النظريّة المهدويّة في فلسفة التاريخ

الأسعد بن علي قيدارة

النظريّة المهدويّة في فلسفة التاريخ

المؤلف:

الأسعد بن علي قيدارة


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-93-5
الصفحات: ٢٢١

١

 

٢

٣

 

٤

مقدّمة المركز

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين

محمّد وآله الميامين

من الثوابت المسلّمة في عملية البناء الحضاري القويم ، استناد الأُمّة إلى قيمها السليمة ومبادئها الأصيلة ، الأمر الذي يمنحها الإرادة الصلبة والعزم الأكيد في التصدّي لمختلف التحدّيات والتهديدات التي تروم نخر كيانها وزلزلة وجودها عبر سلسلة من الأفكار المنحرفة والآثار الضالة باستخدام أرقى وسائل التقنية الحديثة.

وإن أنصفنا المقام حقّه بعد مزيد من الدقّة والتأمّل ، نلحظ أنّ المرجعيّة الدينية المباركة كانت ولا زالت هي المنبع الأصيل والملاذ المطمئن لقاصدي الحقيقة ومراتبها الرفيعة ، كيف؟! وهي التي تعكس تعاليم الدين الحنيف وقيمه المقدّسة المستقاة من مدرسة آل العصمة والطهارة عليهم‌السلام بأبهى صورها وأجلى مصاديقها.

هذا ، وكانت مرجعية سماحة آية الله العظمى السيّد علي الحسيني السيستاني ـ مدّ ظلّه ـ هي السبّاقة دوماً في مضمار الذبّ عن حمى العقيدة ومفاهيمها الرصينة ، فخطت بذلك خطوات مؤثّرة والتزمت برامج ومشاريع قطفت أينع الثمار بحول الله تعالى.

ومركز الأبحاث العقائدية هو واحد من المشاريع المباركة الذي أُسس لأجل نصرة مذهب أهل البيت عليهم‌السلام وتعاليمه الرفيعة.

ولهذا المركز قسم خاص يهتم بمعتنقي مذهب أهل البيت عليهم‌السلام على مختلف الجهات ، التي منها ترجمة ما تجود به أقلامهم وأفكارهم من إنتاجات وآثار ـ حيث تحكي بوضوح عظمة نعمة الولاء التي منّ الله سبحانه وتعالى بها عليهم ـ إلى مطبوعات توزّع في شتّى أرجاء العالم.

وهذا المؤلّف ـ ( ( النظرية المهدوية في فلسفة التاريخ ) ) ـ الذي يصدر ضمن ( ( سلسلة الرحلة إلى الثقلين ) ) مصداق حيّ وأثر عملي بارز يؤكد صحّة هذا المدّعى.

٥

على أنّ الجهود مستمرة في تقديم يد العون والدعم قدر المكنة لكلّ معتنقي المذهب الحقّ بشتى الطرق والأساليب ، مضافاً إلى استقراء واستقصاء سيرة الماضين منهم والمعاصرين وتدوينها في ( ( موسوعة من حياة المستبصرين ) ) التي طبع منها عدّة مجلّدات لحدّ الآن ، والباقي تحت الطبع وقيد المراجعة والتأليف ، سائلين المولى تبارك وتعالى أنّ يتقبّل هذا القليل بوافر لطفه وعنايته.

ختاماً نتقدّم بجزيل الشكر والتقدير لكلّ من ساهم في إخراج هذا الكتاب من أعضاء مركز الأبحاث العقائدية ، ونخصّ بالذكر الأخ الكريم سماحة الحجّة السيّد علي الرضوي ، الذي قام بمراجعته ، فللّه درّهم وعليه أجرهم.

محمّد الحسّون

مركز الأبحاث العقائدية

٤ / رجب ١٤٣٢

الصفحة على الإنترنت : www.aqaed.com / Muhammad

البريد الإلكتروني : ..aqaed@Muhammad.com

٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

بين يديّ المقدّمة

تعتمد الإنجازات المعرفية على انتقال الأفكار وعرض البيّنات وتداول الناس ما يهمّهم من شؤون الحياة ، ليخرج الخطاب من دائرته الشخصية والخاصة وينتشر في أفق الإنسانية جمعاء.

ولمَّا كان حصول العلم مرتبطاً بحركة العقل من المعلوم إلى المجهول ، فإنّه يفترض في أي حوار وجود أرضية مشتركة ، أو مبتنيات قبلية متسالم عليها عند طرفي الحوار ، الذي لابدّ له من الاعتماد على ذلك في جولاته ، وإلا فإنّه سيبقى يدور ويدور في أفقٍ محدود خاص لا يتجاوز أهله ، وستُحرم الإنسانية من إنجازاته ، ولابدّ من الإشارة هنا إلى أنّ هذا المتبنّى القبلي قد يكون مسألة جزئية لا يشار إلى ارتباطها بأي شيء آخر ، وتبحث بما هي كذلك ، ونقتفي أثر دليلها الخاص ، وقد يكون مسألة جزئية يُنظر إليها من خلال نظرية كاملة ، ويكون البحث عن دليلها بواسطة ذلك.

١. أقسام الخطابات

وعليه فإنّه يمكن النظر إلى الخطاب أو البيان من جهتين :

أولاهما : جهة وجود متبنّيات مشتركة خاصّة أو عدمها.

ثانيهما : جهة تعلّق الخطاب ، فهل هي مسألة جزئية مع غضّ النظر عن أي شيء آخر؟ ، أو أنّه ينطلق من نظرية شاملة كلّية يظهر فيها موضوع المسألة محلّ الكلام ، كما تبرز أهمّيّتها وروابطها مع سائر عناصر النظرية ، وعليه سيكون عندنا أربعة أنواع من الخطابات لكلّ منها سِمته الخاصّة وأسلوبه الخاص ، وهنالك بونٌ واسع في الهدف والأسلوب بين هذه الأنواع :

٧

أولها : أن تكون المسألة جزئية تعالج بما هي مع وجود متبنّيات قبلية مشتركة وعرف خاص كذلك ، كالكثير من المسائل الفقهية أو العقائدية عندما يدور بحثها بين أبناء المذهب الواحد ، حيث تمثّل الأدلّة الخاصّة أو غيرها من القواعد المشتركة تلك المتبنّيات القبلية.

ثانيها : أن تكون المسألة جزئية يراد بحثها بما هي ، مع عدم وجود عرف خاص ومتبنّيات قبلية كذلك ، فلابدّ هنا من الاعتماد على المتبنّيات العامة المشتركة وعلى القضايا المسلّمة والبديهية وما شابه ، للانطلاق من أرضية مشتركة وقواعد مقبولة عند أطراف البحث ، كما في المسائل الخلافية بين المذاهب الإسلامية ، حيث تكثر الخلافات في القواعد الأصولية والرجالية والاستظهارات العرفية وغيرها.

ثالثها : أن تكون المسألة الجزئية محلّ البحث يراد عرضها كجزء من نظرية شاملة لإبراز موقعها وأهمّيّتها وارتباطها بغيرها من المسائل ، مع وجود عرف علمي خاص بها ، حيث سيؤيّد فقه النظرية ما يثبته العرف العلمي الخاص؛ إذ يعتبر الانسجام بين الأحكام دليلاً على صحّتها ، ويحضرني هنا ما ذهب إليه الإمام الخميني قدس‌سره من الفتوى بحرمة بيع العنب ممّن تَعلم أنّه يجعله خمراً ، عندما اعتمد على تشدّد الشريعة في تحريم الخمر ، وعلى الأحاديث المستفيضة التي تتحدّث عن أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد لعن في الخمر عشراً تشمل كلّ من له أدنى مساهمة في زراعتها أو في صنعها أو في تجارتها ، فأفتى بالحرمة مع أنّ القاعدة عند تساقط الأدلّة هي الذهاب إلى الإباحة ، وقد اعتمد فيما ذهب إليه من الحرمة على ذوق الشريعة ، وهو تعبيرٌ آخر عن فقه النظرية.

رابعها : أن تكون المسألة أيضاً كالسابق ، لكن مع عدم وجود متبنّيات قبلية خاصّة ، كما لو كان البحث بين طرفين مختلفين عقيدةً وثقافةً ، فينبغي هنا اللّجوء إلى النظر الشمولي وإلى الأعراف والقواعد العامة التي تشكّل مقبوليتها أرضية مشتركة لبحوث الجميع.

ففي الحوار الإنساني لابدّ دوماً من وجود متبنّيات قبلية مشتركة يحتكم إليها الجميع ، سواءً كانت من العرف الخاص أو العام ، لتحصيل المقبولية ولو بالمعنى الأعمّ للمسألة محل البحث ـ أي بمعنى أنّ هذا مقبول وممكن ومعقول ـ ولتنمية الحيّز المشترك من الثقافة الإنسانية الشاملة ، ولقد أشار الله تعالى في كتابه الكريم إلى ذلك في آيات عديدة :

٨

منها قوله عزّ من قائل : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ ) [ آل عمران ]. وكذلك قوله تعالى : ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) [ البقرة ].

٢. أهمّيّة النظرة الشمولية ... فقه النظرية

يختلف الناس في درجة تسليمهم وبالتالي في درجة إيمانهم ، مع أنّ الدين الحقّ قد عبّر عنه ربّنا في كتابه الكريم بقوله : ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ) [ آل عمران ] ، .. فحقيقة كلّ الأديان هي كمال التسليم وتمامه ، ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [ النساء ] ،

ولكن كثرة التعرّض للشبهات وللتشكيك في الأحكام من جهة صحّة الاستنباط لاعتماده على قواعد علمية دقيقة ذات أدلّة قطعية أصولية ورجالية ولغوية وغيرها ، تخفى علميتها على الكثيرين فيعتقدون أنّ الاستنباط مرادف للرأي وتابع للذوق ، فيناقشون فيه وكأنّه مسألة شخصية ذاتية ، فلكل أحد أن يخضعها لرأيه وذوقه ، وهذا في الحقيقة شيءٌ عجيب ، لأنّ كلّ الناس يقرّون بضرورة الذهاب إلى صاحب الاختصاص فيما يرجع إلى اختصاصه إلا في المسألة الدينية ، فإنّ الكثيرين منهم يفترضون أنفسهم من الاختصاصيين ويقبلون شيئاً ويردّون آخر بحسب أمزجتهم ودوافعهم.

وإذا قلنا انّه لا عبرة بجهل الجاهلين؛ فإنّهم يقعون في جهلٍ مركّب ويظنّون بأنفسهم خيراً فيرون كلامهم محقاً ورأيهم مسدّداً ، لذا نحتاج في حوارهم إلى التذكير بضرورة التسليم بشرع الله والتعبّد بمقتضاه مع شيءٍ من الاستدلال الفطري والحوار العقلائي واللجوء إلى فقه النظرية لندلّ على موقع المسألة وعلى أهمّيّتها ، وعلى انسجام حكمها مع سائر منظومة الأحكام التشريعية المرتبطة بها فإنّ انسجام الأحكام وتناسقها دليل غير مباشر على صحّتها.

وقد عرّف بعضهم الأعلمية في الاجتهاد بأنّها : العلم بملازمات الأحكام ، وكلّما اعترف غير العالم بجهله ونما التسليم الإيماني عنده ، أمكن خضوعه لحكم المسألة الجزئية بما هي هي ،

٩

بغضّ النظر عن موقعها في المنظومة التشريعية؛ لأنّه سيكون خاضعاً تعبّداً لسائر الأحكام.

إنّ بناءنا على أنّ انسجام الأحكام وتناسقها دليل غير مباشر على صحّتها ، يجعل فقه النظرية ضرورياً أيضاً حتّى لأصحاب الاختصاص؛ فإنّهم مع اتّباعهم للدليل الخاص ، تبقى هنالك حاجة لعرض ما توصّلوا إليه لاحقاً على ما وصلوا إليه سابقاً للقطع بصحّته وانسجامه ، أو لنقل على النظرية الشاملة إذا كانت موجودة ، كما لو كان بعض الأطراف من أهل التشكيك أو من أتباع دين آخر أو ثقافة أخرى أو لم يكن التسليم بالشريعة موجوداً عنده بالقدر المطلوب.

فإنّ الحوار لن يقتصر عندئذٍ على المتبنّيات والأدلّة الخاصّة؛ بل لابدّ من الإفادة من البناء المعرفي الإنساني ومنطلقاته المتسالم عليها في عملية الاستدلال ، حتّى نصل إلى القناعة التّامة بموضوع أو إلى المقبولية العامة في أضعف الأحوال.

ولاشكّ ولا ريب في أنّ هذا الاتجاه يمكّننا من مخاطبة جميع الناس وإن كانوا مخالفين لنا في الرأي وفي العقيدة ، لأنّه سيدور في إطار المعرفيات الإنسانية العامة ، عندها قد تشكّل النظرية في حال قبولها أرضية مشتركة للخطاب ، ولهذا فائدتان : أولهما الخروج بالأمر الخاص إلى الساحة الإنسانية ليكون في متناولها جمعاء ، وثانيهما يتعلّق بطبيعة الاستدلال ، لأنّ النظرية تحاول أن ترسم صورة كاملة لما تتحدّث عنه ، فإذا ظهرت فيها بعض الفجوات أمكن سدّها بالبحث والاستكمال بالاستعانة بالأجزاء الأخرى للصورة ، لأنّ تناسقها سيكون عنوان الصحّة المائز لها عن الفساد.

وخير مثالٍ على ذلك ما حصل مع ـ مندلييف ـ عندما وضع جدوله للعناصر الأولية المكتشفة في هذا الكون ، فوجد فيه فراغاً فافترض بسببه وجود عنصر جديد ، ثمّ ثبّت بعد ذلك وجوده ، ولولا وضعه لذلك الجدول الذي يمثّل نظرة شمولية إلى العناصر الطبيعية وعثوره على ذلك الفراغ لربّما بقي الأمر مجهولاً حتّى هذه الأيام ....

وكذلك لو نظرنا إلى هذا العالم من حولنا بدقّة صنعه وإحكام نظامه ، وإلى أنّ الإنسان هو القادر من بين الخليقة على إعماره والإفادة من خيراته ـ مع ما يتطلّبه هذا من حياة جماعية ـ فإنّنا ندرك ضرورة وجود قانون ينظّم العلاقات القائمة بين الله الخالق المبدع وبين الإنسان والكون والحياة ، كما ندرك أنّه حتّى يصل إلينا ذلك القانون لابدّ له من كتابٍ

١٠

ورسول ، وأنّه إذا كان هو القانون الخاتم فلابدّ له من حفظ بالنصّ وبالمضمون حفظاً معصوماً ، كما كان بلاغه ووصوله معصوماً أيضاً ، فيدلّ ذلك على المرسل والرسول والرسالة ، وعلى لزوم حفظها والمسؤولية عنها ، أي على سائر أصول الدين.

إنّ البحث بهذه الطريقة يمكن أن يكون أكثر يسراً وسهولة لعامة الناس ، خصوصاً إذا كانت القضايا المبحوثة تحتاج في إطار البحث الخاص إلى استدلال علمي لا يستطيعه عادةً إلاّ قلّة من الأفراد هم ذوو الاختصاص ، كالقضايا الدينية الخلافية ، فإنّ الإحاطة بأدلّتها الشرعية وإمكانية مناقشتها ودفع الإشكالات عنها يحتاج إلى اختصاصيين متضلّعين في علوم شتّى ، كاللغة وأصول الفقه والحديث والتفسير وعلوم القرآن الكريم ... ، وعلى هذا الأساس يكون اللجوء إلى الأدلّة العقلائية والقضايا الفطرية والمسلّمة عند مخاطبة غير الاختصاصين هو الطريق الأسلم والأكثر نفعاً في مثل هذه الحالات.

وهنا يحضرني حوار جرى مع أحد الطلاب الأفارقة في مدينة قم عندما سألته عن ديانة آبائه وأجداده ، فقال : إنّهم من الوثنيين ، فقلت له : ما الذي جاء بك إلى الإسلام؟ فقال : جاءنا قسّ هولندي فدعانا إلى المسيحية فآمنّا ولكنّه لم يعرض علينا شريعة خاصّة ، فقلت له : لقد آمنت بدينك ولكنّه لم يغيّر شيئاً من أسلوب حياتي فما فائدة هذه المعرفة وهذا الإيمان!؟ ، فقد كنت ملتزماً بالفضائل الإنسانية مذ كنت وثنياً.

فقال لي ذلك القسيس : إنّ تقييد عمل الإنسان بأحكام شرعية خاصّة لا وجود له في المسيحية ، وإنّما هو موجود في الإسلام ، فدفعني هذا إلى البحث عن الإسلام حتّى أسلمت ، فلما أسلمت وعلمت أنّه الدين الخاتم دفعني هذا إلى البحث عن كيفية حفظه إلى أن تقوم الساعة ، فأوصلني هذا إلى مذهب أهل البيت عليهم‌السلام.

فإنّ النقلة التي نقلها هذا الإنسان إنّما كانت تعتمد في جميع مراحلها على استدلالات من هذا النوع ، وأيضا لابدّ من الإشارة إلى أنّ الكثير من مسائل الفقه لا يمكن تعقّلها والالتفات إلى أهمّيّتها إلا من خلال فقه النظرية ، كقضايا الحجاب للمرأة ، ونصيبها من الميراث ، وبعض مسائل الزواج ، وحضانة الطفل ، والنفقة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والربا ، والقصاص ، ... إلخ.

١١

إنّ وجود منظومة أخلاقية وتشريعية دينية يجعل المسائل الجزئية لتلك المنظومة تكتسب أهمّيّتها لدى العرف العام ، باعتبار أنّها جزء من المنظومة الأخلاقية والاجتماعية ، مما يمكّننا من الدفاع عنها أمام غير المسلّمين بها ، وكمثال فإنّ يد الإنسان لها كلّ القيمة إذا كانت متصلة ببدنه ، بخلاف ما لو كانت منفصلة عنه ، وعلى الذي يريد أن يناقش مسألة من مسائل الشريعة عليه أن يناقشها بما هي جزء من منظومة متكاملة ، لا أن يعزلها عن بقية الأجزاء ثمّ يبدأ بمناقشتها.

ولو أخذنا مسألة الحجاب كمثال ، فإنّ أصل تشريعه وكذلك فرضه على المرأة دون الرجل يمكن مناقشته بناءً على ما تقدّم ، وبحيث يجاب على كلّ الأسئلة والاعتراضات الموجّهة إليه ، فإنّ المشرِّع لهذا الدين ينطلق في تشريعاته من تصوّر للمجتمع الذي يريده ، أي الذي يقوم على أساس النظام الأسروي وعلى العفّة ، وبالتالي لابدّ من تشريع الأحكام التي تكفل ذلك مع مراعاة خصائص الذين تتعلّق بهم تلك الأحكام ، فنراه أوّلاً ينصّ على التربية الصالحة ، وغرس القيم في نفوس الأبناء ، وعلى التوعية والعلم لينشئ النفس الإنسانية الصحيحة ، ثمّ يعالج قضايا الميل الغريزي بين الجنسين على أساس التحصين التربوي والفصل بينهما ما أمكن ـ تحريم الاختلاط غير المبرّر والخلوة ـ ، وعدم إبداء الزينة حتّى لا يكون شيء من ذلك سبباً في إيقاظ الغرائز وتفعيلها ، فشرّع الحجاب وأمر بغض البصر وما شابه.

وكلّ ذلك ضمن منظومة تشريعية متكاملة ، فالحجاب هو جزء متمّم وليس هو كلّ القضية ، ولكن المركّب بطبيعة الحال لا يكون حاصلاً إلا إذا اكتملت كلّ أجزائه ، فلا ينقض علينا هنا بأنّه يمكن الاكتفاء بالتربية ، لأنّها جزء السبب وليست تمامه ، ولا ينقض علينا بالحرية الشخصية ، وأنّ السلوك والعلاقة بين الطرفين تابع لتلك الحرية ، لأنّ ذلك مخالف لأساس النظرية ، وهي طبيعة الصورة الربّانية للحياة الاجتماعية والأسس التي ينبغي أن تقوم عليها ، والتي هي ذاتها الصورة التي تمليها الفطرة الإنسانية.

إنّ الخلاف بيننا وبين الغرب ليس في مسألة الحجاب كمسألة جزئية ، وليس في الفصل بين الرجال والنساء كذلك ، وإنّما هو في أصل الصورة الاجتماعية المنشودة وقيمها

١٢

الأساسية من الحرام والعيب وما شابه ، حيث تتجلّى الصورة والقيم الأساسية في تفاصيل الأمور الحياتية وأحكامها التشريعية.

وتبيّن تلك الكلمات المتقدّمة أهمّيّة فقه النظرية والنظرة الشمولية لكلّ مسألة عقائدية أو فقهية ومجال تطبيق ذلك في الحوار الهادف ، لإيجاد بنية معرفية إنسانية شاملة.

وقد يقول قائل : وما دخل كلّ هذا الكلام بما نحن بصدده من قضية الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه؟ والجواب على ذلك : أنّ الكتاب الذي بين أيدينا يحاول السير على هذا المنهج ، لذا كان لابدّ من ذلك الكلام الذي جاء كمقدّمة للمقدّمة وعنونته ـ بين يدي المقدّمة ـ.

المقدّمة

إنّ الحديث عن المهدوية في ضوء فلسفة التاريخ هو حديث عن عنوان يضمّ مفهومين : أوّلهما المهدوية ، وثانيهما فلسفة التاريخ.

والأول : هو الاعتقاد بمخلّص يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً ، وهي عقيدة تسالمت عليها إجمالاً كلّ الأديان ، ويُجمع المسلمون أنّ الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه هو من سلالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أي من أبناء علي وفاطمة عليهما‌السلام ، مع اختلاف في كونه من أبناء الإمام الحسن عليه‌السلام ، أو من أبناء الإمام الحسين عليه‌السلام ، وأنه وُلِدَ وهو حيّ غائب عن الأبصار ، أو أنّه سيولد في آخر الزمان ، مع اعتقاد سائر الإمامية بأنّه إمامهم الثاني عشر ، وأنه حيٌ غائبٌ عن الأبصار.

والثاني : فلسفة التاريخ ، وهي تعني أن ينظر الباحث إلى الحادثة التاريخية على أساس أنّها حلقة من مسيرة متجهة نحو نهاية محدّدة ترتبط غالباً بالرؤية الكونية الخاصّة بذلك الباحث ـ بمنطلقاته القبلية ـ ، فلا ينظر إلى الحادثة التاريخية على أساس تجزيئي منفصل عن تلك المسيرة التاريخية الكلية؛ بل يسندها إلى القوانين التي تحكم مسيرة التاريخ الإنساني ويربطها بغيرها من الحوادث على هذا الأساس ، مما يؤدّي إلى ربط الماضي بالحاضر والقدرة على استشراف المستقبل.

١٣

إنّ خلق الإنسان عاقلاً من جهة ، وناطقاً من جهة أخرى ، بحيث يكون قادراً على التفكير وعلى نقل الأفكار والحوار ، يجعله يتآلف ويتخالف مع الآخرين ، وتتراكم المصالح وتتبلور الانتماءات ، فتتشكّل المجتمعات وتدور الصراعات حول تلك الأسس في داخلها وفيما بينها ، حيث يأمل المظلومون أن يأتي يوم يكون لهم فيه الخلاص.

إنّ كلّ صاحب نظر يرى أنّ نظريته هي التي ستسود كلّ العالم في نهاية المطاف ، وأنّ الصراع سيحسم لصالحه ، وستكون هناك نهاية للتاريخ من جهة كونه سجلاً للأحداث وحركة للصراع ، لا باعتبار كونه توالي للأيام والزمان ، ونحن كمسلمين لا نختلف مع هذا المسار بنحو الإجمال ، لأنّنا نعتقد بحسب ديننا أن ديناً واحداً سيسود كلّ العالم ، وهو الإسلام ، فإنّه تعالى قد ذكر في كتابه العزيز : ( كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) [ المجادلة ] ، وأيضاً : ( ... لِيُظهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَو كَرِهَ المُشرِكُون ) [ التوبة ] ، كما ذكر جلّ وعلا : ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) [ الأنبياء ].

إنّ غلبة حضارة وانتشارها في كلّ العالم يعني أنّ هناك صراع حضارات بالمعنى الأعمّ للفظ الصراع ، الذي يشمل حتّى الجدل والمحاورة كسبيل إلى غلبة فكر على آخر أحياناً ، ولكن منطق الإسلام يختلف عن غيره في أنّه يفرض على المسلمين الإفادة من كلّ إيجابيات الحضارات والأمم الأخرى ، فقد قال سيدنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : ـ لا يهمنّك من الحكمة من أي وعاء نزلت ـ ، و ـ أطلب العلم ولو في الصين ـ ، وقال تعالى في كتابه الكريم : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) [ آل عمران ].

فليس في ديننا رفض كلّ الآخر؛ بل نقبله بقدر ما يكون سوياً سالماً صحيحاً ، وهو بهذا الاعتبار يدعو إلى حوار الحضارات واختيار ما يكون صواباً على طريقة قوله تعالى : ( ... وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ) [ سبأ ] ، وإن كان يرى ضمناً أنّ ما عليه هو الصواب لا ريب ، ( ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ) [ البقرة ].

كما أنّ هذا الدين يقدّم الإنسان في نموذجه الكامل على أنّه خليفة الله في أرضه ، وأنّه

١٤

بإمكانه بلوغ هذه المرحلة باعتبار أنّ الله تعالى قد قدّمه كذلك لملائكته ، وإن كان يشير أيضاً إلى لزوم قطعه لمسيرة تكاملية طويلة يكون له فيها صراع طويل ومرير مع الشرّ والشيطان تبرز في حوادثه كمالات إنسانية فائقة ونماذج رائعة تكون أسوة وقدوة على هذا الطريق ، والذي لابدّ وأن يبلغ الإنسان نهايته في آخر المطاف ، وبالتالي كلّ المجتمع الإنساني عندها يصبح محكوماً بشريعة الله شريعة الإسلام ، وهذا ما يجعل للتاريخ مسيرة نحو غاية محدّدة وهدف منشود ، وبالتالي تفسير كلّ حلقاته وأحداثه على أنّها مراحل لهذا الطريق ، ونحن في ديننا الإسلامي أمام تصوّر يقوم على أمرين : الإنسان الخليفة ، والدين الخاتم الذي سيظهره الله على الدين كلّه ، والاستخلاف بلا ريب بحاجة إلى نظام ، أي إلى كتب وأنبياء معصومين ، وكون هذا الدين هو الخاتَم يعني لزوم حفظه حفظاً معصوماً بالنص وبالمضمون في أصوله وفروعه ، ليبقى كما شرّعه الله ، ولابدّ لذلك من إمامة معصومة تبيّن الأصول وتحفظ الفروع ، حتّى إذا ما وصلنا إلى زمان ظهور هذا الدين على الدين كله وقيام العدل البشري بشكل تام ، عندما يحثو الحاكم في ذلك الزمان المال والطعام للناس حثواً ولا يعدّه عدّاً ، لا يبقى عندها مبرر للصراع البشري ، وإذا انتهى الصراع انتهت حركة التاريخ ، وكان ذلك آخر أزمنة الحياة ، فإن السير في الأنفس والآفاق يرينا أن الحركة هي خاصة الحياة أو لازمها ، وأن السكون أي نهاية الصراع إنما يعني الموت والفناء.

وإنه وفق هذه التصورات يمكننا أن نقدّم عقيدتنا في الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه لكلّ العالم على اختلاف دينه وفكره ، فإن مسيرة العالم على ضوء فلسفة التاريخ وعلى ضوء جميع المقولات الأخرى ـ نهاية التاريخ ، صراع الحضارات ، المقولات الدينية السماوية والأرضية على السواء ـ كلّها تنصّ على أنها تتجه نحو : إمّا الإنسان المخلّص وإن اختلفت صوره فيما بينهم واختلفوا في تحديد شخصيته ومكانته ، وإمّا إلى المذهب السياسي المخلّص الذي سيكون في النهاية مذهب كلّ البشرية ، كالذي يطرح الليبرالية الغربية على أنها هي النظام الأكمل الذي ينبغي أن تبلغه كلّ البشرية على حد مقالة ـ فوكوياما ـ ، حيث يمكننا على ضوء ما تقدّم أن نطرح على مقولته السؤال التالي : وهو إذا كانت هذه الليبرالية لا تستطيع إلغاء الصراع في يومٍ من الأيام ، فكيف ستكون عند انتشارها في كلّ العالم نهاية التاريخ!؟.

١٥

لذا سيكون الأوفق بنهاية التاريخ أن تكون على يد رجلٍ يلغي عملية الصراع ، وهذا يعني زوال أسبابه المادية والمعنوية ، وهذا ما سيكون عندما يُظهر الله دينه على الدين كلّه فلا صراع فكري بعد ذلك ، وعندما تخرج الأرض كنوزها ويحثو الحاكم المال والطعام للناس حثواً ولا يعدّه عدّاً ، فلا صراع مادي بعد ذلك ، وتبلغ المسيرة البشرية نهايتها وغاية كمالها وينتهي كلّ شيء.

فيما بين أيدينا كتاب يحاول أن يطرح العقيدة في الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه على ضوء تلك الفلسفة ، ليقول للبشرية إن الاعتقاد بالإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه يتوافق بالإجمال مع كلّ تلك المقولات ، وهو مُنتَظر البشرية على الإطلاق ، ويحاول أن يقدّم هذه المسألة العقائدية الهامّة من خلال فلسفة التاريخ وإدراك طبيعة حركته ، مما يؤيّد الدليل الديني الخاص بدليل علمي يمكننا بواسطته أن نخاطب جميع الناس ، مع غضّ النظر عن العقيدة والدين.

ولقد بذل مؤلِّفه سماحة الشيخ الأسعد بن علي قيدارة جهداً كبيراً في إخراج بحوثه العلمية الدقيقة بأسلوب شيّق ورصين ، أسأل الله تعالى أن يَزيده علماً وفضلاً ، وأن يوفّقه إلى كلّ خير ، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

حرّره الفقير إلى رحمته تعالى

عبد الله السيد عبد اللطيف نظام

١٦

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

مقدّمة المؤلّف

ـ نهضة المهدي في ضوء فلسفة التاريخ ـ أحد العناوين المميّزة للشهيد مرتضى مطهّري رحمه‌الله ، وهو إلى جانب كتابه ـ المجتمع والتاريخ ـ يعدّ من الإضافات المهمّة في مجال فلسفة التاريخ.

في الكتاب الأوّل ـ نهضة المهدي ـ يقارن الشهيد بين طريقتين مختلفتين في تفسير تكامل التاريخ :

الطريقة الآلية ـ المادّية الديالكتيكية ـ ، و ـ الطريقة الإنسانية ـ.

ولا يخفى على القارئ اللبيب سرّ التركيز على المدرسة الماركسية ، وحصر المقارنة بين النظرية اليسارية والنظرية الإسلامية ، فالظروف التاريخية التي عاشها المجتمع الإيراني قبل الثورة وامتداد الفكر اليساري وانتشاره في أوساط واسعة من المثقّفين ، دعا لهذا التأكيد على نقد ـ النظرية الديالكتيكية ـ.

ولكن هذا السياق التاريخي أو الظرفي للدراسة لا ينقص ألبتة من قيمة الأفكار التي أوردها الشيخ الشهيد رحمه‌الله وتألّقها.

لقد طرح في هذا الكرّاس الأساس الذي يقوم عليه كلّ اتجاه ، والنتائج التي تترتّب عليه.

ويعتقد الشهيد أنّ جوهر الاختلاف بين هذين الاتجاهين يعود أساساً إلى اختلاف النظريتين في تفسير الإنسان وطبيعة المجتمع المثالي الذي تؤمن به كلّ من هاتين الرؤيتين وسبل الانتظار البنّاء التي تدعو إليها ـ النظرية المهدوية ـ.

باختصار حاول الشهيد مطهّري رحمه‌الله أن يعطي عبر هذه الدراسة ، مركزية فكرة ـ المهدي ـ ونهضته في نسيج التفسير الإسلامي ( الإنساني ) للتاريخ ، وكيف تمثّل هذه النظرية تجسيداً لأهداف الصالحين والمجاهدين على طريق الحقّ.

هذه نظرة عابرة لـ ـ نهضة المهدي في ضوء فلسفة التاريخ ـ ، أمّا ما نحاول استكشافه في هذه الدراسة ـ النظرية المهدوية في فلسفة التاريخ ـ انعكاسات عقيدة المهدي ، والإيمان به ، وبرسالته في المستقبل البشري ، على فلسفة التاريخ من منظور إسلامي ، أي : فلسفة التاريخ في ضوء عقيدة المهدي.

١٧

بلغةٍ أخرى ، الإضافات النوعية التي يدخلها عنصر الاعتقاد بالمهدي ـ وغيبته وظهوره ... ـ على رؤيتنا للتاريخ وسُنَنِه ، وحركته ، وغاياته ، ومراحله ، وآفاقه ، وقوانينه التي تحكم كلّ مرحلة ....

فهل تؤثّر هذه العقيدة المهدوية على تفاصيل النظرية الإسلامية في تفسير التاريخ؟ هل تعطي لهذه الرؤية أبعاداً جديدة؟

هذه الأسئلة وغيرها نحاول الإجابة عنها من خلال هذه الدراسة في فصولها السبعة :

الفصل الأول : فلسفة التاريخ : المفهوم والأبعاد.

الفصل الثاني : المهدي والمخلّص في التراث الإنساني.

الفصل الثالث : فلسفة التاريخ في المنظور الإسلامي العام.

الفصل الرابع : أصول الوعي التاريخي في ضوء عقيدة المهدي.

الفصل الخامس : فلسفة الغيبة.

الفصل السادس : فلسفة الانتظار.

الفصل السابع : فلسفة الدور وتعجيل الظهور.

وفي الواقع ، هذا المضمون الذي نقدّمه للقارئ اليوم بهذه الرؤية والصيغة ، هو في أساسه مجموعة بحوث ودراسات حول الثقافة المهدوية ، اطّلع عليها بعض الأصدقاء وطلبوا منّي نشرها تعميماً للفائدة ، وتردّدت بين نشرها كما هي : مقالات ودراسات مستقلّة ، وبين أن أُعيد صياغتها وصبّها في قالب جديد.

وبعد تأمّلٍ وقراءة ثانية لهذه البحوث والدراسات ، لمحت الخيط الرفيع الذي يشدّ هذه الحلقات بعضها لبعضها ، ورجّحت أخيراً أن أقدّمها في قالب دراسةٍ موضوعيةٍ موحّدة تحت العنوان المذكور ، واستناداً للخطّة المحدّدة ، بعد أن أضفت فصولاً جديدةً لاستكمال بناء النظرية من جميع الجهات.

أدعوه سبحانه أن أكون قد وفّقت لتقريب المسألة شكلاً ، ومضموناً ، وأن يجد الناس عموماً ، والمؤمنون خصوصاً ، شيئاً من الفائدة في هذا الكتاب ، وأن ينفعنا الله به يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.

١٨

الفصل الأول

فلسفة التاريخ : المفهوم والأبعاد

تمهيد

يقود التأمّل في الخطّة المعروضة في المقدّمة أنّها تستهدف التمهيد لدراسة الإشكالية الأساسية ببحثين :

البحث الأوّل : ما عنونّاه في الفصل الأوّل : تعريف مفهوم فلسفة التاريخ.

البحث الثاني : تقريب مفهوم المخلّص في الدين ، والتاريخ ، والفكر عموماً ، في التراث الإنساني.

ولمح القارئ أنّ هذين الفصلين يمهِّدان لدراسة القضية المركزية المحورية في الفصول الأخرى ـ فلسفة التاريخ في ضوء عقيدة المهدي ـ.

فلا يمكن معالجة الإشكالية إلا بعد الإحاطة بحديّها.

فما هي فلسفة التاريخ؟ وما هي عقيدة المخلّص أو المهدي؟

في هذا الفصل نعالج السؤال الأوّل.

التاريخ : لغةً : ـ تعريف الوقت ، والتوريخ مثله ، أرّخ الكتاب بيوم كذا ... ، وقيل إنّ التاريخ الذي يؤرِّخه الناس ليس بعربي محض ، وأنّ المسلمين أخذوه عن أهل الكتاب ـ (١).

وإذا دقَّقنا في الجذور اللغوية لكلمة التاريخ : ـ الأرْخُ : ومعناه ولد البقرة الصغير ، لذا قيل إنّ التاريخ مأخوذ منه كأنّه شيء حدث كما يحدث الولد ، وقيل التاريخ مأخوذ منه لأنّه حديث ـ (٢).

ـ أَرَخّ إلى مكان أُرُوخاً : حنّ ، وأرخ الكتاب وغبره بكذا : بيّن وقته.

أرّخ الكتاب : حدّد تاريخه ، وأرّخ الحادث ونحوه : فصّل تاريخه وحدّد وقته ـ (٣).

__________________

١ ـ ابن منظور ، لسان العرب ، ط ١ ، مج ١ ، ص ١١٣.

٢ ـ المصدر نفسه.

٣ ـ المعجم الوسيط ، مادة : أرخ.

١٩

والتاريخ : جملة الأحوال والأحداث التي يمرّ بها كائن ، ويصدق على الفرد والمجتمع ، كما يصدق على الظواهر الطبيعية والإنسانية (١).

أمّا اصطلاحاً : التاريخ : علم يبحث في الوقائع والحوادث الماضية.

يقول ابن خلدون : ـ اعلم أنّ فنّ التاريخ غزير المذهب ، جسيم الفوائد ، شريف الغاية ، إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم ، والأنبياء في سيرهم ، والملوك في دولهم وسياستهم ، حتّى تتمّ فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا ـ (٢).

ولكن علوم التاريخ لم تنحصر في حدود تدوين الوقائع والحوادث الماضية بل تطوّرت وتنوّعت ، ويمكن أن نرصد ثلاثة أقسام أساسية للبحوث التاريخية :

القسم الأول : التاريخ النقلي

ما أشرنا إليه في التعريف السابق يسمّى بالتاريخ النقلي ، ويستهدف تدوين مجموع حوادث وشؤون الناس ، والعالم ، والدول ، .....

وخصوصية هذا القسم أنّه يسجِّل كينونة الأشياء ، والإنسان ، والحوادث ، ويوصِّف الأوضاع القائمة دون لحاظ أمرٍ آخر.

وتعجّ المكتبة العربية بعناوين تنتمي إلى هذا القسم ، منها : ـ تاريخ اليعقوبي ـ ( ت٢٩٢ هـ ) ، ـ تاريخ الرسل والملوك ـ للطبري ( ت٣١٠ هـ ) ، ـ مروج الذهب ومعادن الجواهر ـ للمسعودي ( ت٣٤٦ هـ ) ، ـ الكامل في التاريخ ـ لابن الأثير ( ت٦٣٠ هـ ) ....

وفي هذا النوع من الدراسات ينصبّ تركيز واهتمام الباحث على الماضي والحوادث السالفة ، وهو يدرس هذه الجزئيات والوقائع في الماضي دون محاولة البحث عن القواعد العامة والضوابط الكلية.

ويغلب على هذا القسم المنهج النقلي الذي يعتمد على الوثائق وما ينقله المؤرّخون من روايات ، ومشاهدات ، ومسموعات ....

__________________

١ ـ المصدر نفسه.

٢ ـ عبد الرحمن بن خلدون ، المقدمة ، ص ٩.

٢٠