الحقوق الإجتماعية في الإسلام

الحقوق الإجتماعية في الإسلام

المؤلف:


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: مركز الرسالة
الطبعة: ٠
ISBN: 964-319-033-1
الصفحات: ١٢٧

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المركز

الحمدُ لله ربِّ العالمين ، والصلاة والسلام على نبيّنا الأكرم المبعوث رحمةً للعالمين محمد المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين.

حقوق البشر لافتة عريضة ترفع هنا أو هناك ، يُزايد عليها المزايدون أحياناً ، ويحاول دعاة المذاهب الاجتماعية اتخاذها وسيلة لترويج أفكارهم ، واغراء الجماهير للاصطفاف إلى جانب دعواتهم.

لقد أصبحت ( لائحة الحقوق ) محط اهتمام المؤسسات الدولية ، والمنظمات الإنسانية ، وأضحى الاهتمام والتسابق على أشدّهما لحشد التأييد ( لمنابرهم ) الفكرية والثقافية.

وكان الإسلام سبّاقاً في تشريعاته وفي مبادئه وتعاليمه إلى تقرير تلك الحقوق وإيلائها الاهتمام الخاص كما في نصوص القرآن الكريم ، والسُنّة المطهرة. وكانت سيرة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيرة أهل بيته الطاهرين عليهم‌السلام تطبيقاً حيّاً لما شرّعه الإسلام في هذا المجال ، سواء فيما يتعلّق بحقوق الإنسان فرداً ، أو ضمن المجتمع.

أراد الإسلام للإنسان أن ينعم بالحياة الوادعة ، ويعرف ما له وما عليه ؛ ليكون في حالة انسجام وتوادّ مع أفراد جنسه ، كما أراد له أن يعيش موفورَ الكرامة ، محفوظ النفس والعرض والمال لا يتعرض إليه أحد بسوء أو

٥

بظلم. ولكن قوى الكفر العالمي والصليبيّة الحاقدة ـ ومن يدور في فلكهماـ حاولت طمس حقائق الإسلام ، والتعتيم على مبادئه الخيّرة ، وخاصةً عنايته بحقوق الإنسان فرداً ومجتمعاً.

ومن هنا تأتي أهمية اظهار حقائق الإسلام وكشف أباطيل خصومه.

ومركزنا إذ يُصدر هذا الكتاب « الحقوق الاجتماعية في الإسلام » ضمن سلسلته ، فهو ينطلق من أهدافه الخيّرة في نشر العلم ، والتعريف بمبادئ الإسلام وحقائقه الناصعة.

ولتحقيق هذا الهدف ، فقد عُني هذا البحث بتأصيل ذلك من خلال نصوص القرآن الكريم والسُنّة النبويّة المطهّرة وما جاء عن أهل البيت الطاهرين عليهم‌السلام وبخاصة ( رسالة الحقوق ) للإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما‌السلام التي تعدُّ لائحة قانونية ، ووثيقة تاريخية قيمة.

آملين رفد المكتبة الإسلامية بكلِّ ما هو نافع ومفيد في حقول المعرفة الإسلامية.

ومن الله التوفيق

مركز الرسالة

٦

المقدِّمة

تحتل مسألة حقوق الإنسان ـ يوماً بعد آخر ـ أهميةً متزايدة في العالَم المعاصر. وقد ظهرت منظمات عالميّة أخذت على عاتقها الدفاع عن حقوق الإنسان وفق منظورها الخاص ، ووفق أهداف ومصالح الجهات الممولة لها ، وقد اتخذت قضية حقوق الإنسان في غالب الأحيان سلاحاً سياسياً تستخدمه الدول المستكبرة ضد الدول الإسلامية التي ترفض الدوران في فلكها والخضوع لهيمنتها. وأخذت هذه القوى تُسخِّر ـ لهذه الغاية ـ الأقلام المأجورة ، وتستخدم دور النشر والطباعة لترويج بضاعتها هذه لأغراض تسويقية. كذلك أخذ زعماء وعلماء الدّيانات المحرّفة ، يستغلون هذه القضية الحساسة خدمةً لأغراضهم التبشيرية ، ويظهرون دياناتهم بمظهر المدافع الحقيقي عن حقوق الإنسان ، ويصدّرون في كل عام عشرات الكتب والنشرات التي تظهر اهتمامهم الموهوم بهذه المسألة ، والايحاء بأنّهم أوّل من نادى بحقوق الإنسان ، وصاغ بنودها.

وللأسف الشديد أنّ الكتب والإصدارات الإسلامية المؤلفة في هذا الحقل ، من القلّة بحيث لا تتناسب مع تزايد الاهتمام العالمي بحقوق البشر.

وكمساهمة متواضعة قمنا بهذه الدراسة المختصرة ، لغرض الإشارة الإجمالية إلى أنَّ مدرسة الإسلام قد سبقت المدارس الاَُخرى في إيلاء هذه القضية ماتستحق. خصوصاً وإنّ الرَّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أعلن عن المساواة بين البشر ـ وهو حق من أكبر الحقوق الأساسية للإنسان في كلِّ

٧

زمان ومكان ـ وذلك في خطبته التاريخيّة في حجة الوداع ، قبل أسابيع قليلة من رحيله في السنة العاشرة للهجرة. أي قبل أكثر من أربعة عشر قرناً !

( عن أبي سعيد الخدري قال : خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أوسط أيّام التّشريق خطبة الوداع فقال : « يا أيُّها النّاس إنّ ربّكم واحدٌ ، وإنّ أباكم واحدٌ، ونبيكم واحدٌ ، ولا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا أحمر على أسود ، ولا أسود على أحمر إلاّ بالتقوى .. » ) (١). وعنه أيضاً : « الناس سواء كاسنان المشط » (٢).

وبذلك أعلن صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبدأ المساواة التامة بين جميع أفراد النوع الإنساني بصرف النظر عن اللغة واللَّون والجنس ، وهذا المبدأ لم ينبس به أحد قبل ظهور الإسلام ؛ لأن الناس كانوا يعتدّون بأجناسهم إلى أقصى حدّ ، حتى كبار الفلاسفة منهم.

ألم يقل افلاطون : اني لاَشكر الله على ثلاث: أن خلقني إنساناً ولم يخلقني حيواناً ، وأن جعلني يونانياً ولم يجعلني من جنس آخر ، وأن أوجدني في عهد سقراط (٣) !

بينما نجد العكس تماماً عند أول الناس اسلاماً الإمام علي عليه‌السلام ، كما جاء في عهده لمالك الأشتر ـ الذي يُعد وثيقة تاريخية في غاية الأهمية ـ : « وأشْعِر قلبك الرَّحمة للرَّعيَّة .. ولا تكُونَنَّ عليهم سَبُعاً ضارياً تغتنمُ أكلهُمْ ،

__________________

(١) كنز العمال ٣ : ٩٣ / ٥٦٥٥ و ٣ : ٦٩٩ / ٨٥٠٢ قريب منه.

(٢) كنز العمال ٩ : ٣٨ / ٢٤٨٢٢.

(٣) أُنظر : كتاب ، مع الأنبياء في القرآن الكريم ، لعفيف عبدالفتاح طبّارة ٤١٧ ، ط ١٦ ، دار العلم للملايين ـ بيروت.

٨

فإنَّهُم صِنفانِ : إمّا أخٌ لَكَ في الدِّينِ ، أو نَظيرٌ لَكَ في الخَلْقِ » (١).

إنّ غاية الإسلام الأساسية هي إقامة مجتمع سليم ، مبني على أساس العدالة. ويتطلب هذا التوجه ـ بطبيعة الحال ـ الاهتمام برعاية الحقوق المتبادلة بين أفراد المجتمع.

والملاحظ أن القرآن الكريم في تعبيره عن أداء حق الغير أو حق الجماعة ، تارة يعبر عنه بطلب الإحسان ، كما في قوله تعالى : ( وأَحْسِن كَما أحْسَنَ اللهُ إليكَ ) ( القصص ٢٨ : ٧٧ ) ، وتارة أُخرى يعبر عنه في صورة أمر آخر كقوله تعالى : ( وَأَوفوا الكَيْلَ إذا كِلْتُمْ وزِنُوا بالقِسْطاسِ المُسْتَقِيم ذلكَ خيرٌ وَأحسَنُ تَأوِيلاً ) ( الإسراء ١٧ : ٣٥ ) ، وقد يعبر عن ذلك في صورة النهي كقوله تعالى : ( وَلا تَأكُلُوا أَموَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إلى الحُكَّامِ لتأكُلوا فَرِيقاً مِنْ أموالِ النَّاسِ بالاِثمِ وأنتم تَعْلَمُونَ ) ( البقرة ٢ : ١٨٨ ).

كلّ ذلك من أجل أن يسود العدل ، وتصان حقوق الآخرين من المصادرة. وبذلك نجد القرآن الكريم قد عُني بالجانب الاجتماعي من حياة الجماعة ، عناية لا تقل عن عنايته بصلة الفرد بربّه ، ولا يصور الفرد المسلم إنساناً منعزلاً في خلوة ، أو راهباً في صومعة ، بل يصوره دائماً في جماعة تترتب عليهم حقوق متبادلة.

وجاء في رسالة الحقوق ، المرّوية عن الإمام زين العابدين عليه‌السلام ـ والتي يمكن اعتبارها نموذجاً فذّاً في هذا الشأن ـ ما يكشف لنا بجلاء عن نظرة الإسلام الشمولية للحقوق التي لا تقتصر على بيان حقوق الإنسان ، بل

__________________

(١) نهج البلاغة ـ ضبط الدكتور صبحي الصالح ـ ص ٤٢٧ انتشارات هجرت ط ١٣٩٥ ه‍.

٩

تثبت الحق لغير الإنسان أيضاً.

كما أشارت هذه الرسالة ـ في البداية ـ إلى أنّ حقوق الناس ناشئة عن حقوق الله تعالى ، وهو سبحانه قد جعل حقوق عباده مقدمة على حقوقه.

وقد تناولنا في بحثنا الوجيز هذا ، الحقوق الآتية في ثلاثة فصول وهي :

الفصل الأول : ( الحقوق العامة للإنسان ) : وقد بحثنا فيه : حق الحياة ، وحقَّ الكرامة ، وحق التربية والتعليم ، وحق التفكير ، وحق التعبير ، وحق التمتع بالأمن ، وحق حرية الاعتقاد ، وحق المساواة ، وحق الإقامة والسكن والهجرة ، وأيضاً حق التمتع بالعدل.

الفصل الثاني : ( الحقوق الاجتماعية ذات الصبغة القانونية ) : واشتمل البحث فيه على : حق اليتيم ، وحق الأسير ، وحقوق الفقراء والمساكين.

الفصل الثالث : ( الحقوق الاجتماعية ذات الصبغة الاخلاقية ) : واشتمل هذا الفصل على : حق المعلّم والمتعلّم ، وحقّ الأخ والصديق ، وحق الجليس ، وحق الناصح والمستنصح ، ثم تناولنا حق الجوار بصورة أكثر تفصيلاً ؛ لأهميته الاجتماعية.

ثم جعلنا محور البحث يدور على الحقوق العائلية ، التي تحظى بأهمية اجتماعية كبيرة ، باعتبار الاَسرة هي اللَّبنة الأساسية في البناء الاجتماعي. وقسّمنا هذه الحقوق على ثلاثة أقسام :

حق الأبوين.

حق الأولاد.

١٠

الحقوق المتبادلة بين الزوجين.

ولابدّ من الإشارة إلى أننا قد اتّبعنا في هذه الدِّراسة المنهج ( النقلي ) الذي يعتمد على النصوص الدينية من آيات وروايات وبالأخص ما ورد عن أهل بيت الرسول الأعظم عليهم‌السلام لكونهم الثقل الثاني الذي أوصى نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التمسك به.

ومن الله نستمد العون والتسديد.

١١
١٢

الفصل الأول

الحقوق العامة

١٣
١٤

المبحث الأول

أنواع الحقوق العامة

هناك مجموعة من الحقوق العامة تتعلق بحقّ الفرد كإنسان يؤكد الإسلام على مراعاتها ، ما لم تتصادم بحق أو حقوق أُخرى ، وهي على أنواع ، نذكر أهمها ، وهي :

أولاً : حق الحياة :

وهو من أكثر الحقوق طبيعيّة وأولويّة ، قال تعالى : ( ولا تقتلوا أنفسكم إنَّ الله كان بكم رحيماً ) ( النساء ٤ : ٢٩ ) ، وقال تعالى : ( من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنّما أحيا الناس جميعاً ) ( المائدة ٥ : ٣٢ ).

والإسلام يراعي حق الحياة منذ بدء ظهور النطفة وهي مادة الخلقة ، فلا يبيح الشرع المقدس قتلها ، ومن فعل ذلك ترتب عليه جزاء مادي.. فعن اسحاق بن عمّار ، قال : قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : المرأة تخاف الحبل فتشرب الدّواء فتلقي ما في بطنها ؟ قال : « لا » ، فقلت : إنَّما هو نطفة ! فقال : « إن أوَّل ما يُخلق نطفة » (١).

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٤ : ١٢٦ / ٤٤٥ ، وعنه في الوسائل ٢٩ : ٢٥ / ١ باب ٧ من أبواب

١٥

وعليه ، فقد احتل هذا الحق مكانةً مهمة في مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام ، يبدو ذلك جلياً لمن يطّلع على الروايات الواردة في باب القصاص في المجاميع الحديثية ، وسوف يجد نظرة أرحب وأعمق لهذا الحق ، معتبرةً أن كل تسبيب أو مباشرة في قتل نطفة ، أو إزهاق نفس محترمة ، أو إراقة الدِّماء ، يعد انتهاكاً لحق الإنسان في الحياة ، ويستلزم ذلك عقوبة في الدنيا وعاقبة وخيمة يوم الجزاء.

ومن الشواهد النقلية الدالة على حرمة التسبيب في ذلك ، ما رواه محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : « إنَّ الرَّجل ليأتي يوم القيامة ومعه قدر محجمة من دم ، فيقول : والله ما قتلت ولا شركت في دم ، فيقال : بلى ذكرت عبدي فلاناً ، فترقى ذلك (١) حتى قُتل ، فأصابك من دمه » (٢). كما وردت روايات في حرمة الانتحار مفادها : ان المؤمن يبتلى بكل بلية ويموت بكل ميتة إلاّ أنّه لا يقتل نفسه. ومن يقتل نفسه متعمداً فهو في نار جهنم خالداً فيها.

وفي هذا الاطار هناك من أُصيب بقصر النظر ، أو بعمى في البصيرة ، يطعن ويشكك في التزام شيعة أهل البيت عليهم‌السلام بمبدأ التقية ، ويجهل أو يتجاهل الحكمة العميقة من وراء تبني هذا المبدأ والمتمثلة اساساً في الحيلولة دون إراقة الدِّماء. يقول المحقق الحلي : اذا اكرهه على القتل ، فالقصاص على المباشر دون الآخر. وفي رواية علي بن رئاب ، يحبس

__________________

القصاص في النفس.

(١) فترقى ذلك : أي : رفع ، والحديث ناظر إلى وجوب كتمان السّر عند احتمال الضرر في افشائه.

(٢) وسائل الشيعة ٢٩ : ١٧ / ١ باب ٢ من أبواب القصاص في النفس.

١٦

الآمر بقتله حتى يموت ، هذا اذا كان المقهور بالغاً عاقلاً (١).

فللتقية حدود وشروط يجب ان تقف عندها ، وخصوصاً إذا وصل الأمر إلى حد يعرّض حياة الآخرين إلى الخطر. وفي الحديث : « إنما جعلت التقية ليحقن بها الدمُ ، فاذا بلغ الدَّم فليس تقية » (٢).

ثانياً : حق الكرامة :

إهتم الإسلام ـ أيضاً ـ بحق آخر لا يقلُ أهمية عن حق الحياة ألا وهو حق الكرامة.

ويراد بالكرامة : امتلاك الإنسان بما هو إنسان للشرف والعزّة والتوقير. فلا يجوز انتهاك حرمته وامتهان كرامته ، فالإنسان مخلوق مُكرَّم ، قد فضله الله تعالى على كثير من خلقه.. ( ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البرِّ والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممَّن خلقنا تفضيلاً ) ( الإسراء ١٧ : ٧٠ ) ، وهي كرامة طبيعية متّع الله تعالى كل أفراد الإنسان بها. وهناك كرامة إلـهية تختص بمن اتقى الله تعالى حق تقاته : ( يا أيُّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكمً ) ( الحجرات ٤٩ : ١٣ ).

وكان أئمة أهل البيت عليهم‌السلام يراعون كرامة الناس من أن تمس ، حتى انهم طلبوا من أرباب الحوائج أن يكتبوا حوائجهم حرصاً على صون ماء وجوههم. وهناك رواية نبوية تتحدث عن كرامة الإنسان التي لا يجوز

__________________

(١) شرائع الإسلام ـ كتاب القصاص ٤ : ٩٧٥ ، طبع دار الهدى ـ قم المقدسة ط ٣.

(٢) الكافي ٢ : ٢٢٨ / ١٦ باب التقية.

١٧

المساس بها عن طريق سَّبّه أو تقبيح وجهه ، وما إلى ذلك. ولكن هذه الرواية حُرّفت بحذف أولها ، فتغيرت دلالتها إلى ما فيه التجسيم لله تعالى ، وان كان ظاهرها يتضمن معاني التكريم للإنسان.

لقد سعى الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام إلى قشع العتمة التي تُخيم على عقول بعض الناس وواجه السذاجة الفكرية وفضح التحريف الذي يحصل في المنابع المعرفية.

ينقل المحدّث القمي : عن الحسين بن خالد ، قال : قلت للرِّضا عليه‌السلام : يا بن رسول الله إن الناس يروون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إن الله خلق آدم على صورته ! فقال : «قاتلهم الله ، لقد حذفوا أول الحديث ؛ إنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرَّ برجلين يتسابان ، فسمع أحدهما يقول لصاحبه : قبّح الله وجهك ووجه من يشبهك ، فقال : يا عبد الله لا تقل هذا لاَخيك ، فانَّ الله عزَّ وجلّ خلق آدم على صورته» (١).

ولعلّ من هذا الباب نهي الإمام علي عليه‌السلام عن أن يسيء ذووه معاملة قاتله ابن ملجم ، أو يمثل به بعد اجراء حكم الله فيه ، بقوله : « .. ولا يُمثّلَ بالرَّجل ، فانِّي سمعتُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إيَّاكم والمُثلة ولو بالكلب العقور » (٢).

ثالثاً : حق التعليم :

إنَّ العلم حياة للنفس الإنسانية ، وحرمانها منه يعني انتقاص وامتهان

__________________

(١) سفينة البحار ٢ : ٥٥ ـ دار المرتضى ـ بيروت.

(٢) نهج البلاغة ـ شرح الشيخ محمد عبده ـ : ٥٩٤. دار التعارف للمطبوعات طبعة ١٤٠٢ ه‍.

١٨

كرامتها. ومما يؤكد حق التعلم والتعليم في الإسلام مافعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأسرى بدر ، إذ جعل فدية الأسير تعليم عشرة من أبناء المسلمين.

وقد أشار الإمام علي عليه‌السلام إلى حق التعلم والتعليم في معرض تفسيره لقوله تعالى : ( وإذ أخذَ اللهُ ميثاق الذينَ أُوتوا الكِتابَ لتُبينُنَّهُ للنَّاس ولا تكتُمونَهُ فنبذوهُ وراءَ ظُهورهم ... ) ( آل عمران ٣ : ١٨٧ ).

فقال : « ما أخذ الله ميثاقاً من أهل الجهل بطلب تبيان العلم ، حتّى أخذ ميثاقاً من أهل العلم ببيان العلم للجهّال » (١).

وقال الإمام الصادق عليه‌السلام في هذا الصَّدد : « إن العالم الكاتم علمه يُبْعَث أنتن أهل القيامة ريحاً ، تلعنه كلّ دابّة حتى دوابّ الأرض الصغار » (٢).

مما تقدم ، يمكن القول ان الأئمة عليهم‌السلام يرفضون مبدئياً احتكار العلم ، ويؤكدون ضرورة بذله لطالبيه. أما في وقتنا الحاضر فتقوم دول ومؤسسات تدّعي التحضر باحتكار العلم وحجبه عن الآخرين أو المتاجرة ببيعه بأغلى الاثمان أو استخدامه كسلاح سياسي لتحقيق مآرب خاصة. والحال ان العلم هبة إلهية ونعمة شرَّف الله تعالى بها الإنسان على باقي المخلوقات ، وقد أوجب الله تعالى على العلم زكاة ، وزكاته نشره. وقد بين الإمام السجاد عليه‌السلام في رسالة الحقوق ، حق المتعلم على المعلّم بقوله :

« أمّا حق رعيّتك بالعلم ، فأنْ تعلم أنّ الله عزّ وجلّ إنّما جعلك قيّماً لهم

__________________

(١) بحار الانوار ٢ : ٢٣ ـ مؤسسة الوفاء ـ بيروت ط ٣.

(٢) بحار الانوار ٢ : ٧٢.

١٩

فيما آتاك الله من العلم ، وفتح لك من خزائنه ، فإن أحسنت في تعليم النّاس ولم تخرق بهم ولم تضجر عليهم ، زادك الله من فضله ، وإن أنت منعت النّاس علمك وخرقت بهم عند طلبهم العلم ، كان حقّاً على الله عزّ وجل أن يسلبك العلم وبهاءه ، ويسقط من القلوب محلّك » (١).

وبالمقابل حدّد حق المعلّم على المتعلم بقوله : « حق سائسك بالعلم التّعظيم له ، والتوقير لمجلسه ، وحسن الاستماع إليه ، والإقبال عليه ، وأن لا ترفع عليه صوتك ، ولا تجيب أحداً يسأله عن شيء حتى يكون هو الذي يُجيب ، ولا تُحدّث في مجلسه أحداً ، ولا تغتاب عنده أحداً ، وأن تدفع عنه إذا ذُكر بسوء ، وأن تستر عيوبه ، وتظهر مناقبه ، ولا تجالس له عدوّاً ، ولا تعادي له وليّاً ، فإذا فعلت ذلك شهد لك ملائكة الله بأنّك قصدته وتعلّمت علمه لله جلّ اسمه لا للنّاس » (٢).

رابعاً : حق التفكير والتعبير :

لا يخفى بأنّ الإسلام جعل التفكير فريضة إسلامية. ومن يتدبر القرآن الكريم ، يجد آيات قد بلغت العشرات ، تأمر بالتفكر والتعقل في الانفُس والآفاق ، فلم يضع الإسلام القيود أمام حركة الفكر السليم الذي ينشد الحقيقة ، ويُثير الشك كمقدمة للوصول إلى اليقين. وقد أطلق النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الفكر من عقال الجاهلية وجعله يتجاوز المحسوس بانطلاقه إلى عوالم الغيب إلى مال لا عين رأت ولا خطر على قلب بشر.

ولقد آمنت مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام بحرية التفكير والتعبير ؛ لغرض

__________________

(١) بحار الانوار ٢ : ٦٢.

(٢) شرح رسالة الحقوق ـ حسن السيد علي القبانچي ١ : ٤٠٩ ـ مؤسسة اسماعيليان ط ٢.

٢٠