النبي ومستقبل الدعوة

المؤلف:

مروان خليفات


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
الطبعة: ١
ISBN: 964-139-190-7
الصفحات: ٦٠
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

Description: image001

١

٢

دليل الكتاب :

مقدمة المركز ...............................................................  ٥

مقدمة المؤلّف ..............................................................  ٧

توطئة .....................................................................  ١٠

النظرية الأولى : ..........................................................  ١٢

موقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من القرآن ..........................................  ١٢

موقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من السنّة ...........................................  ١٤

مناقشة النظرية الأولى : ..................................................  ١٦

الحجة الأخيرة ..........................................................  ٢٥

النظرية الثانية : ..........................................................  ٢٩

موقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإيجابي .............................................  ٢٩

المرحلة الأولى جمع القرآن ...............................................  ٢٩

المرحلة الثانية تدوين السنة ..............................................  ٣٠

المرحلة الثالثة إعلان مرجعية آل البيت عليهم‌السلام ............................  ٣٤

حديث السفينة .........................................................  ٣٨

حديث الأمان ..........................................................  ٣٩

نصوص قرآنية ..........................................................  ٣٩

مقارنة بين النظريتين ......................................................  ٤١

النتيجة ...................................................................  ٥٣

المصادر ...................................................................  ٥٥

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة علىٰ خاتم

المرسلين محمد وآله الغرّ الميامين

من الثوابت المسلّمة في عملية البناء الحضاري القويم استنادُ الاُمّة إلىٰ قيمها السليمة ومبادئها الأصيلة ، الأمر الذي يمنحها الإرادة الصلبة والعزم الأكيد في التصدّي لمختلف التحديات والتهديدات التى تروم نخر كيانها وزلزلة وجودها عبر سلسلة من الأفكار المنحرفة والآثار الضالة باستخدام أرقىٰ وسائل التقنية الحديثة.

وإن أنصفنا المقام حقّه بعد مزيد من الدقّة والتأمّل نلحظ أن المرجعية الدينية المباركة كانت ولا زالت هي المنبع الاصيل والملاذ المطمئن لقاصدي الحقيقة ومراتبها الرفيعة ، كيف ؟! وهي التي تعكس تعاليم الدين الحنيف وقيمه المقدّسة المستقاة من مدرسة آل العصمة والطهارة عليهم‌السلامبأبهىٰ صورها وأجلىٰ مصاديقها.

هذا ، وكانت مرجعية سماحة آية الله العظمى السيّد علي السيستاني ـ مد ظله ـ هي السبّاقة دوماً في مضمار الذبّ عن حمىٰ العقيدة ومفاهيمها الرصينة ، فخطت بذلك خطوات مؤثّرة والتزمت برامج ومشاريع قطفت وستقطف أينع الثمار بحوله تعالىٰ.

ومركز الأبحاث العقائدية هو واحد من المشاريع المباركة الذي

٥

اُسس لأجل نصرة مذهب أهل البيت عليهم‌السلام وتعاليمه الرفيعة.

ولهذا المركز قسم خاص يهتم بمعتنقي مذهب أهل البيت عليهم‌السلام علىٰ مختلف الجهات ، التي منها ترجمة ما تجود به أقلامهم وأفكارهم من نتاجات وآثار ـ حيث تحكي بوضوح عظمة نعمة الولاء التي مَنّ الله سبحانه وتعالىٰ بها عليهم ـ إلىٰ مطبوعات توزع في شتىٰ أرجاء العالم.

وهذا المؤلَّف « النبي و مستقبل الدعوة » الذي يصدر ضمن « سلسلة الرحلة إلىٰ الثقلين » مصداق حي وأثر عملي بارز يؤكّد صحة هذا المدعىٰ.

علىٰ انّ الجهود مستمرة في تقديم يد العون والدعم قدر المكنة لكل معتنقي المذهب الحقّ بشتىٰ الطرق والأساليب ، مضافاً إلىٰ استقراء واستقصاء سيرة الماضين منهم والمعاصرين كي يتسنىٰ جمعها في كتاب تحت عنوان « التعريف بمعتنقي مذهب أهل البيت ».

سائلينه تبارك وتعالىٰ أن يتقبل هذا القليل

بوافر لطفه وعنايته

مركز الأبحاث العقائدية

فارس الحسون

٦



مقدّمة المؤلّف :

رحلتي

كانت انطلاقتي مع رزيّة الخميس ، وهي ليست رزيّة يوم يسمّى الخميس لان أثرها مازال للان ، ولن يزول إلىٰ أن يرث الله الأرض ومن عليها.

كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علىٰ فراش مرضه ، وفي لحظات الوداع الأخيرة يتوجّه إلى أصحابه الذين امتلأت غرفته بهم ويقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ا ئتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده ابداً » (١) ومن الذي لا يرضى بكلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ ومن لا يحب هذه الهدية من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ أنّه الأمان من الضلال والتيه ، ولكن ماذا جرى ؟ فها هي الأمة منذ ذلك اليوم تائهة ومنقسمة إلى فرق ومذاهب ، وقد صارت لعبة بيد الأعداء. فماذا حدث ياترى حتى ضلت الأمة ؟ ومن الذي حال دون كتابة ذلك الكتاب ؟

في صحيح البخاري ، تكلم عمر بن الخطاب ، فقال : « إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله » (٢) وفي رواية أخرى :

__________________

١) « صحيح البخاري » كتاب المغازي ، باب مرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووفاته.

٢) « صحيح البخاري » كتاب المرض ، باب قول المريض قوموا عني.

٧

« فقالوا : ماشأنه أهجر ؟! استفهموه فذهبوا يردون عليه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « دعوني فالذي أنا فيه خير ممّا تدعونني إليه » (١).

وهكذا ضلّت الأمة ، وبدأ الانحراف فيها من يوم الخميس ذاك حين رفض عمر وبعض الصحابة طلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وبالرغم من أنني كنت متعلقاً ببعض الشخصيات إلا أنّ هذه الحادثة أوقفتني ، وصُدمت عند ما بحثت عنها في صحيح البخاري ووجدتها وقد دفعتني لأراجع موروثاتي ، وفعلاً كان حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « ستفترق أمتي إلىٰ ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلاّ واحدة في الجنة » (٢) يدور بانتباهة عنيفة في خلدي.

وهذه الواحدة الناجية أشار لها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : « لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون » (٣).

وحين ضممت حديث « إني تارك فيكم الخليفتين من بعدي ، كتاب الله

__________________

لقد فهم عمر أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان سيكتب لهم وصية بكتاب الله وشيء آخر اقترن معه دائماً في توصياته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لهذا قال فوراً : « حسبنا كتاب الله » ومعناه يكفينا كتاب الله ولا نريد ذاك الشيء المقارن له ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرن كتاب الله مع أهل بيته دائماً ويوصي الأمة باتباعهما معاً وسيمر علينا هذا خلال البحث ، ومن أراد المزيد فليرجع إلى كتابنا : « وركبت السفينة ».

١) « صحيح البخاري » كتاب المغازي ، باب مرض النبي ووفاته.

٢) راجع الحديث مثلاً في « مستدرك الحاكم » ١ / ١٢٨ ، « مسند أحمد » ٢ / ٣٣٢.

٣) « صحيح البخاري » كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ، ح ٧٣١١.

٨

وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يتفرقا حتّى يردا عليّ الحوض » (١).

وحديث : « مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك » (٢).

انكشف لي الأمر واضحاً كالشمس. وكان لي صديقٌ متبعٌ لأهل البيت عليهم‌السلاميشعر بأمري ، وكنت قد خجلت من مواجهته ، فلي كانت معه جولات وجولات في البحث والنقاش ، وكثيراً ما أبت نفسي المعاندة الاعتراف له ، ولكن في النهاية وبعد صراع مرير مع ذاتي انضممتُ لصديقي دون أن اشعره بذلك ، وعند ما صارحته بما صرت إليه ـ وبنفس منكسرة ـ فرح ولم يبدِ أية شماتة أو سخرية كنت أتوقعهما ، وقال : لقد كنت أدعو لك في كل صلاة.

وهكذا استمرت أمطار رحمة الله بالانهمار عليّ حتى غمرتني ، وشعرت بأنني في عالم آخر ، في وسط سفينة نوح ، تلك السفينة التي مازالت تسير في أبحر الحياة محصَّنةً بالنجاة والأمان.

ومن وسط هذه السفينه اُطلُّ عليك قارىء العزيز بهذا البحث لعلنا نرى قسماً من وجه الحقيقة.

١ ـ رمضان ـ ١٤١٩ ه‍

اربد ـ الاردن

مروان خليفات

__________________

١) وهذا ما يعرف بحديث الثقلين وله ألفاظ أخرى ، سيأتي بعضها ، والرواية السابقة صححها الألباني.

٢) هذا الحديث صحيح وسيأتي في ثنايا البحث.

٩
١٠



توطئة :

لقد امتازت رسالة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن سائر الرسالات السماوية بميزات عدة.

فهي خاتمة الرسالات ، قال تعالىٰ : ( مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) (١).

وامتازت بأنّها عامة وموجَّهة لجميع الناس ، قال تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) (٢) و ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) (٣) وباقية إلىٰ يوم القيامة.

ومن الطبيعي فإنّ رسالة كهذه لا بدّ أن تنظر لها السماء نظرة خاصة ، فتُعِدُّ مشروعاً يحفظ بقاءها وسلامتها من التحريف النصّي والدلالي بعد موت صاحبها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويمكن التعرّف علىٰ طبيعة هذا المشروع الإلهي وتكوين مفرداته من خلال الرجوع إلىٰ سنة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الفعليّة والقوليّة.

لا شك أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ميت لكن رسالته باقية ، إذن فمن يديم مسيرته المباركة ؟ كيف يقيم الله حجته علىٰ الناس ويأخذ بيدهم نحو الكمال ؟

__________________

١) الليل : ١٢.

٢) الأعراف : ١٥٨.

٣) الأنبياء : ١٠٧.

١١

وبعبارة أوضح : ما هي حقيقة المشروع الالهي الذي اُعدَّ لهداية الإنسان بعد ختم النبوة ؟

ما موقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مستقبل الإسلام ؟ فهل اتَّخذ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الترتيبات اللازمة لحفظ رسالته وضمان انتشارها ؟

ما موقفه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الكتاب والسنة وهما عهد الله إلىٰ خلقه ؟

إنّ الإجابة علىٰ هذه الأسئلة وغيرها قد يكون لها تأثير كبير علىٰ حياة الانسان.

و لو عرضت هذه الأسئلة علىٰ المدارس والفرق الإسلامية لكانت أجوبتها متوافقة مع انتماءاتها المذهبيّة ، وهذه إحدىٰ مشاكلنا ، فنحن ننتمي ثم نجيب ولو علىٰ حساب الحقيقة.

ولا أطيل عليك عزيزي القارئ فقد حاولنا قدر الإمكان تجلية تلك الصورة وإبراز حقيقتها المستوحاة من القرآن الكريم والسنة الشريفة.

أجل إنّ هناك نظريات مختلفة حول موقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مستقبل دعوته ، وأشهر هذه النظريات اثنتان.

١٢



النظرية الاولىٰ :

وهذه النظرية تمثل رأي شريحة كبيرة من المسلمين وهم أهل السنة ـ أشاعرة وسلفية ـ ويتضح موقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مستقبل دعوته في الأسطر التالية.

موقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من القرآن

القرآن دستور الله ومعجزة نبيه الخالدة ، فهل جمعه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتاب خاص ليحفظه من الضياع ؟

إنّ الناظر في كتب الحديث يرىٰ أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوكل أمر القرآن إلىٰ حفظ الصحابة وجمعهم له ، فقد كان البعض يحفظ ما نزل منه ، وكان آخرون يكتبون بعض سوره في الصحف ، ولا تذكر المصادر أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اتخذ موقفاً حاسماً بشأن القرآن فقام بجمعه حسب ترتيب نزوله في كتاب خاص.

أجل ، هناك قسم من العلماء يذهب إلىٰ أنّ القرآن جُمع علىٰ عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنهم : الزرقاني ، الزركشي ، الباقلاني وغيرهم.

إلاّ أنّ هذا القول يصطدم بروايات جمع القرآن في عهد أبي بكر ، فإذا كان القرآن مجموعاً عند بعض الصحابة فلماذا يأمر أبو بكر زيد بن ثابت بجمعه ؟

١٣

أخرج البخاري عن زيد بن ثابت ، قال : « أرسل إلىٰ أبو بكر ، مقتل (١) أهل اليمامة ، فإذا عمر بن الخطاب عنده ، قال أبو بكر رضي‌الله‌عنه : إنّ عمر أتاني فقال : إنّ القتل استحرّ يوم اليمامة بقرّاء القرآن ، وإنيّ أخشىٰ أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن ، فيذهب كثير من القرآن ، وإني أرىٰ : أن تأمر بجمع القرآن.

قلت لعمر : كيف تفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!

قال عمر : هذا والله خير.

فلم يزل عمر يراجعني حتىٰ شرح الله صدري لذلك ، ورأيت في ذلك الذي رأىٰ عمر ...

قال زيد : قال أبو بكر : إنك شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتتبع القرآن فاجمعه ، فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علىٰ مما أمرني به من جمع القرآن.

قلت : كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

قال : هو والله خير.

فلم يزل أبو بكر يراجعني حتىٰ شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب ، واللخاف (٢) ، وصدور الرجال .. ، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي

__________________

١) أي : بعد مقتلهم.

٢) العسب : جمع عسيب وهو جريدة من النخل مستقيمة.

واللخاف : حجارة بيض عريضة رقاق ، واحدتها لخفة ، راجع « لسان العرب » ٩ / ١٩٧ و١٢ / ٢٦١.

١٤

خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره ! لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم ، حتىٰ خاتمة براءة .. فكانت الصحف عند أبي بكر ، حتّىٰ توفاه الله ، ثم عند عمر حياته ، ثم عند حفصة بنت عمر رضي‌الله‌عنه » (١).

إنّ المتأمل في قول أبي بكر لعمر : « كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » ، وقول زيد لهما : « كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله » يتبين له بوضوح أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يجمع القرآن وإنما جمعه زيد بن ثابت بأمر أبي بكر الذي أقنعه عمر بذلك ، وقد جمعه زيد من الصدور والسطور.

قال ابن جزي : « وكان القرآن علىٰ عهد رسول الله متفرقاً في الصحف وفي صدور الرجال » (٢).

موقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من السنة

إنّ الروايات متضاربة حول موقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من سنته ، وأشهر نص يطالعنا رواية النهي عن الكتابة :

أخرج مسلم : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « لا تكتبوا عنّي شيئاً إلاّ القرآن ، فمن كتب عني شيئاً غير القرآن فليمحه » (٣).

هذا نص عام في النهي ووردت روايات في الإذن بالكتابة للبعض كابن

__________________

١) « صحيح البخاري » كتاب فضائل القرآن ، باب جمع القرآن ٦ / ٣١٤.

إنّ هذه الرواية وروايات أُخرىٰ تدّعي أنّ القرآن قد كتب بشهادة شاهدين ، وهذه والله أكبر ضربة للقرآن ، ومعنى ذلك أنّ القرآن أخبار آحاد.

٢) « التسهيل » ١٠ / ٦.

٣) « صحيح مسلم » كتاب الزهد ، باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم.

١٥

عمر (١) وأبي شاة (٢).

وعلماء القوم مختلفون حول نسخ النهي في الحديث السابق ، فمنهم من يقول بالنسخ ، ومنهم من لا يلتزم بذلك (٣).

وبناءاً على ما سبق فإنّ موقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من سنته أنّه تركها مفرّقة في الصدور دون جمع إن لم نقل أنّه نهىٰ عن تدوينها ، وهو موقف بطبيعة الحال سلبيٌّ.

وممّا سبق يظهر لنا تأكيد أهل السنّة على أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترك القرآن مفرقاً في الصدور والسطور ولم يجمعه في كتاب واحد ، ونهىٰ عن تدوين سنته أو تركها في صدور الرجال دون جمع أيضاً.

أمّا عن الحوادث المستقبلية المستجدة التي لا حكم لها في الكتاب والسنة ، فلا نجد أيَّ نص ـ عندهم ـ يشير إلىٰ كيفية التعامل معها.

__________________

٣) راجع « مستدرك الحاكم » ١ / ١٠٥ ـ ١٠٦ ، « مسند أحمد » ٢ / ١٦٢.

٤) « صحيح البخاري » ١ / ٤٠ ـ ٤١.

٥) كالمحدث رشيد رضا حيث قال : « لو فرضنا أن بين أحاديث النهي عن الكتابة والإذن بها تعارضاً يصح أن يكون به أحدهما ناسخاً للآخر ، لكان لنا أن نستدل علىٰ كون النهي هو المتأخر بأمرين ... » راجع « المنار » ١٠ / ٧٦٦.

١٦



مناقشة النظرية الاُولىٰ :

إنّ الناظر للوهلة الاولىٰ في هذه النظرية يضع حولها مجموعة أسئلة واشكالات ، فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبعوث للعالمين ، والإسلام هو خاتم الأديان ، وظهوره علىٰ باقي الأديان أمر حتمي لا مفر منه ، قال تعالىٰ : ( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ) (١) ، والقرآن باقٍ إلىٰ يوم القيامة فهو أبدي ولكل الناس ، فكيف يترك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معجزته الخالدة في صدور صحابته وفي العسب واللخاف ؟

إنّ الصحابة راحلون عمّا قريب ، وستأتي الأجيال تترىٰ وتترىٰ ، فأين ستجد معجزة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتؤمن به ولتعمل بقرآنه ؟ هل يبحثون عنه في صدور الصحابة ؟ فالصحابة أموات ، ولا يمكن القول أنّه كان في ذهن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقوم كل جيل بنقل القرآن عن الجيل الذي سبقه مشافهةً ، إذ لا دليل علىٰ هذا ، وهو يؤدي إلىٰ ضياع القرآن واندراس آياته ، وقد وجدنا عبدالله بن مسعود ينكر المعوذتين من القرآن (٢).

ولو افترضنا بقاء أمر القرآن كما هو عليه من عدم الجمع ، لجاء التابعون وأنكروا بعض السور ، تبعاً لابن مسعود ، وهذا الانكار قد يحدث في كل

__________________

١) الفتح : ٢٨.

٢) « فتح الباري » ٨ / ٦٠٤ وصحّح ابن حجر ذلك.

١٧

جيل ، وقد يثور خلاف بين العلماء حول سور القرآن ، بعد فقدان الذوق الأدبي لدىٰ الكثير منهم وعدم الادراك الحقيقي لإعجاز القرآن البياني.

وهكذا سيكون مصير السنّة النبوية التي تبيّن مجمل القرآن وتخصّص عامه وتقيّد مطلقه ، بل إنّ أمر السنّة في هذه النظرية أخطر من القرآن ، فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تصوّرهم لم يكتفِ بعدم كتابة السنة بل نهىٰ ـ علىٰ رأي البعض منهم ـ عن تدوينها ، وعلىٰ هذا فإنّ تخطيط النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المستقبلي هو أن تروىٰ السنّة مشافهةً ولا تكتب ، ولا يمكن تصوّر هذا ، فإذا تصوّرناه في جيل التابعين وتابعي التابعين والجيل الذي بعدهم ... فكيف نتصوره الآن ؟ عمّن نأخذ السنة ؟ كم سيبلغ طول السند ؟ هل سيتصل السند بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلال هذه القرون الأربعة عشر أم لا ؟ كيف سيتم الوثوق بهذا العدد الهائل من الرواة ؟ وأيُّ كتاب سيتكفّل ببيان أحوالهم لنعرف صدقهم من كذبهم ؟ ...

وقد تأتي بعدنا أجيال وأجيال وتتضاعف المسافة بينهم وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهنا ألا تزداد المشكلة تعقيداً علىٰ تعقيد ؟! ومن المعلوم أنّ أنهار الوضع في الحديث النبوي قد فاضت في القرنين الأولين ، ولقد وصف الدارقطني هذه الحالة الرهيبة بقوله : « إنّ الحديث الصحيح في الحديث الكذب كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود » !!

وقال حماد بن زيد : « وضعت الزنادقة علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أربعة عشر ألف حديث ».

وحين أُخذ ابن أبي العوجاء الزنديق ليُضرب عنقه قال : « لقد وضعت

١٨

فيكم أربعة آلاف حديث ، أحرّم فيها الحلال وأحلل الحرام » (١).

ومع ملاحظة هذا الوضع في القرون الأولىٰ فكيف سيكون الوضع في القرون اللاحقة ؟

إنّ عدم كتابة السنّة يؤذن بضياعها وتحريفها مع مرور الزمن ، يقول ابن الصلاح : « ثمّ إنّه زال ذلك الخلاف ـ أي هل تكتب السنة أم لا ـ وأجمع المسلمون على تسويغ ذلك وإباحته ، ولولا تدوينه في الكتب لدرس في الأعصر الأخيرة » (٢).

أجل هذه هي النتيجة ، وهي توحي بأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد أخطأ ـ والعياذ بالله ـ بتركه كتابة السنّة ، وبعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أدرك العلماء والأمراء خطورة هذا النهي فخالفوه وأباحوا كتابتها.

كتب عمر بن عبد العزيز إلىٰ عامله في المدينة أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم : « أنظر ما كان من حديث رسول الله أو سنته فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء » (٣).

عجباً ، فعمر بن الخطاب يخاف من ضياع القرآن ، فيأمر أبا بكر بجمعه ، ويخاف عمر بن عبد العزيز من ضياع السنّة فيأمر بكتابتها ، فهل كان العمران أشدَّ حرصاً علىٰ الاسلام من نبي الرحمة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

لقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرأ مستقبل الإسلام لصحابته وقد كُذب عليه في حياته وتنبأ بأنه ستكثر عليه الكذّابة ، فقال : « من تعمّد عليّ كذباً فليتبوّأ

__________________

١) « لسان الميزان » ٤ / ٤٣١.

٢) « مقدمة ابن الصلاح » ٣٠٢.

٣) « تدريب الراوي » ١ / ٤٠.

١٩

مقعده من النار » (١).

فكيف لا يضع الضمانات ـ بتدوين سنته ـ لقطع الطريق علىٰ هؤلاء الكذبة ؟

يقول ابوالحسن الندوي السلفي : « ثم إنّ الحديث زاخر بالحياة ... ولم يزل باعثاً علىٰ محاربة الفساد والبدع وحسبة المجتمع ، ولم يزل يظهر بتأثيره في كل عصر وبلد من رفع راية الاصلاح والتجديد ، وحارب البدع والخرافات والعادات الجاهلية ، ودعا إلىٰ الدين الخالص والإسلام الصحيح ، لذلك كله كان الحديث من حاجات هذه الأمة الأساسية ، وكان لابدّ من تقييده وتسجيله ونشره » (٢).

إذا كان الحديث من حاجات هذه الأمة الاساسية ، وكان لابدّ من تقييده وتسجيله ونشره ، فلماذا لم يَقُمْ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتقييده وتسجيله ؟!

ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : « ألا وإني أشهد لسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إذا انقطع شسع أحدكم فلا يمش في الأخرى حتى يصلحها » (٣).

فهل يمكن أن يصدق العقل السوي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يهتم بانقطاع الشسع ويترك سنته دون تقييد وتسجيل ؟!

كان حمورابي شخصاً عادياً ، ووضع مجموعة قوانين وقبل وفاته كانت

__________________

١) « صحيح البخاري » كتاب العلم ، باب إثم من كذب علىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٢) « مع رجال الفكر والدعوة » ٧٨.

٣) « صحيح مسلم » كتاب اللباس ، باب استحباب لبس النعل في اليمنى أولاً.

٢٠