مناظرات - ج ٤

الشيخ عبد الله الحسن

مناظرات - ج ٤

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


المحقق: الشيخ عبد الله الحسن
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٤
الجزء ٣ الجزء ٤

الْعَابِدِينَ ) (١)! ولكنَّه سبحانه أخبرنا أنه لم يتّخذ صاحبة ولا ولداً.

فالمسألة إذن ، ثبوت مبدأ التوسُّل في الإسلام في حدوده التي أمر بها الله تعالى أو سمح بها ، وهو يختلف عن زعم التوسُّل عند المشركين ، سواء في طبيعته أم في نيّته ، فهل تقبل أصل مبدأ التوسّل عند المشركين ، سواء في طبيعته أم في نيّته ، فهل تقبل أصل مبدأ التوسُّل والاستشفاع الذي قبله إمامك ابن تيمية؟ أم أنك أشدُّ في هذا الأمر من إمامك؟!

صارم : قلت عن التوسُّل : ( ثبوت مبدأ التوسُّل في الإسلام في حدوده التي أمر بها الله تعالى أو سمح بها ) هل لي أن أعرف هذه الحدود التي أمر أو سمح بها؟ أرجو أن تجيبني باختصار ، وفي حدود السؤال ، هديت للصواب.

العاملي : الظاهر أن السبب فيما أثاره بعضهم إشكالا على مبدأ التوسُّل ، أنهم يرون الشفاعات والوساطات والمحسوبيَّات السيئة عند الرؤساء والمسؤولين في دار الدنيا ، وما فيها من محاباة وإعطاء بغير حقّ ولا جهد من المشفوع لهم أو المتوسَّط لهم ، وبما أن الله تعالى يستحيل عليه أن يحابي كما يحابي حكَّام الدنيا ، وإنَّما يعطي جنَّته وثوابه بالإيمان والعمل الصالح .. فلذلك صعب علهيم قبول الشفاعة والوساطة والوسيلة إلى الله تعالى ، ولكنَّه فات هؤلاء أن الحكمة من جعله تعالى الأنبياء والأوصياء الوسيلة إليه تعالى :

أوَّلا : أن يعالج مشكلة التكبُّر في البشر ; لأن البشر لا يمكنهم الانتصار على تكبُّرهم والخضوع لعبوديَّة الله تعالى إلاَّ إذا انتصروا على ذاتيّتهم في مقابل الأنبياء والأوصياء ، واعترفوا لهم بالفضل والمكانة المميَّزة والاختيار الإلهيّ ،

__________________

١ ـ سورة الزخرف ، الآية : ٨١.

٢٨١

وأنّهم المبلِّغون عن الله تعالى .. وفاتهم أن جعل الأنبياء والأوصياء وسيلة إلى الله تعالى ضرورة ذهنيّة للبشر ، ذلك أن الفاصلة بين ذهن الإنسان المحدود الميَّال إلى الماديّة والمحدوديّة ، وبين التوحيد المطلق المطلوب والضروريّ ، فاصلة كبيرة ، فهي تحتاج إلى نموذج ذهنيٍّ حاضر من نوع الإنسان ، يمارس التوحيد أمامه ، ويكون قدوة له.

وبدون هذا النموذج القدوة ، يبقى الإنسان في معرض الجنوح في تصوُّره للتوحيد وممارسته ، والجنوح في هذا الموضوع الخطير أخطر أنواع جنوح الضلال ، وهذا هو السبب ـ في اعتقادي ـ في أن الله تعالى جعل أنبياءه وأوصياءهم عليهم‌السلام حججاً على العباد ، وهو السبب في أنه جعلهم من نوع أنفسهم ، وليس من نوع آخر كالملائكة مثلا.

والنتيجة : أن وجود الوسيلة بين العباد والله تعالى لو كان يرجع إلينا لصحَّ لنا أن نقول : يا ربَّنا! نريد أن تجعل ارتباطنا بك مباشراً ، ولا تجعل بيننا وبينك واسطة في شيء ، وهذا ما يميل إليه أهل الإشكال على الشفاعة والتوسّل! ولكن الأمر ليس بيدنا ، فالأفضل أن يكون منطقنا أرقى من ذلك ، فنقول : اللّهم لا نقترح عليك ، فأنت أعلم بما يصلحنا ، وإن أردت أن تجعل أنبياءك وأوصياءك واسطة بيننا وبينك ، وحججاً علينا عندك ، فنحن مطيعون لك ولهم ، ولا اعتراض عندنا.

وهذا هو التسليم المطلق لإرادته تعالى ، وقد عبَّر عنه سبحانه بقوله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سورة الزخرف : ( قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ).

صارم : كلامك طويل ، وفيه نسبة من الصحّة ، إضافة إلى بعض الشبه التي تحتاج إلى ردّ ، فلو كان مقالك قصيراً لرددت على كل نقطة تذكرها وتخالف ما أعتقده ، لذا أرجو مرَّة أخرى أن يكون جوابك مختصراً دقيقاً ، وعموماً فأجيبك

٢٨٢

باختصار :

الآيات التي استدللت بها في الأمر بطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليك لا لك ; لأنَّه أمرنا بالتوحيد الخالص النقيِّ من شوائب الشرك ، ومن طاعته تنقية التوحيد مما يفضي إلى الشرك ، أعاذنا الله وإيَّاك من مضلاَّت الفتن.

ثمَّ إنك استدللت في الاستشفاع بدعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأعمى (١) ، وهذا لا إشكال فيه ; لأنه طلب من حيٍّ فيما يستطيعه ، لذا لجأ عمر إلى عمِّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولو كان الاستشفاع فيما ذكرته صحيحاً للجأ الناس إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو في قبره ، وهذا ما لم يحصل إطلاقاً (٢) ، وأعود وأسأل مرَّة أخرى : ما الذي يستطيع عمله الميِّت حينما تستشفع به؟

العاملي : من أسباب الخطأ عند المخالف للتوسُّل : أنه يتصوَّر أن المتوسِّل يطلب من النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو من الولي .. بينما هو يطلب من الله تعالى ، ويتوسَّل إليه بمقام النبيِّ ، أو يطلب من النبيِّ التوسُّط له عند الله تعالى ، فلا طلب إلاَّ من الله تعالى.

وأمَّا شبهة أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ميِّتٌ فكيف تصحُّ مخاطبته؟ فجوابها : أنه حيٌّ عند ربِّه ، ولذلك تسلِّم عليه في صلاتك : ( السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ) ، وإذا قبلت حديث تعليم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأعمى أن يتوسَّل به ، فقد صحَّ عندكم أن عثمان بن حنيف طبَّقه بعد وفاة النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلَّمه لشخص كان عنده

__________________

١ ـ راجع : سنن الترمذي : ٥ / ٢٢٩ ح ٣٦٤٩ ، المستدرك ، الحاكم : ١ / ٣١٣ ، وسوف يأتي الحديث أيضاً في مناظرة الدكتور التيجاني مع بعض السلفيين في التوسل.

٢ ـ راجع تعليقتنا على هذه الدعوى الكاذبة في آخر المناظرة ، تحت عنوان : الردّ الصارم على مزاعم صارم.

٢٨٣

مشكلة عند الخليفة عثمان ، فاستجاب الله له ، وتغيَّرت معاملة عثمان معه ، وتطبيق الصحابي الثقة حجَّة ; لأنه معاصر للنصّ.

وقد أجاز ابن تيمية التوسُّل بالنبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد موته ، فلا تكن ملكياً أكثر من الملك! بل ورد عندكم التوسُّل إلى الله تعالى بالممشى إلى الصلاة والحجِّ ( أتوسَّل إليك بممشاي )!

صارم : قلت لك : نحن نحرِّم شدَّ الرحال إلى زيارة القبور منعاً لجناب التوحيد أن تشوبه شوائب الشرك ، ثمَّ سألتك : لم تشدّون الرحال؟ فقلت : للاستشفاع!! فإن أردت أن تجيبني على قدر السؤال فهذا سؤالي : لماذا تستشفعون بالأموات؟ وكيف؟

العاملي : إلى الآن ما زلت تتصوَّر أن الزيارة لابدَّ أن يرافقها استشفاع ، فمن أين جئت بهذا؟! فقد يزور مسلم نبيَّه ويؤدّي واجب احترامه ولا يتوسَّل ولا يستشفع به ، وقد يتوسَّل المسلم بنبيِّه في بيته ولا يذهب لزيارته ، فالزيارة شيء ، والتوسُّل شيء آخر ، وإلى الآن تتصوّر أن شدَّ الرحال لا يكون إلاّ للاستشفاع! مع أن شدَّ الرحال قد يكون للزيارة وحدها ، أو مع نيّة الاستشفاع والتوسل ، وقد أجبتك بأن النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيٌّ عند ربِّه ، وأنك تسلِّم عليه في صلاتك ، فلا مانع أن يخاطبه المتوسِّل ، على أن المتوسِّل لا يطلب من النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل من الله ، ولا يحتاج إلى مخاطبة النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل يخاطب ربَّه ، ويسأله بحقِّ رسوله ومقامه ومعزَّته عنده ، وقلت لك : لقد أجاز ابن تيمية التوسُّل والاستشفاع بالنبيِّ حتى لو كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ميِّتاً ، فهل تريد نصَّ كلامه؟ وتعود وتسألني : لماذا تشدّون الرحال للاستشفاع ، ولماذا تستشفعون بالميِّت؟ أرجو أن تتأمَّل في كلامي أكثر.

صارم : لقد تأمَّلت في كلامك جيّداً ، إلى أن قال : وسؤالي : كيف يتوسَّل

٢٨٤

به؟ وسؤالي الثاني : كيف يستشفع به؟ هل أجد عندك إجابة مختصرة في حدود السؤالين السابقين؟

العاملي : توسَّل به إلى الله ، واستشفع به ، وتوجَّه به ، وسأله به ، واستغاث به ، وأقسم عليه به .. كلّها بمعنى واحد ، أي توسَّط به إلى الله تعالى ، ومعنى توسُّلنا واستشفاعنا بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أننا نقول : اللهم إن كنت أنا غير مرضيٍّ عندك ، ولا تسمع دعائي بسبب ذنوبي ، فإني أسألك بحرمة عبدك ورسولك محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الذي هو نبيّي ومبلِّغي أحكامك ، وخير خلقك ، وصاحب المقام الأوَّل عندك .. أن تقبل دعائي وتستجيبه.

وهذا يا أخ .. أمر طبيعيٌّ صحيح ، ليس فيه عبادة للنبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا ادّعاء شراكة له مع الله تعالى ، بل فيه تأكيد لمقام عبوديّته وإطاعته لربِّه ، الذي وصل به إلى مقامه المحمود عند الله تعالى ، وهو مشروع لورود النصّ به.

صارم : أعوذ بالله من غضب الله ، ما هذه الجرأة على الله؟ كيف تقول : ( ولا تسمع دعائي بسبب ذنوبي )؟! هل تعتقد أن الله لا يسمع نعوذ بالله من الخذلان ، هل تعتقد أن الله يخفى عليه شيء في الأرض وفي السماء؟ سبحانك! هذا بهتان عظيم ، أفق يا رجل! فوالله إن الذي قلته ليزلزل الجبال ، هداك الله ، أرجو أن تستغفر الله بلا واسطة عن هذا الذنب العظيم ، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله.

العاملي : عبارة : ( إن كنت لا تسمع دعائي بسبب ذنوبي ) تعني لا تستجيب .. وسماع الدعاء بمعنى استجابته عربيٌّ فصيح أيُّها العربي!!

صارم : هل لك أن تدلَّني على أن السماع بمعنى الاستجابة من لغة العرب ، وقبل ذلك القرآن؟

العاملي : يستحبُّ للمصلّي أن يقول : سمع الله لمن حمده ، ومعناها

٢٨٥

استجاب ، وليس مجرَّد السماع ، ويكفي استعمالها عند العرب بقولهم : هل يسمع فلان منك أم لا؟ وهو ليس سؤالا عن حالة أذنيه وطرشه!!

وفي سنن النسائي : ٨ / ٢٦٣ : عن أبي هريرة يقول : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : اللهم إني أعوذ بك من الأربع : من علم لا ينفع ، ومن قلب لا يخشع ، ومن نفس لا تشبع ، ومن دعاء لا يسمع. انتهى.

وفي هذا كفاية ، فأجب على ما ذكرته في موضوعنا.

صارم : أشكرك على إحالتك وبيانك ، وسؤالي ـ وأرجو ألا تتذمَّر : لم تلجأون إلى الواسطة بينكم وبين الله؟ ألم يخلقنا؟ ألم يرزقنا؟ أليس سبحانه هو المتكفِّل بنا؟ ألم يقل لنا : ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) (١) بلا واسطة؟ ألا تعلم أن العبد أقرب ما يكون من ربِّه وهو ساجد؟ ألا تعلم أن كل وازرة لا تزر وزر أخرى؟ ألا تعلم أن الإنسان مهما بلغ من الكمال فهو عبد ضعيف مربوب لله تعالى ، لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً؟ فأيُّ فرق بيننا وبين الأموات؟ وقد ذكرت لك أن عمر استشفع بعمِّ النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يلجأ إلى قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم! فلم لم يفعل ذلك؟ أتراه غفل عما تدعون إليه؟! نعم للإنسان أن يطلب من آخر حيٍّ أن يدعو له ، أمَّا من الميِّت فإن الميِّت لا حول له ولا قوَّة!! ولو كان بيده شيء لدفع الموت عن نفسه ، وسؤالي مرَّة أخرى : لم تجعلون الميِّت واسطة؟

العاملي : حسب فهمنا المحدود ، وإدراك عقولنا القاصرة ، الأمر كما تقول ، فالإنسان يعبد الله تعالى مباشرة ، فينبغي أن يطلب منه مباشرة ، والله تعالى سميع بصير عليم ، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد ، فلا يحتاج إلى واسطة من شخص

__________________

١ ـ سورة غافر ، الآية : ٦٠.

٢٨٦

حيٍّ ولا ميِّت ، ولا أيِّ مخلوق .. هذا حسب إدراك عقولنا ، ولكنَّه سبحانه بنى هذا الكون ، وخلق الإنسان ، وأقام حياته في الأرض على أساس الأسباب والمسبَّبات في أمور الطبيعة ، وأخبرنا أن عبادته والطلب منه لها أصول وأسباب ، وأن علينا أن نتعامل معه حسب هذه الأصول.

مثلا : لماذا يجب الإيمان بالرسول؟ فإذا أردنا أن ننفي الواسطة نقول : إن المطلوب هو الإيمان بالله وحده ، والرسول مبلِّغ ، وقد بلَّغ ذلك وانتهى الأمر ، فلماذا نجعل الإيمان به مقروناً بالإيمان بالله تعالى؟! لماذا قال الله تعالى : ( أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ) (١) ، ولم يقل : أطيعوني فقط كما بلَّغكم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟!! وهذا المثل قد يكون صعباً.

مثال آخر : الكعبة .. لماذا أمر الله تعالى ببناء غرفة ، وقال توجَّهوا إليها ، وحجُّوا إليها ، وتمسَّحوا بها؟ هل يفرق عليه في عبادتنا له أن نصلّي له إلى هذه الجهة أو تلك؟ أو تحجّ تلك المنطقة أو لا تحجّ؟ فلماذا جعلها واسطة بيننا وبينه؟! بل .. إن الصلاة أيضاً نوع من التوسُّل ، وقد يسأل إنسان : هل تحتاج عبادة الله إلى صلاة له؟ بل إن الدعاء أيضاً توسُّل ، فالله تعالى مطّلع على الضمائر والحاجات ، فلماذا يطلب أن نقول له؟ بل يمكن لهذا التفكير العقلي أن يوصل الإنسان إلى القول : لماذا خلق الله الإنسان بحيث تكون له حاجات ، وقال له ادعني حتى أستجيب لك؟

إنّا جميعاً ـ يا صارم ـ أفكار العقل القاصر أمام حكمة الله تعالى ، وحكمته تعرف بالشرع والعقل معاً ، وليس بظنون العقل واحتمالاته!! وما دام مبدأ التوسُّل

__________________

١ ـ سورة النساء ، الآية : ٥٩.

٢٨٧

ثبت في الشرع ، فإن العقل لا يعترض عليه ، بل هو ( العقنقل ) كما عبَّر عنه بعضهم ، والتوسُّل بالنبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثابت في حياته وبعد موته بدون فرق ; لأنه حيٌّ عند ربِّه ، وحياته أقوى من حياة أحدنا ، وقد قلت لك إن التوسُّل لا يحتاج إلى مخاطبة ، فهو سؤال لله تعالى بمقام النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجهاده في سبيله وشفاعته عنده ، وأخبرتك أن ابن تيمية أجاز التوسُّل بالأموات ، ولعلّه حصره بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

صارم : أولا : أوافقك القول على أن العقل قاصر ، وهذا لا مرية فيه ، أمَّا تمثيلك بالكعبة فقياس مع الفارق ; لوجود الدليل الذي أمرنا الله من خلاله أن نتوجَّه إلى الكعبة ; إذ الكعبة ليست واسطة ، ولك أن تتصوَّر أن شخصاً يتحدَّث معك وقد التفت عنك وأعطاك ظهره! هل تقبل عليه وتتحدَّث معه؟

وكذلك وضعت الكعبة ليتَّجه إليها المسلمون جميعاً في صلاتهم ، لا أنها واسطة ... إلى غير ذلك من الحكم.

ثانياً : قلت : إن ابن تيميّة أجاز التوسُّل بالأموات ، ولعلَّه حصره بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كلامك متناقض ، كيف تقول : أجاز ، ثمَّ ترجع وتقول : لعلّه؟! هذا لا يستقيم ، فإمَّا أنه أجاز التوسُّل بالأموات ، وهذا محال ، أو أنه أجاز التوسُّل بالنبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فهل لك أن تدلَّني على كلام شيخ الإسلام في التوسُّل بالنبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مع ذكر المرجع؟

ثالثاً : أريد الدليل من القرآن ـ ومن القرآن ـ على قولك ، راجياً الاختصار ما أمكن ، وشكراً لك.

العاملي : قال ابن تيمية في رسالة لشيخ الإسلام من سجنه ص ١٦ : وكذلك مما يشرع التوسُّل به في الدعاء ، كما في الحديث الذي رواه الترمذي وصحَّحه (١) : أن النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علَّم شخصاً أن يقول : اللهم إني أسألك وأتوسَّل إليك

__________________

١ ـ سنن الترمذي : ٥ / ٢٢٩ ح ٣٦٤٩.

٢٨٨

بنبيِّك محمَّد نبيِّ الرحمة ، يا محمَّد! يا رسول الله! إني أتوسَّل بك إلى ربّي في حاجتي ليقضيها ، اللهم فشفِّعه فيَّ ، فهذا التوسّل به حسن ، وأمَّا دعاؤه والاستغاثة به فحرام! والفرق بين هذين متفق عليه بين المسلمين.

المتوسِّل إنما يدعو الله ويخاطبه ويطلب منه ، لا يدعو غيره إلاَّ على سبيل استحضاره ، لا على سبيل الطلب منه ، وأمَّا الداعي والمستغيث فهو الذي يسأل المدعوَّ ويطلب منه ، ويستغيثه ويتوكَّل عليه. انتهى.

فقد أفتى ابن تيميَّة بجواز العمل بحديث الضرير ، وفيه خطاب للنبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو ميِّت! ولاحظ ـ يا صارم ـ أن الميزان عند ابن تيميّة أن تطلب من الله أو من المتوسَّل به ، وهذا هو كلام علماء المسلمين كلّهم ، وتفريقه بين المتوسِّل والداعي والمستغيث غير صحيح ; لأنه لا يوجد مسلم يدعو النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويطلب منه من دون الله ، أو يستغيث به من دون الله!!

وأزيدك حديثاً آخر صحَّحه الطبراني ، يفسِّر حديث الضرير ، قال في المعجم الكبير : ج ٩ ص ٣١ : عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ، عن عمِّه عثمان بن حنيف : أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له ، فكان عثمان لا يلتفت إليه ، ولا ينظر في حاجته ، فلقي عثمان بن حنيف فشكا إليه ذلك ، فقال له عثمان بن حنيف : ائت الميضأة فتوضَّأ ، ثمَّ ائت المسجد فصلِّ فيه ركعتين ، ثمَّ قل : اللهم إني أسألك وأتوجَّه إليك بنبيِّك محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبيِّ الرحمة ، يا محمّد! إني أتوجَّه بك إلى ربّي فتقضي لي حاجتي ، وتذكر حاجتك ، ورح إليَّ حتى أروح معك.

فانطلق الرجل فصنع ما قال له ، ثمَّ أتى باب عثمان بن عفان ، فجاء البواب حتى أخذ بيده ، فأدخله على عثمان بن عفان ، فأجلسه معه على الطنفسة ، وقال

٢٨٩

له : ما حاجتك؟ فذكر حاجته ، فقضاها له ، ثمَّ قال : ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة ، وقال : ما كانت لك من حاجة فائتنا ، ثمَّ إن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له : جزاك الله خيراً ، ما كان ينظر في حاجتي ، ولا يلتفت إليَّ حتى كلَّمته فيَّ!

فقال عثمان بن حنيف : والله ما كلَّمته ، ولكن شهدت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأتاه رجل ضرير فشكا إليه ذهاب بصره ، فقال له النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أو تصبر؟ فقال : يا رسول الله! إنه ليس لي قائد ، وقد شقَّ علي ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ائت الميضأة فتوضَّأ ، ثمَّ صلِّ ركعتين ، ثمَّ ادع بهذه الدعوات.

قال عثمان بن حنيف : فوالله ما تفرَّقنا ، وطال بنا الحديث ، حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضرّ قط!

صارم : إليك الجواب عمَّا أثرته ـ وأعتذر عن الإطالة ـ :

أوّلا : لم تحلني على مرجع ، وقولك : قال ابن تيمية في رسالة لشيخ الإسلام من سجنه ص ١٦ ، أتعدّ هذا إحالة؟! ما رأيك لو قلت لك : قال صاحب الكافي في رسالة له ، أتقبل ذلك مني؟!

ثانياً : إمَّا أنك لا تجيد النقل وتأخذ ما يوافق هواك ، وأعيذك بالله أن تكون كذلك ، وإمَّا أنك أسأت فهم كلام ابن تيمية ، أو نقلت شبهة كان يريد الردَّ عليها ; لأن أقواله في هذه المسألة ـ التوسُّل بالنبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ مشهورة مبثوثة في ثنايا كتبه.

ثالثاً : قلت ـ يا عاملي ـ : فقد أفتى ابن تيمية بجواز العمل بحديث الضرير ، وفيه خطاب للنبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو ميِّت! ولا أدري من أين استنبطت قولك : وهو ميِّت؟!

رابعاً : قلت : لا يوجد مسلم يدعو النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويطلب منه من دون الله ، أو

٢٩٠

يستغيث به من دون الله!! فبالله عليك ، لم يشدُّ الناس رحالهم إلى القبور؟ إن قلت : من أجل الدعاء عندها دون أن يكون للميِّت تأثير ، قلنا لك : فلا فائدة من شدِّ الرحال ، والإجابة حاصلة في مكانك الذي أنت فيه ، دون أن تشدَّ الرحل ، وإن قلت : إن للميِّت تأثيراً ، أو من أجل حصول البركة ، قلنا : كيف يؤثِّر وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً؟ ومن هنا جاء النهي عن شدِّ الرحال للقبور ، منعاً لجناب التوحيد من شوائب الشرك.

ولو تنزَّلنا معك ، ووافقناك في قولك : أنا لا أستغيث بها ، قلنا لك : لكن عوام الناس ممَّن لا فقه عنده سيظنُّ أن للميِّت تأثيراً ، وإلاّ لما شدَّت إليه الرحال ، فيلجأ في دعائه إلى الميِّت ، وهذا ما يحصل عند غالب القبوريّين ، فلمَّا كانت هنالك مفسدة مترتِّبة على ذلك وقع النهي.

خامساً : أمَّا حديث الطبراني فيحتاج إلى مراجعة ، فلم يستعفني الوقت للوقوف عليه وعلى صحّته آمل أن تتأمَّل جوابي جيّداً ليتضح لك الحقّ بإذن الله.

العاملي : أرجو أن تصحِّح ما هو المركوز في ذهنك من أن الزيارة تلازم التوسُّل والاستغاثة ، وأن شدَّ الرحال يكون للاستغاثة ، فلا تلازم بينها أبداً ، وإذا أكملنا البحث في التوسُّل آتي لك بنصوص الزيارة بلا توسُّل ، وهذا اليوم قرأت لإمامك ابن تيمية مجدَّداً كل مقولاته حول التوسُّل ، وعن حديث عثمان بن حنيف عن الضرير ، وعن حديث عثمان بن حنيف الآخر الذي صحَّحه الطبراني .. فقد تعرَّض لذلك في كتبه وكتيِّباته التالية : العبادات عند القبور ، وزيارة القبور ، والتوسُّل والوسيلة ، واقتضاء الصراط المستقيم ، ورسالة من سجنه ، وخلاصة رأيه أنه يفسِّر حديث الأعمى بأنَّه توسُّل بدعاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا بذاته ، ويحصره في حياته لا بعد مماته.

٢٩١

قال في التوسُّل والوسيلة ص ٢٦٥ : وفي الجملة فقد نقل عن بعض السلف والعلماء السؤال به ، بخلاف دعاء الموتى والغائبين من الأنبياء والملائكة والصالحين ، والاستغاثة بهم ، والشكوى إليهم ، فهذا مما لم يفعله أحد من السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، ولا رخَّص فيه أحد من أئمّة المسلمين. وحديث الأعمى الذي رواه الترمذي هو من القسم الثاني من التوسُّل بدعائه.

وقال في ص ٢٦٨ : وفيه قصة قد يحتجّ بها من توسَّل به بعد موته إن كانت صحيحة ، رواه من حديث إسماعيل ابن شبيب بن سعيد الحبطي ، عن شبيب بن سعيد ، عن روح بن القاسم ، عن أبي جعفر المديني ، عن أبي أمامة سهل بن حنيف : أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له ، وكان عثمان لا يلتفت إليه ، ولا ينظر في حاجته ، فلقي الرجل عثمان بن حنيف فشكا إليه ذلك ، فقال له عثمان ابن حنيف : ائت الميضأة فتوضَّأ ، ثمَّ ائت المسجد فصلِّ ركعتين ، ثمَّ قل : اللهم إني أسألك وأتوجَّه إليك بنبيِّنا محمَّد نبيِّ الرحمة ، يا محمّد! إني أتوجَّه بك إلى ربي ... إلخ.

قال البيهقي : ورواه أحمد بن شبيب بن سعيد عن أبيه بطوله ، وساقه من رواية يعقوب بن سفيان عن أحمد بن شبيب بن سعيد ، قال : ورواه أيضاً هشام الدستوائي عن أبي جعفر ... إلخ (١). انتهى.

ثمَّ ناقش ابن تيمية في سند الحديث ، ولم يفتِ بالتوسُّل بالنبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد وفاته .. إلخ.

وقال ـ يعني ابن تيمية ـ في ص ٢٧٦ : وأمَّا حقوق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بأبي

__________________

١ ـ راجع : المعجم الكبير ، الطبراني : ٩ / ٣١ ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : ٢ / ٢٧٩.

٢٩٢

هو وأمي ـ مثل تقديم محبّته على النفس والأهل والمال ، وتعزيره وتوقيره وإجلاله ، وطاعته واتّباع سنته ، وغير ذلك ، فعظيمة جداً ، وكذلك مما يشرع التوسُّل به في الدعاء ، كما في الحديث الذي رواه الترمذي وصحَّحه : أن النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علَّم شخصاً أن يقول : اللهم إني أسألك وأتوسَّل إليك بنبيِّك محمَّد نبيِّ الرحمة ، يا محمّد! يا رسول الله! إني أتوسّل بك إلى ربّي في حاجتي ليقضيها ، اللهم فشفِّعه فيَّ. فهذا التوسُّل به حسن.

وأمَّا دعاؤه والاستغاثة به فحرام ، والفرق بين هذين متفق عليه بين المسلمين المتوسِّل إنّما يدعو الله ويخاطبه ويطلب منه ، لا يدعو غيره إلاَّ على سبيل استحضاره ، لا على سبيل الطلب منه ، وأمَّا الداعي والمستغيث فهو الذي يسأل المدعوَّ ويطلب منه ، ويستغيثه ويتوكَّل عليه ، والله هو ربُّ العالمين. انتهى.

وأنت تلاحظ أنه عبَّر هنا بالتوسُّل به ، وليس بدعائه ، كما أنه لم يخصِّصه بحال حياته ، بل ذكر ذلك من حقوقه والاعتقاد به فعلا!!

العاملي : لقد تشعَّب الموضوع بمداخلات الآخرين ... وقد سألتك عن شدِّ الرحال لأثبت لك تناقض فتاوى ابن تيمية فيها ، وسأترك مطالبتك بالجواب فعلا ، وأجيبك عن التوسُّل والاستشفاع ، ومعناهما عندنا وعندكم واحد ، فالتوسُّل الجائز عند إمامكم هو التوسُّل بدعاء النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته فقط ، ومعناه أنه الآن لا يجوز حتى بدعائه ، كما لا تجوز مخاطبته ; لأنه ميِّت.

أمَّا عندنا فالتوسُّل جائز ومستحب بالنبيِّ وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بذاته الشريفة ، وكل صفاته الربَّانية ، ومقامه المحمود ، وكذا مخاطبته والطلب منه أن يدعو ربَّه ، أو يشفع إلى ربِّه في الحاجة أو الجنّة ... كل ذلك جائز ، وبعضه مستحب ، ولا فرق عندنا في ذلك بين حياته وبعد وفاته ; لأنه حيٌّ عند ربِّه ، يسمع كلامنا بإذن ربِّه ،

٢٩٣

إلاَّ أن يحجب الله كلام من لا يحبُّه عنه.

وهذا التوسُّل ليس فيه أيُّ شائبة شرك ; لأنَّا نعتقد أنه عبد الله ورسوله ، ليس له من الأمر شيء إلاَّ ما أعطاه الله ، ولا يملك شياً من دون الله ، بل كل ما يملكه فهو من الله تعالى ، وطلبنا منه وتوسُّلنا به ليس دعاء له من دون الله ، بل هو دعاء الله وطلب من الله وحده ، والطلب من الرسول أن يكون واسطة وشفيعاً إلى ربِّه.

ودليلنا على ذلك : الآيات والأحاديث الصحيحة التي أجازته وحثَّت عليه .. وقد أشرت لك إلى أننا لم نخترع ذلك من عندنا ، ولا عندنا هواية لأن نضمَّ إلى الطلب من الله مباشرة الطلب منه تعالى بواسطة ، ولا الأمر إلينا حتى نختار هذا الأسلوب في دعائنا وعبادتنا أو ذاك ... بل الأمر كلُّه له عزَّ وجلَّ ، وقد قال لنا : ( اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ ) (١) ، وقال : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ) (٢) ، وقال : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ) (٣) ، وقال عن أبناء يعقوب : ( يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ) (٤) ، كما روينا ورويتم الأحاديث الصحيحة الدالّة في رأي علماء المذاهب ومذهبنا.

فهل إشكالكم علينا لأنا نطيع ربَّنا ، ونتّبع الواسطة والوسيلة التي أمرنا بها ، ولا نتفلسف عليه ونقول له : نريد أن ندعوك مباشرة ، فلا تجعل بيننا وبينك واسطة؟! لقد أمر عزَّ وجلَّ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكون موحِّداً بلا شروط ، ويطيعه

__________________

١ ـ سورة المائدة ، الآية : ٣٥.

٢ ـ سورة الإسراء ، الآية : ٥٧.

٣ ـ سورة النساء ، الآية : ٦٤.

٤ ـ سورة يوسف ، الآية : ٩٧.

٢٩٤

مهما أمره حتى لو قال له : لقد اتَّخدت ولداً لي فاعبده!!

( قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ) (١).

ولكنه سبحانه أخبرنا أنه لم يتّخذ صاحبة ولا ولداً ، لكن أخبرنا أنه جعل رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآله شفعاء إليه ، وأمرنا أن نتوسَّل بهم ونستشفع بهم في الدنيا والآخرة.

أمَّا نسبتي إلى ابن تيمية تجويز التوسُّل في سجنه ، فلم تكن افتراء والعياذ بالله ، بل اعتمدت على عبارته المتقدِّمة في سجنه ، وكذلك اعتمد عليها السبكي في كتابه ( شفاء السقام في زيارة خير الأنام ) ، وأبو حامد المرزوق في كتابه ( التوسل بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجهلة الوهابية ) .. وغيرهما كثير ، وذكر عنه ابن كثير أصرح منهما ، ولا أقول إن هؤلاء العلماء قد افتروا عليه ، فهم من أهل البحث والدقّة .. ولكنّهم اعتمدوا على تلك العبارات المجملة التي كتبها! ونحن الشيعة حسَّاسون من كل ما يكتب بالإكراه أو شبه الإكراه ، ولا نقول بصحّة نسبة الرأي الصادر من صاحبه في ظروف الإكراه وشبهه .. ونفتي ببطلان البيع المكره عليه ، وكذا البيعة.

لذلك بعد قراءتي الشاملة لما كتبه في الموضوع قلت : إن ابن تيمية لم يجوِّز التوسُّل ، رغم عبارته المذكورة. ولكني لا أوافقه على رأيه ; لأن دليل علماء المذاهب أقوى من دليله .. ثمَّ دليلنا في اعتقادي أقوى من أدلّة علماء المذاهب .. وشكراً.

صارم : سؤالي : لماذا تشدُّ الرحال إلى القبور؟ فأجبت للاستشفاع! لماذا

__________________

١ ـ سورة الزخرف ، الآية : ٨١.

٢٩٥

تستشفع بهم؟ فأجبت لأن لي ذنوباً!! ما الذي يعمله الميِّت لك أرجو أن تجيب بصراحة عن هذا السؤال وبلا إطالة.

العاملي : كان سؤالك : لماذا تشدُّ الرحال إلى القبور؟ وجوابه : أننا نشدُّ الرحال لزيارة من ثبت عندنا استحباب زيارته كالنبيِّ وأهل بيته صلَّى الله عليه وعليهم .. فالغرض لنا ولكل المسلمين من شدِّ الرحال والسفر هو الزيارة ، وقد لا يعرف بعضهم الاستشفاع أبداً ، بل يقول : أنا ذاهب لزيارة النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد يستشفع بهم الزائر وقد لا يستشفع ، بل يسلِّم عليه ويصلّي عنده ويدعو الله تعالى بدون استشفاع.

وسألتني : لماذا تستشفع بهم؟ فضربت لك مثلا في طلب شفاعتهم بالمغفرة ، وأضيف هنا : أن النبيَّ صلوات الله عليه وآله له مقام عظيم ، أكرمه به ربُّه في الدنيا والآخرة ، ومن إكرامه له أن المسلم إذا طلب من ربِّه حاجة مستشفعاً به ، وكانت مستجمعة للشروط الأخرى قضاها له.

فالتوسّل والاستشفاع طلب من الله تعالى وحده بجاه نبيِّه ، وليس طلباً من النبيِّ الذي هو مخلوق مثلنا ، ليس له من الأمر شيء إلاَّ ما أعطاه الله.

وسألت : ما الذي يعمله الميِّت لك؟ وجوابه أن النافع الضارَّ هو الله تعالى وحده لا شريك له ، والميِّت والحيُّ وكل المخلوقات لا تملك لي ولا لأنفسها نفعاً ولا ضرّاً ، إلاَّ ما ملَّكها الله تعالى .. ومن اعتقد بأن أحداً له بنفسه ذرّة من ذلك فهو مشرك بالله تعالى.

ولكن الله تعالى هو الذي جعل هذا المقام لنبيِّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمرنا بأن نبتغي إليه الوسيلة بالعمل ، وبتشفيع رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حاجاتنا في الدنيا والآخرة.

ومع الأسف إن بعضكم ما زال يتصوَّر أن شدَّ الرحال إنما تكون بنيَّة

٢٩٦

الاستشفاع والتوسُّل ، وأن الاستشفاع والتوسُّل طلب من النبيِّ ودعاء له بدل الله تعالى!! ونعوذ بالله من ذلك ، ونعوذ به ممن يتّهم المسلمين بذلك بدون دليل!!

صارم : معذرة لتأخُّري ، وأعود مرّة أخرى لموضوعنا وأقول : هل لك أن تفرِّق بين فعل الشيعة وبين فعل المشركين في جاهليّتهم عند قبورهم؟

فالمشركون يقرُّون بالربوبيَّة ، وإنما كفروا بتعلُّقهم بالملائكة والأنبياء لأنهم يقولون : ( هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ ) (١) ، أرجو أن تفرِّق لي باختصار ، تحيَّاتي لك.

العاملي : الكفَّار والمشركون اتّخذوا آلهة وأولياء من دون الله تعالى ، والضالّون اتّخذوا إليه وسيلة من دونه ، لم يأمر بها ولم ينزِّل بها سلطاناً ، أمَّا نحن فنوحِّده ونطيعه ، ونبتغي إليه الوسيلة التي أمرنا بها وهي محمّد وآل محمّد صلوات الله عليهم ، والذين ينتقدوننا لم يفرِّقوا في موضوع التوسُّل والشفاعة بين ما هو من الله تعالى وما هو من دونه!! وفي الفرق بينهما يكمن الكفر والإيمان والهدى والضلال.

انتهت المناقشة ، ولم يجب بعد ذلك المدعوُّ صارم (٢).

الردّ الصارم على مزاعم صارم

قال صارم في ردّه على العاملي حفظه الله تعالى في حرمة الاستشفاع : ولو كان الاستشفاع فيما ذكرته صحيحاً للجأ الناس إلى النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو في قبره ، وهذا ما لم يحصل إطلاقاً ، وأعود وأسأل مرَّة أخرى : ما الذي يستطيع عمله

__________________

١ ـ سورة يونس ، الآية : ١٨.

٢ ـ العقائد الإسلامية ، مركز المصطفى : ٤ / ٤٨١ ـ ٥٠٥.

٢٩٧

الميِّت حينما تستشفع به؟

أقول : هذه الدعوى من المدعو صارم غير صحيحة ، وقد ثبت من الأحاديث والروايات أن جملة من الصحابة وغيرهم كانوا يفدون على قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويستشفعون به إلى الله تعالى ، ويتبرَّكون بترابه الطاهر ، فقد كان بعض الصحابة يأتي قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويضع وجهه على القبر الشريف ، وهو نوع من الاستشفاع والتبرك بصاحب القبر ، وإلاَّ لما كان لهذا الفعل وجهٌ. وبعضهم يحثو على رأسه من تراب القبر ، وقد كانت فاطمة الزهراء عليها‌السلام تزوره ، وتبكي عنده ، وتشمُّ ترابه الطاهر ، وقد كان بعض التابعين يدعو الله وهو مستقبل لقبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإليك جملة من هذه النصوص وبعض أقوال علمائهم في ذلك :

١ ـ روى ابن السمعاني في الذيل ، بالإسناد عن أبي صادق ، عن علي ابن أبي طالب عليه‌السلام قال : قدم علينا أعرابي بعد ما دفنّا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بثلاثة أيام ، فرمى بنفسه على قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحثا من ترابه على رأسه ، وقال : يا رسول الله! قلت فسمعنا قولك ، ووعيت عن الله فوعينا عنك ، وكان فيما أنزل الله عليك : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رحِيماً ) (١) ، وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي ، فنودي من القبر : إنه قد غفر لك (٢).

__________________

١ ـ سورة النساء ، الآية : ٦٤.

٢ ـ كنز العمال ، المتقي الهندي : ٢ / ٣٨٥ ـ ٣٨٦ ح ٤٣٢٢ و ٤ / ٢٥٨ ـ ٢٥٩ ح ١٠٤٢٢ ، قال الشيخ الأميني عليه الرحمة عن هذا الحديث في كتابه القيِّم الغدير : ٥ / ١٤٨ : أخرجه :

١ ـ الحافظ أبو سعيد عبدالكريم السمعاني المتوفَّى ٥٧٣.

٢ ـ الحافظ أبو عبدالله بن نعمان المالكي المتوفَّى ٦٨٣ في مصباح الظلام.

٢٩٨

٢ ـ روى الحاكم بالإسناد عن داود بن أبي صالح ، قال : أقبل مروان يوماً فوجد رجلا واضعاً وجهه على القبر ، فأخذ برقبته وقال : أتدري ما تصنع؟ قال : نعم ، فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب الأنصاري ( رضي الله عنه ) ، فقال : جئت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم آت الحجر ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله ، ولكن أبكوا عليه إذا وليه غير أهله. قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه (١).

٣ ـ أخرج القاضي عياض بإسناده عن ابن حميد ، قال : ناظر أبو جعفر أميرالمؤمنين مالكاً في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال له مالك : يا أميرالمؤمنين! لا ترفع صوتك في هذا المسجد ، فإن المسجد ، فإن الله تعالى أدَّب قوماً فقال : ( لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ) الآية (٢) ، ومدح قوماً فقال : ( إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ ) الآية (٣) ، وذمَّ قوماً فقال : ( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ) الآية (٤) ، وإن حرمته ميِّتاً كحرمته حيّاً.

فاستكان لها أبو جعفر وقال : يا أبا عبدالله! أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فقال : ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك

__________________

٣ ـ أبو الحسن علي بن إبراهيم بن عبدالله الكرخي.

٤ ـ الشيخ شعيب الحريفيش المتوفّى ٨٠١ في « الروض الفائق » ٢ ص ٥١٣٧.

٥ ـ السيِّد نور الدين السمهودي المتوفَّى ٩١١ في « وفاء الوفاء » ٢ ص ٤١٢.

١ ـ المستدرك ، الحاكم النيسابوري : ٤ / ٥١٥ ، مسند أحمد بن حنبل : ٥ / ٤٢٢ ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ٥٧ / ٢٤٩ ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : ٥ / ٢٤٥ ، كنز العمال ، المتقي الهندي : ٦ / ٨٨ ح ١٤٩٦٧.

٢ ـ سورة الحجرات ، الآية : ٢.

٣ ـ سورة الحجرات ، الآية : ٣.

٤ ـ سورة الحجرات ، الآية : ٤.

٢٩٩

آدم عليه‌السلام إلى الله تعالى يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به فيشفعك الله تعالى ، قال الله تعالى : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ ) الآية (١).

٤ ـ قال العزّ بن جماعة الحموي الشافعي ( المتوفَّى ٨١٩ ) في كتاب العلل والسؤالات لعبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه ، رواية أبي علي بن الصوف عنه ، قال عبدالله : سألت أبي عن الرجل يمسُّ منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويتبَّرك بمسِّه ، ويقبِّله ، ويفعل بالقبر مثل ذلك رجاء ثواب الله تعالى ، قال : لا بأس به (٢).

قال الشيخ الأميني عليه الرحمة : قال الإمام القدوة ابن الحاج محمّد بن محمّد العبدري القيرواني المالكي ( المتوفَّى ٧٣٧ ) في المدخل في فضل زيارة القبور ج ١ ص ٢٥٧ : وأمَّا عظيم جناب الأنبياء والرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ فيأتي إليهم الزائر ، ويتعيَّن عليه قصدهم من الأماكن البعيدة ، فإذا جاء إليهم فليتّصف بالذلّ والانكسار والمسكنة والفقر والفاقة والحاجة والاضطرار والخضوع ، ويحضر قلبه وخاطره إليهم ، وإلى مشاهدتهم بعين قلبه لا بعين بصره.

إلى أن قال : فالتوسُّل به ـ عليه وآله الصلاة والسلام ـ هو محلُّ حطِّ أحمال الأوزار ، وأثقال الذنوب والخطايا ; لأن بركة شفاعته ـ عليه وآله الصلاة والسلام ـ وعظمها عند ربِّه لا يتعاظمها ذنب ; إذ أنها أعظم من الجميع ، فليستبشر من زاره ، وليلجأ إلى الله تعالى بشفاعة نبيِّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من لم يزره ، اللهم لا تحرمنا من شفاعته بحرمته عندك ، آمين ربَّ العالمين ، ومن اعتقد خلاف هذا فهو المحروم ،

__________________

١ ـ الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، القاضي عياض : ٢ / ٤١ ، الغدير ، الأميني : ٥ / ١٣٥.

٢ ـ الغدير ، الأميني : ٥ / ١٥٠ ، عن كتاب وفاء الوفاء ، السمهودي : ٢ / ٤٤٣.

٣٠٠