الإمام الحسين في حلّة البرفير

سليمان كتّاني

الإمام الحسين في حلّة البرفير

المؤلف:

سليمان كتّاني


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ٢
الصفحات: ١٧٦

١
٢

٣
٤

الكلمة الأُولى

إنَّها موجَّهة إلى مركز الدراسات والبحوث العلميَّة في بيروت.

تحيَّة إجلال وتقدير لمركزكم المُهتمِّ بالدراسات والبحوث العلميَّة في سبيل الإفادة والتنوير.

إنَّها رسالتكم ـ على ما يبدو ـ ولست أرى أيَّة قيمة لرسالة ، ما لم تكن في خدمة قضيَّة كبيرة يحتاجها مُجتمع الإنسان ، ولست أرى أيَّ كاتب يطيب قلمه ما لم يُعالج قضيَّة صحيحة يتبنَّاها ويُرشف منها لون حبره.

لقد تمنَّى مركزكم المُحترم ، وهو يوجِّه الدعوة العامَّة لتقديم دراسة جديدة عن الإمام الحسين ، أنْ تكون شَبهة بالدراسات الناجحة التي قُدِّمت في وقتها عن الإمام عليٍّ ، وفاطمة الزهراء ، ومؤخَّراً عن الإمام الحسن. وأيُّ واحد منهم لم يكن ذا وجه كريم؟ فقلت في نفسي : ومَن مِن الأربعة هو كريم لو لم يكن مُشتقَّاً مِن قضيَّة كريمة ، صبغتهم جميعا بلونها الكريم؟ وذلك كان شأن الكاتب الذي تناول قلمه وراح يرسم فيهم.

مِن أين كان له أنْ يُقدِّم كلمة ناجحة ، لو أنَّه لم يتبنَّ ذات القضيَّة التي غاصوا هم بها ، فانعكست عليه صدقاً واقتناعاً! إنَّ القضايا الجليلة في الحياة ، هي الشعاع الذي يستضيء به فكرنا ، وشوقنا ، ووجداننا ، وبالتالي تصرفنا في وجودنا الإنساني الذي هو بالنتيجة قضيَّتنا الكُبرى.

إنَّ القضيَّة العظيمة التي امتلأ بها وجود الإمام عليٍّ ، هي ذاتها التي سارت بها الصديقة الزهراء إلى باحة المسجد ، وهي ذاتها التي قصف بها حُسامه الإمام الحسن

٥

حَقناً للدماء ، وصوناً لوحدة المسلمين ؛ لتبقى هي ذاتها يمشي بها الحسين مِن مَكَّة إلى كربلاء بجُبَّة ما طاب له إلاَّ أنْ يصبغها بدماء الوريد.

وأقول : لقد كانت القضيَّة واحدة ، ولكنَّ التعبير عنها قد جاء مع كلِّ واحد مِن الأربعة الكبار ، بلون ميَّزه عن الآخر ـ فبينما كان مع الإمام الأوَّل مِن لون الصوافن والقلاع ، جاء مع ابنة الرسول وأُمِّ الحسنين كأنَّه زهر مَلفوح بنارٍ ـ ليكون مع الحسن مِن شَكل قبضات السيوف المُقصفة في ساحة الميدان ـ وإذا به مع الثالث الهاجع في ضمير الإمامة ، انفجار وريد ضاق تحت مَدِّ العنفوان.

شكراً لمركز الدراسات ، يُحرِّك في نفسي شوقاً أتلمَّظ به طعماً لذيذاً ، لا يزال إلاَّ موفورا على المائدة الكبيرة التي مدَّها الحسين ، إنَّها المائدة الحمراء ، ليس المسكوب في قصاعها مِن سائل الدم ، إنَّما هو مِن لقاح العنفوان ، تحيا به النفوس التي تابى الذِّلَّ لباساً. سيبقى العنفوان أبداً نتاج القضايا الكبيرة ، تَسربله الحسين في المجال الفَخم الذي تتثبَّت به قيمة الانسان.

أمَّا القلم الذي يُفتش عن كلِّ كلمة حرفها مِن ضلوع القضايا ، فإنَّه يضفر الآن ذاته إلى الإمام الحسين بنبضاتٍ مِن مُباهلة.

سليمان كتَّاني

٦

مُباهلة :

إيهٍ أيُّها الحسين

أتكون الياء ـ مضفورةً عليك ـ شامةً مِن عنبرٍ في غنجة التصغير؟

أم أنَّها دعجة العين ، يتمُّ بها التصوير والتحضير والتكبير؟

يا للياء الرخيمة!

كأنِّي هكذا ـ أراها تُرخَم ، بك ، وتُرسَم فيك ـ وكأنِّي أسمعها تقول :

هل أنت مُصغَّر الاسم المُطيَّب بالبَلْسَم

يا بن المُطيَّبين!.

أم أنَّك اللحمة المُندمجة بخاصرة التوأم

يا نَهدة التوَّاقين!.

اثنان في واحد أيُّها الحسن المُكمَّل بالحسين :

في وحدة التوق ووحدة الشوق ووحدة العين

يا للقضيَّة

تبيضُّ إذ يبهرها حَقٌّ ، وتَحمرُّ إذ يضنيها غَسق

وتبقى ـ هي هي ـ في وحدة الشفرة وفي لون السنا

وما بين الطُّهر والفِسق وترٌ يطيب هناك وينهدُّ هنا!

هكذا الحسن يبيضُّ صدقاً!

وهكذا الحسين يحمرُّ وريداً!

٧

وفي العينين : عين الصدق الأبيض

وعين الإباء المُعروك بالدم

تنام القضيَّة وتصحو

في جوهر اليقظة وفي جوهر الضمِّ!

يا للمُباهلة!

مَن كان ينام في عينَيْ الآخر قريراً أكثر؟

أنت في عينَيْ جَدِّك البصير الكبير؟

أمْ أخوك الحسن ، وأنت الأصغر وهو الأكبر!

يا للكساء!

يجمع الضلعين ـ في حضن الأبوين ـ تحت هَمس الشفتين :

يا أهل البيت ـ تنفضوا مِن كلِّ رجس ـ كونوا للغَد الآتي دعامة الأجيال!

يا للحَقِّ!

تلمسه القضيَّة الكُبرى ـ

ينهض بها العصب الأكبر ـ

ويقول : إنَّها أُمَّتي أُباهل بها أُمَم الأرض!

ويا للحسين!

تبقى أنت في ضلعَي المُباهلة

ونبقى نحن ـ أبداً نسأل :

هل احترقت الثورة في عينيك وترمَّدت؟

أم أنَّها نامت في مُقلتيك؟

تترقَّب مُطلق ساعة مِن ساعات العُمر

حتَّى تكون هي رمقاً مِن الثواني التي ينبض بها وريد البطولات

الصافية والمُحقِّقة مُجتمع الإنسان!!!

٨

توطئة :

ولا تزال الدعوة مرصوصة بجلالها يا شقَّ القلم ، لقد وجَّهتْ إليك بالأمس تُناديك إلى ولوج دائرة مقطوبة بالإمام علي ـ فولجتَ الدائرة مزوَّداً بحبر مقطور مِن المُقلة المُشتعلة بنهج البلاغة ، ثمَّ تتالى إليكَ النداء مربوطاً بمِنديلٍ كانت تعتصب به فاطمة الزهراء ، فعصرتَ منه زيتاً لسراجك تكحَّلتْ به شعاعاً مشيتَ به معها مِن فَدك إلى باحة المسجد ، ثمَّ جاءك الأمس الأقرب بنداء يشدُّك إلى الإمام الحسن ، فسهرتَ معه ليلاً طويلاً أشرق صُبحه على رباط أبيض ، وصل العراق ، بالشام ، بارض الجزيرة الأُمُّ ، في حضن الرسالة التي لا تزال تعتصم بها وحدة الإسلام.

واليوم ، يا شقَّ القلم ، تأتيك دعوة جديدة أشعر أنَّها ـ كمثيلاتها السابقات ـ مغمورة بجلالها ، فهلاَّ يكون لك اهتزاز إليها يُلبِّي وجبة النداء؟

ولكنَّ القلم الذي كان نائماً قُرب المحبرة ، ما ارتعش إلاَّ قليلاً وعاد إلى غلاف السكون ، كأنَّه التعب الراجع مِن جهادٍ ، فتناولته بين أنمُلتي ، وطُبعت على ثغره قُبلة فيها نشوة ، وفيها وفاء ، وفيها مَدد مِن عافية ، ورحت إلى بعضٍ مِن الأطناب أموِّهه بشيءٍ مِن الثناء ، حتَّى استدرجه إلى استعادة وعيه ، واستيعاب ما أنا استحثُّه إليه.

قلتُ له : إنَّني أعرف يا رفيقي ، وصديقي ، ونديمي الأجلّ ، كم أجورُ عليك ، وأُحمِّلك الأحمال الثقيلة ، وما ذلك إلاَّ لأنِّي أُدرك أنَّ فيك شوقاً يدفعك لاقتحام الحَلبات ـ صحيح أنَّ الكلمة هي عدتك في كلِّ واحدة مِن الغَمرات ، إلاَّ أنَّك تعرف مِن أين تقتنصها وكيف تُلبسها بَهجة الحرف ، وبهجة الزَّيِّ ، وبهجة اللون ـ فأنت فنَّان يا قلمي الحبيب ، وأنت غوَّاص في البحور التي تَغزر في قيعانها منابت الدُّرر ؛ وأنت مُراقب ماهرٌ ، تقتفي أثر الخُطوات الكبيرة ، وتأخذ لك مِن وقعها فوق

٩

القلاع نقشاً تُزيِّن به جُدران الأغوار ، وتطلي به كلَّ حرفٍ يتزنَّر به خصر الكلمة.

واهتزَّ القلم في كفِّي كأنَّه مِن انتفاضة جاء ولمَّا أنته مِن عرضي بعد ، قال : وإنْ أقبل منك الثناء ـ فهل تظنُّني هكذا به أغترُّ؟! أنا بين يديك يا رفيقي ، ويا وليِّي الأبرُّ ، ألاَّ أنَّني غزارة ، ما هزَّتني الريح وسقتني الديمة ، إلاَّ لأنْ أكون ريشة بين يديك ، وها أنا لك تبريني بشفرة سكِّينك ، تسقيني مِن رمش عينيك. أنا لا آخذ الكلمة الإَّ منك ، ولا أبنيها جداراً إلاَّ بخفقة مِعصمك ، فهل لك أنت مِمَّا أردُّه إليك أنْ تُباهي أوْ أنْ تَغترُّ؟

وراح القلم في كفَّي إلى صمت حريز ، وهو يرقب قنِّينة الحِبر ، كأنَّه يهفو إليها تأخذ هي ـ له ـ منِّي الجواب :

ـ صدقت يا صنوي الحبيب ، وأنا مثلك لا يحقُّ لي أنْ أغترَّ ـ كلانا غَزارة يا قلمي في كفِّ الحياة ـ إنَّها هي التي تَبرينا أقلاماً وتسقينا مِن حِبرها نلوِّن به صفحة القرطاس ، نأخذ الكلمة منها ونبنيها في حقيقة التعبير ـ فإذا كان لنا الغوص العميق والجمع الأصيل ، فذلك مِن معانيها الصحيحة ننقله إلى الصفحة المزدهية بجمال التصوير. الصدق والغوص يا قلمي ، كلاهما في المُجتنى ، يبنيان الكلمة تشفُّ بهما ، ويبنيان النفس إلى حقيقة الغرف وحقيقة التأثير.

تلك هي القضايا الكبيرة في الحياة ، تنبت منها الكلمة ، ويصدر عنها التعبير ـ والشوق والفهم هما الصيادان الماهران اللذان يتلقطان بالكلمة المنسوجة مِن حقيقة القضيَّة ـ والمُعبِّرة هي عن حقيقة جلالها.

أمَّا الدعوة الجديدة التي يُحفِّزك ويُحفِّزني الشوق إلى جعلها جليلة في المضمار ، فلا أظنُّك إلاَّ مُتهيِّباً مِثلي جديَّة الغوص فيها ؛ لانَّ لها ـ في المجال الكبير ـ قضيَّة مُلتهبة بالجوهر الذي تُفتِّش عنه حقيقة الإنسان.

عديدون هُمْ الرؤوس الكبار الذي تناولتُ إليهم سَهماً مشتاقاً في حقول السيرة ، ولكنِّي لم أؤخذ مع أيِّ واحد منهم ، وهُمْ العظام ، بهزَّة تناولت مِن نفسي كلَّ كوامنها ، كالهزَّة التي تملَّكتني وأنا اتتبَّع خُطوات الإمام الحسين مِن أرض الحِجاز ، إلى أرض الكوفة ـ لقد مشى الخُطوط ذاتها ، وأوسع منها بكثير ، كلُّ واحد

١٠

مِن هؤلاء المشَّائين ـ لقد كان كلُّ واحد منهم عدَّاءً وجوَّاباً ـ ابتداءً مِن النبي الجليل ، الذي لم يترك حَبَّة رمل مِن أرض الجزيرة إلاَّ ونشَّفها بخطواته الثقيلة ، وغمرها بفيض مِن عقله وروحه وحنانه ، فإذا هي تَؤوب مِن اعتكافها الطويل ، لتنال خَطَّاً جديداً بين يدي مَن راح يبنيها بناءً جديداً بإنسان سويٍّ.

أمَّا العبقريُّ الآخر الذي كانت خُطواته أوسع مِن الدروب ، وراحتاه أندى مِن كلِّ دُيمة مَرَّت في سماء ، فانَّه ما ترك خلفه خَطَّاً مِن خُطوط القوافل ، إلاَّ وزرع نفسه فيه : نظافة ، وعدالة ، وتُقى ، وسموَّاً ، مِمَّا جعل مُجتمعات الأرض تُفتِّش عن حقيقة وجودها الحضاري النبيل ، ولا تجده إلاَّ في الإنسان الذي يبنيه حِزام الإمام عليٍّ (ع).

أمَّا تلك التي نبتت بين ذراعي أبيها ، كأنَّها أعزُّ مِن شجرة الدُّرِّ ، فيكفيها أنَّها مشت أقصر طريق مِن بيتها الذي قُلِعت مِن باحته شجرة الأراك ، إلى باحة المسجد الذي كان يُصلِّي فيه خليفة المسلمين ؛ لتُعلمه أنَّ العدالة الممهورة بجِنان أبيها محمَّد ، والمسبوكة مِن مَعدن زوجها عليٍّ ، هي التي تُرزِم الأُمَّة وتجعلها قدوة بين الأُمَم ، إنَّ الطريق القصير الذي مشته فاطمة الزهراء ، لا يزال حتَّى الآن يمتدُّ عِبَر الأجيال ، تخفق فيه ثورة نادرة المثال ، تُعلِّم البنَّائين كيف يُعالجون أساس الصرح الذي يليق لسُكنى الإنسان.

هؤلاء هُمْ ثلاثة علَّموا الإمام الحسن كيف يمشي فوق الدروب ، ولقد مشى بروحه ، وعقله ، وإيمانه ، وكان جليلاً وهو يمشي ، وكان حكيماً وهو يمشي ، وكان قُطباً مِن مرونة وهو يمشي ، ولا يزال حتَّى الآن يمشي مشية الرِّئبال المُختال ـ إنَّه الغيور على أُمَّة سُحبت مِن تحت الرمال المحرورة ، لتُثبت وجودها تحت الظلال ـ إنَّه لا يزال ولن يَنْيَ يُعلِّمها أنَّ الوحدة النظيفة ، المؤمنة ، والمُدركة هي التي ـ وحدها ـ تبني المُجتمع بالإنسان العظيم ، وأنَّ الأحقاد ليست عقلاً ، وأنَّ التسابق إلى مراكز الحُكم والثروة ليس قوَّةً ولا غِنىً ، ولا أيَّ تحقيق يدوم ، وأنَّ الحُكم هو خدمة مُتفانية ، وصدق في المعرفة والضمير ، وأنَّ كلَّ ما خطَّه جَدُّه الذي جمع الأُمَّة مِن شِتاتها إلى واحد ، هو الصحيح في أداة الجمع والتوحيد ، وهي التي جمعت ،

١١

وهي التي حقَّقت ، وهي التي لا يقدر ـ هو الإمام الحسن ـ إلاَّ أنْ يُضحِّي مِن أجل تثبيتها أداة جمع لا أداة تفرقة ، وكان التنازل عن الحُكم ، والابتعاد عن إراقة الدم ، إحياءً لقدوةٍ لا تزال حتَّى الآن تُقدِّم لكلِّ مَن يُحاول الوصول إلى كرسيٍّ مغروز القوائم في بُرَك الدم ، على حساب مُجتمع ينهدُّ إلى دَركٍ مِن الذِّلِّ والضعف والهوان.

تلك هي الخُطوط العريضة التي مشاها هؤلاء العظام ، فهل يكون الخَطُّ الذي مشاه الحسين مِن مَكَّة إلى كربلاء هو مِن ذات الطول ، وذات الوزن ، وذات الدلال؟

ولكنَّ السير الذي كان يبدو وكأنَّه بلا رحل ولا نعل ، ولا رمح مصقول السنان ، كيف له أنْ يطيب عِرقه وحفاؤه ، ويذكو نزفه وسخاؤه؟ أم أنَّه غِمْد خَسر السيف ، وخَطو نَتَفَ النَّعل ، جَعبة ضيَّعت النبل ، وفرس قفز السرج مِن حِزامها ، فإذا بالمعركة المشدودة بالصهيل ، كأنَّها كهف في وادٍ مهجور ، ما جَنَّ إلاَّ بالصدى وهَمْهَمة الصدى ، وإذا بالعزم كأنَّه انتحار لا يتخفَّى إلاَّ تحت أقدامٍ حافية ، تجوس النَّخاريب لتصبغها بالورم والدم!.

إنَّها المأساة ـ على ما يبدو ـ ولكنَّها ليست هي التي هزَّتني وحرَّكت في نفسي كوامن ما طالها أحد مِثلما طالتها سيرة الحسين ، ليست المأساة هي التي انتهت بمقتل الحسين وأهل بيته ، وليست هي التي انتهت بقطع رأسه وحمله هديَّة إلى المَريد الجديد يزيد!!! صحيح أنَّها همجيَّة ينفر مِن تقبُّلها تحصُّل مُطلق إنسان ـ وأنَّها تجديف يُجرِّد كلَّ مُجتمع تَحصَل فيه مِن كلِّ قيمه الحضاريَّة ـ الإنسانيَّة ـ المُجتمعيَّة ، وتُصنِّفه دون الدرك الحيواني المُتوحِّش ، ولا تغسله مِن زَنِخها الكريه إلاَّ أجيال أُخرى ، تردُّه إلى إعادة اعتبار نفسه إنساناً لا يجوز له أبداً أنْ يُمثَّل حتَّى بذئبٍ جاء يفترس نعجة مُطمئنَّة في حظيرة.

قلت : ليست المأساة تلك هي التي هزَّتني ، وإنْ تكن قد قهرتني وقصفتني إلى ذِلٍّ لا يُمرِّغني به إلاَّ إنسان كافر في مُجتمعي ، إنَّما المأساة في أنْ نكتب الكلمة ولا نعرف كيف نقرأها.

١٢

لا ـ لم تكن مسيرة الحسين مِن مَكَّة إلى العراق نَزْقاً موصلاً إلى جنون الانتحار ـ إنَّما كانت مسيرة الروح ، والعقل ، والعزم ، والضمير إلى الواحة الكُبرى التي لا يُرويها إلاَّ العنفوان والوجدان. إنَّ مُجتمعا يخسر معركة العُنفوان والوجدان ، هو المُجتمع الذي لم يتعلَّم بعد كيف يكتب ، ولا كيف يقرأ كلمة المَجد أو كلمة الكرامة في حقيقة الانسان.

ومشى الحسين مِن مَكَّة ـ وأهل بيته جميعهم في محمول القافلة ـ ومعه أبوه الرابض هناك في النجف الأشرف ، وأُمُّه الثاوية هنا في البقيع ، والمُتلفِّعة بوشاحها المُطرَّز ، وأخوه المُتزِّمل بجُبَّته البيضاء ، وجَدُّه الممدود فوق المدى ، ومعه كلُّ الجُدود المُطيَّبين ، مِن أبي طالب ، إلى عمرو العُلا ، الهاشمين الثريد في القِصاع ، المُشبعين العُطاش مِن بئر زمزم ، ومعه الرسالة في القرآن ، ومعه الاجتهاد وكلُّ صيغ الجهاد ، ومعه الغيرة على مُجتمع فُكَّ جديداً مِن أُساره وأُعيد مِن غياب طويل ، حتَّى يتعلَّم كيف يكتب الكلمة وكيف يقرأها للحياة.

أنا لا أقول : إنَّ الحسين قد تأبَّط كلَّ هؤلاء الرَّزم وسار مِن مَكَّة إلى كربلاء ، ليرميهم جميعا فوق رمالٍ محروقة بالعطش ، في حين ينساب إلى جنبها ماء الفرات ، إنَّما جاء المَعين يجري مِن بين راحتيه ، والكلمة العزيزة ترقص مغزولة في عينيه ، لقد جاء يُعلِّم كيف تكتب الكلمة ، وكيف يقرأها العِزُّ والمَجد والعنفوان! لقد جاء بالمُحاولة الكُبرى ، فإنَّها ـ إنْ لم تسمح الآن ـ سيكون لها ، مع كلِّ غَدٍ ، وقع يلفظ الحرف ، ووقع يؤلِّف الكلمة ، يكفي الصدى ، بقاياه تتعبَّأ بها حنايا الكهوف ، ويستعين بها المُجتمع النائم ، لصياغة حُلمه ، فيُفيق ويعود يبني نفسه مِن غُبار المَعْمَعة.

لا ـ لم تكن مسيرة الحسين غير ثورة في الروح لم ترضَ بسيادة الغيِّ ، والجهل ، والغباء ، ـ بالأمس كان أخوه الحسن قُدوة بيضاء ، وها هو اليوم ـ الحسين ـ يقوم بقُدوة حمراء ، وكلا القُدوتين مُشتَّق مِن مصدر واحد هو المصدر الأكبر ، مِن أجل بناء المُجتمع بناء تتعزَّز في تطويره وتتنوَّع كلُّ السُّبل ـ هكذا قال جَدُّه وأبوه في حقيقة

١٣

الرسالة ، وهكذا قالت الوصيَّة ، وهكذا قالت له الإمامة الهاجعة في ضميره ، والمُفسَّرة في التصرُّف الأحمر.

تلك هي المسيرة ـ مسيرة الحسين ـ وتلك هي الكلمة خَطَّها وتلفَّظ بها عُنفوان الحسين ، وتلك هي المأساة : تقرأ ثورة الروح انتحاراً ، وتَقصيف السيوف في ساحات الدفاع عن الحَقِّ انتحاراً ، وبذل النفس مِن أجل قيمة في الحياة انتحاراً ، والجُرأة في وجه الحاكمين الظالمين انتحاراً ، والمُطالبة بمُنعة المُجتمع الصحيح انتحاراً.

تلك هي الكلمة التي أدعوك ـ يا قلمي ـ إلى جَلوة حروفها ، إنَّ الحسين شرارة الكلمة ... وهل يُبنى مُجتمع صحيح بغير مِثل هذا الشرار؟

١٤

القسم الأوَّل

أزاميل

الأحضان

أهل البيت

الأساس

حَجَّة الوداع

أين هو الحسين

إنَّه هُنا الحسين

١٥
١٦

الأحضان

ليست قليلة تلك السنوات السِّتّ ـ وهي التي حفرت في نفس الحسين حَفرها البليغ ـ لقد كان ينتقل فيها ، مُنذ أنْ تكحَّلت عيناه بالنور ، مِن حِضن إلى حِضن ، في دوامة مِن الحُبِّ والحَنان ، قَلَّ أنْ تمتَّع بمِثل نوعها طفل مِن أطفال مُجتمع الجزيرة في تلك الأيَّام ، لم يكن حِضن أُمِّه فاطمة رفيقاً به بمقدار عِزٍّ نظيره ، لو لم تكن ابنة أبيها محمد ، ذلك الذي انسكب في ابنته هذه انسكاب الحُبِّ بالحُبِّ ، والعِشق بالعِشق ، والرضى بالرضى ، كأنَّه سماء لا تنزل إلاَّ في سماء ، أو كأنَّه شوق لا يتبرَّج إلاَّ بذاته ، أو كأنَّه وَهج لا يتأجَّج إلاَّ في ضرامه ، ولا يتبرَّد إلاَّ في كلِّ مَعين مِن مَساكبه. لم يصف قلم بعدُ حُبَّ أبٍ لابنته ، أو حُبَّ ابنةٍ لأبيها ، كالحُبِّ الذي تبادله الرسول العظيم مع ابنته الصديقة الزهراء.

أقول : لو أنَّ فاطمة الرهيفة لم تكن ضِلعا رهيفا مِن قضيَّة أبيها ، لكان شأنها عاديَّاً كشأن أخواتها اللواتي أَمَمْنَ الحياة ورِحنَ إلى أزواجهنَّ يَبنينَ العِشَّ السعيد ـ ولكنَّ فاطمة المجبولة بحنين أبيها ، كانت قسطاً آخر مِن أقساطه التي يُسدِّدها للحياة على صفحة الرسالة التي اندمجت بشوقه ، وعزمه ، وروحه ، في سبيل الأُمَّة التي هو منها ، ومِن أجل جعلها عزيزة وهادية لأُمَم الأرض. لم يذكر التاريخ رجلاً أحبَّ وأكرم مِن عليٍّ على قلب النبيِّ الكريم ، ولم ينزل أحد غيره مِن بيته نزولاً مقرونا به كأنَّه المُلازمة والالتصاق ، وذلك هو التدليل القائم بذاته بغير حاجة إلى أيِّ تفسيرٍ أو تحليلٍ أو تعديلٍ ، بأنَّّه رفيقه الروحيّ ، وربيبه الأمثل ، وتلبيته الخارقة ، وزِناده المشدود مثله بالعزم ، والحَقُّ ، والصدق ، والإخلاص ، وإلاَّ لما

١٧

قال عنه : بأنَّه هو مدينة العلم وعليٌّ بابها. وبأنَّ عليَّاً وحده ذو الفِقار. وبأنَّهما : عليٌّ منه وهو مِن عليٍّ ، فليكن القول هذا ـ عند مِن يُريد ـ مُختلَقاً ، ولكنَّ البيت ، ووجود البيت في حدوده ، وفي واقعه على الأرض ، لا يُمكنه أنْ يُشير إلى غير هذا المعنى الجليل ، أكان قد ورد في حرف ، أم كان قد فُسِّر بالإشارة. يكفي التصديق على ذلك ربط فاطمة البهيَّة بالرجل الحصيف ؛ حتَّى تظهر الغاية التي بقيت نائمة في الحُلم إلى أنْ تَفسَّر الحُلم وأنجب الزواج الكبير طفلين سمَّى واحداً بالحسن ، والثاني بالحسين.

مِن فاطمة وعلي (عليهما السّلام) تكون القيمومة على الرسالة المسحوبة مِن حِضن الحَقِّ ـ إنَّها وحدها الآن في الضمير ، وفي العينين ... لقد كانت فاطمة في عين النبي ، أطهر رَحم يُمكن أنْ يُنجِب مَن يليق بالميراث الأوسع مِن الحدود ـ أمَّا عليٌّ فهو وحده ـ أيضاً ـ خليق بالأُبوَّة المجيدة يُحقِّقها في جَلوة التظهير. إنَّ الرسالة لتستحقُّ أنْ يُحضَّر لها ـ مُسبقاً ـ مثل هذا التحضير ، فهي ما نزلت لتوحيد هذه الأُمَّة ـ واسترجاعها إلى حقيقة الوجود العزيز بالإنسان ، بعد غيابٍ مسحوقٍ بأجيالٍ وأجيالٍ مِن التخلُّف والتردِّي ـ إلاَّ لأنْ تقتنص لها كلَّ السُّبل الحريصة على صيانتها وتعهدها ؛ حتَّى يبقى الاستمرار فاعلاً في تصاعده التحقيقي البليغ. لقد سهرت الجزيرة طويلاً في لياليها العتيقة الدامسة ، تُفتِّش مع كلِّ الجُدود عن قبس يجمعها ويوحِّدها في الحظيرة ، وليس قليلاً ما أهرقه ، مِن عقله وروحه ودمه ، إنسانها المُشرَّد عِبر الصحارى والفيافي والفَدَافِد ، ولم تُحرِز إلاَّ رموزا هزيلة مشرورة في أحجار موزَّعة السِّدانات في مَكَّة الأصنام ، أمَّا الرسالة الجديدة المنوَّرة ، فهي التي ولِدت مِن حَوملة هذه الأجيال الغارقة في بؤسها ، وشُحِّها ، ونزف أوصالها ـ أما وأنَّها قد نزلت ، وضاءت ، وحقَّقت فوق الأرض مُعجزاتها ، فكيف لها أنْ لا تسهر طويلاً مع مُعطياتها ، وكيف لها أنْ لا تتحسَّب في المُحافظة على مغانمها التي حقَّقت وجودها الإنساني فوق الأرض ، وفي حِضن الحياة؟

لقد كان التحُّسب العظيم في صيانة الرسالة مرصوداً في الرجل المبنيِّ بناءً متيناً ، ولا يعني البناء أنَّ النبي الكريم هو الذي بناه ، أكثر مِمَّا يعني أنَّه اكتشفه

١٨

مرسوخا في نفسيَّة الفتى عليٍّ ، عندما لمحَ ـ لأوَّل مَرَّة ـ جبيناً تتخبَّأ ، دونه نجابة ومتانة في الخُلق والروح ، هي كلُّ ما في الانسان ، مِن روائع. لقد لمح كلُّ ما يجول في عينيه مِن آفاق تُطلُّ به على مَرح وسموٍّ في النفس ، هي وحدها الصفات الكبيرة التي تجذبه إليه في عمليَّة الالتصاق والانضمام ؛ لتكون له ـ به ـ وحدة في الطوية تُهيِّئه للبلوغ المُشتاق إلى التحقيق الرائع ، الذي يتجلَّى به جوهر الانسان في حِضن الحياة ، التي هي فيض رَبِّه العظيم الرحيم.

هكذا هي قِصَّة علي بن أبي طالب ، في التحامه الرائع بالرجل الآخر ، الذي يستعدُّ للأطلالة الكبيرة ، التي تستضيء بها رسالة الإسلام ـ وهكذا هي قِصَّة فاطمة الزهراء بالذات ـ لقد كانت لمحاً اكتشافيَّاً مِن جبينها ، وعينيها ، وتكوينها الأُنثوي ، وكانت تخصيصا رائعاً آخر يلتصق بالرجل البعيد المجال ، ومِن ذُرِّيَّة هذين النورين الوافدين مِن اللمح ، سيولَد لمَحٌ جديد آخر ، معقود في جبينٍ سيُسمَّى الحسن وفي جبينٍ آخر سيُسمَّى الحسين.

ـ ٢ ـ

لقد تجمَّدت الزعامات التقليديَّة في الجزيرة ، على أمل أنْ تنام دون أنْ يعود فيلمُّها وعيٌ ، مع انتقال النبي الكريم إلى الرفيق الأعلى ، هبَّت تُعلن أنَّها لم تُصدِّق تحسب الرسول بإسناد مُهمَّة الاهتمام بصيانة الرسالة الطريَّة العُود ، إلى أمتن رجل صدَّقها وشارك في تمتينها حُفراً في النفوس. فليكُن اجتماع السقيفة ـ تملمُلاً مِن هَجعة ـ أبَعَدَ الرجل المَحسوب رُكناً مِن الأركان المُعتمدة لمُتابعة الخَطِّ وترسيخه ، إلاَّ أنَّ واقع التاريخ وواقع الرسالة ، التي لا تزال حتَّى الآن تنمو وينمو بها عالم الإسلام ، يشهد بأنَّ لعليٍّ مكانة مجيدة القيمة في ضلوع الرسالة ، لا يجهلها الحَقُّ ، ولا يقدر أنْ يُنكرها المنطق ـ وما مِن أحدٍ على الإطلاق تمكَّن مِن فصل بيت عليٍّ عن بيت الرسول ، لا في الحقيقة ولا في المجاز.

أعود فأقول : فلتكن للسقيفة عينها الحولاء ، غير أنَّ حَوَلاً هناك لا يُطفيء نوراً في عينَي عليٍّ ، ولا شعوراً ضمنيَّاً يعيش به أهل البيت. إنَّ الذين جمعهم مُربِّيهم

١٩

الأكرم ، وضمَّهم تحت كسائه ليُدفِّئهم بعَطفه ، ويُطهِّرهم مِن كلِّ عيبٍ ، هو الذي يتحسَّب بهم ؛ إذ يبنيهم لاستلام الغَد ، وأنَّ الغَد العظيم هو في استمرار الرسالة التي تستردُّ الإنسان إلى حقيقة الرُّشد ، وحقيقة بناء المُجتمع الموحَّد بالوعي والحَقِّ ـ إنَّه يعرف أنَّه بعد لحظات قصيرة سيَعبر تاركاً لهم الدار ، وأبناء الدار ـ فليتثبَّتوا أنَّهم هُمْ المُعنيَّون المُنتدبون للمُحافظة على صيانة القَرار ، إلى أنْ يطويهم ـ بدورهم ـ سُلطان الحَقِّ ، فيتركون للقيم الأُخر رسالة مُستمرَّة بنظافة الحَرف ، وأمانة النهج ، وحقيقة التطوير المُركَّز بالإيمان والجوهر.

إنَّها المُهمَّة المُنتدبون إليها ، وإنَّها القضيَّة الكبيرة والجليلة ، التي ساهم بجَلوتها وإخراجها عقلُ عليٍّ ، ولُبُّ عليٍّ ، وصدقُ عليٍّ. وإنَّه البيت الذي جعل النبي العظيم حدوده مربوطة بحدود أُخرى ، هي أبعد مِن القُربى ، وأثبت مِن خطوط الانتساب ، في مُجتمع سينسى انتسابه إلى كلِّ بطن مِن بطونه القبائليَّة ، ليبقى له ـ فقط ـ انتساب إلى القيمة المُجتمعيَّة الكُبرى ، التي قدَّمتها له الرسالة ، وجعلته بيتاً واحداً لمُجتمع إنسانيٍّ واحد ، يفهم ويعي حَقَّه في الوجود الحياتي الإنساني الكريم.

إنَّها مسؤوليَّة راح ينوخ تحت جلالها البيت النبوي المُشعُّ ، والمبنيُّ مِن لمح الرسول الأبعد ، ومِن تحسُّبه الأبلغ ؛ لتكون منه انطلاقة لسياسة العهد الطويلة الأمد ، والمحصنة بالنظافة التي تُنجبها النفوس الكريمة ، مُستقاة مِن صدر ربِّها في الحياة مَعيناً لا ينضب ، والرسالة الكريمة هي ـ بدورها ـ نفحةٌ مِن روحه ، التي لا ينمو ويتبارك الاَّ بها وبقُدسيَّتها مُجتمع الإنسان.

أنْ لا يَعي أهل السقيفة أو أيَّة سقيفة سواها ، ثقل المرام ، لا يعني أنَّه ليس ثُقلاً رَسَا بجلاله على أهل البيت (عليهم السّلام) ، ولا يعني أهل البيت تخصيصاً لحدود رابطة الدم ، بلْ يعني بيتاً لفَّه النبي الكريم بقصدٍ مربوطٍ بتعهد الرسالة. إنَّهم أوَّل المُتحسِّسين ، وأوَّل المُعانين ، وأوَّل الرازحين تحت الوطأة الجليلة ، فليكن البيت هذا ـ في وجدان أهل البيت ـ بيت الأُمَّة الأفيح والأفيأ ، إنَّه ـ في وجدانهم أيضاً ـ بيت الأمس الصغير ، وبيت اليوم الأشرق ، وبيت الغد الكبير ، الذي يحيا فيه الإنسان عزيزاً كريماً ، ومثالاً لكلِّ أُسرة يُعمِّر بها مُجتمع الإنسان.

٢٠