شمس العلوم - المقدمة

شمس العلوم - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : اللغة والبلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٨

١
٢

٣
٤

٥
٦

مقدمة التحقيق

( تمهيد )

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، عليه نعتمد وبه نستعين ، والصلاة والسلام على رسوله الأمين ، وآله وأصحابه الراشدين ، وبعد :

فإِن لنشوان بن سعيد الحميري ، صيتاً ذائعاً بين الأوساط العلمية اليمنية على مدى العصور ، وبين كثير من العلماء والمحققين العرب والمسلمين ، وبين المستشرقين في جميع أنحاء العالم ، وخاصة بين المتخصصين منهم في الدراسات العربية ـ السامية ـ القديمة ، وفي الدراسات الإِسلامية.

ولمؤلفاته مثل هذا الصيت ، وعلى رأسها موسوعته الضخمة كتاب ( شمس العلوم ) على الرغم من أنه لم يسبق نشره محققاً وكاملاً ، ولهذا فإِن الحديث عن تحقيقه ظل يدور في كثير من الندوات العلمية التي تنعقد في داخل اليمن أو خارجه ، وكان السؤال الذي يتردد على ألسنة العلماء المتخصصين هو : متى يفي اليمنيون لعلامتهم نشوان بن سعيد فيحققون كتابه ( شمس العلوم ) وينشرونه؟! وكان هذا السؤال غصة لمن يحضر هذه الندوات من اليمنيين.

ولكن هذا الواجب الكبير ، ظل يراود الأذهان ، بين الأوساط العلمية في داخل اليمن وخارجه ، حتى تصدينا لهذا العمل الكبير معتمدين على الله وعلى تشجيع ودعم كريم من ابن اليمن البار الوفي لشعبه وأمته وللتراث اليمني والعربي والإِسلامي ، فخامة الأخ الرئيس علي عبد الله صالح ، وبعون الله وتوفيقه أصبح الحلم حقيقة ، فخرج هذا الكتاب من رفوف المكتبات وظلام أقبيتها ، إِلى النور وأصبح ( شمس العلوم ) بين يدي القراء والدارسين المهتمين في كل مكان ، فلله الحمد والمنة.

٧

نشوان بن سعيد الحميري

علم اليمن الشامخ ، العلامة المجتهد ، والسياسي الثائر ، والشاعر المناضل عن المبادئ التي آمن بها ، نشوان بن سعيد بن سعد بن أبي حمير بن عُبَيْد بن القاسم بن عبد الرحمن بن مفضل بن إِبراهيم ابن سلامة بن أبي حمير الحميري (١) ، ينتهي نسبه إِلى القيل الحميري حسان ذي مراثد ، قال في قصيدته الحميرية المشهورة بالقصيدة النشوانية :

أو ذو مَرَاثِدَ جدُّنا القيلُ بن ذي

سَحَرٍ ، أبو الأذواءِ رحبُ الساحِ

وبنوهُ ذوقَينٍ وذو شَقَرٍ وذو

عمران ، أهلُ مكارمٍ وسماحِ

وللأقيال من بني ذي مراثد ذكر في نقوش المسند ، وخاصة تلك النقوش على الألواح البرونزية التي عثر على كثير منها في مدينة عَمران في أعلى البَون.

وذكر الهمداني القيل حسان ذا مراثد في الإكليل ٢ / ٢٧٤ ، ٢٨٦.

فنشوان يمت بنسب عريق إِلى الأقيال الذين كان لهم المرتبة الثانية بعد الملوك يشاركونهم الحكم أو يحكمون المناطق التابعة لهم.

وتاريخ مولد نشوان غير معروف ولم يذكره أحد ممن ترجم له من المؤلفين اليمنيين والعرب وغيرهم. وكذلك لا نعرف على التحديد القطعي مكان ولادته ، ولكننا نرجح مع القاضي إِسماعيل الأكوع أن مولده كان في مدينة حُوْث (٢) الواقعة في حاشد على

__________________

(١) اخترنا هذا الجزء من نسبه من كتاب شرح القصيدة النشوانية ( ملوك حمير وأقيالٍ اليمن ) الذي طبعه العالمان اليمنيان إِسماعيل الجرافي وعلي المؤيد ص (١٥٩) ، وهو أيضاً ما في كتاب ( نشوان بن سعيد الحميري ) للقاضي العلامة إِسماعيل الأكوع ، وهو النسب الأصح ، أما أكثر من ترجم له من غير اليمنيين فيغلطون في نسبه.

(٢) انظر كتابه ( هجر العلم ومعاقله في اليمن ) ج ١ ص (٥٤١) ، وانظر معه كتاب ( تيارات معتزلة اليمن ) للدكتور علي محمد زيد ص (١٠٥) لارتيابه في ذلك ، وكذلك القاضي إِسماعيل الأكوع في كتاب ( نشوان بن سعيد الحميري ) ص ١٢ ـ ١٣.

٨

نصف المسافة بين صنعاء وصعدة ، ويعزز هذا قول نشوان نفسه في هذا الكتاب في باب الحاء مع الواو وما بعدهما بناء ( فُعْل ) في الأسماء عند حديثه عن حُوْث : « وبِحُوث كان مقام نشوان بن سعيد مؤلف هذا الكتاب » ، ولهذا فإِنه بعد أن فارقها ، وشرَّق في اليمن وغرَّب ، ظل يحن إِليها ، فقال :

بشاطئ حُوثٍ من ديار بني حربِ

لقلبيَ أشجانٌ معذبةٌ قلبي

بل إِن أكثر إِقامته كانت في حُوْث ، ففي مقدمته لهذا الكتاب صرح بأنه صنف كتابه وأكمله فيها عام ٥٧٠ ه‍قال :

وفي سنة السبعين والخمس تمّ ما

جمعتُ من التصنيفِ في رمضانِ

وأكملتُ من هذا الكتابِ فصولَهُ

ولم أنفصلْ عن بلدتي ومكاني

ولكن هذا لا يعد دليلاً قطعياً على أن ميلاده كان في حُوْث ، فإِنه قد يعني ببلدته ومكانه ( اليمن ).

أما نشأته الأولى وتلقيه التعليم ، فقد كان على الأرجح في مدينة حُوْث وكانت هجرة من هجر العلم ، وظلت كذلك إِلى عهد قريب ، ولم يتحدث في كتبه المعروفة لدينا عن شيوخه الذين تلقى عنهم ، ولا شك في أنه في بداية حياته العلمية درس على عدد منهم ، فلما اشتد ساعده شق طريقه بنفسه ، فعكف على المكتبات الزاخرة وكانت كثيرة في اليمن ، فنهل منها وعلّ ، حتى تضلع في جميع العلوم والمعارف والفنون المعروفة في عصره ، وأصبح عالماً في التفسير ، والقراءات ، والحديث ، والأصول ، والفروع ، والفرائض ، والملل ، والنحل ، والتاريخ ، والأنساب ، واللغة ، والنحو ، والصرف ، والآداب شعراً ونثراً ، والمعاني ، والبيان ، والعروض ، والقوافي ، وفي علم الفلك ، وعلم النبات ، وتتجلى هذه المعارف الواسعة أكثر ما تتجلى في كتابه هذا ( شمس العلوم ).

٩

كل هذا صار له فيه اليد الطولى ، حتى عُدّ من أعلم أهل عصره ، بل أعلمهم على الإِطلاق.

وقد ترجم لنشوان علماء يمنيون وعرب في عدد من الأقطار العربية والإِسلامية وكتب عنه وعن بعض مؤلفاته عدد من المستشرقين كما سيأتي.

فممن ترجم له من اليمنيين ، علي بن الحسن الخزرجي في كتابه ( العقد الفاخر الحسن ) فقال عنه : « الإِمام العلامة ، المعتزلي ، النحوي ، اللغوي ، كان أوحد أهل عصره ، وأعلم أهل دهره .. وكان شاعراً مفوهاً منطيقاً قوي الحبك ، حسن السبك » (١).

وتحدث عنه عمارة اليمني في كتابه ( المفيد في تاريخ صنعاء وزبيد ) بوصفه من الشعراء ، فقال : « وهو شاعر فحل ، قوي الحبك ، حسن السبك ، وهو من شعراء أهل الجبال ».

ووصفه يحيى بن الحسين بن الإِمام القاسم في ( المستطاب ) ، فقال : « من العلماء الكبار ، وله التصانيف المشهورة ».

وذكره أحمد بن صالح بن أبي الرجال ، فقال : « القاضي العلامة المحقق النحوي اللغوي ».

وترجم له أو ذكره طائفة من المؤلفين اليمنيين ، هذا إِلى جانب ما جاء من ذكرٍ له فيما دار بينه وبين المتعصبين للإِمامة الهادوية من صراع كُتِبَ فيه كثيرٌ من الشعر والنثر ، وسنشير إِلى شيء منه فيما بعد.

أما من ترجم له من غير أهل اليمن ، فنذكر منهم ياقوت الحموي في ( معجم الأدباء ) ٧ / ٢٠٦ وفي معجم البلدان ، عند كلامه على جبل صَبِر المطل على مدينة تعز

__________________

(١) انظر كتاب ( هجر العلم ومعاقله في اليمن ) للقاضي إِسماعيل بن علي الأكوع ١ / ٥٤١.

١٠

حيث حصل لبس عند ياقوت بين جبل صَبِر هذا وبين وادي صبَر ـ بفتحتين ـ وهو في صعدة من أراضي قبيلة جماعة ، حيث كانت بداية دعوة نشوان إِلى نفسه بالإِمامة كما سيأتي ، ومما قاله عنه ياقوت في ( معجم البلدان ) : « وكان نشوان قد استولى على عدة قلاع وحصون هناك ، وقدمه أهل تلك البلاد حتى صار ملكاً » ٣ / ٣٩٢.

وترجم له منهم يوسف بن إِبراهيم القفطي الوزير المصري في عهد صلاح الدين الأيوبي ، في كتابه ( إِنباه الرواة ) ٣ / ٣٤٢ ، والعماد الأصفهاني محمد بن محمد في ( خريدة القصر ) ٣ / ٢٦٨ ، والجلال السيوطي في ( بغية الوعاة ) ٢ / ٣١٢ (١).

وترجم له من المعاصرين المحقق كمال مصطفى ناشر كتاب « رسالة الحور العين » لنشوان ترجمةً جمعت أهم ما جاء في تراجمه المشار إِليها ، وأربت عليها ، ومما جاء فيها :

« كان أوحد أهل عصره ، وأعلم أهل دهره ، نبلاً وفضلاً ، مِفَنًّا مِعَنًّا ، في اللغة ، والنحو ، والأنساب ، والتواريخ ، وسائر ما يتصل بفنون الآداب ، شاعراً ، وكانت له اليد الطولى في علم الفرائض » (٢).

وقال : « كان نشوان ذا نفس وثابة ، طموحةٍ إِلى المعالي ، لا ترضى إِلا بالوصول إِلى قمة المجد ، والجمع بين شرف العلم وشرف الملك » (٣).

ويتحدث عن طموح نشوان السياسي ، ومحاولته تسنم سدة الحكم فيقول : إِن في هذا « ما يدل على عظم مكانته الدينية والعلمية والسياسية ، خصوصاً إِذا علمنا أنه يُشترط فيمن يتولى الملك ببلاد اليمن صفات ، أهمها : أن يكون محارباً ، قائداً ، خبيراً

__________________

(١) انظر كتاب ( نشوان بن سعيد ) للقاضي إِسماعيل الأكوع حاشية ص (١٠).

(٢) مقدمة ( رسالة الحور العين ) في ( التعريف بالمؤلف ) ص (١٧).

(٣) مقدمة ( رسالة الحور العين ) في ( التعريف بالمؤلف ) ص (٢١).

١١

بضروب الحروب ، أهلاً لقيادة الناس وقت الجهاد ، عالماً ، متبحراً في العلوم الدينية بوجه خاص » (١).

إِن هذا التركيز على الجانب السياسي من جوانب شخصية نشوان ذات الأبعاد المتعددة ، يفضي بنا إِلى الحديث عن هذا البعد المهم من أبعاد شخصيته.

عاش نشوان في عصر كان اليمن فيه يزخر بفكرٍ ديني خصب ثري ، ولكنه متنافر متصارع ، تتنازعه اتجاهات سياسية عنيفة ومتصادمة.

ففي المنطقة التي عاش نشوان في وسطها الاجتماعي واتجاهاته ـ أي صنعاء وصعدة وأكنافهما ـ كان هنالك على الأقل خمس كتل سياسية بأنصبتها المتفاوتة من العلم والفكر الديني والسياسي.

أولها : كتلة التيار ( الزيدي الهادوي ) الحاكم ـ ممثلاً في عصر نشوان بالإِمام أحمد بن سليمان (٢) ـ ، وهو تيار يعتمد على فكر إِسلامي عميق ، وغني ، يجمع بين أصول المعتزلة ، وفروع الحنفية ، ويقول بوجوب الاجتهاد ، ويجيز إِمامة المفضول مع وجود الأفضل ، وذلك ليتجنَّب أتباعُه سب الصحابة ، وعلى رأسهم أبو بكر وعمر وعثمان من ناحية ، وليسهلوا أمور الأئمة في اليمن من ناحية ثانية ، إِذ قد يكون الأفضل علماً في مرحلة ما ، ليس هو الأقدر قيادة وحكماً وبطشاً ، ومع ذلك فإِن هذا التيار يحصر حق الإِمامة في أحد أبناء البطنين الحسن والحسين ، ويعمد إِلى تحقير اليمنيين ، والغض من شأنهم ، والتقليل من دورهم في نصرة الإِسلام ونشر رسالته ، وقد لقي هذا الحصر معارضة فكرية وسياسية وقبلية منذ البداية ، أما معارضته فكرياً بالعودة إِلى التاريخ ،

__________________

(١) مقدمة ( رسالة الحور العين ) في ( التعريف بالمؤلف ) ص (٢٢).

(٢) كان المتوكل أحمد بن سليمان على قدرٍ من العلم ، وأيده نشوان في بداية أمره ، ولكنهما اختلفا فيما بعد كما سنبين ، على أن الأمور لم تستتب لأحمد بن سليمان بل ظل في حروب وتنقل بين صعدة والجوف طوال عهده ، انظر كتاب ( تيارات معتزلة اليمن ) للمؤلف اليمني المحقق الدكتور علي محمد زيد ففيه بحث قيم عنه ص (٤٤) ـ ص (٦٣).

١٢

وتمجيد اليمن وأهله ، وإِثارة حمية أبنائه ، فإِن بدايتها كانت على يد لسان اليمن أبي محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني المتوفى بين ٣٥٠ ـ ٣٦٠ هـ ‍(١) الذي تأثر به نشوان في هذا المجال إِلى حد كبير كما سنبين.

وثانيها : كتلة التيار ( الزيدي الهادوي المطرفي ) (٢) ، و ( المطرفية ) فرْقة ولدت من رحم الزيدية الهادوية ولها ما لهذه من الفكر العميق والغني ، إِلا أن منطلقاتها وطنية يمنية ، أرادت أن تطهر الهادوية من أهم شوائبها ، ألا وهو حصر الإِمامة في أحد أبناء البطنين ، كما أنهم مالوا في علم الكلام المعتزلي إِلى المدرسة البغدادية ، وشيخها أبي القاسم البلخي ، ومن مميزاتهم أنهم لم يؤمنوا بالعنف ، ولم يخوضوا غمار الصراع السياسي الحربي ، بل عمدوا إِلى أسلوب الدعوة ونشر التعليم حتى بين الفلاحين والجهلة (٣) ، ولكنهم تعرضوا فيما بعد إِلى أسوأ عملية قتل وتنكيل واضطهاد على يد الإِمام عبد الله بن حمزة المتوفى سنة ٦١٤ هـ.

وثالثها : كتلة التيار ( الإِسماعيلي ) فعلى الرغم من أن الدولة الصليحية الإِسماعيلية الفاطمية كانت قد انتهت في اليمن ، فإِن هذا الاتجاه الفكري السياسي كان لا يزال مُمَثَّلاً بين الناس بجماعاتٍ تدين له بالولاء في نواحٍ كثيرة من اليمن ، كما كان لا يزال ممثلاً في الحكم بالسلطان حاتم بن أحمد اليامي الذي استولى على صنعاء بسبع مئة فارسٍ من همدان سنة ٥٣٣ هـ ‍وحكمها وحكم مناطق واسعة من اليمن كان الاتجاه الإِسماعيلي الصليحي لا يزال سائداً فيها ، واستمر حتى عام ٥٥٦ هـ ممثلاً لهذا الفريق

__________________

(١) انظر تصحيح سنة وفاة الهمداني في تحقيق القاضي العلامة محمد بن علي الأكوع للرسالة العاشرة من ( سرائر الحكمة ) ص (٩٦) ، وانظر ( الإِكليل ) ١٠ / ٢٨ تحقيق القاضي محمد الأكوع أيضاً.

(٢) المطرفي نسبة إِلى المطرف بن شهاب العبادي الشهابي مؤسس المذهب المطرفي.

(٣) انظر كتاب ( تيارات معتزلة اليمن ) للباحث اليمني د. علي محمد زيد ص (٦٤) وما بعدها ، ففيه بحثٌ قيّم عن المطرفية.

١٣

السياسي ، ثم جاء من بعده ابنه السلطان علي بن حاتم ، واستمر في تمثيل هذا الاتجاه إِلى ما بعد وفاة نشوان بن سعيد عام ٥٧٣ هـ.

ورابعها : تيار ( الحسينية ) أو ( القاسمية ) ، ولم يكن لهذا الاتجاه فريق سياسي في عهد نشوان ، وإِنما هم فرقة منشقة عن الزيدية الهادوية ، مغالية في أفكارها ، لأنها كانت تقول بغيبة الإِمام الحسين بن القاسم العِياني قتيل همدان في ( ذي عرار ) (١) عام ٤٠٤ ه‍، وأنه المهدي المنتظر ، واستمر هذا الاتجاه المنحرف إِلى عهد نشوان ، ولم تكن هذه الفرقة تقول بغيبة الحسين بن القاسم العِياني فحسب ، بل كانوا يقولون أنه أفضل من الرسول صَلى الله عَليه وسلم ، وأن كلامه ( أبهر ) (٢) من القرآن ، قال شاعرهم فُلَيتَة بن القاسم (٣) :

أنا شاهدٌ بالله فاشهد يا فتى

بفضائل المهدي على فضل النبيّ

بل إِن هذه المقولة الكفرية كانت من كلام الحسين بن القاسم نفسه (٤) ، كان يرددها في حياته ، فيقول عن نفسه : إِنه أفضل من النبي صَلى الله عَليه وسلم وإِن كلامه ( أبهر ) من القرآن ، وظل أتباعه يرددونها بعد مماته ، وبسبب هذا الغلو الشنيع ، خاض معهم نشوان صراعاً شعرياً عنيفاً ، وردوا عليه بأعنف منه.

وخامسها : تيار ( سلالة الهادي يحيى بن الحسين وشيعته ) ، ولم يكن لهذا الاتجاه فريق سياسي ، فقد اضمحلت دولة الهادي ، مؤسس الفكر والإِمامة الزيدية الهادوية في اليمن بعد وفاته على الرغم من محاولة خلفائه وخاصة ابنه أحمد (٥). ولكنه ظل له شيعة من سلالته وغيرهم ، يدعون إِلى أنفسهم باسمه ، ويعارضون الإِمام أحمد بن

__________________

(١) ( ذي عرار ) قرية شمالي صنعاء في البون بالقرب من ريدة على بعد نحو ٧٠ كيلوا متراً من صنعاء.

(٢) لفظ ( الباهر ) في اللهجات اليمنية يعني : الجيِّد والحسن ، و ( الأبهر ) : الأجود والأحسن.

(٣) انظر كتاب ( نشوان بن سعيد ) للقاضي إِسماعيل الأكوع ص (٢٢).

(٤) انظر كتاب ( تيارات معتزلة اليمن ـ في القرن السادس الهجري ) لمؤلفه الدكتور علي محمد زيد ص (٢١) ، وكتاب ( نشوان بن سعيد ـ والصراع الفكري والسياسي والمذهبي في عصره ) لمؤلفه القاضي إِسماعيل الأكوع ص (٢٠).

(٥) انظر البحث الذي جاء بعنوان ( من الهادي حتى القاسم العِياني ) في كتاب ( تيارات معتزلة اليمن ) للدكتور علي محمد زيد من ص (١٥) ـ ص (٩١).

١٤

سليمان على الرغم من انتهاء نسبه إِلى الهادي ، ويُغالون في تقديس الهادي يحيى بن الحسين ، وبسبب هذا الغلو تصدى لهم نشوان ، ومما قاله فيهم (١) :

إِذا جادلت بالقرآن خصمي

أجاب مجادلاً بكلام يحيى

فقلت له : كلام الله وحيٌ

أتجعل قول يحيى عنه وحيا؟!

وقد رد الشعراء من أنصار هذا الاتجاه على نشوان في حياته وبعد موته ردوداً قاسية ، لا تدل إِلا على المغالاة في تقديس الأشخاص ، على الرغم من أنه كان لعلم الهادي مكانة عد نشوان ، خاصة في الفروع والأحكام الشرعية ، وكان قضاؤه يعتمد كتاب ( الأحكام ) للهادي.

هذا ما كان في المحيط الاجتماعي الذي عاش نشوان في خضم اتجاهاته وصارعها بكل ما أوتيّ من قوة الشخصية ومن المكانة العلمية الرفيعة.

وإِلى جانب ذلك كان هنالك بعض التيارات والكيانات السياسية على الساحة اليمنية خارج هذا المحيط الاجتماعي الذي عاش فيه نشوان باتجاهاته الفكرية والسياسية المتقارعة بالجدل نثراً وشعراً ، والمتصارعة عسكرياً وحربياً أيضاً ، مؤثراً فيها ومتأثراً بها.

فهنالك في الجنوب والجنوب الغربي ، دولة علي بن مهدي الحميري المتوفى سنة ٥٥٤ ه‍، وهي دولة تقوم على فكر سلفي متشدد ، حتى إِن بعض المؤرخين يدرجونها في الاتجاه الخارجي ، ويعتبرون علي بن مهدي وابنه عبد النبي من الخوارج (٢).

وفي أقصى الجنوب كان هنالك في عدن دولة الزريعيين ، وهي امتداد للدولة الصليحية الإِسماعيلية الفاطمية.

__________________

(١) انظر كتاب ( تيارات معتزلة اليمن ) للدكتور علي محمد زيد ص (١٠٩).

(٢) انظر ( بلوغ المرام ) ص (١٧) ، و ( تاريخ عمارة ) ص (١٢٠) ، و ( بهجة الزمن ) ص (٧١).

١٥

وفي الشرق والجنوب الشرقي ، كان هنالك دولة للخوارج الإِباضية ، تتخذ من مدينة ( تَرِيم ) في أعالي وادي حضرموت عاصمة لها ، وكان السلطان فيها على عهد نشوان ، راشد بن شجيعة (١) ، وإِليه سار نشوان لما دعا إِلى نفسه بالإِمامة.

في هذا المحيط الاجتماعي المحتدم بالجدل وعلم الكلام ، والمقارعة بالألسنة وأسنة الأقلام ، والمضطرم بالصراع بالسيوف وأسنة الرماح ونصال السهام ، نشأ نشوان وترعرع ، حتى بلغ في العلم المكان الأرفع بين أهل عصره وعلماء زمانه ، وأصبح عالماً مجتهداً حائزاً على مؤهلات الاجتهاد وشروطه.

ولا شك في أن نشوان بتفاعله مع محيطه هذا باتجاهاته الفكرية والسياسية ، وانطلاقاً من هذا الواقع الحي ، ومن ذاته بما لها من المكانة العلمية الرفيعة ، ثم من خلفيته التاريخية التي تعرف ما كان لليمن في تاريخ العالم القديم من الحضارات الراقية ، وما له وللمنتمين إِليه من دور في نصرة الإِسلام ، ورفع رايته ونشر رسالته ، وهو متأثر في هذا المجال ، بالمؤسس الأول لهذا الاتجاه الوطني اليمني ، أبي محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني المولود سنة ٢٨٠ هـ والمتوفى بين ٣٥٠ ـ ٣٦٠ هـ ‍(٢) ... من خلال هذا كله يستطيع من يترجم له أن يتحدث عن : « أثر التجربة الذاتية في بلورة رأي نشوان حول مسألة الإِمامة ».

ومضمون رأيه في هذه المسألة هو : أنه لا يجوز حصر الإِمامة في قريش ، ومن ثم وبالأولى لا يجوز حصرها في بني هاشم ، لا في الفرع العباسي منهم ، ولا في الفرع العلوي ، وكان لتجربة نشوان الذاتية ، في محيطه اليمني الذي عاش فيه ، أثرها في تكوين رأيه القائل بأن الإِمامة تكون في الأفضل من خلق الله كائناً من كان.

__________________

(١) كتاب ( تيارات معتزلة اليمن ) للدكتور علي محمد زيد ص (١١٨).

(٢) انظر تحقيق القاضي العلامة محمد بن علي الأكوع للرسالة العاشرة من ( سرائر الحكمة ) للهمداني ، والجزء العاشر من ( الإِكليل ) تحقيقه أيضاً ص (٢٨).

١٦

إِن المذهب ( الزيدي ـ الهادوي ) يشترط في من يقوم بالإِمامة ويتولى مقاليد الحكم الديني والدنيوي باسمها ، صفات وشروطاً هي في مجملها شروط إِيجابية ، فالإِمام يجب أن يكون عالماً ، مجتهداً ، عادلاً ، كريماً ، شجاعا ... إِلخ ، وهذه كلها صفات حميدة متى توفرت في الحاكم ضَمن الناس حكماً رشيداً ، وقيادة حكيمة ، ولكن هذا المذهب يحصر حق تولي هذا المنصب فيمن يكون منتمياً بالنسب وسلالياً إِلى الحسن أو إِلى الحسين أبناء علي من فاطمة ، وبسبب هذا الحصر السلالي ، لقيت الإِمامة معارضة وطنية يمنية من عهد المؤسس الأول لها ، الهادي يحيى بن الحسين ، وفيما بعد وعبر العصور إِلى عهد نشوان وما بعده من العهود. وقد كانت آراء واجتهادات متأخري كبار علماء اليمن كالعلامة ابن الوزير [ ت ٨٤٠ هـ / ١٤٣٦ م ]. والعلامة الحسن بن أحمد الجلال [ ت ١٠٨٤ هـ / ١٦٧٣ م ]. توجه النقد القديم نفسه بتجرد وموضوعية (١).

ومن هذا المنطلق عارض نشوان مبدأ الحصر السلالي لا في أبناء البطنين خاصة ، بل ومبدأ حصرها في قريش عامة ، وهو بهذه المعارضة ، لا يخالف المذهب الزيدي الهادوي فحسب ، بل يخالف أيضاً المذاهب الإِسلامية الأساسية التي تحصر هذا الحق في قريش بكل بطونها أو فروعها ، ويتفق نشوان بهذا المبدأ مع فريق كبير من المعتزلة وبعض المرجئة ومع الخوارج بصفة عامة.

على الرغم من أن هذا المبدأ ينسجم مع ما يتحلى به نشوان من روح وطنية وشعور بالكرامة ، ويتفق مع كنه الإِسلام وجوهره في دعوته إِلى العدالة والمساواة بين جميع أبنائه لا من العرب فحسب ، بل ومن جميع الأمم ، على الرغم من ذلك فإِنه لا بد لنشوان من الإِدلاء بحجته الدينية التي تبرهن على صحة هذا المبدأ وسلامته.

__________________

(١) انظر : ضوء النهار للعلامة الجلال ( ٤ / ٢٤٧٦ ) وما بعدها.

١٧

وقد أبان عن ذلك في كتابه ( الحور العين ) الذي استعرض فيه آراء مختلف المذاهب والفرق الإِسلامية وآراءها فيمن يتولى منصب الإِمامة ، ويتقلد سلطة حكم الناس دينياً ودنيوياً ، ثم إِنه اختار رأي إِبراهيم بن سيّار النظّام أحد أكبر العلماء من المعتزلة ، ومؤسس الفرقة ( النظامية ) من فرقها ، فجاء في كتابه هذا قوله : « قال بعض المعتزلة ، وبعض المرجئة ، وجميع الخوارج ، وقوم من سائر الفرق : إِن الإِمامة جائزة في جميع الناس ، لا يختص بها قوم دون قوم ، وإِنما تُسْتَحَقُّ بالفضل والطلب ، وإِجماع كلمة أهل الشورى. وقال إِبراهيم بن سيّار النظّام .. وهو أحد الفرسان المتكلمين ، ومن قال بقوله من المعتزلة : الإِمامة لأكرم الخلق وخيرهم عند الله ، واحتجوا بقوله تعالى : ( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى ، وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) [ الحجرات : ٤٩ / ١٣ ]. قال ـ النظّام ـ : فنادى جميع خلقه ، الأحمر منهم والأسود ، والعربي والعجمي ، ولم يخص أحداً منهم دون أحد ، فقال : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) ، فمن كان أتقى الناس لله ، وأكرمهم عند الله ، وأعلمهم بالله ، وأعملهم بطاعته ، كان أولاهم بالإِمامة ، والقيام في خلقه ، كائناً من كان منهم ، عربياً كان أو عجمياً » (١).

وعلق نشوان على كلام النظّام بقوله : « قال مصنف الكتاب : وهذا المذهب الذي ذهب إِليه النظّام ، هو أقرب الوجوه إِلى العدل ، وأبعدها عن المحاباة » (٢) ، وأكد نشوان رأيه هذا في بحثه عن الإِمامة في هذا الكتاب (٣).

لقد كان نشوان يعلم حق العلم ، أن الإِمامة بعد مؤسسها الهادي يحيى بن الحسين ، قد ابتذلت وهانت حتى ادعاها من ليس أهلاً لها ، فهذا زيد بن علي أحد

__________________

(١) كتاب الحور العين ص (٢٠٤).

(٢) المصدر نفسه ص ( ٢٠٤ ـ ٢٠٥ ).

(٣) انظر مضامين رأيه في فهرس كتابه ( الحور العين ).

١٨

أحفاد الهادي ، يدعو إِلى نفسه بالإِمامة ، وهو جاهل شبه أمّيّ ، لا يكاد يقرأ إِلا القرآن كما يقرؤه أي جاهل ، وذاك الحسين ابن القاسم العياني يتولى الإِمامة ، وهو رجل مهووس مختل العقل له مقولات كفرية شنيعة ، وجاءت بعده فرقة من الناس هم ( الحسينية ) أو ( القاسمية ) تقدس شخصه وتقول بغيبته وبأنه المهدي المنتظر ، وتردد مقولاته الشنيعة ، وهذا الإِمام القائم في عصره ، المتوكل أحمد بن سليمان ، لا يثبت له حكم ، ولا يتسع له نفوذ ، ولا يستقر له قرار ، فهو في حالة حروب دائمة ، وتنقل مستمر بين مقريه في صعدة والجوف ، ثم ها هو ذا يشن حرباً شرسة ضد فرقة ( المطرفية ) وهي فرقة يمنية يعتنق أصحابها المذهب ( الزيدي الهادوي ) ولكنهم لا يؤمنون بحصر الإِمامة سلالياً في أبناء البطنين الحسن والحسين .. كل هذا حدا بنشوان إِلى اعتناق هذا المبدأ الذي يهدف إِلى تصفية هذا المذهب من هذه الشائبة السلالية الضيقة.

ولم يكد نشوان يجهر برأيه ويعلنه على الملأ ، ويعبر عنه نثراً كما سبق ، وشعراً كقوله (١) :

أيُّها السَّائِلُ عَنِّي إِنّني

مُظهِرٌ منْ مذْهَبي ما أُبِطنُ

مَذْهَبِي التَّوْحِيدُ والعَدْلُ الذي

هُوَ في الأَرضِ الطّريقُ البَيِّنُ

إِنّ أولَى النّاسِ بالأَمْرِ الذي

هُوَ أَتْقَى النّاسِ والْمؤتمنُ

كائنِاً مَنْ كَان لا يجهلُ ما

وَرَدَ الفَرْضُ به والسُّنَن

لم يكد يجهر برأيه حتى شن عليه المتعصبون حرباً شعواء ، وهجوه شعراً ونثراً أقذع هجاء ، وحكموا بكفره ، وأهدروا دمه ، وأفتوا بقتله ، فلم يزده ذلك إِلا تمسكاً برأيه ، وعبر عن إِيمانه بهذا المبدأ ببيتين من الشعر فيهما من الحدة ما يكافئ حدة ما شُن عليه من الحملات ، فقال (٢) :

__________________

(١) كتاب ( نشوان بن سعيد الحميري ) للقاضي إِسماعيل الأكوع ص (٣٠) ، و ( تيارات معتزلة اليمن ) ص (١١٣).

(٢) تيارات معتزلة اليمن ، للدكتور علي محمد زيد ص (١١٤).

١٩

حَصَرَ الإِمامةَ في قُريشٍ مَعْشَرٌ

هُمْ باليَهُودِ أحَقُّ بالإِلْحاقِ

جَهْلاً كَما حَصَرَ اليَهودُ ضَلالةً

أمَر النُّبُوَّة في بَنِي إِسْحاقِ

ولما شاع أمر نشوان ، وعُرف رأيه في مسألة الإِمامة ، التفت حوله جموع من الناس وخاصة من ( المطرفية ) وبعض زعمائها ، ورأوا فيه الرجل الأصلح لتولي مقاليد الحكم ، طبقاً للمذهب الزيدي الهادوي المتحرر من قيد حصْر حق الإِمامة في سلالة الحسن أو الحسين.

وحفزه هذا الالتفاف والتأييد على الدعوة إِلى نفسه ، فأعلن دعوته من مقره في وادي صَبَر من أرض قبيلة جماعة في أكناف صعدة.

ولعل نشوان شعر منذ البداية ، أنه دعا إِلى نفسه في وسط اجتماعي غير مناسب لهذه الدعوة ، وأنه حاول أن يغرس شجرة مبادئه في بيئة طبيعية غير صالحة لنموها وإِيتاءِ ثمارِها ، فوادي صَبَر يقع في أكناف صعدة المنشبعة بالمذهب ( الزيدي الهادوي ) بشرطه الذي يحصر الإِمامة ويقصرها على الداعي بها لنفسه من أبناء البطنين ، ولهذا نجد نشوان يبارح المنطقة عبر الجوف ليصل إِلى مأرب ويخطب فيها الجمعة داعياً إِلى نفسه ، ثم يتوجه إِلى بيحان فيلقى فيها تأييداً أكبر ، قال عُمَارة اليمني في تاريخه ص (٣٠٣) : « بلغني أن أهل بيحان ملكوه عليهم » ، وعُمَارة مؤرخ وشاعر معاصر لنشوان ، ولكنه لم يورد المزيد من التفاصيل حول دعوة نشوان إِلى نفسه لأنه لم يلتق به وإِنما عاش في زبيد وعدن ثم غادر اليمن إِلى مصر كما هو معروف.

ولو خاض عُمَارة في هذه القضية لكان هو المؤهل لتوضيح هذا الأمر ، وإِنصاف نشوان ، ورسم الصورة الحقيقية في هذا الصدد.

أما المؤرخون الآخرون من المعاصرين لنشوان وممن جاؤوا بعده ، فأكثرهم كانوا من الموالين للإِمامة بشروطها الهادوية الزيدية المعروفة ، ومن بقي منهم كان له ولاء لهذا

٢٠