تفسير القاسمي - المقدمة

تفسير القاسمي - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ترجمة المؤلف

١ ـ عصر المؤلف :

عاش القاسمي معظم حياته في أشد أيام الظلم والظلام. فقد ولد ونظام الحكم المطلق قائم في الدولة العثمانية ، فالحريات بجميع أنواعها مفقودة ، والأقلام مغلولة ، والأحرار مطاردون ، والدستور معلق ، وأعوان السلطان مبثوثون في كل مكان ، والجاسوسية تفتك بالأبرياء ، والعدالة تكاد تكون مفقودة لفساد النظام القضائي ، وشراء مراكز القضاء.

في هذا الجو السياسي الخانق عاش القاسمي معظم حياته.

أما الحياة الثقافية في ولاية سورية فكانت أشبه بالمفقودة ، فلا مدارس ، ولا معاهد ، ولا جامعات ، واعتماد القلة من الناس على الكتاتيب وحلقات الجوامع والدروس الخاصة في البيوت. جهل مطبق فرضته الدولة على الناس ، ليعيشوا في جوّ من الظلام والغباء ، وليسهل على حكامها ومستغليها اضطراد الأمور في مسلك من الظلم والبطش والخنوع.

وكان حال الحياة الدينية نتيجة طبيعية للحياة الثقافية : جمود على القديم ، وكتب صفراء يتداولها الطلاب ، ومتون كثيرا ما يحفظونها من غير فهم ، وحواش وتعليقات تزيد في اضطراب عقول الطلاب. وتقليد أعمى غلت معه العقول ، حتى كتب الحديث ما كانت تقرأ على الأغلب إلا للتبرك ، أما كتب التفسير فممتنعة عن الخاصة بله العامة.

وحسب الرجل أن يقرأ بعض كتب الفقه ، ليعتمّ ويقال إنه عالم. وكتب اللغة والنحو والصرف والأدب يقرؤها بعض الطلاب ؛ على أنها أداة لفهم الكتاب والسنّة.

وقد كانت الطرق في ذلك العصر في أوج انتشارها ، يعتنقها بعض رجال الدين ، ويجمعون العامة حولهم ، ويشغلونهم عن العمل النافع لإقامة المجتمع الإسلامي الصالح. وقد تعددت هذه الطرق تعدد الأحزاب السياسية ، وقامت بين زعمائها خصومات واتهامات لا يكاد يصدقها العقل.

١

أما حقيقة الدعوة الإسلامية وأهدافها السامية ، فلم يكن أحد من رجال الدين عارفا بها ، أو مهتما بنشرها.

والحياة الاجتماعية كانت كذلك مفقودة ، إذ لم يعرف الناس أي نوع من أنواع الاجتماع إلا في الولائم وصلاة الجمعة ، والسهرات التي كان يسميها أهل الشام (الدّور). فلا ندوات ثقافية ، ولا جمعيات إصلاحية ، وحتى ولا جمعيات خيرية. والمرأة التي هي نصف المجتمع غائبة ، فليس لها في خدمته إلا نصيب قعيد البيت.

في هذا الجو الخانق العجيب ، المتخلف في جميع مرافق الحياة ، نشأ القاسمي. فكان كالطائر المغني في غير سربه ، غريبا عن أهل الزمان ، ولعل هذا كله كان أدعى لإقدامه ، والقناعة برسالته ، وضرورة العمل لها ، والسعي لنشرها ، لا يبالي في ذلك تكفيرا ، ولا محاكمة ؛ ولا حبسا.

فثبت لهذه المحن كلها ، وأكثر منها ، كالطود الراسخ ، لا يزعزع يقينه وعيد ، ولا تهديد ، ولا تكفير ، ولا حبس. لا تزيده الأيام إلا قوة وعزيمة.

٢ ـ نسبه وولادته :

نسبه :

حقق القاسمي نسبه في كتابه المطبوع المعروف «شرف الأسباط». وذكر في ترجمته نفسه أنه «محمد جمال الدين أبو الفرج بن محمد سعيد بن قاسم بن صالح ابن إسماعيل بن أبي بكر المعروف بالقاسمي ، نسبة إلى جده المذكور وهو الإمام ، فقيه الشام ، وصالحها في عصرها ، الشيخ قاسم ؛ المعروف بالحلاق. وكان أبوه (محمد سعيد) رحمه‌الله فقيها أديبا ، غلب عليه شعر أهل عصره. اشتغل أول حياته بالتجارة ، فكان له في العصرونية متجر معروف ، ثم اعتزل التجارة لأسباب لا أعرفها. وقد جمع شعره في ديوان سماه ولده جمال الدين «الطالع السعيد في ديوان الإمام الوالد السعيد» وأمه عائشة بنت أحمد جبينة ، وجدته لأبيه فاطمة بنت محمد الدسوقي.

٣ ـ ولادته :

في زقاق المكتبي ، ظاهر باب الجابية وبالقرب من قصر الحجاج في محلة القنوات ، كان مسكن والد القاسمي في دار واسعة الفناء ، متعددة الغرف. في وسطها

٢

بركة ماء متسعة ، في هذه الدار ولد القاسمي ، قال : «ولادتي كما رأيتها بخط والدي الماجد وخاله العالم النحرير الشيخ حسن جبينة الشهير بالدسوقي قد كانت في ضحوة يوم الاثنين لثمان خلت من شهر جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين ومائتين وألف بوطننا دمشق الشام».

وتوفي جمال الدين القاسمي ١٩١٤ م. تاركا وراءه مؤلفاته الكثيرة التي يكاد يصل عددها المائة ما بين كتاب ورسالة ومقالة ...

٤ ـ نشأته ومشيخته :

كان لنشأة القاسمي في بيت عرف بالعلم والتقوى أثر كبير في توجيهه الوجهة التي تولاها ، واختاره الله لها ، فقد كان جده الشيخ قاسم فقيه الشام وصالحها ، وكان أبوه فقيها أديبا. وفي جوّ من حرمة الدين وجلاله ، فتح عينيه على النور ، فأخذ يعبّ من معين ثرّ قوي ، مستعينا بتشجيع أبيه الذي لا ينقطع من الدعاء له ، وإهدائه الكتب ، فأعانه هذا كله على نشأة صحيحة صالحة ، لم يعرف فيها لهو الفتيان إلا بالقدر المشروع.

قال في ترجمته لنفسه : «قد ربّي في كنف والده ، وقرأ القرآن على الحافظ المعمر الشيخ عبد الرحمن بن علي شهاب المصري نزيل دمشق».

«وبعد أن ختمت القرآن ، أخذت في تعلم الكتابة عند الأستاذ الكامل الشيخ محمود أفندي ابن محمد بن مصطفى القوصي نزيل دمشق ، من صلحاء الأتراك ... ثم انتقلت إلى مكتب في المدرسة الظاهرية ، وكان معلمه العالم الفاضل الشيخ رشيد أفندي قزيها ، الشهير بابن سنان. فقرأت عنده في المكتب المذكور مقدمات وفنون شتى ، من توحيد وصرف ونحو ومنطق وغيرها ... وكنت في خلال ذلك شارعا في قراءة المختصرات الفقهية والنحوية أيضا عند سيدي الوالد ، ثم جودت القرآن المجيد على شيخ القراء بالشام ، الشيخ أحمد الحلواني. فقرأت عليه ختمة وأكثر من نصف أخرى ، على رواية الإمام حفص عليه الرحمة».

ومن كبار مشايخه الشيخ بكري بن حامد البيطار ، والشيخ محمد بن محمد الخاني النقشبندي ، والشيخ حسن بن أحمد بن عبد القادر جبينة ، الشهير بالدسوقي.

وقد أجاز له إجازة عامة كثير من كبار الشيوخ ، منهم مفتي الشام العلامة

٣

محمود أفندي الحمزاوي ، والإمام طاهر بن عمر الآمدي ، مفتي الشام أيضا ، والعلامة الشيخ محمد الطنطاوي الأزهري ثم الدمشقي.

٥ ـ طريقته في التأليف :

بلغ الجمود من بعض أدعياء الدين أن امتنعوا عن الاحتجاج بالكتاب والسنة ، في أي أمر من أمور الدنيا والدين ، وقنعوا بكتب الفقهاء وحدها ، على ما فيها من اختلاف. وأصبح قول الفقيه عندهم هو وحده الحجة والسند ، فلما أدرك القاسمي هذه الحقيقة المرة ، رأى أن الإصلاح لا يمكن أن يتم بالاستشهاد بالكتاب وحده ، وإن كان دستور المسلمين الخالد ، ولا بالسنّة معه ، وإن كانت متممة له ، لذلك عمد إلى الإكثار من نقل أقوال أئمة المسلمين الغابرين في كتبه ، يختار ما كان منسجما مع دعوته السامية ، ذلك لأن خصومه من رجال الدين ، إذا كان لهم أن يعترضوا على أقواله ، فليس لهم أن يعترضوا على أقوال الفقهاء الأقدمين ، بل عليهم أن يسلموا بما جاء فيها.

ولم يكن يقتصر في نقوله عن الأئمة المعروفين من المذاهب الأربعة وغيرهم من فلاسفة المسلمين. وإنما كان يجد القول الصحيح لدى زيدي أو معتزلي أو خارجي أو غيرهم ، فلا يمنعه ذلك من الاستشهاد بقوله. لا بل قد يرى قولا لأحد العلماء الفرنجة ، فيسارع إلى التقاطه وضمه إلى كتابه.

٦ ـ أسلوبه :

كان والد القاسمي مولعا بالأدب إلى جانب تعمقه بالفقه ، فنشأ ولده تنشئة أدبية على الطريقة التي عرفها أهل ذلك الزمان. وكان أسلوب معظم الكتّاب في ذلك العصر يعتبر السجع أصلا في الإنشاء وقد التزمه القاسمي في مقدمات كتبه كلها تقريبا ، جريا على ما ألف الناس ، ولكنه كان سجعا قليل التكلف ، أقرب إلى الفطرة منه إلى الصنعة.

ثم شاعت طريقة الترسل ، وكان الأستاذ الإمام محمد عبده من الذين دعوا إلى نشرها ، وكان القاسمي أحد المعجبين بالأستاذ الإمام ، فعدل عن السجع في بعض ما كتب إلى الترسل ، فجاء أسلوبه فيه عربيا صافيا ، رائعا في قوة التركيب ، وجزالة الألفاظ ، ودقة الأداء.

٤

وترسله على قلّته ، يمثل صفاء ذهن القاسمي ، وتمكنه من اللغة العربية وغوصه على المعاني ، وسعة اطلاعه على مخلفات التراث العربي القديم ، وعلى ما ضمّت المكتبة العربية من طريف المؤلفات وحديثها.

ويرى المتتبع لكتبه أنه كان أحرص على الفكرة منه على الأسلوب. أما أسلوبه في الإلقاء فقد أطاعت اللغة العربية لسانه على شكل لم يؤلف لدى رجال الدين في ذلك العصر ، وكانت الألفاظ تنثال على لسانه في كثير من الانسجام والرقة والعذوبة.

٧ ـ ثقافته العامة :

لم يكن لرجال الدين في عصر القاسمي أي اهتمام بغير كتب الفقه والآلة ، أما القاسمي فقد صرف اهتمامه إلى جميع أنواع المعرفة التي أخذت في الانتشار ، وعزم على أن يتعلم في شبابه وكهولته ما فاته تعلمه في طفولته.

ولعل أوضح عنوان لثقافته العامة مؤلفاته الكثيرة المتعددة ، ومكتبته الخاصة التي حوت كتبا شتى ، لم يخل واحد منها من تصحيح أو تعليق. فإلى جانب كتب التفسير والحديث والفقه واللغة والتصوف والأدب والتاريخ ، ترى كتب الفلسفة ؛ وكتب الاجتماع ، وكتب الرياضيات وكتب الجغرافيا. ولم تخل مكتبته من كتب الفرق الإسلامية ، وكتب الديانات الأخرى ، كاليهودية والنصرانية. أضف إلى هذا أنه كان مواظبا على مطالعة المجلات الشهرية العلمية والتاريخية والأدبية التي كانت تصدر في زمانه كالمقتبس والمقتطف والهلال ، ومن الآثار الواضحة لثقافته العامة ، مؤلفاته العديدة. فقد ألّف في مواضيع نادرة ومتعددة ، فإلى جانب مؤلفاته في التفسير والحديث والأصول ، وضع كتابا في تاريخ دمشق ، ورسالة في الجن ، وكتيبا في الشاي والقهوة والدخان ، ومقالة عن القلب.

وإذا قرأت كتابه «دلائل التوحيد» رأيت فيه حصيلة حسنة من علوم الفلك والجغرافيا والحيوان والنبات والجيلوجيا. وفي كتابه «إرشاد الخلق إلى العمل بخبر البرق» وضع خاتمة بعنوان «طرف تاريخية وطرائف أدبية» بحث فيها عن «التلغراف» ومعناه ، واشتقاقه من اللغة اليونانية ، وأول من استعمل الكهرباء في المخابرة عن بعد ، وكذلك «التلفون».

ويحدث أن يصاب عام ١٣١٢ بمرض «البواسير» ، فيتألم ، ويدفعه ألمه إلى البحث عن هذا المرض بحثا علميا ، ويضع في ذلك رسالة سماها «ما قاله الأطباء

٥

المشاهير في علاج البواسير» ، ويعقد في كتابه «تعطير الشام في مآثر دمشق الشام» فصلا عن «الزراعة في الشام والذرائع لإصلاحها فتراه يشير الى السمادات الكيماوية وأنواعها : الفسفورية ؛ والبوتاسية ؛ وإلى ضرورة استعمال الآلات الميكانيكية في الحرث والحصاد ، وإلى الآفات والأمراض والحشرات الزراعية وطرق مكافحتها.

وقد أولع عام ١٣٢٤ ـ ١٩٠٧ بفقه اللغات ، (فيلولوجيا) ، وأخذ يبحث عن أصول بعض الألفاظ المعربة من لغاتها الأصلية : اليونانية والسريانية والعبرية والفارسية والقبطية والألمانية والفرنسية وغيرها.

وعلى الجملة فقد كان آخذا بأطراف المعرفة من كل سبب ، لم يمنعه عن ذلك مخالفة في الدين أو المذهب أو العقيدة أو الطريقة.

٦