الزيارة والتوسّل

الدكتور صائب عبد الحميد

الزيارة والتوسّل

المؤلف:

الدكتور صائب عبد الحميد


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-238-5
الصفحات: ١٦٠
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

١

٢

٣

٤



مقدِّمة المركز

الحمد لله رب العالمين.. وصلى الله علىٰ سيدنا محمد وآله الطاهرين..

وبعد.. إنّ زيارة قبر النبيِّ الاَكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقبور الأئمة الطاهرين من أهل بيته عليهم‌السلام والأولياء والصالحين من هذه الاُمَّة ، وشدَّ الرحال إليها ، والتوسُّل والاستشفاع بهم ، تُعدُّ من القربات التي ندب الشرع إليها ، وقرَّرتها السيرة العملية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأكَّدت النصوص الإسلامية عند سائر فرق الأُمَّة علىٰ شرعيَّتها وثبوتها ، ومارسها المسلمون منذ عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصحابة الأوَّلين فالتابعين لهم بإحسان ثُمَّ في أدوارهم المتتابعة إلىٰ يومنا هذا.

وليست الزيارة حالة من حالات التعامل الجامد مع أكوام الحجارة والتراب ، كما يصفها البعض ، وإنَّما هي صيغة واعية تمارسها الأُمَّة لتعبِّر عن عمق ارتباطها بخط الأولياء ، وتنطوي علىٰ تأصيل حالة الولاء والحبِّ لرموز مسيرتها ، وتستبطن مزيداً من العطاءات العقائدية والتاريخية والتربوية التي تشدُّ الأُمَّة إلىٰ عقيدتها وتاريخها وقادتها الرساليين.

فمن معطياتها العقائدية أنَّها تمثل حالة من حالات الانشداد إلىٰ الله سبحانه ، ذلك لأنَّ الزائر إنَّما ينوي في زيارته التقرُّب إلىٰ الله تعالىٰ ، ويشتغل ضمن الآداب المسنونة في الزيارة بالصلاة والدعاء والتضرُّع والتوسُّل وقراءة القرآن وغيرها من الأوراد والآداب التي تعكس حالات الإذعان إلىٰ الإرادة الإلهية القاهرة ، وإخلاص العبودية للواحد الحقِّ ،

٥

فضلاً عن أنَّ نصوص الزيارات والأدعية الخاصَّة بالزيارة ، تمثِّل مدرسة تلقِّن المسلمين أصول العقيدة الإسلامية والانفتاح علىٰ جميع مفرداتها ومضامينها. ثُمَّ إنَّ من القبور ما يمثل معلماً من معالم الرسالة وشاهداً من شواهد التاريخ ، فزيارة قبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تُعمِّق علاقة الزائر الروحية بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتعزِّز فهمه لأبعاد شخصيَّته ومكارم أخلاقه وإخلاصه لله ، ودوره في تبليغ الرسالة وتجسيد معانيها ، وتفتح ذاكرته علىٰ تاريخ الرسالة بكلِّ ما يزخر به من أحداث تعود بوعيه إلىٰ الأصالة التاريخية في مسيرة الأُمَّة وما فيها من دروس وعبر.

ومن معطياتها التربوية أنَّها تبعث في نفس الزائر حالة التذكير باليوم الآخر حيث يستحضر في وعيه حتمية الموت والموقف بين يدي الله تعالىٰ ، فيمتلئ وجدانه ومشاعره بفيضٍ من قيم الخير والفضيلة والصلاح ، ويندفع باتجاه تنمية نزعات نفسه الخيِّرة وردعها عن سبيل الغي وترويضها علىٰ طلب الخير.

ومن معطياتها الجهادية والسياسية استلهام مواقف الجهاد الفاعلة في تاريخ الإسلام ، والتعاطي مع قيم الشجاعة والبطولة ، والإدانة للسياسات الظالمة في تاريخ الأُمَّة ، والحفاظ علىٰ ديمومة العطاء الثوري لدماء الشهداء.

من هنا فقد أقدم مركزنا علىٰ نشر هذه الدراسة المستوفية والموجزة لتُسهم في تعزيز أدلَّة الزيارة والتوسُّل في ضمير الأُمَّة ، والتحقُّق من كونها سُنَّة ثابتة علىٰ طول المسيرة التاريخية ، مع ما توفَّرت عليه من مناقشة علمية جادَّة لما أُثير حولها من شبهات لتكون دافعاً يشدُّ الأُمَّة بقدوتها ويربطها بتاريخها المشرق ورسالتها الخالدة.

والله سبحانه من وراء القصد وهو المسدِّد للصواب..

مركز الرسالة

٦



المقدِّمة

في مرافئ الحياة ، كل مرافئها ، أقامت الشريعة السمحة مآذن تحثُّ علىٰ خير العمل ، ومنابر للدرس والإرشاد ، ومشاعل تنير الجوانب والمداخل وبين النواحي والأطراف..

ذلك هو شأن الشريعة ، وسبيلها إلىٰ مقاصدها في إحياء الأنفس ، ولمِّ شتات المجتمعات ، وإعمار الأرض ، وتسوية الطريق إلىٰ أحسن العواقب بعد الموت ، وبعد فناء الدنيا..

وليست تعرف الشريعة فيصلاً بين عبادة المرء ربّه ، وبين ممارساته شؤونَه الخاصة والعامة ، فرداً له كيانه الخاص ، وعضواً في أُسرة وفي مجتمع.

فليس في الشريعة شيء من العبادات أو القربات من شأنه أن ينعزل بالمرء عن تلك المقاصد والسبل.. ليس فيها خرافة يهوّم بها الإنسان بعيداً عن واقعه كعضو في مجتمع ، وكفردٍ سائر إلىٰ غاية هي مصيره الأبدي..

ليس فيها ما يحنِّط مشاعره ، ويجمِّد أحاسيسه ، ويميت خُلُقَه.. وكل ما انتهىٰ بالمرء إلىٰ نتائج خطيرة كهذه فهو ليس من الشريعة في شيء ، وإن اتخذ له من بعض أحكامها عنواناً..

وزيارة القبور لا تشذُّ عن هذه القواعد العامَّة ولا يخرج عن إطارها ، ومثلها

٧

التوسُّل بالأنبياء والصالحين ، فإذا كانت الشريعة قد أباحت ذلك ، أو حثَّت عليه ، كما ستثبت مباحث هذا الكتاب ، فإنّه داخل في إطارها ، جارٍ علىٰ مسارها ، باتجاه أغراضها ومقاصدها.

ولمّا كان للشريعة مسارها ، فهي كلّما شرَّعت فعلا ، أو أقرَّته ، رسمت له حدوداً ، ووضعت له آداباً ، بها فقط ينضبط هذا الفعل في مسارها ، وسيخرج عن هذا المسار بقدر خروجه عن تلك الحدود والآداب.. كما ستُنتزع من الفعل شرعيَّته إذ ما استبطن غاياتٍ أُخرىٰ خارجةً عن أهداف الشريعة ومقاصدها.

وقليل من الناس هم الذين يستحضرون غايات العبادات وأهدافها الكبرىٰ التي تتجاوز حدود الطاعة المتمثِّلة بالأداء الصحيح لها الملتزم بأحكامها وآدابها ، فكم من بين مئات الألوف من الحجيج الذين يؤدُّون كلَّ عامٍ فريضة الحجِّ ، يستحضر وهو يؤدِّي مناسكه ما في كل واحدةٍ من هذه المناسك من دروسٍ تربويةٍ وأهدافٍ دينيةٍ واجتماعيةٍ كبيرة ؟

بل كم من هؤلاء من ينظر إلىٰ الوراء ، إذا غاب عنه النظر إلىٰ أمام ، ليستحضر المواقف التاريخية الكبيرة التي امتزجت بهذه المناسك منذ تشريعها ؟

والظاهرة ذاتها قريبة جدّاً في شأن زيارة القبور ، قبور الأنبياء والأئمة الأطهار وكبار الصالحين كانت ، أم عموم المقابر ، فالزيارة وإنْ كانت بذاتها ذات أثر شرعي ، وأنَّ قصدها لوحدها لا يحبط العمل ، بل لا يحرم صاحبه الأجر والثواب ، فإنّ الصحيح أنّ الشريعة لم تشرِّع الزيارة لذاتها ، بل لعوائد كثيرة تعود علىٰ الميِّت ، كما تعود علىٰ الحي ، وأنّ من يفقه هذا لهو أفضل بكثير من الطراز الأول ، مع فرض تساويهما في صدق النيّة وحسن الالتزام بأحكام الشريعة وآدابها.

٨

فكم هو شاسع الفرق بين أن يقف المرء عند قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسكونٍ وهيبةٍ وخشوع ، يصلِّي ويسلِّم عليه وعلىٰ آله بأكمل الصلوات والتحيّات ، ويرتِّل المشروع من الدعاء ، عارفاً بمقام النبي الكريم ، مستحضراً عظمته وعظمة ما أدّاه من أثر في إحياء بني الإنسان ، مجدّداً معه عهد الاقتداء بسلوكه العظيم.. وبين أن تغيب عنه كل هذه المعاني الجليلة.

فلابدّ إذن من فقه بالعبادات ، فقه بأحكام الشريعة كلّها ، الفقه الكافي في المحافظة علىٰ صورتها ، كأقرب ما تكون إلىٰ الكمال.. ولابدّ إلىٰ جانب هذا الفقه من وعي بأبعاد هذه الأحكام وأهدافها ومقاصدها العامة التي لأجلها بالدرجة الأولىٰ شرّعت ، أو التي ستنعكس عنها.

ومن بين هذه الأهداف المقصودة من وراء الزيارة تركيز ضرورة الاقتداء بهؤلاء العظماء ، وتجديد العهد معهم ، وتعضيد المعرفة بحقوقهم ، ولا شك في أنّ هذا الهدف مقصود لوحده في الشريعة ، وقد أمرت به وحثَّت عليه ، وجعلت له أبواباً ومداخل كثيرة ، وهذه واحدة من تلك الأبواب والمداخل ، بل لعلَّها من أهمِّها ، لما تزرعه في الزائر من شعور بالقرب الأكيد من النبي أو الإمام المَزور.

والأُمّة إنّما تحيا بأسباب ، ومن أهم أسباب حياتها هو تمجيدها عظمائها ، وإحيائها ذكرهم ، الأمر الذي سيجعلهم أحياء فيها علىٰ الدوام ، وإن بعُدت بهم القرون.

وبهذا الفقه والوعي يندفع الضجيج الذي يثيره البعض حول مشروعية الزيارة ، بحجّة ما يصدر من كثير من الزائرين من أخطاء تمتزج بأعمالهم في الزيارة ، فإذا كانت هذه الأخطاء يجب تجنُّبها ، وهو كذلك ، فإنّها أيضاً لا تكون

٩

بحالٍ من الأحوال ذريعةً إلىٰ تحريم عمل مشروع ، كلَّلته الشريعة بأغراض سامية ، ووعدت أصحابه بجزيل الثواب إذا ما حفظوا حدوده وآدابه.. وما يقال في الزيارة يقال في التوسُّل والاستشفاع.

ومن هنا تأتي أهمية الكتابة في موضوع كهذا..

فهو موضوع تتعدَّد فيه أطراف الحوار والجدل ، بين الفعل ومشروعيته ، وبين فضائله وأهدافه وعوائده ، وبين حدود وآداب عرَّفتها الشريعة ينبغي تجديد الإرشاد إليها والتذكير بها ، وبين شبهات علقت بأذهان البعض ، لسبب أو لآخر ، فحاولوا قطع السبيل إلىٰ عمل مشروع ، وتشويه صورته ، عن خطأ في الفهم أحياناً وعن تقليد وإصرار واتّباع للهوىٰ أحياناً أخرىٰ..

وقد نهض هذا الكتاب بذلك كلِّه في أوجز عبارةٍ وأركزها..

وقد جاء في قسمين :

تناول الأول منهما مباحث الزيارة في أربعة فصول.

وتناول الثاني مباحث التوسُّل في مدخل وفصلين.

آملين أن يحقِّق أغراضه التي من أجلها كُتب.

والله من وراء القصد وهو الهادي إلىٰ سواء السبيل.

١٠

١١
١٢



الفصل الأول

الزيارة ـ مشروعيتها ـ أهدافها ـ فضيلتها

الزيارة لغةً واصطلاحاً :

الزيارة ، من الزَّور ، والزَّورُ : أعلىٰ الصدر.

وزرت فلاناً : تلقيته بِزَوري ، أي بصدري.. أو قصدتُ زَوره ، أي صدره.

وزاره يزوره زوراً ، وزيارةً ، وزوارةً : عادَه.. وزار فلانٌ فلاناً : مال إليه.

والزورة : المرة الواحدة.

ورجل زائر ، وامرأة زائرة ، من قومٍ زُوَّر ، وزوّار ، وزَوْر. والأخيرة اسم للجمع.

والزَور : الذي يزورك ، يقال : رجل زَور ، وقومٌ زَور ، وامرأة زَور ، ونساءٌ زَور ، يكون للواحد والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد لأنه مصدر.. وفي الحديث : « إنّ لِزَورِك عليك حقّاً ».

وقد تزاوروا : زار بعضهم بعضهم.

والتزوير : كرامة الزائر ، وإكرام المزور للزائر.. يقال : زوِّروا فلاناً : أي

١٣

أكرموه.. وقد زوَّر القوم صاحبهم تزويراً ، إذا أحسنوا إليه.

وأزاره : حمله علىٰ الزيارة.

واستزاره : سأله أن يزوره (١).

وتطلق الزيارة ويُراد بها ، عندما يبحث عن حكمها ، زيارة القبور غالباً.

الزيارة في التشريع :

أولاً : في القرآن الكريم :

إذا لم يرد في القرآن الكريم التصريح نصاً بالزيارة ، فقد وردت في مضامين أكثر من واحدة من آياته ، منها :

١ ـ في قوله تعالىٰ في شأن أصحاب الكهف ونزاع القوم فيهم بعد أن أماتهم الله : ( إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا ) (٢).

قال المفسرون : ذكر اتخاذ المسجد يُشعر بأنّ هؤلاء الذين غلبوا علىٰ أمرهم هم المسلمون ، وهذا يدلّ علىٰ أنّه لمّا ظهر أمرهم غلب المؤمنون بالبعث والنشور.

وهذا هو الراجح عند أهل التفسير علىٰ قول بعضهم أن الذي غلب هم أصحاب الملك ، فهم الذين يغلبون علىٰ أمر من عداهم. قالوا : الأول أولىٰ (٣). بل قال بعضهم

_________________________________

(١) مفردات القرآن / الراغب ( زور ) ، لسان العرب / ابن منظور ( زور ).

(٢) سورة الكهف : ١٨ / ٢١.

(٣) انظر : مجمع البيان / الطبرسي ٥ : ٧١٠ ، التفسير الكبير / الرازي ١١ : ١٠٦ ، فتح القدير / الشوكاني ٣ : ٢٧٧ ، الميزان / الطباطبائي ١٣ : ٢٦٧.

١٤

إنّ الملك الذي عثر عليهم كان مؤمناً (١).

وأيّاً كان القائل فالمسجد إنّما يُتّخذ ليؤتىٰ علىٰ الدوام ، ينتابه الناس ، سواء المعاصرون منهم لقصّته أو الأجيال اللاحقة.. وبهذا أصبحت مراقد أصحاب الكهف مزاراً يقصده الناس للزيارة ، بل أقاموا عليه مسجداً يذكرون اسم الله فيه.

ولعل مراقد هؤلاء الفتية المؤمنين ، أصحاب الكهف ، هي المثال الأسبق تاريخاً في ما ذكره القرآن الكريم لاحترام مراقد الأولياء وتعاهدها بالزيارة ، بل إقامة المسجد عندها كما هو صريح القرآن الكريم.

٢ ـ قوله تعالىٰ في النهي عن القيام عند قبور المنافقين ( وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ ) (٢).

لا خلاف في أنّ المراد بالصلاة هنا هو خصوص الصلاة علىٰ الميت ، يدل عليه السياق وسبب النزول ، أمّا موضع الاستدلال لدينا علىٰ المطلوب فهو قوله تعالىٰ : ( وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ ) فقد ذهب كثير من المفسرين إلىٰ أنّ المراد يتجاوز الوقوف عنده وقت الدفن ، إلىٰ عموم الأوقات.

قال البيضاوي ، والآلوسي ، والبروسوي : المراد لا تقف عند قبره للدفن أو للزيارة (٣).

فإذا كان هذا النهي قد ورد في شأن من مات علىٰ الكفر ، كما هو في ذيل الآية

_________________________________

(١) الدر المنثور ، وعنه الميزان ١٣ : ٢٨٦ في رواية قال عنها : والرواية مشهورة أوردها المفسرون في تفاسيرهم وتلقوها بالقبول.

(٢) سورة التوبة : ٩ / ٨٤.

(٣) أنوار التنزيل / البيضاوي ١ : ٤١٦ ، وروح المعاني / الآلوسي ١٠ : ١٥٥ ، روح البيان / البروسوي ٣ : ٣٧٨.

١٥

نفسها ( إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ ) ففيه دلالة واضحة علىٰ أن ذلك جائز ، بل ومعهود ، في شأن من مات علىٰ الاسلام.

إذن ففي هذه الآية أيضاً دلالة علىٰ مشروعية زيارة قبر المسلم ، بقصد الزيارة والدعاء للميت ، فهذا هو المعهود في قيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علىٰ قبر الميت بعد دفنه.

٣ ـ قوله تعالىٰ : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ) (١).

جاء في أسباب النزول أنّ الآية في صدر الحديث عن المنافقين الذين تتحدث عنهم الآيات السابقة والذين ارتضوا التحاكم إلىٰ الطاغوت فراراً من التحاكم إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلو أنّهم جاءوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأظهروا الندم علىٰ ما فعلوه ، وتابوا عنه واستغفروا منه ، واستغفر لهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتاب الله عليهم.

وقيل : إنّها نزلت في قوم من المنافقين ، قال الحسن : اثني عشر رجلاً اجتمعوا علىٰ أمر مكيدة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمَّ دخلوا عليه لذلك الغرض ، فأتاه جبريل عليه‌السلام فأخبره به ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ قوماً دخلوا يريدون أمراً لا ينالونه ، فليقوموا وليستغرفوا الله حتىٰ استغفر لهم » فلم يقوموا ، فقال : « ألا تقومون » ؟ فلم يفعلوا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « قم يا فلان ، قم يا فلان » ، حتىٰ عدّ اثني عشر رجلاً ، فقاموا وقالوا : كنّا عزمنا علىٰ ما قلت ، ونحن نتوب إلىٰ الله من ظلمنا أنفسنا ، فاستغفر لنا. فقال : « الآن أخرجوا عنّي ، أنا كنت في أول أمركم أطيب نفساً بالشفاعة ، وكان الله أسرع إلىٰ الإجابة » (٢).

_________________________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٦٤.

(٢) مجمع البيان ٣ : ١٠٥ ، تفسير الرازي ٥ : ١٦٧ ـ ١٦٨.

١٦

فهذا ما كان في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يأتيه المذنب ، فيستغفر ، ويطلب منه الاستغفار والشفاعة له ، ولما ورد فيها من تكريم خاص وإجلال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجد المسلمون استحباب العمل بها بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيأتي قبره الشريف ، ويستغفر عنده ويسأل صاحبه الشفاعة ، ذلك لأنّ إجلال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتكريمه واجب بعد موته كوجوبه في حياته ، والعمل بهذه الآية بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كالعمل بالآية القائلة : ( لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ ) (١) حيث مضت سيرة المسلمين علىٰ وجوب العمل بها عند قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والأثر في ذلك كثير ، بحيث كتبت هذه الآية علىٰ الجدار المقابل لقبر الرسول اليوم.

ومثل ذلك ورد في الأثر الكثير في العمل بالآية موضع الاستدلال عند قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في عهد الصحابة وبعده ، سنورد أمثلةً منها في المباحث اللاحقة ، ونكتفي هنا بذكر استدلال مالك بن أنس بالآية في ردِّه علىٰ أبي جعفر المنصور ، وهما عند قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد سأله أبو جعفر المنصور : أستقبل القبلة وأدعوا ، أم استقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

فقال مالك : ولِمَ تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه‌السلام إلىٰ الله تعالىٰ يوم القيامة ؟! بل استقبله واستشفع به فيشفّعه الله تعالىٰ ، قال الله تعالىٰ : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ) (٢). وفي مقدمة كلام مالك وأبي جعفر كان مالك قد

_________________________________

(١) سورة الحجرات : ٤٩ / ٢.

(٢) شفاء السقام / السبكي : ٦٩ ـ ٧٠.

١٧

استنكر علىٰ أبي جعفر رفعه صوته عند قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلاً : يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد ، فإنّ الله تعالىٰ أدّب قوماً فقال : ( لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ) ومدح قوماً فقال : ( إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ ) الآية... وذمّ قوماً فقال : ( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ ) الآية... وإنّ حرمته ميتاً كحرمته حياً.

وعلىٰ هذا قال السبكي : دلّت الآية علىٰ الحث علىٰ المجيء إلىٰ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاستغفار عنده واستغفاره لهم ، وذلك وإن كان ورد في حال الحياة ، فهي رتبة له لا تنقطع بموته ، تعظيماً له.

قال : والآية وردت في أقوام معينين في حالة الحياة ، فتعمّ بعموم العلّة كل من وجد فيه ذلك الوصف في الحياة وبعد الموت ، ولذلك فهم العلماء من الآية العموم في الحالتين ، واستحبّوا لمن أتىٰ قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتلو هذه الآية ويستغفر الله تعالىٰ.

وحكاية العتبي ـ وهو من مشايخ الشافعي ـ مشهورة ، وقد شهد أعرابياً جاء إلىٰ قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتلىٰ هذه الآية واستغفر وانصرف.. وقد حكاها المصنفون في المناسك من جميع المذاهب ، والمؤرخون ، وكلهم استحسنوها ورأوها من آداب الزائر وما ينبغي له أن يفعله (١).

ثانياً : في السنّة النبوية :

في هذا المبحث فقرتان :

الأولىٰ : في اثبات مشروعية الزيارة في السنّة النبوية.

_________________________________

(١) شفاء السقام : ٨١ ـ ٨٢.

١٨

والثانية : ممارسة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها وأحاديثه الواردة فيها. باستثناء ما جاء عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في زيارة قبره الشريف خاصة ، فقد تكفل بها الفصل الثاني من هذا الكتاب.

يلاحظ أنّ زيارة القبور بشكل عام مرّت في عهد الرسالة بثلاث مراحل (١) : مرحلة الإباحة استمراراً لما كان عليه أهل الشرائع السابقة ، كما أشارت إليه آية سورة الكهف ، وكما يثبته الحديث النبوي الآتي الذي يضع نهايةً لهذه المرحلة ، وتبتدئ المرحلة الثانية ، وهي مرحلة المنع من الزيارة ، وكان هذا المنع معلّلاً كما سيأتي في الحديث النبوي ، وأخيراً مرحلة الإباحة وتجديد العمل بها وفق الآداب التي أقرّها الإسلام.

هذا التقسيم الثلاثي يستفاد بشكل مباشر من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، ألا فزوروها ». أخرجه مسلم والترمذي والنسائي والحاكم والبغوي ، وغيرهم (٢).

وهو واضح في أنّ المسلمين كانوا يزورون القبور ، ثمَّ نهاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن زيارتها ، ثمَّ أذن لهم بعد ذلك بالزيارة.

وفي رواية ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يتضمن علّة النهي أو بعضها ، ففيها أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروها ، ولا تقولوا هُجْراً » (٣).

_________________________________

(١) علىٰ أساس ما ورد في كتب الجمهور.

(٢) صحيح مسلم ـ كتاب الجنائز ـ ٢ : ٣٦٦ / ١٠٧ ، سنن الترمذي ٣ : ٣٧٠ / ١٥٠٤ ، السنن الكبرىٰ للنسائي ١ : ٦٥٣ / ٢١٥٩ ، المستدرك ١ : ٥٣٠ / ١٣٨٥ ، مصابيح السنّة ١ : ٥٦٨ / ١٢٣٩.

(٣) المعجم الكبير / الطبراني ١١ : ٢٠٢ / ١١٦٥٣ ، والمعجم الاَوسط ٣ : ٣٤٣ / ٢٧٣٠ ، مجمع الزوائد / الهيثمي ٣ : ٥٨.

١٩

والهُجْر ـ بضم الهاء ـ الكلام القبيح الذي ينبغي هَجْره لقبحه.

قال الراغب الأصفهاني : الهُجر ، الكلام القبيح المهجور لقبحه ، وفي الحديث : « ولا تقولوا هُجْراً ».. وأهْجَر فلان ، إذا أتىٰ بهُجْرٍ من الكلام عن قصد.. وهَجَر المريض ، إذا أتىٰ ذلك من غير قصد (١).

وفي لسان العرب : الهُجْر ، القبيح من الكلام ، والهذيان.. والهُجر الاسم من الإهجار ، وهو الإفحاش ، وكذلك إذا أكثر الكلام في ما لا ينبغي.. وفي التنزيل العزيز : ( مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ ) أي تقولون القبيح. وقرئ ( تَهْجُرُونَ ) أي تهذون.

ثمَّ قال : وأمّا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّي كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروها ، ولا تقولوا هُجْراً » فإنّ أبا عبيد ذكر عن الكسائي والأصمعي أنّهما قالا : الهُجْر الإفحاش في المنطق ، والخنا.. ومعنىٰ الحديث : لا تقولوا فُحشاً (٢).

وفيه دلالة علىٰ أن الناس كانوا عند زيارة القبور يقولون ما لا ينبغي من الكلام ، فأباح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الزيارة ، وحرّم الهُجر من الكلام. يؤيده ويزيده وضوحاً وتحديداً قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروها ، ولا تقولوا ما يسخط الرب » (٣).

فهي رواية تفسّر « الهجر » بـ « ما يسخط الرب ». وقد تكون رواية بالمعنىٰ للحديث الأول نفسه. وحديث آخر في هذا السياق جاء فيه : « من أراد أن يزور قبراً

_________________________________

(١) معجم مفردات ألفاظ القرآن ( هجر ).

(٢) لسان العرب ( هجر ).

(٣) مجمع الزوائد ٣ : ٥٨ ، رجاله رجال الصحيح.

٢٠