد الثالث فى استانبول برقم ٣٢٠٤ العاشر منها ، ويقع فى ١٧٩ ورقة ، مقاس ٢ / ١ ١٧ * ٢٥ سم ، مسطرته ١٩ سطرا بخط نسخى.

وفى أوله : «فهرست كتاب التعليقات عن الشيخ الحكيم أبى نصر الفارابى والشيخ الرئيس أبى على بن سينا رواية بهمنيار : (٢) فى علم البارى ، ويقدمه الكلام فى معنى إضافة العالم إلى المعلوم ... (ب) فى إرادة البارى ...»

وفى نهاية الفهرست ورد (ص ١٩ ب) : تولى عمل هذا الفهرست الشيخ الإمام الرئيس الحكيم الأديب وحيد الزمان برهان الحق أبو العباس الفضل بن محمد اللوكرى ، رحمه اللّه ورضى عنه ، في شهور سنة ثلاث وخمسمائة».

وفى ص ١٩ ب : كتاب التعليقات فى الحكميات. الحمد للّه ... إنما العالم إنما يصير مضافا ...».

(ب)

أيا صوفيا برقم ٢٣٩٠. وتاريخ نسخه سنة ٥٢١ ه‍. وفى أوله فهرس للموضوعات وضعه أبو العباس الفضل بن محمد اللوكرى.

ويقع فى ١٢٢ ورقة ، مقاس ١٥ * ٢ / ١ ١٩ سم ، والمكتوب ٢ / ١ ١٠ * ٢ / ١ ١٥ ومسطرته ٢٠ سطرا.

ويقع الفهرست من ١ إلى ١٥ ب. والنص من ١٦ ب إلى ١٢٢ أ. وقد كتبه المظفر الحسين على أبو الفرج القلاس.

(ج‍)

فيض اللّه فى استانبول برقم ٢١٨٨. ومقاسه ٢٥ * ٢ / ١ ١٢ سم. ومسطرته ١٩ سطرا.

ويقع من ورقة ٧٢ أإلى ٢١٠.

وعنوانه فى المخطوط : تعليقات فى الحكميات للشيخ الرئيس ... رواية بهمنيار

٩

(د)

كوبرولى برقم ٨٦٩ من ورقة ٦٣ ب إلى ٢٠٢ أ

(ه‍)

أحمد الثالث برقم ٣٤٤٧ ، من ورقة ٣٢٨ ب إلى ٣٧١ : مقاس ٢٢ * ٣٣ س ومسطرته ١٧ سطرا * ١٥ كلمة.

(و)

أيا صوفيا برقم ٢٣٨٩ فى ٧٩ ورقة

(ز)

نورى عثمانية برقم ٤٨٩٤

(ح)

المتحف البريطانى برقم ٩٧٨. من ورقة ١٤١ إلى ٢٠١.

(ط)

دار الكتب المصرية بالقاهرة ، برقم ٦ م حكمة وفلسفة. من ورقة ١ ب إلى ٦٨ أ.

وقد وصفنا هذا المجموع ـ رقم ٦ م حكمة وفلسفة ـ وصفا شاملا فى مقدمة كتابنا : «أرسطو عند العرب» [ص (٤٣) إلى ص (٥١)] ، فنكتفى بالإحالة إليه.

وعلى هذا المخطوط اعتمدنا ـ أساسا ـ فى تحقيق هذا الكتاب.

(ى)

مخطوط پرنستون فى الولايات المتحدة الأمريكية.

وممن أشار إلى كتاب «التعليقات» فخر الدين الرازى فى كتابه «المباحث المشرقية» ج‍ ١ ص ٥٦٥ فى الفصل السابع «فى نسبة الحركة إلى المقولات». وربما أيضا فى موضعين آخرين هما ج‍ ٢ ص ٢٦١؛ ج‍ ٢ ص ٣٢٤ (طبعة حيدر أباد).

ونرجو أن يجد فيه الباحثون خلاصة مركزة لمذهب ابن سينا كله.

عبد الرحمن بدوى

بنغازى فى سبتمبر سنة ١٩٧٢ م

١٠

رموز النسخ المخطوطة

ص مخطوط ٦ م حكمة وفلسفة بدار الكتب المصرية.

ب برنستون.

١١
١٢

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

ثقتى بالله وحده :

الحمد للّه رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد وآله أجمعين وحسبنا اللّه ونعم الوكيل.

إنّ العالم إنما يصير مضافا إلى الشىء المعلوم بهيأة تحصل فى ذاته ، وليس الحال فى العالمية كالحال فى التيامن والتياسر الذي إذا تغير الأمر الذي (١)كان متيامنا لم يتغيّر هيأة فيمن كانت له هذه الإضافة إلا نفى هذه الإضافة ، أعنى التيامن ، فإن الإضافة قد تكون بهيأة فى المضاف والمضاف إليه ، كالحال فى العاشق والمعشوق والعالم والمعلوم ، وقد لا تكون بهيأة كالحال فى التيامن. فإن العالم يبطل علمه ببطلان هيأة كانت الإضافة بينه وبين المعلوم بسببها ، والمتيامن لا تبطل منه هيأة ثم يبطل ببطلانها التيامن ، فالإضافة بالحقيقة ، عارضة لتلك الهيأة التي فى العالم والعاشق ، لا أن تلك الهيأة هى نفس الإضافة. والعلم هيأة تحصل فى العالم توجد مع وجود المعلوم وتبطل مع عدمه ، فبطلان العلم مع عدم ذات الشىء المعلوم يعنى الأمر الذي له المعلوم صفة ، وهو الذي من خارج ، بل العالمية أمر زائد على التضايف الذي بينهما. ألا ترى أن المعدوم أيضا معلوم ولا ذات له من خارج؟ فللعالم مع كل معلوم هيأة خاصة ، فالعلم ليس هو وجود المعلوم فى ذاته؛ إذ ليس وجود الشىء فى ذاته سببا لحصول العلم ، وإلا لم يكن علم بالمعدوم ، بل العلم وجود هيأة فى ذات العالم : فالشيء إذا كان معلوما ثم يصير لا معلوما فالحالة تتغير فى العالم ، لا النفس الإضافة مطلقة.

فواجب الوجود لو كان علمه زمانيا أعنى زمانا مشارا إليه حتى يعلم أن الشىء الفلانى فى هذا الوقت غير موجود وغدا يكون موجودا ـ كان علمه متغيرا. فإنه كما أن هذا الشىء غير موجود الآن ويصير موجودا غدا ، كذلك العلم به إما أن يعلمه كذلك فيكون متغيرا ، وإما أن يكون علمه غدا كعلمه فى هذا اليوم فلا يكون علما ، فإنه يكون

________________

١) ب : فى الذي

١٣

محالا أن يكون علمه غدا كعلمه فى هذا اليوم ، بل قد تغير. وأما أنه كيف يكون علمه فهو أن يكون بسبب ، أعنى أن يكون يعرف الموجودات كلها على وجه كلى ، وإذا كانت الأشياء كلها واجبة عنده إلى أقصى الوجود فإنه يعرفها كلها ، إذ كلها من لوازمه ولوازم لوازمه. وإذا علم أنه كلما كان كذا كان كذا ، أعنى جزئيا ، وكلما كان كذا كان كذا ، أعنى جزئيا آخر ، وتكون هذه الجزئيات مطابقة لهذا الحكم ـ يكون قد عرف الجزئيات على الوجه الكلى الذي لا يتغير ، الذي يمكن أن يتناول أى جزئى كان لا هذا المشار إليه. إلا أن هذا الجزئىّ لما تخصص فلأسباب مخصصة جزئية أيضا.والجزئيات قد تعرف على وجه كلى ما لم يكن مشارا إليها أو مستندة إلى مشار إليه. مثال ذلك أنك إذا قلت : من سقراط ، فتقول : هو الذي ادعى النبوة وقتل ظلما وابن ملك ـ فإن هذا كله يمكن حمله على كثيرين ما لم تسنده إلى شخصى ، فتقول هو ابن هذا الإنسان المشار إليه ، فإن سقراط حينئذ مشار إليه إذ أسندته إلى مشار إليه. فواجب الوجود لا يجوز أن يكون علمه بالجزئى بحيث يكون مشارا إليه كالكسوف مثلا : فنقول هذا الكسوف المشار إليه أو الكسوف الذي يكون فى هذا اليوم أو غدا فإنه يعرف غدا أيضا على وجه كلى ، فإنه يعرفه بعد زمان كذا وحركة كذا فلا يعرفه مشارا إليه. وواجب الوجود مع إحاطة علمه بالجزئيات ونظام الموجودات على وجه كلى فلذلك يعلم أن نظام العالم هو نظام واحد ، أى هذا النظام المعقول ، فيكون قد أحاط علمه به على وجه كلى. فإنه إن لم يحط علمه بوحدانية النظام المعقول له لا يكون قد عرف العالم على حقيقته. ومثال هذا أن منجما إذا قال المقارنة فى هذا الوقت تقارن القمر كذا ، يكون العلم به متغيرا لأن هذه المقارنة بعينها لا تقع على غيرها فلهذا يبطل العلم مع بطلان هذه المقارنة. فهذه المقارنة متشخصة بزمان متشخص وهو هذا الوقت لأنها كانت فى هذا الوقت ، فلا يمكن حملها على غيرها. فالأول إذا كان يعرف من ذاته لوازمه ولوازم لوازمه على ترتيب السّببى والمسبّبى ويعلم أنه كلما كان كذا كان كذا أىّ مسبّب عن ذلك السبب إذ هو مسبّبه المطابق له فإنه يكون عارفا بالأشياء كلها على وجه كلى. ونحن لا نعرف الأسباب كلها وإلا كان علمنا علما كليا لا يتغير لو أدركنا الشىء بأسبابه ، ومع ذلك فإننا لا ننفكّ عن التصور والتعقل؛ ومعارضة الوهم تنقضه. وبعض الأسباب متوهمة لا معقولة : ومثال هذا أن منجما يعلم أن الكوكب الفلانى كان أولا فى الدرجة الفلانية فصار إلى الدرجة الفلانية ، ثم بعد كذا ساعة قابل الكوكب الفلانى وقد دخل بعد كذا ساعة فى الكسوف ، ثم يبقى بعد كذا كذا ساعة فى ذلك الكسوف ، ثم فارق الشمس وانجلى. ويكون قد عرف كل ذلك بأسبابه ولا يكون

١٤

قد عرف أن هذا التركيب فى هذه الساعة فى الدرجة الفلانية حتى تكون الساعة التي بعدها مستندة إلى هذه الساعة المشار إليها فيتغير علمه بحسب تغير الأحوال وتجدّدها. فإذا عرف على الوجه الذي ذكرناه ، أعنى بالسبب ، كان حكمه فى اليوم وأمسه وغدا حكما واحدا ، والعلم لا يتغير : فإنه صحيح دائما فى هذا الوقت وفيما قبله وفيما بعده أن الكوكب الفلانى فى كذا كذا ساعة يقارن الكوكب الفلانى. فأما إن قال : إن الكوكب الفلانى فى هذا الوقت المشار إليه المستفاد علمه من خارج مقارن للكوكب الفلانى ، وغدا مقارن لكوكب آخر ، فإنه إذا جاء غد بطل الحكم الوقتى والعلم الوقتى ، فإن الفرق بين العلمين ظاهر. فواجب الوجود علمه على الوجه الكلى علم لا يعزب عنه مثقال ذرة. وهذا الكسوف الشخصى ـ وإن كان معقولا على وجه كلى إذ قد علم بأسبابه والمعقول منه بحيث يجوز حمله على كسوفات كثيرة كل واحد منها حاله حال هذا الكسوف ، فإن الأول يعلم أنه شخصى فى الوجود إذ علمه محيط بوحدانيته. فإنه إن لم يعرف وحدانيته لم يعرفه حق المعرفة. وكذلك نظام الموجودات عنه وإن عرفه على وجه كلى بحيث يكون معقوله يجوز حمله على كثيرين فإنه يعلم أنه واحد ، وكذلك يعلم أن العقل الفعال واحد وإن كان عقله على وجه كلى. وعلمه بأن هذا الكسوف شخصى لا يدفع المعقول الكلى. والعلم ما يكون بأسباب ، والمعرفة ما تكون بمشاهدة. والعلم لا يتغير البتة ولو كان جزئيا : فإن علمنا بأن الكسوف غدا يكون مركبا عن علم ومشاهدة ، ولو كان غدا لم يكن مشارا إليه ، بل كان معلوما بأسبابه لم يكن إلا علما كليا ، ولم يكن يجوز أن يتغير ولم يكن زمانيا ، فإن كل علم لا يعرف بالإشارة وبالاستناد إلى شىء مشار إليه كان بسبب ، والعلم بالسبب لا يتغير ما دام السبب موجودا. لكن العلم الذي يتغير هو أن يكون مستفادا من وجود الشىء ومشاهدته. فواجب الوجود منزه عن ذلك ، إذ لا يعرف الشىء من وجوده فيكون علمه زمانيا ومستحيلا متغيرا ولو كنا نعرف حقيقة واجب الوجود وما توجبه ذاته من صدور اللوازم كلها عنه لازما بعد لازم إلى أقصى الوجود ، لكنا نحن أيضا نعلم الأشياء بأسبابها ولوازمها ، فكان علمنا أيضا لا يتغير. وإذا كان هو يعقل ذاته وما توجبه ذاته فيجب أن يكون علمه كليا بأسباب الشىء ولوازمه ، فلا يتغير. وكذلك لو كنا نعلم أوقات مقابلة القمر للشمس ولا نرصد له ، لكنا نعلم كل كسوف يكون بعلله وأسبابه ولوازمه. وكان علمنا ، قبل الكسوف وعنده وبعده ، علما واحدا لا يتغير لأنه كان بسبب. وما دام العلم بالسبب حاصلا ، فالعلم بالمعلوم بذلك السبب لا يتغير.

١٥

العناية : هو أن يوجد كل شىء على أبلغ ما يمكن فيه من النظام.

بيان إرادته : هذه الموجودات كلها صادرة عن ذاته ، وهى مقتضى ذاته ، فهى غير منافية له ، وأنه يعشق ذاته ، فهذه الأشياء كلها مرادة لأجل ذاته. فكونها مرادا له ليس هو لأجل غرض بل لأجل ذاته ، لأنها مقتضى ذاته ، فليس يريد هذه الموجودات لأنها هى ، بل لأجل ذاته ولأنها مقتضى ذاته. مثلا لو كنت تعشق شيئا لكان جميع ما يصدر عنه معشوقا لك لأجل ذات ذلك الشىء ، ونحن إنما نريد الشىء لأجل شهوة أو للذة ، لا لأجل ذات الشىء المراد. ولو كانت الشهوة واللذة أو غيرهما من الأشياء شاعرة بذاتها وكان مصدر الأفعال عنها ذاتها ، لكانت مريدة لتلك الأشياء لذاتها لأنها صادرة عن ذاتها ، والإرادة لا تكون إلا لشاعر بذاته. فكل ما يصدر عن فاعل فإنه إما أن يكون بالذات أو بالعرض. وما يكون بالذات يكون إما طبيعيا وإما إراديا. وكل فعل بصدر عن علم فإنه لا يكون بالطبع ولا بالعرض ، فإذن يكون بالإرادة. وكل فعل يصدر عن فاعل والفاعل يعرف صدوره عنه ويعرف أنه فاعله ، فإن ذلك الفعل صدر عن علمه. وكل فعل صدر عن إرادة فإما أن يكون مبدأ تلك الإرادة علما أو ظنا أو تخيلا. مثال ما يصدر عن العلم فعل المهندس أو الطبيب. ومثال ما يصدر عن الظن : التحرز مما فيه خطر. ومثال ما يصدر عن التخيل : إمّا أن يكون طلبا لشىء يشبه شيئا عاليا ، أو طلبا لشىء يشبه شيئا حسنا ، ليحصله لمشابهته للأمر العالى أو الأمر الحسن. ولا يصح أن يكون فعل واجب الوجود بحسب الظن أو بحسب التخيل ، فإن كل ذلك يكون لغرض ويكون معه انفعال ، فإن الغرض يؤثر فى ذى الغرض ، فإذن ينفعل عنه. وواجب الوجود بذاته واجب من جميع جهاته ، فإن حدث منه غرض فلا يكون من جهة انفعاله عن الغرض واجب الوجود بذاته. فإذن يجب أن تكون إرادته علمية.

والأولى بنا أن نفصل هاهنا أمر الإرادة : نحن إذا أردنا شيئا فإننا نتصور ذلك الشىء ـ إما ظنيا أو تخيليا أو علميا ـ أن ذلك الشىء المتصور موافق ، والموافق هو أن يكون حسنا أو نافعا. ثم يتبع هذا التصور والاعتقاد شوق إليه وإلى تحصيله. فإذا قوى الشوق والإجماع حركت القوة التي فى العضلات الآلة إلى تحصيله ، ولهذا السبب تكون أفعالنا تابعة للغرض. وقد بينا أن واجب الوجود تام بل فوق التمام ، فلا يصح أن يكون فعله لغرض ، ولا يصح أن يعلم أن شيئا هو موافق له فيشتاقه ثم يحصله. فإذن إرادته من جهة العلم أن يعلم أن ذلك الشىء فى نفسه خير وحسن ،

١٦

ووجود ذلك يجب أن يكون على الوجه الفلانى حتى يكون وجودا فاضلا ، وكون ذلك الشىء خير من لا كونه. ولا يحتاج بعد هذا العلم إلى إرادة أخرى ليكون الشىء موجودا ، بل تعيين علمه بنظام الأشياء الممكنة على الترتيب الفاضل هو سبب موجب لوجود تلك الأشياء على النظام الموجود والترتيب الفاضل وبالجملة وبلوازم ذاته أعنى المعلومات لم يعلمها. ثم رضى به ، بل لمسّا كان صدورها عن مقتضى ذاته كان تعين صدورها عنه نفس رضاه بها. فإذا لم يكن صدورها عنه منافيا لذاته بل مناسبا لذات الفاعل. وكل ما كان غير مناف ، وكان مع ذلك بعلم الفاعل أنه فاعله فهو مراده لأنه مناسب له ، فنقول : هذه المعلومات صدرت عن مقتضى ذات واجب الوجود بذاته المعشوقة له مع علم منه بأنه فاعلها وعلتها.

وكل ما صدر عن شىء على هذه الصفة فهو غير مناف لذلك الفاعل.

وكل فعل يصدر عن فاعل وهو غير مناف له فهو مراده.

فإذن الأشياء كلها مرادة لواجب الوجود ، وهذا المراد هو المراد الخالى من الغرض فى رضاه.

فصدور تلك الأشياء عنه أنه مقتضى ذاته المعشوقة له ، فيكون رضاه بتلك الأشياء لأجل ذاته ، وتكون الغاية فى فعله ذاته.

ومثال هذا : إذا أحببت شيئا لأجل إنسان كان المحبوب بالحقيقة ذلك الإنسان ، فلذلك المعشوق المطلق هو ذاته.

ومثال الإرادة فينا نحن أنّا نريد شيئا فنشتاقه لأنا محتاجون إليه ، وواجب الوجود يريده على الوجه الذي ذكرناه ، ولكنه لا يشتاق إليه لأنه غنيّ عنه ، والغرض لا يكون إلا مع الشوق.

فإنه يقال : لم طلب هذا؟ فيقال لأنه اشتهاه ، وحيث لا يكون الشوق لا يكون الغرض ، فليس هناك غرض فى تحصيل المتصوّر ولا غرض فيما يتبع تحصيله ، إذ تحصيل الشىء غرض ، وما يتبع ذلك التحصيل من النفع غرض أيضا.

والغاية قد تكون نفس الفعل ، وقد تكون نفعا تابعا للفعل مثلا : كالمشى قد يكون غاية وقد يكون الارتياض غاية ، وكذلك البناء قد يكون غرضا وقد يكون الاستكنان به غرضا.

تعليقات ابن سينا ـ ١٧

١٧

ولو أن إنسانا عرف الكمال الذي هو حقيقة واجب الوجود ثم كان ينظم الأمور التي بعده على مثاله حتى كانت الأمور على غاية النظام ، لكان الغرض بالحقيقة واجب الوجود بذاته ، الذي هو الكمال.

فإن كان واجب الوجود بذاته هو الفاعل ، فهو أيضا الغاية والغرض.

كذلك لو عرفنا مثلا الكمال فى بناء نبنيه ثم رتبنا أمور ذلك البناء على مقتضى ذلك الكمال ، كان الغرض ذلك الكمال.

فإذا كان ذلك الكمال هو الفاعل ، كان الفاعل والغرض واحدا.

ومثال هذه الإرادة فينا أنّا إذا تصورنا شيئا وعرفنا أنه نافع أو جذّاب ، حرّك هذا الاعتقاد والتصور القوة الشهوانية ، ما لم يكن هناك ترجح ولم يكن هناك مانع ، فلا يكون بين التصور والاعتقاد المذكور وبين حركة القوة الشوقية إرادة أخرى إلا نفس هذا الاعتقاد.

فكذلك إرادة واجب الوجود ، فإن نفس معقولية الأشياء له على الوجه الذي أومأنا إليه هى علة وجود الأشياء ، إذ ليس يحتاج إلى شوق إلى ما يعقله وطلب حصوله. ونحن إنما نحتاج إلى القوة الشوقية ونحتاج فى الإرادة إلى الشوق لنطلب بالآلات ما هو موافق لنا ، فإن فعل الآلات يتبع شوقا يتقدمه ، وهناك ليس يحتاج إلى هذا الشوق واستعمال الآلات ، فليس هناك إلا العلم المطلق بنظام الموجودات ، وعلمه بأفضل الوجوه التي يجب أن يكون عليها الموجودات ، وعلمه بخير الترتيبات.

وهذا هو العناية بعينها ، فإنا لو رتبنا أمرا موجودا لكنا نعقل أولا : النظام الفاضل ثم نرتب الموجودات التي كنا نريد إيجادها بحسب ذلك النظام الأفضل وبمقتضاه. فإذا كان النظام والكمال نفس الفاعل ثم كان تصدر الموجودات عن مقتضاه ، كانت العناية حاصلة هناك ، وهى نفس الإرادة ، والإرادة نفس العلم. والسبب فى ذلك أن الفاعل والغاية شىء واحد.

والعناية هى أن يعقل واجب الوجود بذاته أن الإنسان كيف تجب أن تكون أعضاؤه والسماء كيف تجب أن تكون حركتها ، ليكونا فاضلين ويكون نظام الخير فيهما موجودا من دون أن يتبع هذا العلم شوق أو طلب أو غرض آخر سوى علمه بما ذكرنا وموافقة معلومه لذاته المعشوقة له. فإن الغرض ، وبالجملة النظر إلى أسفل ، أعنى لو خلق الخلق طلبا لغرض ، أعنى أن يكون الغرض الخلق والكمالات الموجودة

١٨

فى الخلق ، أعنى ما يتبع الخلق طلب كمال لم يكن لو لم يخلق. وهذا لا يليق بما هو واجب الوجود من جميع جهاته ، فإن قال قائل : إنا قد نعقل أفعالا بلا غرض ولا يكون لنا فيه نفع كالإحسان إلى الناس من دون أن يكون لنا فيه فائدة ، فكذلك يصح أن يكون واجب الوجود يخلق الخلق لأجل الخلق لا لغرض آخر يتبع الخلق كما نحسن إلى إنسان ـ قلنا إن مثل هذا الفعل لا يخلو عن غرض ، فإنا نريد الخير بالغير ليكون لنا اسم حسن أو ثواب أو يثنى هو أولى بأن يكون لنا من أن لا يكون بحسن يطلبه اختيارنا ، أو نكون قد فعلنا أمرا واجبا. وفعل الواجب فضيلة أو منقبة أو محمدة ، إن لم نفعل ذلك الواجب لم يكن لنا ما يتبعه من هذه الأشياء. وعلى كل حال فالغرض فائدة. وقد بيّنا أن الغرض هو السبب فى أن يصير الفاعل فاعلا بعد أن لم يكن. ولا يجوز أن يكون لواجب الوجود بذاته الذي هو تام ، أمر يجعله على صفة لم يكن عليها ، فإنه يكون ناقصا من تلك الجهة ، وتلك الصفة إما أن تكون فضيلة أو نقصانا. وعلى جميع الأحوال فإن ذلك لا يليق به : لا النقصان ولا التكميل. فقد عرف إرادة واجب الوجود بذاته وأنها بعينها علمه ، وهى بعينها عناية ، وأن هذه الإرادة غير حادثة ، وبيّنا أن لنا أيضا إرادة على هذا الوجه.

بيان قدرته : كما أن البارئ الأول إذا تمثل تبع ذلك التمثيل الوجود ، كذلك نحن إذا تمثلنا تبعه الشوق ، وإذا اشتقنا تبعه لتحصيل الشىء حركة الأعضاء. واعلم أن القدرة هى أن يكون الفعل متعلقا بمشيئة من غير أن يعتبر معها شىء آخر. والقدرة فيه عن علمه فإنه إذا علم وتمثل فقد وجب وجود الشىء. والقدرة فينا عند المبدأ المحرك ، وهى القوة المحركة لا القوة العالمة ـ والقدرة فيه خالية عن الإمكان ، وهو صدور الفعل عنه بإرادة فحسب ، من غير أن يعتبر معها وجوب استثناء أحد الجزءين ، لا أنه أراد ولا أنه لم يرد. وليس هو مثل القدرة فينا هى بعينها القوة ، وهى فيه العقل فقط. فإنه إن لم يعتبر على هذا الوجه كان فيه إمكان ، وواجب الوجود منزه عن ذلك. وكذلك إن لم يعتبر أن قدرته هى بعينها إرادته وعلمه كان فى صفاته تكثّر. فيجب أن يكون مرجعها إلى العلم كما كان مرجع إرادته إلى علمه. والإرادة فينا تابعة لغرض ، ولم يكن فيه لغرض البتة غير ذاته. والإرادة فينا تختلف لأن الأغراض فينا تختلف. وفى الأبديات والكواكب لا تختلف الأغراض ، فلا تختلف الإرادات ، فكأن أفعالها الصادرة عنها صادرة عن طبع لعدم الاختلاف فيها. وكذلك القدرة فيه مخالفة لقدرتنا ، فإنها فيه بغير إمكان وفينا بإمكان ، وإرادة الشىء غير تحصيله. فإن إرادة الشىء بالحقيقة

١٩

تصوره مع موافقته لمتصوره. وإذا تصور لنا معنى ثم أردنا تحصيله كان تصوره لنا نفس إرادتنا له ، لكنا بعد ذلك نريد تحصيله (١). والجمهور غافلون عن ذلك ، والمشهور عندهم أن القادر هو من إذا شاء فعل ، وإذا لم يشأ لم يفعل ، لا من يريد فيفعل أو لا يريد فلا يفعل دائما. فإن هاهنا أشياء مقرّا بها ، صحتها أن الخالق لا يريده قط ولا يفعله ، وهو مع ذلك قادر على فعله ، مثل الظلم. فإذن الشرط فى القدرة قضية شرطية ، وهو أنه إذا شاء فعله وإذا لم يشأ لم يفعل. والشرطية لا يتعلق بصحتها أن يكون جزءاها صادقين ، فإنه يصح أن يكون جزءاها كاذبين. ومثال هذا لو كان الإنسان طيارا لكان يتحرك فى الهواء ـ وهذه القضية صحيحة مع كذب مقدمها وتاليها. ويصح أيضا أن يكون المقدم كاذبا والتالى صادقا مع صحة القضية ، كما يقال : لو كان الإنسان طيارا لكان حيوانا. فإذن ليس يلزم من قولنا إن شاء فعل أنه يشاء حتى تصح هذه القضية : وهو إن شاء فعل ، ولم تصح بهذه القضية القدرة وإن خلت عن الاستثناء. وحق أنه لو كان جائزا أن يشاء والقدرة لا محالة تتعلق بالمشيئة إلا أن مشيئة الأول تستحيل أن تكون بالإمكان ، إذ ليس هناك دواع مختلفة ولا قسر ولا قهر ، بل هناك وجوب فقط ، فهو يفعل إذا شاء. وأما المشيئة فينا فبالإمكان. والقدرة فينا هى القوة ، والقوة ما لم يرجّح أحد الطرفين لم يكن أولى من الطرف الآخر. ولا بد فى قدرتنا من وارد علينا من خارج ، ويكون ذلك الوارد هو المعيّن للفعل. ويكون بالتقدير من اللّه ، فيكون ذلك التقدير يسوق ذلك المعنى. والوارد علينا من خارج هو كالدواعى والإرادة من القسر وغيره. ولا تخلو قدرتنا من إمكان فتكون أفعالنا كلها بتقدير ، وتكون أفعالنا كلها بالخير. فإنه ما لم يرجح قوتنا وارد من خارج ولم يصح الفعل ويكون بتقدير اللّه فإن التقدير من اللّه هو يسوق ذلك المعين والمخصّص. وصدور الأشياء عن ذاته لغرض فهو رضاه لأنها تصدر (٢) عنه ثم ترضى بصدورها عنه. والقدرة فيه يستحيل أن تكون بالإمكان ، فهو إذا فعل فقد شاء ، وإذا لم يفعل فإنه لم يشأ ليتم الفعل والقدرة.

الحكمة : معرفة الوجود الواجب وهو الأول ، ولا يعرفه عقل كما يعرف هو ذاته. فالحكيم بالحقيقة هو الأول. والحكمة عند الحكماء تقع على العلم التام. والعلم التام فى باب التصورات أن يكون التصور بالحد ، وفى باب التصديق أن يعلم الشىء بأسبابه إن كان له سبب. فأما ما لا سبب له فإنه يتصور بذاته ويعرف بذاته ، كواجب الوجود : فإنه

________________

١) ب : تحصله.

٢) ب : لا أنها تصدر.

٢٠