وانقضت أوهام العمر

السيّد جمال محمّد صالح

وانقضت أوهام العمر

المؤلف:

السيّد جمال محمّد صالح


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-13-7
الصفحات: ٤٣١

١
٢

مقدّمة المركز

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين ، والصلاة على خاتم

المرسلين محمّد وآله الغرّ الميامين

من الثوابت المسلّمة في عملية البناء الحضاري القويم ، استناد الأُمّة إلى قيمها السليمة ومبادئها الأصيلة ، الأمر الذي يمنحها الإرادة الصلبة والعزم الأكيد في التصدّي لمختلف التحدّيات والتهديدات التي تروم نخر كيانها وزلزلة وجودها عبر سلسلة من الأفكار المنحرفة والآثار الضالة باستخدام أرقى وسائل التقنية الحديثة.

وإن أنصفنا المقام حقّه بعد مزيد من الدقّة والتأمّل ، نلحظ أنّ المرجعية الدينية المباركة كانت ولا زالت هي المنبع الأصيل والملاذ المطمئن لقاصدي الحقيقة ومراتبها الرفيعة ، كيف؟! وهي التي تعكس تعاليم الدين الحنيف وقيمه المقدّسة المستقاة من مدرسة آل العصمة والطهارة عليهم‌السلام بأبهي صورها وأجلى مصاديقها.

هذا ، وكانت مرجعية سماحة آية اللّه العظمى السيّد علي السيستاني ـ مدّ ظلّه ـ هي السبّاقة دوماً في مضمار الذبّ عن حمى العقيدة ومفاهيمها الرصينة ، فخطت بذلك خطوات مؤثّرة والتزمت برامج ومشاريع قطفت وستقطف أينع الثمار بحول اللّه تعالى.

٣

ومركز الأبحاث العقائدية هو واحد من المشاريع المباركة الذي أسس لأجل نصرة مذهب أهل البيت عليهم‌السلام وتعاليمه الرفيعة.

ولهذا المركز قسم خاص يهتم بمعتنقي مذهب أهل البيت عليهم‌السلام على مختلف الجهات ، التي منها ترجمة ما تجود به أقلامهم وأفكارهم من نتاجات وأثار ـ حيث تحكى بوضوح عظمة نعمة الولاء التي مَنّ اللّه سبحانه وتعالى بها عليهم ـ إلى مطبوعات توزع في شتى أرجاء العالم.

وهذا المؤلَّف ـ رواية « وانقضت أوهام العمر » ـ الذي يصدر ضمن « سلسلة الرحلة إلى الثقلين » مصداق حيّ وأثر عملي بارز يؤكّد صحة هذا المدعى.

على أنّ الجهود مستمرة في تقديم يد العون والدعم قدر المكنة لكلّ معتنقي المذهب الحق بشتى الطرق والأساليب ، مضافاً إلى استقراء واستقصاء سيرة الماضين منهم والمعاصرين وتدوينها في « موسوعة من حياة المستبصرين » التي طبع منها ثلاثة مجلّدات لحدّ الآن ، والباقي تحت الطبع وقيد المراجعة والتأليف ، سائلين المولى تبارك وتعالى أن يتقبّل هذا القليل بوافر لطفه وعنايته.

محمّد الحسّون

مركز الأبحاث العقائديّة

٢٢ ربيع الآخر ١٤٢٧ هـ

site.aqaed.com / Mohammad

muhammad@aqaed.com

٤

الإهداء

إلى البررة ..

من الذين ما كتب اللّه لهم

على كافة الخلائق من أجر ..

سوى المودّة في القربى

أهدي هذا العمل!

٥
٦

خلاصة كلمة المؤلّف

لقد سعيت سعيي لاقتضاب الموضوع بأكبر قدر ممكن .. ولا أريد التنويه إلاّ على أنّي قد خلصت إلى الاختصار في عرض المصادر ، وإلاّ فإن ما عرضته ، ما كان ليمثل إلاّ غيضاً من فيض ، ومن أراد المزيد ، فليراجع في مظانه وليطلب الكتب التي أسهبت في بحث مثل هذه المواضيع!

مع أنّي قد مضيت كُلّ المضي من أجل أن لا أشعر القارئ أو أثير في نفسه أيمّا روح ملل أو كسل حين قراءة هذه الرواية العقائدية ، إلاّ أنّه ربما اضطرتني الأمانة العلمية والمقتضيات الفكرية في غالب أحداث القصة إلى الإسهاب في هذا الجانب خدمة لأهداف الرواية النبيلة.

واللّه من وراء القصد ، واللّه خير ناصر ومؤيد

٧
٨

الفصل الأول

مخاض البدايات

لم أكن أفكر في يوم من الأيام ، أو أنّه ما كان قد تبادر إلى ذهني ، ولا حتّى في لحظة من اللحظات ، بأنّي سألج غمار مثل هذه المجادلات ، إلاّ أنّي وجدتني مسهباً في التفكير مسرفاً في الأوهام ، حتّى صرت أشكّك في كُلّ ما يتناوبني من تقلبات جعلت تنتابني بين الحين والآخر ، إذ إنّ الوقت الضيق ما كان ليسمح لي بأيما نزعة في التفكير .. كذلك ، فإنّ الظروف ما كانت لتدعني أنهمك في تبنّي أي خطة ذهنية! ولا أعنى أنّ الزمان كان ضيقاً عليّ ، بل إنّ الأفكار غدت تزدحم في رأسي الذي جعلت النوبات تتداوله ، نوبة بعد أخرى ليهتز عنق جسدي حتّى يصير يستلقي مسترخياً عند صدري .. وكأن ليلاً ما يحيط به ، جعل من وزنه يزداد بأساً حتّى كأنه قد انحدر في حضني لولا أن تسعفه راحة أكفّي فيعمد خلالها إلى الإنحطاط فوق أرضها ..

ـ « لعلّي أكون على خطأ ، إلاّ أنّي لم أتأكد بعد من ذلك ، فلو كنت هكذا ، وكما كنت أراني على مثل هذه الشاكلة من التقلب والاستهلاك ».

جعلت أحدّث نفسي ، وأنا أعاني ألماً مكبوتاً في داخلي استغرق في أعماقي جلّ المسافات الطوال حتّى جعل كأنّه يزحف زحف الأفعى ، ليمتد ومن بعد ذلك متطاولاً يخبّ كما تخب الفرس الجموح ، أو كما يمكن أن يرفل أيّما جواد أدهم في مشيته .. لأ نّه صار يتقلص وينقبض بدقائقه الطوال ، حتّى

٩

إذا ما صار يزاول تطاوله وتعاليه ، كيما ينحّيني عن عزمي ، ويثنيني عن سؤلي إلاّ بجواب لا يحمل لون الدقة في الاستدلال .. فإنّه وفي هذه المرة قد جعل يفجعني بمرارة ألوان نازفة من الحقيقة الراعفة والتي جعلتُ أحس بطعمها حقيراً للغاية ، لأنها كذلك. إنّما مذاقها كان في تلك الساعة هو أشدّ كثيراً علي من أي وقت آخر .. فقال لي وهو يلملم براهين لا غبار عليها :

ـ « إنك ولو يجيئك رسول اللّه الآن وبنفسه ، ويعلن لك عن مفاد هذه الحقيقة التي تبحث عنها الآن أو التي بالأحرى تتقلّب أنت في أوطار همهماتها وسبحات رشاقتها المميتة ، فإنك كذلك ستشعر بنفسك ، تفتقر وكأكثر ما تفتقر إلى الشجاعة في اتخاذ القرار ، والجرأة في احتمال وقع الموافقة والتأييد ، وأنت الذي لا أراك بحاجة إلى تلقين أيّما أحد يمكن أن يشخص إليك لأجل هذا الغرض ذاته في أنّ محمّداً ما كان بدعاً من الرسل ، وما كان هو إلاّ وحياً يوحى! إذ ما كان لينطق عن الهوى .. علّمه شديد القوى ».

جعلت أعتاد على لون من الاضطراب ، تجلّدت في مغالبته أو احتمال الالتهاب عند وقعات السنته الحادة ، بل شفرات مقصلته الفولاذية ، حتّى بتّ أعاند كُلّ أمر حولي وطفقت أناكد كُلّ أفكاري ، وأعزم على الهرب دون التفكير في الزمان والمكان ، وأعزم على أن أطوي دون العودة إلى مثل هذه المواضيع! وكيف لها أن تتمرّر من دون أن أعيرها أدنى اهتمام أو أقل إصاخة ، لأني كنت قد جعلت أنازعها الأمر كيما تخبرني عن الحقيقة دون سواها ، وذلك كُلّما فكرت في كُلّ هذا والهرب من مصيري المحتوم فهل لي أن أصبح شيعياً في الغد؟ إن التفكير في مثل هذا قمين بأن يبعث بي أنا إلى لجة الجحيم وغمرات الحميم ، بل إنّه كُلمّا تخيلت نفسي وقد التقيت بأحد أنسبائي وأيّما

١٠

شخص من أهلي وأقاربي وأنا أحمل بين طيات أضلعي هوية تجنح بي نحو لهب التشيع ، وتلمّح للجانب الآخر أنّي قد انتحلت شخصية أخرى ، وتبنيت سمة ثانية حتّى انتزعت جنسية تنازع في أفكارها آمال كُلّ من يمكث في منزلنا من قبل. فما كان لِيَنوس من فوق جبيني وعند اختلاج خصلات شعري المنفرجة عنده إلاّ قطرات من لون حياء ونثرات من أسف واجم ، على أنّي ما خرجت من تلك الغربة إلاّ بمثل هذه البضاعة التي يكون خليقاً بسكب قطرة منها في بحر من المياه الباردة أن تجعل منه سائلاً ملتهباً يغلي ويفور علواً وهزءاً حتّى يتلاطم الموج فوق ظهره وتصطخب تياراته بعنف وأبهة منذرة بقدوم صفوف من أعلام العواصف وطلائع الأعاصير .. لكني عدت أنسى كُلّ ما جعلت أفكر به أو ما صار يتناهب أحشائي بدلاً من أفكاري ، لأني كنت قد وطدت العزم على تلافي أيّما انتكاسة يمكن أن تتوعدني بوادرها بسيل من أفانين لا تحمد مغباتها أبداً. وكيف؟ وهذا الذي صار يدمرني أكثر ومن ذي قبل ، لأنّي صرت أبحث عن حلول حتّى إذا ما وجدت قرارات ملؤها العزم ، خانتني الأفئدة المحتشدة وراء أضلعي وجمد الدم في عروقي ، وهدأ نبض صدري .. وكأنّ فلذته التي تغور في بطونه قد جعلت تتمزق لتتلاشى أجزاؤها الدقيقة كُلّما نتأت وصارت تنجم خارج حدود جسدي ، لأني صرت أذوي بأفكاري أكثر من السابق حتّى عمدت إلى أن أرضّها وأنضّد في سقيفة رأسي كُلّ الأعمدة التي كان قد شيدها السلف ومن قبل حتّى أقام بناءاتها الأجداد ، وذلك بعد أن رأيتني أكرس كُلّ همي للخروج من مأزق هذه الأفئدة التي احتبستها في داخل صدري ، وكأ نّه ما كان يهمني منها سوى النهوض بماداتها. إنّها أفئدة إخواني وأهلي وأقربائي تصارعني وتكبل قلبي عن النطق

١١

بالشهادة ، وتصير تلفحه بشرارات حادة يلتمس عبرها سبيلاً تناضل في خداعه ، تثنيه عن عزم الاقرار والنفاذ إلى رحبته ، كيما يلقي فيها كُلّ أسواره الثقيلة التي قلدوه بها ومن قبل.

إنّها الحقيقة الصارمة وبكُلّ أجنحة قواتها وآليات أفواجها .. تتكلل بكُلّ ما ينثر فوق رؤوسها من ألوان الأعلام ومباهج الأشرعة ، لأنها صارت تخترق قلبي وتصفق بجناحيها عند مصراعي بوابته ، حتّى إذا ما غالبته وراودته عن نفسه .. أخذت بعضادتي بابه ، وهي تحاول أن تبقي عليه داخل غرس دعامتيه دون إفلات نقع أليمه الذي صار يقطر ويجتمع كحبات عرق تتفصد في جبين وضاء أخذه الحياء على حين غرة حتّى طفق فوق شفتيه عبق ابتسامه تضوع بمسحة الخجل وعدم التورع عن القبول والرضى. بل تطمح بمقدار ما يسعها لِتَجُبّ ما فاتها من زمان قضته في عصمة البغي ووطأة النكد المرير .. وتدارك كُلّ ما اكتسبته في السابق من تطفيف بحق أهل الدين وعمدائه .. فأردت إلغاء كُلّ أسورة الاعتزاز التي يجلّنى بها الأهل من قبل لأنّي ابنهم وأخوهم وبضعتهم وفلذة من فلذات عمرهم الطاعن في عباب الأزمنة الغابرة والاتية فكيف انطوت جوانجي على مبدأ ربما ما استساغته أيامهم ولا لانت له طروب عيشهم ، لأنّي كنت قد قدّمته على ما سواه حتى اجترأت دون أخذ رأيهم واستشارتهم على استبصار ما كان ليمثل لأيما أحد منهم ولا لنفسي أنا التي تلثغ وتحير في كُلّ ماحولها أن تستجيب لصبغة في ذات أيّما ليلة أو تحت ضجيج من شوق أثواب شعاعات بهية طلع بها النهار في يوم من الأيام .. إني لا أذكر أن أهلي من أولئك المتعصبين بل إني أخاف المخاطرة ، أجبن عن اتخاذ القرارات الجريئة. لا أجد حياضاً أترع بها بطني

١٢

وأبلّ ببرودتها جوفي ، إلاّ من بعد أن أدين بدينهم ، وأتنازل لهم عن كُلّ ما له أن يجرح كبريائي دون كبريائهم وصرخة أمجادهم. هكذا علمت نفسي ، كنت قد وجدتها مطواعة وطبقاً لمثل هذه النعمة الساحبة بين أعواد مشانق أعدّها الآباء والأمهات لأولادهم ، فأما أن يمجّسونهم ، أو يمسّحونهم ، أو يهوّدونهم .. غير أنّي وعندما وجدت البشارة تنقذف في أعماقي ، شعرت أن تنيناً في داخلي يغامر في الاشراف على كُلّ تاريخي ، والكشف عمّا تبقى من سلالته في أعماق دواخلي .. صرت أخاف نفسي لعلّ السعالي والغيلان تنقض علي ، فتهجم على طفولتي ، وتكتسح مساحاتها ، فتحيل أرضها الخصبة وغياضها الغناء إلى بقاع جرداء وطينة سبخة مدقعة بألوان الفقر ، مثقلة بأنواع الحُلي الغرامية. لأنّي كنت قد آنست الشجاعة في نفسي كيما لا أتوانى في الانقضاض على كُلّ تلك الوحوش الكاسرة والهياكل المفترسة التي رافقتني أشباحها طيلة أيام حياتي حتّى رعيتها وسهرت على نموها وَوَدَعْتها تكبر وبهدوء في دواخل أعماقي حتّى إذا ما تناءت في أحجامها ، وتناهت في غيها ، جعلت تعلو بجبروتها وتطغى بلسعاتها حتّى استاقتني مذعناً ، واقتادتني صاغراً دون أن أمنح لنفسي الحق في أيّما تعبير له أن يثلج قريحتي ويمعن في سؤدد مجدي ، كيما يطلع عليّ بنفحات قدسية ، تلثم أوراق عطاءاتي النافذة في أقاصي آفاق المستقبل ، ومن قبل أن تتفتح براعمها عن شمس تشرق أبداً ، وتطلع قبل أن يرتفع النهار ، ويبزغ أمل يوم جديد. فما كان منها إلاّ أن أنشأت تلهب ظهري بأسواط القهر والذعر دون الاعتماد على النفس ، تخوّفني دائماً من مغبة اغتنام نُور وافر منه وافتراص ألوان الخلسة ، كيما أبيح لوجدي ما يمكن أن يعبر عن نوع اقتنائي للأفكار أو اختياري لضروب النوازع. بل إنّ

١٣

الطريق كان قد غدا لمن أنشأني وسهر على تربيتي واضحاً لاحباً. فليس ثمة من خير في انتهاج أيّما طريق فرعية داخل هذه السبيل العامة إنّما أن يحيد المرء عن اقتفاء آثار مثل هذه الجادة وتنكبه الطريق ليعسف عن حيادها ويميل إلى عذارها. فما كان له إلاّ أن يستل وبفعلته تلك نصلاً يحاول ومن خلاله أن يغمده في جرح إبائه حتّى يصير ينكأه .. وهو الذي يراه ، ولما يندمل بعد وإلى الآن.

عانقت وجه الحرية ، تنشقت انسام البهجة ، تلفعت بلفحة أثلجت كبريائي ، كان كُلّ ذلك حينما ابتدرتني أنفاس رحيبة ، شعرت بها تلقي من عليها كُلّ ملاءات العجز وشراشف الكهولة الغائرة في عمق كآبة الزمان وعنق سامة النهار .. لأني بدأت أشعر بأن عليَّ أن أغتنم كُلّ فرصة ، لأجل أن أبحر مسافراً في ظلال أدواح هذه المراتع والهضاب. اجتاز بكُلّ الأودية والمفترقات ، لا أنقلب بعدها ، إلاّ حينما أعثر على نفسي التي أضعتها. وكم هي الحقيقة مرّة جداً ، وللغاية حينما يطالني عقلي وتنبغ بين أوصاله نجمة نابتة ، تخبرني أن ما أضعته ، لم تضعه خارج حدود منزلك ، لأنك كنت قد ألقيته بين جنبات زواياه حتّى انصرفت عن التفكير به. وذلك لأنك صرت لا تفكر أبداً بكُلّ ما للعقل أن يسلّم له ، ويصادر الفكر على بدهيته المشرفة دون نيل الأذي ، أو انفاق الجهر الذي ليس تحته أيّما طائل سوى إرهاق عود الذهن الغضّ ..

إذن ، ما كنت أبحث عنه ، فكان يقبع في داخلي ، فقبل أن أبحث عن الحقيقة ، كان عليّ أن أسأل نفسي .. فهل أنا أستأهل كُلّ هذا الاعتزاز من ربِّ العالمين إن مكّنني في هذه البرهة وجعلني أهلاً لهذه الرفعة ، في أن أقرّر ما

١٤

أشاء بفعل عقلي الحازم وما عليه فكري الثاقب دون التعصب لأهل أو جار ، أو عشيرة ، أو سكان مصر وحاضرة ، دون التفكير بأي ماض ، دون الاعتلال على الأخير بمستقبل يفد عليه صاغراً مذعناً .. لأن ثوب الحقيقة لابدّ أن يكتسح أنواء السماء دون حائل حتّى يشرف على صدى القلوب ، فيتنازعها البقاء ، وكيف لها أن تحتم الارتقاء إلى حجم التطلع نحو حبك نسائج ألوانه وهي التي قد رسخت في الأرض ، وأقبلت بما يمكن أن تثني معه عزمه عن التعالي على أوراق ومواريث الأجداد ، ذلك حين يستطرق العقل ، فيستطرد الذهن في إبطال مفعولها دون أن يرى في ذلك أي خير سوى تنكّب رقية الحقيقة التي تعوذه من شر كُلّ الآفات .. فليس يمنع أحدٌ من الموت إن هو ظل على دين آبائه ، وما كان ليجديه أيّما سبق في اللحاق بركب الأفذاذ إن هو أقر بما أقره الأولون دون عناية واستنباط واستقراء ودراسة. فما كان الموت ليغادر صغيراً ولا كبيراً .. وما كان للسان المنية أن يمتنع عن تناهب أيّما شيبة وشبيبة .. وخلاصة الأمر إنّ الكُلّ ماضون إلى سبيل هو عاجلاً أو آجلاً سوف يخضعون وفي خلاله إلى استجواب خاص ، كُلّ منهم على انفراد .. فكيف بي وأنا الوحيد الذي سيلبث هناك يتقوقع بين جدران أوهدة الظلمات ، وملائكة السؤال يشددون قبضاتهم على كتفي ، وقد عيل صبرهم على مكايدتي لهم ، يحاولون أن يلحقوني بأهل النجاة ترحمّاً بي ورقّة بحالي وأنا ما كنت لأحير جواباً .. لأني ما كنت أبحث عن مثله في الحياة الدنيا ، ذلك أنّي اكتفيت بما وجدت عليه آبائي وإخواني. فكنت إذا غادرتهم لزمان ما ، ولأي مكان سافرت ، أو نأيت عنهم وقصيت برسمي وجسدي عن ألوان أبشارهم جعلت أشتاق إليهم ، وأنازع صديد الغربة ، وأكابد أوار كأبتها بعد أن يضطهدني صدأ

١٥

رطوبتها حتّى إذا عدت إليهم جعلت أرتمي في أحضان أبي وأمي وإخواتي وأصارع دمعاً جعلت أغالبه من فرط الشوق إليهم ، وما صار يعتصرني من حبور وفرحة .. كأنّها دموع فرح لا ينطق بها وجد لمعانها إلاّ إذا كان لها أن تنسفح من زوايا آماقي ، وتنحدر من جيوب نواظري السخية .. فلم يكن لي أن أنشق عن سلالتهم ، ولا أن أنأى عن منهجهم فعلاً ولا قولاً .. إلاّ أنّي وكُلّما فكرت في الموت ، وكيف له أن يكون بمستطاعه أن يجعلني في نأي عنهم ، لأصير لوحدي أقاسي آلام الغربة الحقيقية ، لأن الموت ما كان إلاّ حداً فاصلاً. أما السفر والافتراق فهو فرصة ، وتنتهي بنفاذ شروط أحكاماتها حتّى إذا ما زالت ، عادت السحب ترتقي عنان السماء ، وتحمل براتعها المنسجمة غدقاً وصيباً ، وذلك عند اللقاء ومن جديد ..

كذلك ، كنت أفكر في أهلي عند منازعة عقلي لأفكاري ، ومجاذبة الأخيرة للسان الصمت الذي جعل يتحرك دون رغبة منه في داخلي ، هكذا عنوة .. فكنت لا أستجيب لأي شفرة تحيل حياتي إلى فراق وبعاد عن أبي وأمي وبيتنا .. وهكذا ، وجدتني في ليلة وضحاها ، أنأى عنهم صاغراً ، وبالرغم مني ، لأجدني في يوم من الأيام أفكر في النأي عن معتقداتهم ، والعزم على انتحال صبغة هي غير ما انتحلته ضمائرهم ، واعتناق غير ما اعتنقته ذكرياتهم .. لأن هذه الأخيرة غدت طافحة بكُلّ جميل ومرّ .. وكنت أعترف بأني أحمل بين أضلعي إنساناً ، ربما يضعف في بعض الأحيان إلى حد هو أعظم من أن يوصف ، غير أنّي شعرت وكُلّما صرت أقترب إلى نقطة الصِّفر وساعة الصَّفَر في تصميمي على اتخاذ القرار والعزم على ترك المذهب السني ، واعتناقي للمذهب الشيعي ، كنت أشعر بأني كنت أصير إلى ارتقاء سلّم مجد ما

١٦

كان قد ارتقى مرقاتها أي أحد من أهلي ومن قبلي أنا .. فإنّي ما كنتُ إلاّ السَّبّاق فيهم .. في حين ما أذكر أنّي كنت سبّاقاً بينهم ، وإلى أي من الأشياء في السابق ، فهل هذا خليق به أن ينفحني بمجد قلما فاز أو ظفر به أحد من قبل ، سوى يوسف بن يعقوب ، حينما منَّ اللّه عليه ، وأخرجه من السجن وجعله حاكماً على أموال مصر ، نافذ القول ، آمراً على الساسة والناس .. حتّى جاءه إخوته من البدو .. فصار الواقع مصداقاً لتفسير رؤياه التي قصها على أبيه ومن قبل حتّى صرت أنا والغدير على موعد. ولقد كنت أناقش نفسي مناقشات ما كانت إلاّ حصيلة مطالعات متواصلة دقيقة .. وكأني أناظرها بما توصلت إليه ، مما وقع عليه ذهني وصحا عليه عقلي حتّى صَغَتْ نفسي إلى حديثي ..

إذ جعلتُ أقول لها :

ـ « أذكري لي حديث الغدير؟ كيما أدقق فيه نظري وأتأكد من صحته ، وذلك حينما تكونين قد سردت عليّ حديثه من طريقنا .. أعني طريق أهل السنة ، كيما يطمئن قلبي ، ويهدأ بالي ، فأتدبر حالي وأتخذ أمري عن روية وعقل ، وأصير حيال واقع ليس هو من الخيال بشيء ».

فرجعت إلى أفكاري ، وأنا أشعر بالاندهاش يغلب على رسمي ودواخلي ، وذلك لوقع الحقائق التي جعلت معانيها تتراقص في ذهني ، تكبح كُلّ تردد وانفعال ليس تحته أيّما طائل ، فصارت تحدثني ..

وهي تقول :

ـ « أخرج الطبراني وغيره بسند مجمع على صحته .. ».

فقلت لها :

ـ « ومن صرّح بصحته؟ ».

١٧

قالت :

ـ « صرح بصحته غير واحد من الأعلام ، حتّى اعترف بذلك ابن حجر ، إذ أورده نقلاً عن الطبراني وغيره في أثناء الشبهة الحادية عشرة من الشبه التي ذكرها في الفصل الخامس من الباب الأول من الصواعق ، كما أن الطبراني كان قد أخرجه عن زيد بن أرقم حيث قال : خطب رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغدير خم تحت شجرات ، فقال : أيها الناس يوشك أن أُدعى فأجيب ( وكأنه قد نعى إليهم نفسه الزكية تنبيها إلى أن الوقت قد استوجب تبليغ عهده ، واقتضى الاذان بتعيين خليفة من بعده ، وأ نّه لا يسعه تأخير ذلك مخافة أن يدعى فيجيب قبل إحكام هذه المهمة التي لا بدّ له من إحكامها ، ولا غنى لأمته عن إتمامها ) ، وإني مسؤول وإنكم مسؤولون .. ».

قاطعتها قائلاً :

ـ « هنا الأمر يختلط بصحة التقدير الصعب؟ ».

ـ " أجل وذلك لأن عهده إلى أخيه كان ثقيلاً على أهل التنافس والحسد والشحناء والنفاق ، فأراد الرسول ومن قبل أن ينادي بذلك ، أن يتقدم في الاعتذار إليهم ، تأليفاً لقلوبهم وإشفاقاً من معرة أقولاهم وأفعالهم ، فقال : وإني مسؤول ، ليعلموا أنّه مأمور بذلك ومسؤول عنه ، فلا سبيل له إلى تركه. وقد أخرج الامام الواحدي في كتابه أسباب النزول بالاسناد إلى أبي سعيد الخدري ، قال : نزلت هذه الآية : ( يَا أيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا اُنزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) يوم غدير خم في علي بن أبي طالب ».

ـ « وبعد؟! ».

ـ « ولعله أشار بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وإنكم مسؤولون ، إلى ما أخرجه الديلمي وغيره

١٨

كما في الصواعق وغيرها ـ عن أبي سعيد أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ( وَقِفُوهُمْ إنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ ) عن ولاية علي ، وقال الإمام الواحدي : إنّهم مسؤولون عن ولاية علي وأهل البيت ، فيكون الغرض من قوله : وإنكم مسؤولون ، تهديد إلى الخلاف لوليه ووصيه ».

ـ « تابعي الرواية؟ ».

ـ « .. فماذا أنتم قائلون؟ قالوا : نشهد أنك قد بلّغت وجاهدت ونصحت ، فجزاك اللّه خيراً ، فقال : أليس تشهدون أن لا إله إلاّ اللّه ، وأن محمّداً عبده ورسوله ، وأن جنته حق ، وأن ناره حق ، وأن الموت حق ، وأن البعث بعد الموت حق ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن اللّه يبعث من في القبور؟ قالوا : بلى نشهد بذلك ».

كنت صامتاً مصغياً ، بينما طلعت نفسي تعلق بالقول :

ـ « يا هذا ، أريد أن أقول لك شيئاً ... تدبر هذه الخطبة؟ فمن تدبرها! وأعطى التأمل فيها حقه ، فعلم أنّها ترمي إلى أن ولاية علي من أصول الدين كما عليه الإمامية ، حيث سألهم أولاً فقال : أليس تشهدون أن لا إله إلاّ اللّه ، وأن محمّداً عبده ورسوله؟ إلى أن قال : وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن اللّه يبعث مَن في القبور ، ثُمّ عقب ذلك بذكر الولاية ليعلم أنّها على حد تلك الأمور التي سألهم عنها فأقروا بها ، وهذا ظاهر لكُلّ من عرف أساليب الكلام ومغازيه حتّى صار يفهم مدلولاته ليدخل بعد ذلك في عداد أولي الأفهام ».

وكنت مشدوداً إلى ما تقول حتّى وجدتها تتابع الرواية وهي تقول :

ـ « قال : اللهم اشهد ، ثُمّ قال : يا أيها الناس إنّ اللّه مولاي وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من أنفسهم .. ».

١٩

قاطعتها وأنا أقول لها :

ـ « ماذا يعني ذلك؟ ».

ـ « أما قوله : وأنا مولى المؤمنين ، فهو قرينة لفظية ، تدل على أن المراد من المولى إنّما هو الأولى ، فيكون المعنى : إنّ اللّه أولى بي من نفسي ، وأنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، ومَن كنت أولى به من نفسه ، فعلي أولى به من نفسه .. ( وجعلت تستدرك ما كانت تحدث به ) فمن كنت مولاه فهذا مولاه ، يعني علياً ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. ثُمّ قال : يا أيّها الناس إنّي فرطكم ، وإنّكم واردون عليّ الحوض ، حوض أعرض مما بين بصرى إلى صنعاء ، فيه عدد النجوم قِدحان من فضة ، وإني سائلكم حين تردون علي عن الثقلين ، كيف تخلفوني فيهما ، الثقل الأكبر كتاب اللّه عزّ وجلّ ، سبب طرفه بيد اللّه تعالى ، وطرفه بأيديكم ، فاستمسكوا به لا تضلّوا ولا تبدلوا ، وعترتي أهل بيتي ، فإنّه قد نبّأني اللطيف الخبير ، أنهما لن ينقضيا حتّى يردا علي الحوض ».

ـ « هذا لفظ الحديث؟ ».

ـ « أجل! هذا لفظه عند الطبراني وابن جرير والحكيم الترمذي عن زيد بن أرقم ، وقد نقله ابن حجر عن الطبراني وغيره باللفظ الذي سمعته ، وأرسل صحته إرسال المسلمات ، فراجع صفحة ٢٥ من الصواعق ».

ـ « وهل أخرجه غير هؤلاء؟ ».

ـ « أخرج الحاكم في مناقب علي من مستدركه صفحة : ١٠٩ من جزئه الثالث ، عن زيد بن أرقم من طريقين صححهما على شرط الشيخين ، قال : لما رجع رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حجة الوداع ، ونزل غدير خم ، أمر بدوحات فقممن ، فقال : كأني دعيت .. وعترتي ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإنّهما لن يفترقا

٢٠