السيد سعيد كاظم العذاري
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-38-6
الصفحات: ١١١
مقدمة المركز
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين.. وبعد.
تمثّل الرسالة الإسلامية بكل تجلّياتها
الأُسس التي يبتنىٰ عليها المجتمع الإسلامي الصحيح ، والتي يرتكز عليها توازن الحياة في نفس الإنسان وعلاقته بمجتمعه وبالحياة كلّها ، والانفتاح الفكري والعملي على تلك الرسالة لا يكون من
دون الارتباط بالقدوة الرمز من خلال التأثير المباشر بما جسدته سيرته من صور مشرقة على مستوى الكلمة والحركة والموقف. قدوة يعيش الإسلام بروحه وعقله ، ويمتلك جميع القيم الإسلامية ، ويستوعب جميع امتدادات رسالة التوحيد ، مع الفهم الثاقب الذي لا يشتبه في شيء منها ، بحيث يكون رسالة تتحرّك على الأرض ، وعلماً يتفجّر على الدوام ، وحقّاً لا باطل فيه ، ووعياً للرسالة وأهدافها ومقاصدها وكأنّه قرآن
ناطق ليدلّ على معالم الطريق. ولا خلاف بأن تلك الصفات قد تجسّدت كلّها في شخصية الرسول القائد صلىاللهعليهوآله
، القدوة الفذّ الذي وقفت السماء لتؤيّده بكل قوّة ، حتىٰ استطاع من خلال ذلك القضاء على كل ما خالف التصور الإسلامي الصحيح للرسالة في حياته الشريفة ، ولم يكن هناك ثمة اختلاف كبير بين أصحابه صلىاللهعليهوآله
بفضل شخصيته الفذّة ، ووحدة المرجعية آنذاك المتمثّلة في شخصه العظيم في كل شيء ، فكان مناراً للهدى في كل حركاته وسكناته صلىاللهعليهوآله
؛ ولهذا لم يُظْهِر بعض أصحابه في حياته ما أظهروه بعد وفاته صلىاللهعليهوآله
، لعلمهم بأنّ إشارةً واحدةً منه كافيةٌ لإسقاطهم على مرِّ الجديدين. والدين الخاتِم الذي تكفّل ببيان شخص القدوة ، وحمّله ثقل الرسالة ومسؤوليتها ، وأمر الناس
ـ كل الناس ـ باتّباعه ، وحذّرهم من معصيته ، لأجل الحفاظ على رسالته الفتية لا
يعقل أن يهمل تلك الرسالة بعده ، ولا يحافظ على مستقبلها ، ولا يعيّن من سيكمل تلك المسيرة ، ويهدم كل ما بناه القدوة بترك الأمر للناس في اختيار القدوة الجديد
كيفما يشاءون حتىٰ لو لم يمتلك الحدّ الأدنى من شخصية الرسول القائد صلىاللهعليهوآله. وإذا كنّا نربأ بالقائد الحكيم أن يهمل أمر رعيته ، فحاشا لله أن يهملا ذلك ولرسوله ، ومن هنا لم
يكن أحد من الصحابة يستفسر عن هذا الأمر الخطير بعد سماعهم وفي مواطن شتّى من سيخلف النبي صلىاللهعليهوآله
في أُمته ، بدءاً من يوم الدار وانتهاءً بمرضه الأخير الذي توفي فيه صلىاللهعليهوآله.
نعم.. كانوا يعرفون قادتهم بعد نبيهم صلىاللهعليهوآله
وإنّهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش ، وإنّهم مع القرآن الكريم ثقلان لا يفترقان حتىٰ يردا على النبي الحوض
، وأنهم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق وهوى ، وانهم كباب حطّة من دخله
غفر له ، وإن من مات ولم يعرف إمام زمانه منهم ، أو لم تكن له بيعة لأحدهم مات ميتة جاهلية ، وإن الأرض لا تخلو منهم طرفة عين ، وإنهم حجج الله على عباده ، وأُمناؤه على وحيه ، وهم من أعلى الله تعالى ذكرهم ، وأمر بولايتهم ، وأوجب الصلاة عليهم ، وفرض مودتهم ، ومن كانوا من النبي والنبي منهم صلّى الله عليه وعليهم.
ترى فمن عساهم أن يكونوا غير من قال الله تعالى فيهم : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ). بلى.. إنهم عليهمالسلام أصحاب الكساء الخيبري وكفىٰ.
وبهذا يمكننا الاقتراب من معالم شخصية من نريد الحديث عنه من أهل البيت عليهمالسلام وهو الإمام السبط الحسن عليهالسلام ، إذ لابدّ وأن تكون شخصيته مجسّدة لعناصر شخصية جده المصطفىٰ صلىاللهعليهوآله ، وأبعاد شخصية صاحب الولاية الكبرى أميرالمؤمنين عليهالسلام ، وروحانية سيدة نساء العالمين صلوات الله عليهم أجمعين.
لقد وجدنا السبط الأكبر عليهالسلام يمثل الطهارة والنقاء في عقله وقلبه وحركته وقوله وفعله ، فكان لا يشتكي ، ولا يسخط ، ولا يبرم حتىٰ من أعدائه ، كان حلماً وكرماً وزهداً وتقوى ، وكان علماً يتفجّر ، فإذا نطق جرت الموعظة والحكمة على لسانه عفواً ، وإذا سكت فبلا عيّ بل عن فكر وتأمّل ، وكان صلوات الله عليه لا يقول ما لا يفعل ، بل يفعل ما يقول وما لا يقول ، وكأنه عليهالسلام يريد للفعل أن يتحدّث عن نفسه لأنه أبلغ في النفوس من كل واعظ وخطيب. ومن معالم تلك الشخصية الفذّة الرمز أن رسول الله صلىاللهعليهوآله قد غرس في شخصية سبطه الأكبر هيبته وسؤدده ، حتىٰ أنه عليهالسلام كان إذا جلس بباب داره انقطع الطريق من المارة هيبة له ، وكان عليهالسلام يحجّ ماشياً فإذا رآه الصحابة لم يملكوا أنفسهم إلاّ أن يترجّلوا ، ويسيروا بين يديه ومن خلفه إجلالاً ومهابة له. لقد أكّدت سيرة الإمام الحسن عليهالسلام شرعية إمامته وموقعها في حركة الواقع حتىٰ لم تعد بحاجة إلى تلك النصوص الكثيرة التي ألمحنا إلى بعضها ، وذلك من خلال الفرص المتاحة له سواء كان في موقع السلطة أو في خارجها ، إذ كان هادياً ومعلّماً ومرشداً وناصحاً لكل خير مع الانفتاح على شرائح المجتمع كلها انطلاقاً من موقع القدوة والرمز ، الأمر الذي كان يشكّل أكبر خطورة على مطامح ابن آكلة الأكباد في التخطيط لمستقبل السلطة من بعده ، فكان المدبّر لفاجعة سم الحسن عليهالسلام وشهادته. والكتاب الذي بين يديك عزيزي القارئ قد سلّط الأضواء على بعض الجوانب المهمة في حياة إمامنا السبط الحسن عليهالسلام بعبارات واضحة مختصرة فسهّل بهذا مهمة الدخول إلى عالمه الأقدس ، سائلين المولى عزّوجلّ أن يتقبّله منه ، ويمهّد سبل الانتفاع به ، ويجزل المثوبة لمؤلّفه إنّه سميع الدعاء.
مركز الرسالة
المقدِّمة
الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله الطيّبين الطاهرين ، وبعد :
جاءت الرسالة الإسلامية الخاتمة للرسالات السماوية من أجل إقرار المنهج الإلهي في الواقع الإنساني ، وتحقيق مفاهيمه وقيمه في صور عملية واقعية تترجم فيها الأفكار والنصوص إلى مشاعر وأوضاع وممارسات وارتباطات في واقع الحياة الإنسانية.
وقد جسّد رسول الله صلىاللهعليهوآله ذلك في أقواله وأفعاله وسيرته ، فجعل المفاهيم والقيم حقيقةً واضحة ليقتدي بها المسلمون والناس جميعاً ويتوجّهوا في مسيرتهم نحو التكامل والسموّ والارتقاء ، وترك فيهم أئمة وقادةٍ من أهل بيته عليهمالسلام ليكونوا قدوة للأجيال في جميع مراحل الحركة الإنسانية.
وكان الإمام الحسن عليهالسلام عنوانا مضيئاً في
حياة الإنسانية ، ومعلماً شامخاً في حركة التاريخ والمسيرة الإنسانية ، نطق بتطهيره الوحي ، ونطق بفضائله ومقاماته النبي ، ولهج بذكره المسلمون من جميع المذاهب ، وهو علم الهدى وقدوة المتّقين ، عرف بالعلم والحكمة والإخلاص والوفاء والصدق والحلم وسائر صفات الكمال في الشخصية الإسلامية. استقبله رسول الله صلىاللهعليهوآله
منذ اللحظات الأولى من ولادته فأذّن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى ، وسمّاه بهذا الإسم ، وهو اسم لم يكن معروفاً في الجاهلية ، وعقّ عنه
وحلق شعره ، واستمرّ على ملازمته ورعايته وتعليمه وتربيته ، وكان يوجّه أنظار المسلمين إلى فضائله ومقاماته. وهكذا كان السبط الأكبر ترعرع في الأجواء النبوية يستمع الوحي والحديث النبوي ويتابع حركات جدّه وسكناته ؛ فكان منهجه في حياته منهجاً إيمانياً خالصاً.
وقف عليهالسلام مسانداً للحق منذ صباه ، وعاش الأجواء السياسية التي غُمطت فيها حقوق أهل البيت عليهمالسلام وضح النهار ، ابتداءً من اقصاء أبيه أميرالمؤمنين علي عليهالسلام عن حقه في خلافة الرسول صلىاللهعليهوآله ، وانتهاءً بموقف الطلقاء منه في خلافته عليهالسلام. ومع كل ذلك كان حريصاً على رفعة الإسلام وسموِّه متعالياً على جراحاته ، جاعلاً مصلحة الإسلام هي العليا في سياسته والحاكمة على جميع خطواته ، حتى قاده ذلك إلى أن يكون الشجى المعترض في حلق معاوية حتى بعد تنازله عن السلطة ؛ لكي لا تفهم الأمة أنه عليهالسلام وجد الباغي للخلافة أهلاً فسلّمها إليه ، وهكذا كان السبط ميزان عدلٍ للحكم على أفكار وممارسات السلطة الباغية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى ؛ لأنه مرجع الأمة وإمامها الحق في زمانه.
ولهذا خطّطت السلطة لتغييبه بدسّ السمّ إليه ، فاستشهد مسموماً مظلوماً بعد أن أدّى مسؤوليّاته في بناء قاعدة شعبية تواصل مسيرة التكامل والسموّ بقيادة وإمامة ثالث أئمّة أهل البيت عليهمالسلام.
وسوف نقف في هذا الكتاب ـ إن شاء الله تعالى ـ على معالم شخصية الإمام الحسن السبط عليهالسلام مع استجلاء صفحات سيرته العطرة وتاريخه المشرق بالتضحية والعطاء.
الفصل الأوّل
الإمام الحسن عليهالسلام في عهد رسول الله صلىاللهعليهوآله
ولد الإمام الحسن عليهالسلام في حياة جدّه رسول الله صلىاللهعليهوآله وعاش في ظلّ رعايته وتربيته سبع سنوات وستّة أشهر ، وكانت هذه الفترة كافية للسموّ والتكامل والارتقاء إلى أعلى قمم الإيمان والتقوى والصلاح. حيث تلقّى رعاية خاصّة من جدّه رسول الله صلىاللهعليهوآله ابتدأت من اللحظات الأولى لولادته. حيث أذّن رسول الله صلىاللهعليهوآله في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى ، ولهذه الممارسة نتائج إيجابية على شخصية الإنسان المستقبلية كما ورد عن رسول الله صلىاللهعليهوآله أنّه قال : « من ولد له مولود فيؤذّن في أذنه اليمنى بأذان الصلاة ، وليقم في اليسرى ؛ فإنّها عصمة من الشيطان الرجيم » (١). ومن الطبيعي أن تصل هذه العصمة إلى قمّتها حينما يكون رسول الله صلىاللهعليهوآله هو من يفعل ذلك ، وبمن ؟ بسبطه ابن علي وفاطمة صلوات الله عليهم. وهكذا أحيط الحسن عليهالسلام منذ نعومة أظفاره بجميع مقوّمات التربية والتعليم والرعاية النفسية والروحية ؛ فأصبح بهذه المقوّمات ـ ومن قبلها الرعاية الإلهيّة ـ معصوماً بإرادته.
التقدير والتكريم والاهتمام : دلّت الدراسات العلمية والنفسية على دور التقدير والتكريم في مرحلة الطفولة في بناء شخصية الإنسان في جميع مقوّماتها الفكرية والعاطفية والسلوكية ، وقد ثبت « أنّ نموّ الطفل متكيّفاً تكيّفاً حسناً وكينونته راشداً صالحاً يتوقّف على ما إذا كان الطفل محبوباً مقبولاً شاعراً
__________________
(١) الكافي ٦ : ٢٤ / ٦ كتاب العقيقة ، باب : ما يفعل بالمولود.
بالاطمئنان في البيت » (١). وكلّما وجد الطفل التقدير والاهتمام والتكريم كان منقاداً لمن يقدّره ويهتمّ به ويكرّمه. ويتوقّف تأثير ذلك على شخصيّة المربّي وشخصية المراد تربيته والمحيط الاجتماعي الذي يعيشان فيه ، وفي مقامنا هذا نرى أنّ الإمام الحسن عليهالسلام قد تلقّى ذلك من قبل جدّه رسول الله صلىاللهعليهوآله ، في مواقع عديدة أمام مرأى ومسمع الصحابة ، وكلّ ذلك أسهم ـ مع بقيّة المقوّمات ـ على أن يكون الإمام عليهالسلام معصوما بإرادته التي تطابقت مع الإرادة الإلهيّة ، فالله تعالى هيّأ هذه المقوّمات وهي الوراثة الصالحة والتربية الصالحة والرعاية الروحية والنفسية. وهذا النوع من الرعاية تعدّى رعاية الجدّ لحفيده ، وتعدّى الرعاية العاطفية المحضة بل كانت مظاهرها العديدة تنبيهاً للأمة على دور الإمام الحسن عليهالسلام الريادي ودوره كقدوة وأسوة وإمام مفترض الطاعة ، ولولا هذا الإشعار لأمكن له صلىاللهعليهوآله أن يقدّره ويكرّمه بشكل آخر كما يفعل الأجداد والآباء ، وقد تجلّى ذلك في ممارسات عديدة.
عن البرّاء بن عازب قال : « رأيت رسول الله صلىاللهعليهوآله حامل الحسن بن علي رضي الله عنهما على عاتقه وهو يقول : اللهمّ إنّي أحبّ حسناً فأحبّه » (٢). فقد أشار صلىاللهعليهوآله إلى هذا الحبّ وهو حامل الإمام الحسن عليهالسلام على عاتقه ؛ ليُشْعِر المسلمين بأهمية وضرورة هذا الحبّ ؛ وهو الذي لا ينطق عن الهوى ، فهو حبّ عقائدي يفرض على المسلمين أن يقتدوا بهذا المحبوب المكرّم من قبل رسول الله صلىاللهعليهوآله.
وعن جابر قال : « دخلت على النبي صلىاللهعليهوآله وهو يمشي على أربعة وعلى ظهره الحسن والحسين رضي الله عنهما ، وهو يقول : نعم الجمل جملكما ونعم العدلان أنتما » (٣).
__________________
(١) علم النفس التربوي / فاخر عاقل : ١١٠.
(٢) المعجم الكبير / الطبراني ٣ : ٣٢ / ٢٥٨٤.
(٣) المعجم الكبير ٣ : ٥٢ / ٢٦٦١.
وعن عبدالله بن مسعود ، قال : « حمل رسول الله صلىاللهعليهوآله الحسن والحسين على ظهره ، الحسن على أضلاعه اليمنى والحسين على أضلاعه اليسرى ، ثمّ مشى وقال : نعم المطيّ مطيّكما ، ونعم الراكبان أنتما وأبوكما خير منكما » (١).
وهذه الممارسة قد يستهجنها البعض في تلك المرحلة القريبة من الجاهلية ، ولكنها مداليل عظيمة تبيّن عظمة هذين السبطين من قبل رسول الله صلىاللهعليهوآله ؛ فهي ليست ممارسة عاطفية محضة ؛ بل هي ممارسة تربوية لتربية المسلمين على أهميّة هذين السبطين في الحياة الإسلامية والإنسانية ؛ هذه الأهمية دفعت برسول الله صلىاللهعليهوآله إلى أداء هذه الممارسة. ليوجه أنظار الصحابة إلى الدور الذي سيقوم به الحسن عليهالسلام بعد رحيل جدّه وأبيه.
وفي مقام آخر نجد أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله يقطع خطبته وينزل عن منبره ليحتضن الحسن والحسين عليهماالسلام ويأخذهما معه إلى المنبر ؛ لكي يستشعر الصحابة ويستشعر المسلمون مقام هذين السبطين. قال ابن كثير : « وقد ثبت في الحديث أنّه عليهالسلام بينما هو يخطب إذ رأى الحسن والحسين مقبلين فنزل إليهما فاحتظنهما وأخذهما معه إلى المنبر ، وقال : صدق الله ( إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) (٢) ، إنّي رأيت هذين يمشيان ويعثران فلم أملك أن نزلت إليهما ، ثمّ قال : إنّكم لمن روح الله وإنّكم لتبجلون وتحبّبون » (٣).
ومن مصاديق ومظاهر الاهتمام ما ورد عن أبي هريرة أنّه قال لمروان بن الحكم : « أشهد لخرجنا مع رسول الله صلىاللهعليهوآله حتى إذ كنّا ببعض الطريق سمع رسول الله صلىاللهعليهوآله صوت الحسن والحسين وهما يبكيان مع أمّهما ، فأسرع السير حتى أتاهما فسمعته يقول لها : ما شأن ابْنَيَّ ، فقالت : العطش ، قال : فاختلف
__________________
(١) بحار الأنوار / المجلسي ٤٣ : ٢٨٦ / ٥١ تاريخ الإمامين الهمامين ، باب ولادتهما.
(٢) سورة الأنفال : ٨/٢٨.
(٣) البداية والنهاية / ابن كثير ٨ : ٣٣.
رسول الله صلىاللهعليهوآله إلى شنة يبتغي فيها ماء ، وكان الماء يومئذ أغدار ، والناس يريدون الماء ، فنادى : هل أحد منكم معه ماء ؟ فلم يبقَ أحد أخلف بيده إلى كلاَّبه يبتغي الماء في شنة ، فلم يجد أحد منهم قطرة فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : ناوليني أحدهما ، فناولته إيّاه من تحت الخدر ، فأخذه فضمّه إلى صدره وهو يطغو ما يسكت ، فأدلع له لسانه فجعل يمصّه حتى هدأ أو سكن ، فلم أسمع له بكاء ، والآخر يبكي كما هو ما يسكت ، فقال : ناوليني الآخر ، فناولته إيّاه ففعل به كذلك ، فسكتا » (١). ومن خلال هذه الرواية نجد أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله قد أشبع حاجات الحسن والحسين بنفسه ، وأبدى عناية واهتماما بهما أمام مرأى الصحابة ليبيّن عظمة هذين السبطين ومكانتهما من رسول الله صلىاللهعليهوآله.
الحُبّ : الحاجة إلى المحبّة أو الشعور بها حاجة أساسية للإنسان وخصوصاً في مرحلة الطفولة ، والحبّ الذي يشعر به الطفل له تأثير كبير على جميع جوانب شخصيّته الفكرية والعاطفية والسلوكية ، ويكون تأثير المحبّة أكثر إيجابية حينما يكون المحبّ هو رسول الله صلىاللهعليهوآله ومن فوقه الله تعالى ، ويكون المحبوب هو الحسن عليهالسلام المنحدر من سلالة طاهرة ، والمهيّأ من قبل الله تعالى ورسوله ليكون إماماً مفترض الطاعة وحجّة على الإنسانية إلى يوم القيامة. وقد تواترت الروايات على تأكيد هذا الحبّ بعد التصريح به من قبل رسول الله صلىاللهعليهوآله في مناسبات عديدة.
عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوآله أنّه قال للحسن : « اللهمّ إنّي أحبّه فأحبّه وأحبب من يحبّه » (٢).
وعن أسامة بن زيد قال : « طرقت النبي صلىاللهعليهوآله ذات ليلة في بعض الحاجة
__________________
(١) المعجم الكبير ٣ : ٥٠ ـ ٥١ / ٢٦٥٦.
(٢) صحيح مسلم ٢ : ٤٥٦ / ٥٦ باب فضائل الحسن والحسين عليهماالسلام.
فخرج النبي صلىاللهعليهوآله وهو مشتمل على شيء لا أدري ما هو ، فلمّا فرغت من حاجتي ، قلت : ما هذا الذي أنت مشتمل عليه فكشفه فإذا حسن وحسين على وركيه ، فقال : هذان إبناي وإبنا إبنتي اللهمّ إنّي أحبُّهما فأحبَّهُما واحبب من يحبُّهما » (١).
وعن سلمان رضياللهعنه قال : « قال رسول الله صلىاللهعليهوآله للحسن والحسين : من أحبّهما أحببته ، ومن أحببته أحبّه الله ، ومن أحبّه الله أدخله جنّات النعيم ، ومن أبغضهما أو بغى عليهما أبغضته ، ومن أبغضته أبغضه الله ، ومن أبغضه الله أدخله عذاب جهنّم وله عذاب مقيم » (٢).
وعن الإمام علي عليهالسلام قال : « إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله أخذ الحسن والحسين ، فقال : من أحبّ هذين ، وأباهما وأمّهما ، كان معي في درجتي يوم القيامة » (٣). والدعوة لحبّ أهل البيت عليهمالسلام دعوة رسالية لتوجيه المسلمين إلى الارتباط بهم فكرياً وعاطفياً ومن ثمّ الاقتداء بهم والالتزام بأوامرهم وتوجيهاتهم لتكون مفاهيمهم وقيمهم هي الحاكمة على حركة الإنسان والمجتمع المسلم.
المناغاة والتربية البدنية : تُعدُّ المناغاة في مراحل الإنسان الأولى من الممارسات الضرورية له ولهذا نرى أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله قد مارسها مع حفيده الحسن عليهالسلام فقد روي أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله كان يرقّص الحسن والحسين عليهماالسلام ويقول : حزقّة حزقّة ترقّ عين بقّة. وفي رواية أنّه أخذ يديه جميعاً بكتفي الحسن والحسين وقَدَماهما على قدم رسول الله صلىاللهعليهوآله ويقول : ترقّ عين بقّة (٤). وكانت فاطمة عليهاالسلام ترقص ابنها حسنا وتقول :
« أشبه أباك يا حسن |
|
واخلع عن الحقّ الرسن |
__________________
(١) سنن الترمذي : حديث ٣٧٩٤ ، باب مناقب الإمام الحسن عليهالسلام.
(٢) المعجم الكبير ٣ : ٥٠ / ٢٦٥٥.
(٣) سير أعلام النبلاء / الذهبي ٣ : ٢٥٤.
(٤) الحزقة : القصير الصغير الخُطا ، وعين بقّة : أصغر الأعين.
واعبد إلها ذا منن |
|
ولا توال ذا الإحن » |
وكانت أمّ سلمة ترقّص الحسن وتقول :
« بأبي ابن علي |
|
أنت بالخير مليّ |
كن كأسنان حليّ |
|
كن ككبش الحولي » (١) |
التربية والتعليم : التربية والتعليم من المسؤوليّات العظيمة التي تساهم في إعداد الإنسان للدخول في الحياة الاجتماعية ؛ ليكون عنصراً فعّالاً في إصلاحها وبنائها ، والأسرة هي نقطة البدء التي تتبنّى إنشاء وتنشئة الشخصية بجميع مقوّماتها : الفكرية والعاطفية والسلوكية ، وهي نقطة البدء المؤثّرة في جميع مراحل الحياة إيجاباً وسلباً ؛ وفي مقامنا هذا نجد إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله قد أدّى مسؤوليّته في أسرته ومجتمعه ؛ فقد ربّى هذه الأسرة الكريمة على أساس مفاهيم وقيم القرآن ، وقد أبدى عناية تربوية وتعليمية استثنائية وعظيمة لعظم الشخصّيات المراد تربيتها وتعليمها لأنّها عدل للقرآن الكريم ولأنّها القرآن الناطق ، ومنها الإمام الحسن عليهالسلام ، فقد كان يصطحبه إلى المسجد وإلى المواقع المتعدّدة التي يتواجد فيها صلىاللهعليهوآله ، ومن يتتبع الروايات وأخبار المؤرّخين يجد أنّ أسرة علي وفاطمة عليهماالسلام أقرب الأسر إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله من حيث اللقاءات والزيارات ، ولا نبالغ إذا قلنا إنّ لقاءاته مع هذه الأسرة الكريمة تكاد تكون أكثر من لقاءاته مع زوجاته ؛ فالإمام علي عليهالسلام والحسن والحسين عليهماالسلام كان يصحبونه إلى المسجد أو يلتقون به في المسجد ، إضافة إلى اللقاءات المستمرّة في دارهم تارة وفي دار رسول الله صلىاللهعليهوآله تارة أخرى ؛ ولهذا كانت الصحبة أدوم وأكثر نوعاً وكمّاً ، وكان تأثير التربية واضحاً على أفراد هذه الأسرة الكريمة لدوام ارتباطهم برسول الله صلىاللهعليهوآله ودوام تلقّيهم لتوجيهاته وإرشاداته وتعاليمه. وقد دلّت الأخبار
__________________
(١) بحار الأنوار ٤٣ : ٢٨٦ ـ ٢٨٧ / ٥١ ، باب فضائل الإمامين الحسنين عليهماالسلام.
على هذا القرب المكاني ، فقد ورد أنّ عليّاً عليهالسلام أصاب منزلاً مستأخراً عن رسول الله صلىاللهعليهوآله قليلاً ، فقال له صلىاللهعليهوآله : « إنّي أريد أن أحوّلك إليّ ». فحوّله بجنبه (١). ولم تنقطع العلاقة بهذه الأسرة يوماً ما ، فكان رسول الله صلىاللهعليهوآله إذا قدم من غزو أو سفر بدأ بالمسجد فصلى به ركعتين ثمّ يأتي فاطمة ، ثمّ يأتي أزواجه (٢). ومن الطبيعي أن يكون الحسن عليهالسلام قريباً من رسول الله صلىاللهعليهوآله ومصاحباً له في أغلب أوقاته ، ومن خلال هذا القرب وهذه المصاحبة أحاط الإمام الحسن عليهالسلام بالعلوم والمعارف والمفاهيم والقيم ، من طرق شتّى ، ويأتي التسديد الإلهي والإلهام في طليعتها ؛ باعتباره من الصفوة المختارة من قبل الله عزّوجلّ ، زيادة على التعلّم المباشر والاستماع إلى توجيهات رسول الله صلىاللهعليهوآله مباشرة ، وقد صرّح الإمام الحسن عليهالسلام بذلك وهذا واضح من خلال أقواله وتصريحاته ، فتارة يقول : « علّمني رسول الله صلىاللهعليهوآله » ، وأخرى يقول : « سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله ».
ففي مجال الدعاء ورد عنه عليهالسلام أنّه قال : « علّمني رسول الله صلىاللهعليهوآله كلمات أقولهنّ في الوتر : اللهمّ اهدني فيمن هديت ، وعافني فيمن عافيت ، وتولّني فيمن تولّيت ، وبارك لي فيما أعطيت ، وقني شرّ ما قضيت ، فإنّك تقضي ولا يقضى عليك ، وإنه لا يذلّ من واليت ، تباركت ربّنا وتعاليت » (٣).
وفي مجال العبادة وما يتعلّق بها من مندوبات ورد عن عمير بن مأمون ، قال : « سمعت الحسن بن علي يقول : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : من صلى الغداة فجلس في مصلاّه حتى تطلع الشمس كان له حجاب من النار » (٤).
وفي المجال الاجتماعي والأخلاقي يجيب عليهالسلام عن تساؤلات البعض ، فقد ورد
__________________
(١) المنتظم في تاريخ الأمم والملوك / ابن الجوزي ٣ : ٨٧.
(٢) الاستيعاب / ابن عبد البر ٤ : ٣٧٦.
(٣) أسد الغابة ١ : ٤٨٨.
(٤) أسد الغابة ١ : ٤٨٩.
عن أبي الحوراء ، قال : « قلت للحسن بن علي رضي الله عنهما : مثل من كنت في عهد رسول الله صلىاللهعليهوآله ؟ وما عقلت عنه ؟ قال : عقلت عنه أنّي سمعته يقول : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، فإنّ الشرّ ريبة ، والخير طمأنينة ، وعقلت عنه الصلوات الخمس ، وكلمات أقولهنّ عند انقضائهنّ قال : اللهمّ اهدني ... » (١). وقال عليهالسلام : « أمرنا رسول الله صلىاللهعليهوآله أن نلبس أجود ما نجد ، وأن نتطيّب بأجود ما نجد ، وأن نضحّي بأسمن ما نجد ، البقرة عن سبعة ، والجزور عن عشرة ، وأن نظهر التكبير ، وعلينا السكينة والوقار » (٢).
وفي مجال الفقه والتشريع كان رسول الله صلىاللهعليهوآله يتدخّل ـ أحياناً ـ ليعلّم الحسن عليهالسلام بعض الأحكام عن طريق الموقف العملي ، فقد ورد عن ربيعة بن شيبان قال : « قلت للحسن بن علي رضياللهعنه : ما تعقل عن رسول الله صلىاللهعليهوآله ؟ قال : صعدت معه غرفة الصدقة ، فأخذت تمرة فلكتها ، فقال النبي صلىاللهعليهوآله : القها فإنّا لا تحلّ لنا الصدقة » (٣).
وفي مجال الثواب والتعويض يوم القيامة ، قال الأصبغ بن نباتة : « دخلت مع عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه إلى الحسن بن علي نعوده ، فقال له عليّ رضي الله عنه : كيف أصبحت يا ابن رسول الله ؟ قال : أصبحت بحمد الله بارئاً ، قال : كذلك إن شاء الله ، ثمّ قال الحسن رضي الله عنه : أسندوني ، فأسنده علي رضي الله عنه إلى صدره ، فقال : سمعت جدّي رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : إنّ في الجنّة شجرة يقال لها شجرة البلوى يؤتى بأهل البلاء يوم القيامة ، فلا يرفع لهم ديوان ، ولا ينصب لهم ميزان ، يُصبّ عليهم الأجر صبّا » (٤). وكان الحسن عليهالسلام يحضر مجلس رسول الله صلىاللهعليهوآله وهو ابن سبع سنين ، فيسمع الوحي فيحفظه فيأتي أمّه فيلقي إليها ما حفظه ، وكلّما
__________________
(١) المعجم الكبير ٣ : ٧٥ / ٢٧٠٨.
(٢) المعجم الكبير ٣ : ٩٠ / ٢٧٥٦.
(٣) المعجم الكبير ٣ : ٨٦ / ٢٧٤١.
(٤) المعجم الكبير ٣ : ٩٣ / ٢٧٦٠.
دخل عليّ عليهالسلام وجد عندها علماً بالتنزيل ، فيسألها عن ذلك ، فتقول : « من ولدك الحسن » (١). وهذا الحضور وفي عمر مبكّر يؤهّل صاحبه لأنّ يكون قمّة في العلم والمعرفة ، فقد كان الحسن عليهالسلام يستمع إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله برغبته ويصغي إليه فيحفظ ما يقوله من آيات قرآنية ومن أحاديث شريفة ، ولم يكتف بهذا الحفظ ، بل يلقي إلى أمّه فاطمة الزهراء عليهاالسلام ما حفظه ، فتأخذ به مسلمة بصحّة صدوره ، لمعرفتها وثقتها بالقدرة العلمية لولدها لأنّه ذو شأن عند الله ورسوله صلىاللهعليهوآله. وكان الحسن عليهالسلام يبادر رسول الله صلىاللهعليهوآله بالأسئلة ليتعلّم منه ما يحتاجه من علوم ومعارف في مختلف جوانب الحياة الإنسانية ومنها الارتباط الروحي برسول الله صلىاللهعليهوآله وآثاره الإيجابية. قال الإمام الصادق عليهالسلام عن آبائه عليهمالسلام « بينا الحسن بن علي عليهماالسلام ذات يوم في حجر رسول الله صلىاللهعليهوآله إذ رفع رأسه فقال : يا أبة ما لمن زارك بعد موتك ، قال : يا بني من أتاني زائراً بعد موتي فله الجنّة ، ومن أتى أباك زائراً بعد موته فله الجنّة ، ومن أتى أخاك زائراً بعد موته فله الجنّة ، ومن أتاك زائراً بعد موتك فله الجنّة » (٢).
حضور الحسنين عليهماالسلام بيعة الرضوان : من أساسيّات المنهج الإسلامي الاعتماد على الأمّة في إنجاح المسيرة التكاملية لحركة الإسلام الواقعية ، ومسؤوليّة إنجاح المسيرة تكليف عام يشمل جميع المكلّفين القادرين على العمل والنشاط والفاعلية ، ومن هنا جاءت البيعة تعبيراً عن توزيع المسؤولية بين القائد وبين الأمّة ، وكان لها دور كبير في انطلاقة المسلمين في العهد النبوي ، ولأهميّتها عمل بها رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وطلب من المسلمين أن يبايعوه في مواقف عديدة ومنها بيعة الرضوان ، وكان جابر بن عبدالله يقول : « إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله لم
__________________
(١) بحار الأنوار ٤٣ : ٣٣٨ / ١١.
(٢) روضة الواعظين / محمد بن الفتّال النيسابوري : ١٨٦.
يبايعنا على الموت ، ولكن بايعنا على أن لا نفرّ » (١). ولا فرق كبير بين الاثنين ، فمن يبايع على الموت يكون قد بايع على عدم الفرار ؛ لأنّ الإنسان غالباً ما يفرّ من المعركة إن أصابه الخوف من الموت ؛ فهي بيعة على الجهاد والثبات والتضحية.
وقد شارك كبار الصحابة في هذه البيعة كما شارك في البيعة جمع من الصحابة الشباب ، ولم يشارك من صغار السنّ إلاّ الحسن والحسين عليهماالسلام كما ورد في قول الإمام محمد الجواد عليهالسلام مخاطباً المأمون والعباسيين في أحد المجالس : « أما علمتم أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله افتتح دعوته بدعاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام وهو ابن عشر سنين ، وقبل منه الإسلام وحكم له به ، ولم يدع أحدا في سنّه غيره. وبايع الحسن والحسين عليهماالسلام وهما ابنا دون الستّ سنين ، ولم يبايع صبيّاً غيرهما ... » (٢). وبيعتهما لرسول الله صلىاللهعليهوآله تعبّر عن النضوج والمعرفة الرشيدة والإرادة الصلبة لمن يحسنون اليقين بالله تعالى والتوكّل عليه والاتّجاه نحوه ، ويحسنون العمل والسلوك والتصرّف مع القائد ومع المسلمين ، وتعبّر تلك البيعة عن الشجاعة الفائقة والثبات المنقطع النظير على تكاليف الرسالة ؛ وهي ليست بيعة يراد منها التشجيع ، ولا بيعة عاطفية ؛ بل هي بيعة رسالية حقيقية بين القائد وأتباعه لا بين الجدّ وأحفاده ، وهي بيعة يراد منها توجيه أنظار وعقول المسلمين إلى عظم شخصية الحسن والحسين عليهماالسلام وإلى دورهم الريادي في المجتمع الإنساني ؛ لأنّ ما يصدر عن رسول الله صلىاللهعليهوآله لا يكون عبثاً بل حكمة يراد منها أمر هام في حياة المسلمين.
شهادة الإمام الحسن عليهالسلام على كتاب ثقيف : كتب رسول الله صلىاللهعليهوآله إلى ثقيف كتاباً بيّن فيه بعض الأمور المتعلّقة بحقوقهم ، وقد جاء فيه : « هذا كتاب
__________________
(١) السيرة النبوية / ابن هشام ٣ : ٣٣٠.
(٢) بحار الأنوار ٥٠ : ٧٨ / ح ٣ ونحوه في العقد الفريد / ابن عبد ربه ٥ : ١٣٣.
رسول الله صلىاللهعليهوآله لثقيف ، كتب : أنّ لهم ذمّة الله الذي لا إله إلاّ هو ، وذمّة محمد بن عبدالله النبي ، على ما كتب عليهم في هذه الصحيفة : أنّ واديهم حرام محرّم لله كلّه : عضاهه ، وصيده وظلم فيه ، وشرق فيه أو إساءة ، وثقيف أحقّ الناس بوجّ ، ولا يعبر طائعهم ، ولا يدخله عليهم أحد من المسلمين يغلبهم عليه ... وشهد على نسخة هذه الصحيفة : علي بن أبي طالب وحسن بن علي وحسين بن علي ، وكتب نسختها لمكان الشهادة ». قال أبو عبيد : « وفي هذا الحديث من الفقه : إثباته صلىاللهعليهوآله شهادة الحسن والحسين » (١). واثباته صلىاللهعليهوآله شهادتهما عليهماالسلام وهما في ذلك السن لم يكن نابعاً عن هوى أو نزوة أو رغبة عاطفية لأنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله معصوم من جميع ذلك ، فكلّ عمل أو ممارسة تصدر منه إنّما تصدر عن وحي يوحى وعن تسديد إلهي ، بل هو إشارة واضحة إلى تكاملهما في جميع مقوّمات الشخصية ، خصوصاً وأن تلك الشهاة قد جاءت في قضية مهمّة تتحدّد فيها علاقات رسول الله صلىاللهعليهوآله مع ثقيف وهي من العشائر الكبيرة في عدّتها وعددها. ومن الأمور الملفتة للنظر إنّ الطرف الآخر وهو ثقيف لم يعترض على هذه الشهادة باعتبار صغر سن الحسنين عليهماالسلام ، وهذا إن دلّ على شيء إنّما يدلّ على قناعة ثقيف بأهليتهما الكاملة للشهادة وهما في هذا العمر المبكر.
ولا يخفى ما في هذا الأسلوب النبوي الفذ من إلفات النظر إلى تصحيح مواقف الحسن عليهالسلام المستقبلية والاعتراف بسلامتها العقائدية والتشريعية ، ومن هذه المواقف ـ التي سيأتي البحث عنها ـ شهادته لأمّه فاطمة عليهاالسلام في مسألة فدك ، ومنها قوله لأبي بكر ومن ثمّ لعمر بن الخطّاب « إنزل عن منبر أبي » ، فهي لم تكن شهادة صبي ولا اعتراض صبي ، بل هي شهادة رسالية واعتراض رسالي يعبّر
__________________
(١) الأموال / أبي عبيد القاسم بن سلام : ٢٠٥ و ٢٠٧.
عن إدراك كامل لما يجري من أحداث ومواقف ومدى سلامتها الفكرية والشرعية.
موقف الإمام الحسن عليهالسلام من أبي سفيان : صالح رسول الله صلىاللهعليهوآله قادة قريش على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهنّ الناس ويكفّ بعضهم عن بعض ، إلاّ أنّ قادة قريش نقضت بعض بنود الصلح بالاعتداء على خزاعة الذين كانوا في عقد رسول الله صلىاللهعليهوآله وعهده ، فقرّر رسول الله صلىاللهعليهوآله التوجّه إلى مكّة ، وحينما سمع أبو سفيان بالأمر توجّه إلى المدينة ، وأتى رسول الله صلىاللهعليهوآله فكلّمه في تجديد العهد ، فلم يردّ عليه شيئاً ، ثمّ كلّم بعض الصحابة فلم يستجيبوا له ، فتوجّه إلى الإمام علي عليهالسلام فدخل عليه فقال : « يا أبا الحسن تمشي معي إلى ابن عمّك محمد فتسأله أن يعقد لنا عقداً ويكتب لنا كتاباً ، فقال : يا أبا سفيان لقد عقد لك رسول الله عقداً لا يرجع عنه أبداً » ، وكانت فاطمة عليهاالسلام من وراء الستر والحسن يدرج بين يديها وهو من أبناء أربعة عشر شهراً ، فقال لها : « يا بنت محمد قولي لهذا الطفل يكلّم لي جدّه فيسود بكلامه العرب والعجم ، فأقبل الحسن إلى أبي سفيان وضرب احدى يديه على أنفه والأخرى على لحيته ، ثم أنطقه الله عزّوجلّ بأن قال : يا أبا سفيان قل : لا إله إلاّ الله محمد رسول الله ؛ حتى أكون شفيعاً » (١). وفي هذه الواقعة يتّضح شأن الحسن عليهالسلام وإدراكه العميق للأشخاص والأحداث ، فقد مارس عملية تأديب لأبي سفيان كان مستحقّاً لها لنقضه عهد رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وقد دعاه إلى الإسلام لأنه العلاج الأساسي للأزمة التي حدثت ، فجعل شفاعته مشروطة بإسلامه.
فضائل الإمام الحسن عليهالسلام وإمامته :
أولاً ـ من القرآن الكريم :
أهل البيت عليهمالسلام عنوان مضيء في حياة الإنسانية وحركة التاريخ والمسيرة
__________________
(١) المناقب / ابن شهرآشوب ٤ : ٩ ، ونحوه في السيرة النبوية / ابن هشام ٤ : ٣٨.