محاضرات في أصول الفقه - ج ٥

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٩٢

وأما احتمال وضع المجموع من حيث المجموع للدلالة على ذلك زائداً على وضع كلمة (اللام) ومدخولها فهو بعيد جداً ، ضرورة ان الدال على إرادة هذه المرتبة انما هو دلالة كلمة (اللام) على التعريف والتعيين نظراً إلى انه لا تعين في الخارج الا لخصوص هذه المرتبة ، وكذا احتمال وضع كلمة (اللام) للدلالة على العموم والاستغراق ابتداء بعيد جداً ، لما عرفت من انها لم توضع الا للدلالة على التعريف والتعيين.

فالنتيجة ان الجمع المعرف باللام يدل على إرادة جميع افراد مدخوله على نحو العموم الاستغراقي.

ومنها النكرة : ذكر المحقق صاحب الكفاية (قده) انها تستعمل مرة في المعين المعلوم خارجاً عند التكلم وغير معلوم عند المخاطب كقوله تعالى : «جاء من أقصى المدينة رجل ومرة أخرى في الطبيعي المقيد بالوحدة كقولنا (جئني برجل ومن هنا يصح أن يقال (جئني برجل أو رجلين) ولا يصح ان يقال (جئني بالرجل أو رجلين) والنكتة فيه أن التثنية لا تقابل باسم الجنس حيث انه يصدق على الواحد والكثير على السواء ، ـ وما هو المعروف في الألسنة من أن النكرة وضعت للدلالة على الفرد المردد في الخارج ـ خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلا ، ضرورة انه لا وجود للفرد المردد في الخارج حيث ان كل ما هو موجود فيه متعين لا مردد بين نفسه وغيره فانه غير معقول.

وبكلمة أخرى ان مرادهم من ذلك هو ما ذكرناه من انها استعملت في الطبيعة المقيدة بالوحدة القابلة للانطباق على كثيرين في الخارج حيث انها بهذا القيد أيضا كلي.

وعليه فما ذكره (قده) في ذيل كلامه متين جداً ، وذلك لا لأجل ان النكرة موضوعة للطبيعة المقيدة بالوحدة تارة وللطبيعة المهملة التي هي

٣٦١

الموضوع له لاسم الجنس مرة أخرى كما يظهر من عبارته (قده) في بدو الأمر ، ضرورة عدم تعدد الوضع فيها ، بل هي موضوعة للطبيعة الجامعة بين جميع الخصوصيات فحسب وقد استعملت فيها دائماً ، والوحدة انما تستفاد من دال آخر ـ وهو التنوين للتنكير. فيكون من تعدد الدال. والمدلول في مقابل التعريف والتنوين للتمكن ، فان الاسم المعرب لا يستعمل في لغة العرب الا مع إحدى هذه الخصوصيات : الإضافة ، أو التنوين ، أو الألف واللام فلا يستقر الا بإحداها حيث ان تمكنه بها.

وعليه فما ذكره (قده) من ان رجلا في قولنا (جئني برجل يدل على الطبيعي المقيد بالوحدة ليس المراد استعماله فيه. بل المراد ان الرّجل استعمل في الطبيعي الجامع والوحدة مستفادة من دال آخر.

وأما ما ذكره (قده) في صدر كلامه من أن النكرة قد تستعمل في الواحد المعين عند المتكلم والمجهول عند المخاطب كما في قوله تعالى «وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى» فلا يمكن الأخذ به ، ضرورة ان لفظ (رجل في الآية لم يستعمل في المعين الخارجي المجهول عند المخاطب بل استعمل في الطبيعي المقيد بالوحدة من باب تعدد الدال والمدلول ، غاية الأمر ان مصداقه في الخارج معلوم عند المتكلم ومجهول عند المخاطب.

ومن الطبيعي ان هذا لا يوجب استعمال اللفظ فيه. وكذا الحال في الفعل الماضي أو المضارع أو الأمر كقولنا (جئني برجل أو (جاء رجل أو ما شاكل ذلك ، فان لفظ الرّجل في جميع هذه الأمثلة استعمل في الطبيعي المقيد بالوحدة بنحو تعدد الدال والمدلول وان افترض ان مصداقه في الخارج معلوم للمتكلم وغير معلوم للمخاطب إلا انه لم يستعمل فيه جزماً كما إذا أمره (بإتيان كتاب) وكان الكتاب معلوماً لديه في الخارج ، ولكنه غير معلوم لدى المخاطب لم يستعمل في هذا المعلوم المعين خارجاً وانما

٣٦٢

استعمل في الطبيعي المقيد بالوحدة.

فالنتيجة ان النكرة لم تستعمل في المعين الخارجي ولا المعين عند الله تعالى باعتبار انه سبحانه وتعالى يعلم بأنه يأتي بالفرد الفلاني المعين في الواقع بل هي تستعمل دائماً في الطبيعي الجامع ، والوحدة مستفادة من دال آخر فإذاً لا فرق بين النكرة واسم الجنس أصلا فالنكرة هي اسم الجنس ، غاية الأمر يدخل عليها التنوين ليدل على الوحدة.

ثم انك قد عرفت في ضمن البحوث السالفة ان اللفظ موضوع للماهية الجامعة بين تمام الخصوصيات التي يمكن أن تعرض عليها ، وقد يعبر عنها بالماهية المهملة التي هي فوق جميع الماهيات كما تقدم بشكل موسع.

ومن الواضح ان الإطلاق والتقييد من الخصوصيات الطارئة على الماهية التي وضع اللفظ بإزائها فهما خارجان عن حريم المعني الموضوع له وهذا هو المعروف بين المتأخرين ـ وهو الصحيح ـ وعليه فالتقييد لا يستلزم المجاز ، فان اللفظ استعمل في معناه الموضوع له ، والتقييد مستفاد من دال آخر ، بل لو كان موضوعاً للمطلق بمعنى اللا بشرط القسمي كما هو المعروف بين القدماء فأيضاً لا يستلزم التقييد المجاز ، فان المراد الاستعمالي منه هو المطلق ، واللفظ قد استعمل فيه ، والتقييد انما يدل على ان المراد الجدي هو المقيد دون المطلق ، ولا يدل على ان اللفظ قد استعمل في المقيد. هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى ان المحمول تارة يكون من المعقولات الثانوية كقولنا (الإنسان نوع) و (الحيوان جنس) و (الضاحك عرض خاص) وهكذا ففي مثل ذلك فالموضوع هو الماهية ولا ينطبق على الموجود الخارجي لوضوح ان زيداً مثلا ليس بنوع ، والبقر ليس بجنس ، وضحك زيد ليس بعرض خاص ، وهكذا. فلا يسري المحمول إلى خصصه وافراده في

٣٦٣

الخارج ، فهذا القسم خارج عن محل الكلام هنا ـ وهو البحث عن إطلاق الموضوع وتقييده ـ. وتارة أخرى يكون المحمول من غيرها مما هو قابل السراية إلى حصص الموضوع وافراده في الخارج «وهذا القسم هو محل الكلام في المقام.

وعلى ذلك فالموضوع أو المتعلق لا يخلو من أن يكون مطلقاً بمعنى الإرسال أو مقيداً بأمر وجودي أو عدمي فان كانت هناك قرينة شخصية على أحدهما فهو وان لم تكن قرينة كذلك فهل هنا قرينة عامة على تعيين أحدهما أولا فقد ذكروا لتعيين الإطلاق قرينة عامة تسمى بمقدمات الحكمة فان تمت تلك المقدمات ثبت الإطلاق وإلا فلا ويعتبر في تمامية هذا المقدمات أمور :

الأول : أن يكون المتكلم متمكناً من البيان والإتيان بالقيد وإلا فلا يكون لكلامه إطلاق في مقام الإثبات حتى يكون كاشفاً عن الإطلاق في مقام الثبوت ، بيان ذلك ان الإطلاق أو التقييد تارة يلحظ بالإضافة إلى الواقع ومقام الثبوت. وأخرى بالإضافة إلى مقام الإثبات والدلالة ، أما على الأول فقد ذكرنا غير مرة انه لا واسطة بينهما في الواقع ونفس الأمر وذلك لأن المتكلم الملتفت إلى الواقع وماله من الخصوصيات حكيماً كان أو غيره فلا يخلو من أن يأخذ في متعلق حكمه أو موضوعه خصوصية من تلك الخصوصيات أو لا يأخذ فيه شيئاً منها ولا ثالث لهما ، فعلى الأول يكون مقيداً ، وعلى الثاني يكون مطلقاً ، ولا يعقل شق ثالث بينهما يعني لا يكون مطلقاً ولا مقيداً. ومن هنا قلنا ان استحالة التقييد تستلزم ضرورة الإطلاق وبالعكس.

وأما ما ذكره شيخنا الأستاذ (قده) من ان التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة كالعمى والبصر وانه لا بد من طروهما على موضوع قابل

٣٦٤

للاتصاف بالملكة لم يكن قابلا للاتصاف بالعدم أيضا ، وكذا العكس ولأجل ذلك لا يصح إطلاق الأعمي على الجدار مثلا ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، ولذا قال (قده) ان استحالة الإطلاق في مورد تستلزم استحالة التقييد فيه وبالعكس فلا يمكن المساعدة عليه بوجه ، وذلك لما ذكرناه مراراً من ان التقابل بينهما من تقابل التضاد لا العدم والملكة وان استحالة أحدهما تستلزم ضرورة الآخر لا استحالته ، بداهة ان الإهمال في الواقع مستحيل فالحكم فيه اما مطلق أو مقيد ولا ثالث لهما.

ولو تنزلنا عن ذلك وسلمنا ان التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة الا انه لا يعتبر كون الموضوع لها أمراً شخصياً ، بل قد يكون الموضوع فيها نوعياً ولا يعتبر في مثله أن يكون كل فرد من افراد الموضوع قابلا للاتصاف بها ، بل يستحيل ذلك بالإضافة إلى بعض افراده كما هو الحال في العلم والجهل بالإضافة إلى ذاته سبحانه وتعالى ، فان العلم بكنه ذاته تعالى مستحيل.

ومن الواضح ان استحالته لا تستلزم استحالة الجهل به ، بل تستلزم ضرورته رغم ان التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة ، وكذا الحال في غنى الممكن وفقره بالإضافة إليه تعالى وتقدس ، فان استحالة غنائه عن ذاته سبحانه لا تستلزم استحالة فقره ، بل تستلزم ضرورته ووجوبه رغم ان التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة فليكن المقام من هذا القبيل يعني ان التقابل بين الإطلاق والتقييد يكون من تقابل العدم والملكة فمع ذلك تستلزم استحالة أحدهما في مقام الثبوت والواقع ضرورة الآخر لا استحالته.

وعلى الثاني وهو ما إذا كان الإطلاق والتقييد ملحوظين بحسب مقام الإثبات فحينئذ ان تمكن المتكلم من البيان وكان في مقامه ومع ذلك لم يأت بقيد في كلامه كان إطلاقه في هذا المقام كاشفاً عن الإطلاق في مقام الثبوت

٣٦٥

وان مراده في هذا المقام مطلق وإلا لكان عليه البيان.

وأما إذا لم يتمكن من الإتيان يقيد في مقام الإثبات فلا يكشف إطلاق كلامه في هذا المقام عن الإطلاق في ذاك المقام والحكم بأن مراده الجدي في الواقع هو الإطلاق ، لوضوح ان مراده لو كان في الواقع هو المقيد لم يتمكن من بيانه والإتيان بقيد ، ومعه كيف يكون إطلاق كلامه في مقام الإثبات كاشفاً عن الإطلاق في مقام الثبوت.

الأمر الثاني : أن يكون المتكلم في مقام البيان ولا يكون في مقام الإهمال والإجمال كما في قوله تعالى : «أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة» وقوله تعالى : «وقرآن الفجر» وما شاكل ذلك ، فان المتكلم في هذه الموارد لا يكون في مقام البيان ، نظير قول الطبيب للمريض اشرب الدواء فانه ليس في مقام البيان ، بل هو في مقام ان في شرب الدواء نفع له في الجملة ولا يمكن الأخذ بإطلاق كلامه ، مع ان بعضه مضر بحاله جزماً.

فالنتيجة ان المتكلم إذا لم يكن في مقام البيان لم يكن لكلامه ظهور في الإطلاق حتى يتمسك به.

نعم إذا كان المتكلم في مقام البيان من جهة ولم يكن في مقام البيان من جهة أخرى لا مانع من التمسك بإطلاق كلامه من الجهة التي كان في مقام البيان من تلك الجهة دون الجهة الأخرى ، وهذا في الآيات والروايات كثير : اما في الآيات فكقوله تعالى : «كلوا مما أمسكن» فانه إذا شك في اعتبار الإمساك من الحلقوم في تذكيته وعدم اعتباره لا مانع من التمسك بإطلاق الآية الكريمة من هذه الناحية والحكم بعدم اعتبار الإمساك من الحلقوم.

وأما إذا شك في طهارة محل الإمساك وعدمها فلا يمكن التمسك بإطلاق الآية من هذه الناحية ، لأن إطلاقها غير ناظر إليها أصلا فلا تكون

٣٦٦

الآية في مقام البيان من هذه الجهة فلا محالة عندئذ يحكم بنجاسته.

وأما في الروايات فمنها قوله عليه‌السلام (لا بأس بالصلاة في دم إذا كان أقل من درهم) فانه في مقام البيان من جهة ان هذا المقدار من الدم غير مانع من ناحية النجاسة حيث ان المتفاهم العرفي كون هذا استثناء من مانعية الدم من هذه الناحية ، ولا يكون في مقام البيان من جهة أخرى ـ وهي كونه من دم المأكول أو غير المأكول ـ وعليه فإذا شك في صحة الصلاة فيه وعدم صحتها لم يجز التمسك بإطلاق الرواية ، لعدم كون إطلاقها ناظراً إلى هذه الناحية.

فالنتيجة انه لا إشكال في ذلك وان المتكلم من أي جهة كان في مقام البيان جاز التمسك بإطلاق كلامه من هذه الجهة وان لم يكن في مقام البيان من الجهات الأخرى.

ثم انه لا بد من بيان أمرين : (الأول) [ما هو المراد من كون المتكلم في مقام البيان] (الثاني) فيما إذا شك في انه في مقام البيان أم لا.

أما الأول : فليس المراد من كونه في مقام البيان من جميع الجهات والنواحي ، ضرورة ان مثل ذلك لعله لم يتفق في شيء الآيات والروايات ولو اتفق في مورد فهو نادر جداً كما انه ليس المراد من عدم كونه في مقام البيان أن لا يكون في مقام التفهيم أصلا مثل ما إذا تكلم بلغة لا يفهم المخاطب منها شيئاً كما إذا تكلم للعرب بلغة الفرس مثلا ، بل المراد منه أن لا ينعقد لكلامه ظهور في الإطلاق كقول الطبيب للمريض اشرب الدواء ، فان المريض يفهم منه انه لا بد له من شرب الدواء ، ولكنه ليس في مقام البيان ، بل في مقام الإهمال والإجمال ، ولذا لا إطلاق لكلامه بحيث يكون كاشفاً عن مراده الجدي وكان حجة على المخاطب فيحتج به عليه وبالعكس.

٣٦٧

والحاصل ان المراد من كونه في مقام البيان هو انه يلقي كلامه على نحو ينعقد له ظهور في الإطلاق ويكون حجة على المخاطب على سبيل القاعدة.

ومن ذلك يظهر أن التقييد بدليل منفصل لا يضر بكونه في مقام البيان ولا يكشف عن ذلك وانما يكشف عن ان المراد الجدي لا يكون مطابقاً للمراد الاستعمالي ، وقد تقدم أنه قد يكون مطابقاً له ، وقد لا يكون مطابقاً له ، ولا فرق في ذلك بين العموم الوضعي والعموم الإطلاقي ، ولذا ذكرنا سابقاً ان التخصيص بدليل منفصل لا يكشف عن ان المتكلم ليس في مقام البيان مثلا قوله تعالى : «أحل الله البيع» في مقام البيان مع ورود التقييد عليه بدليل منفصل في غير مورد ، وكذا الحال فيما إذا افترضنا ان الآية عموماً تدل عليه بالوضع.

وعلى الجملة فلا فرق من هذه الناحية بين العموم والمطلق فكما أن التخصيص بدليل منفصل لا يوجب سقوط العام عن قابلية التمسك به فكذلك التقييد بدليل منفصل ، ويترتب على ذلك ان تقييد المطلق من جهة لا يوجب سقوط إطلاقه من جهات أخرى إذا كان في مقام البيان من هذه الجهات أيضا فلا مانع من التمسك به من تلك الجهات إذا شك فيها ، كما إذا افترضنا ان الآية في مقام البيان من جميع الجهات وقد ورد عليها التقييد بعدم كون البائع صبياً أو مجنوناً أو سفيهاً وشك في ورود التقييد عليها من جهات أخرى كما إذا شك في اعتبار الماضوية في الصيغة أو الموالاة بين الإيجاب والقبول فلا مانع من التمسك بإطلاقها من هذه الجهات والحكم بعدم اعتبارها.

وأما الأمر الثاني : فالمعروف والمشهور بين الأصحاب هو استقرار بناء العقلاء على حمل كلام المتكلم على كونه في مقام البيان إذا شك في

٣٦٨

ذلك ، ومن هنا قالوا ان الأصل في كل كلام صادر عن متكلم هو كونه في مقام البيان فعدم كونه في هذا المقام يحتاج إلى دليل.

ولكن الظاهر انه غير تام مطلقاً ، وذلك لأن الشك تارة من جهة ان المتكلم كان في مقام أصل التشريع أو كان في مقام بيان تمام مراده كما إذا شك في أن قوله تعالى : «أحل الله البيع» في مقام بيان أصل التشريع فحسب كما هو الحال في قوله تعالى «أقيموا الصلاة» أو في مقام بيان تمام المراد ففي مثل ذلك لا مانع من التمسك بالإطلاق لقيام السيرة من العقلاء على ذلك الممضاة شرعاً. وأخرى يكون الشك من جهة سعة الإرادة وضيقها يعني انا نعلم بأن لكلامه إطلاقاً من جهة ولكن نشك في إطلاقه من جهة أخرى كما في قوله تعالى : «كلوا مما مسكن» حيث نعلم بإطلاقه من جهة ان حلية أكله لا نحتاج إلى الذبح سواء أكان إمساكه من محل الذبح أو من موضع آخر كان إلى القبلة أو إلى غيرها ولكن لا نعلم أنه في مقام البيان من جهة أخرى وهي جهة طهارة محل الإمساك ونجاسته ـ ففي مثل ذلك لا يمكن التمسك بالإطلاق كما عرفت ، لعدم قيام السيرة على حمل كلامه في مقام البيان من هذه الجهة.

الثالث : ان لا يأتي المتكلم بقرينة لا متصلة ولا منفصلة وإلا فلا يمكن التمسك بإطلاق كلامه ، لوضوح ان إطلاقه في مقام الإثبات انما يكشف عن الإطلاق في مقام الثبوت إذا لم ينصب قرينة على الخلاف ، وأما مع وجودها فان كانت متصلة فهي مانعة عن أصل انعقاد الظهور وان كانت منفصلة فالظهور وان انعقد الا انها تكشف عن ان الإرادة الاستعمالية لا تطابق الإرادة الجدية ، واما إذا لم يأت بقرينة كذلك فيثبت لكلامه إطلاق كاشف عن الإطلاق في مقام لثبوت ، لتبعية مقام الإثبات لمقام الثبوت ، ضرورة ان إطلاق الكلام أو تقييده في مقام الإثبات معلول

٣٦٩

لإطلاق الإرادة أو تقييدها في مقام الواقع والثبوت.

وعلى الجملة فالإرادة التفهيمية هي العلة لإبراز الكلام وإظهاره في مقام الإثبات ، فان المتكلم إذا أراد تفهيم شيء يبرزه في الخارج بلفظ ، فعندئذ ان لم ينصب قرينة منفصلة على الخلاف كشف ذلك عن ان الإرادة التفهيمية مطابقة للإرادة الجدية والا لم تكن مطابقة لها.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي ان المتكلم إذا كان متمكناً من الإتيان بقيد وكان في مقام البيان ومع ذلك لم يأت بقرينة على الخلاف لا متصلة ولا منفصلة كشف ذلك عن الإطلاق في مقام الثبوت وهذا مما قد قامت السيرة القطعية من العقلاء على ذلك الممضاة شرعاً ، ولا نحتاج في التمسك بالإطلاق إلى أزيد من هذه المقدمات الثلاث فهي قرينة عامة على إثبات الإطلاق ، واما القرائن الخاصة فهي تختلف باختلاف الموارد فلا ضابط لها.

بقي في المقام أمران : الأول ان القدر المتيقن بحسب التخاطب هل يمنع عن التمسك بالإطلاق فيه وجهان : ذكر المحقق صاحب الكفاية (قده) انه يمنع عنه وتفصيل الكلام في المقام انه يريد تارة بالقدر المتيقن القدر المتيقن الخارجي يعني انه متيقن بحسب الإرادة خارجاً من جهة القرائن منها مناسبة الحكم والموضوع.

ومن الواضح ان مثل هذا المتيقن لا يمنع عن التمسك بالإطلاق ، ضرورة أنه لا يخلو مطلق في الخارج عن ذلك الا نادراً فلو قال المولى (أكرم عالماً) فان المتيقن منه هو العالم الهاشمي الورع النقي ، إذ لا يحتمل أن يكون المراد منه غيره دونه ، واما احتمال أن يكون المراد منه ذلك دون غيره فهو موجود.

ومن هذا القبيل قوله تعالى : «أحل الله البيع» فان القدر المتيقن

٣٧٠

منه هو البيع الموجود بالصيغة العربية الماضوية ، إذ لا يحتمل أن يكون المراد منه غيره دونه. وأخرى يريد به القدر المتيقن بحسب التخاطب ، وهذا هو مراد صاحب الكفاية (قده) دون الأول ، وقد ادعى (قده) منعه عن التمسك بالإطلاق ، ولكن الظاهر أنه لا يمكن المساعدة على هذه الدعوى ، والسبب فيه ان المراد بالقدر المتيقن بحسب التخاطب هو أن يفهم المخاطب من الكلام الملقى إليه أنه مراده جزماً.

ومنشأ ذلك أمور : عمدتها كونه واقعاً في مورد السؤال ، مثلا في موثقة ابن بكير سأل زرارة أبا عبد الله عليه‌السلام (عن الصلاة في الثعالب والفنك والسنجاب وغيره من الوبر فأخرج كتاباً زعم انه إملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ان الصلاة في وبر كل شيء حرام أكله فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وكل شيء منه فاسد لا تقبل تلك الصلاة حتى يصلي غيره مما أحل الله أكله) ان المتيقن بحسب التخاطب هو مورد السؤال ، ضرورة احتمال ان الإمام عليه‌السلام أراد غير مورد السؤال دونه غير محتمل جزماً ، وأما العكس فهو محتمل ، ولكن الكلام انما هو في منعه عن التمسك بالإطلاق والظاهر انه غير مانع عنه.

والسبب فيه أن ظهور الكلام في الإطلاق قد انعقد ، ولا أثر له من هذه الناحية.

ومن الطبيعي أنه لا يجوز رفع اليد عن الإطلاق ما لم تقم قرينة على الخلاف ، ولا قرينة في البين ، أما القرينة المنفصلة فهي مفروضة العدم واما القرينة المتصلة فأيضاً كذلك بعد فرض ان القدر المتيقن المزبور لا يصلح أن يكون مانعاً عن انعقاد الظهور في الإطلاق.

وعليه فلا مناص من التمسك به ، وبما ان مقام الإثبات تابع لمقام الثبوت فالإطلاق في الأول كاشف عن الإطلاق في الثاني ، ولذا لو سئل

٣٧١

عن مجالسة شخص معين في الخارج وأجيب بعدم جواز مجالسة الفاسق لم يحتمل بحسب الفهم العرفي اختصاصه بذاك الشخص المعين في الخارج فلا محالة يعم غيره أيضا.

فالنتيجة ان حال هذا القدر المتيقن حال القدر المتيقن الخارجي فكما انه لا يمنع عن التمسك بالإطلاق فكذلك هذا فلو كان هذا مانعاً عنه لكان ذاك أيضا مانعاً فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا.

ثم ان الماهية تارة تلحظ بالإضافة إلى أفراد يكون صدقها عليها بالتواطي والتساوي. وأخرى تلحظ بالإضافة إلى أفراد يكون صدقها عليها بالتشكيك حيث قد برهن في محله استحالة التشكيك في الماهيات ، ونقصد بالتشكيك والتواطؤ هنا التشكيك والتواطؤ بحسب المتفاهم العرفي وارتكازاتهم وله عوامل عديدة : منها علو مرتبة بعض أفراد الماهية على نحو يوجب انصرافها عنه عرفاً ، ومن ذلك لفظ الحيوان فانه موضوع لغة لمطلق ما له الحياة فيكون معناه اللغوي جامعاً بين الإنسان وغيره إلا انه في الإطلاق العرفي ينصرف عن الإنسان.

ومن هنا ذكرنا ان المتفاهم العرفي من مثل قوله عليه‌السلام لا تصل فيما لا يؤكل لحمه) هو خصوص الحيوان في مقابل الإنسان فلا مانع من الصلاة في شعر الإنسان ونحوه وكيف كان فلا شبهة في هذا الانصراف بنظر العرف ، ولا يمكن التمسك بالإطلاق في مثل ذلك ، لفرض ان الخصوصية المزبورة مانعة عن ظهور المطلق في الإطلاق وتكون بمنزلة القرينة المتصلة التي تمنع عن انعقاد ظهوره فيه.

ومنها دنو مرتبة بعض افرادها على نحو يكون صدقها عليه مورداً الشك كصدق الماء على ماء الكبريت أو ما شاكله ففي مثل ذلك لا يمكن التمسك بالإطلاق أيضا ، وذلك لأن المعتبر في التمسك به هو أن يكون

٣٧٢

صدق المطلق على الفرد المشكوك فيه محرزاً ، والشك انما كان من ناحية أخرى. وأما فيما إذا لم يكن أصل الصدق محرزاً فلا يمكن التمسك به ، وما نحن فيه من هذا القبيل حيث ان أصل الصدق مشكوك فيه فلا يمكن التمسك بإطلاق لفظ الماء بالإضافة إلى ماء الكبريت أو نحوه ، غاية الأمر ان الأول من قبيل احتفاف الكلام بالقرينة المتصلة ، والثاني من قبيل احتفافه بما يصلح للقرينية ، ولكنهما يشتركان في نقطة واحدة ـ وهي المنع عن انعقاد ظهور المطلق في الإطلاق.

وأما الانصراف في غير هذين الموردين وما شاكلهما فلا يمنع عن التمسك بالإطلاق ، فانه لو كان فانما هو بدوي فيزول بالتأمل ، ومن ذلك الانصراف المستند إلى غلبة الوجود فانه بدوي ولا أثر له ولا يمنع عن التمسك الإطلاق حيث أنه يزول بالتأمل والتدبر.

التقييد هل يستلزم المجاز فيه وجهان : بناء على ما اخترناه من أن الألفاظ وضعت بإزاء الماهيات المهملة الجامعة بين جميع الخصوصيات الطارئة فهو لا يستلزم المجاز أصلا ، إذ على أساس هذه النظرية فالإطلاق والتقييد كلاهما خارجان عن حريم المعنى الموضوع له فكل منهما مستفاد من القرينة فالإطلاق مستفاد غالباً من قرينة الحكمة والتقييد من القرينة الخاصة فاللفظ في كلتا الحالتين مستعمل في معناه الموضوع له.

نعم استعماله في خصوص المقيد يكون مجازاً كما ان استعماله في خصوص المطلق يكون كذلك فلا فرق بينهما من هذه الناحية ، ولكن هذا الفرض خارج عن محل الكلام فان محل الكلام انما هو في أن تقييد المطلق بقيد هل يوجب المجاز فيه أم لا وقد عرفت انه لا يوجب ذلك ، وان التقييد مستفاد من دال آخر كما ان الإطلاق كذلك.

وأما بناء على نظرية القدماء من أن الألفاظ موضوعة للماهية اللا بشرط

٣٧٣

القسمي يعني ان الإطلاق والسريان مأخوذ في المعنى الموضوع له فلا بد من التفصيل بين القرينة المتصلة والقرينة المنفصلة فان الأولى تستلزم المجاز لا محالة حيث ان الإطلاق والسريان لا يجتمع مع التقييد والتضييق وأما الثانية فلا تستلزم ذلك لما ذكرناه في بحث العام والخاصّ من أنه لا مانع من أن يكون المراد الاستعمالي من الكلام غير المراد الجدي ، والمفروض ان الحقيقة والمجاز تدوران مدار الأول دون الثاني.

وعليه فلا مانع من أن يكون المراد الاستعمالي في المقام هو الإطلاق والسريان ضرباً للقاعدة كما هو الحال في استعمال العام في العموم في موارد التخصيص بالمنفصل ، والمراد الجدي هو التقييد والتضييق ، فإذاً يكون اللفظ مستعملا في معناه الموضوع له ، غاية الأمر انه غير مراد جداً.

وعلى الجملة فالتقييد بالمنفصل لا يكشف عن أن المطلق استعمل في المقيد ، وإنما يكشف عن ان الإرادة الاستعمالية لا تطابق الإرادة الجدية.

(هل يحمل المطلق على المقيد)

إذا ورد مطلق ومقيد فهل يحمل المطلق على المقيد أم لا فالكلام فيه يقع في موضعين :

الأول : أن يكون الحكم متعلقاً بالمطلق على نحو صرف الوجود كقول المولى (أعتق رقبة).

الثاني : أن يكون الحكم متعلقاً به على مطلق الوجود كقوله تعالى : «أحل الله البيع» حيث ان الحكم فيه ينحل بانحلال أفراد متعلقه دون الأول.

اما الموضع الأول : فالكلام فيه تارة يقع في المقيد الّذي يكون مخالفاً

٣٧٤

للمطلق في الحكم كقوله (أعتق رقبة ولا تعتق رقبة كافرة) أو قوله : (صلى ولا تصل فيما لا يؤكل لحمه) أو (في النجس) أو نحو ذلك وأخرى يقع في المقيد الّذي يكون موافقاً له فيه كقوله : (أعتق رقبة وأعتق رقبة مؤمنة) وعلى الأول فقد تسالم الأصحاب فيه على حمل المطلق على المقيد فيقيد الرقبة في المثال الأول بغير الكافرة ، والصلاة في المثال الثاني بغير الصلاة الواقعة فيما لا يؤكل أو في النجس. وعلى الثاني فقد اختلفوا فيه على قولين : (أحدهما) أنه يحمل المطلق على المقيد (وثانيهما) انه يحمل المقيد على أفضل الافراد.

ولكن الظاهر أنه لا وجه للفرق بين هذا القسم والقسم الأول فهما من واد واحد فلا وجه للإنفاق في الأول والاختلاف في الثاني أصلا ، فانه ان حمل المطلق على المقيد في الأول ففي الثاني أيضا كذلك وان حمل المقيد في الثاني على أفضل الافراد برفع اليد عن ظهوره في الوجوب حمل المقيد في الأول على المرجوحية ، حيث ان ظهور الأمر في جانب المقيد في الوجوب ليس بأقل من ظهور النهي في الحرمة فما يقتضي رفع اليد عن ظهور الأمر في الوجوب وحمله على الرجحان يقتضي رفع اليد عن ظهور النهي في الحرمة وحمله على المرجوحية ، وكيف كان فالملاك في القسمين واحد فلا وجه للتفرقة بينهما.

ثم اننا تارة نعلم من الخارج ان الحكم في موردي المطلق والمقيد واحد كما إذا قال المولى (ان ظاهرت فأعتق رقبة) (وان ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة) فنعلم ان الحكم واحد حيث ان الظهار ليس إلا سبباً لكفارة واحدة وليس موجباً لكفارتين ففي مثل ذلك هل يحمل المطلق على المقيد أو يحمل المقيد على أفضل الافراد فذهب جماعة إلى الأولى بدعوى ان فيه جمعاً بين الدليلين وعملا بهما دون العكس. وفيه أنه ان أريد به حصول

٣٧٥

الامتثال بالإتيان بالمقيد فهو مما لا إشكال فيه ، فان الامتثال يحصل به على كل تقدير أي سواء أكان واجباً أو كان من أفضل الافراد. وان أريد ان الجمع بين الدليلين منحصر به ففيه ان الأمر ليس كذلك ، فان الجمع بينهما كما يمكن بذلك يمكن بحمل المقيد على أفضل الافراد فلا وجه لترجيح الأول على الثاني.

ومن هنا ذكر المحقق صاحب الكفاية (قده) وجهاً آخر لذلك وهو ان ظهور الأمر في طرف المقيد في الوجوب التعييني بما أنه أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق فيقدم عليه. وفيه أنه لا يتم على مسلكه (قده) حيث انه قد صرح في بحث الأوامر ان صيغة الأمر لم توضع للدلالة على الوجوب التعييني ، بل هو مستفاد من الإطلاق ومقدمات الحكمة ، وعليه فلا فرق بين الظهورين فلا يكون ظهور الأمر في الوجوب التعييني أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق.

فالصحيح في المقام أن يقال ان الأمر بالمقيد بما انه ظاهر في الوجوب على ما حققناه في محله من ظهور صيغة الأمر في الوجوب ما لم تقم قرينة على الترخيص فيقدم على ظهور المطلق في الإطلاق حيث ان ظهوره فيه يتوقف على البيان وهو يصلح أن يكون بياناً له عرفاً.

ومن الواضح ان في كل مورد يدور الأمر بين رفع اليد عن ظهور القرينة ورفع اليد عن ظهور ذيها يتعين الثاني بنظر العرف ، وعليه فيكون ظهور الأمر بالمقيد في الوجوب مانعاً عن ظهور المطلق في الإطلاق ونقصد بظهوره الظهور الكاشف عن المراد الجدي ، فانه يتوقف على عدم البيان المنفصل دون أصل ظهوره حيث أنه لا يتوقف عليه وانما يتوقف على عدم البيان المتصل.

وعلى الجملة فلا يشك بحسب المتفاهم العرفي وارتكازاتهم في تقديم

٣٧٦

ظهور المقيد على ظهور المطلق سواء أكان في كلام منفصل أو متصل ، غاية الأمر أنه على الأول يمنع عن حجية الظهور وكاشفيته عن المراد الجدي وعلى الثاني يمنع عن أصل انعقاد الظهور له فلا تكون بينهما معارضة أبداً هذا فيما إذا علم وحدة التكليف من الخارج.

وأما إذا احتمل تعدد التكليف حسب تعددهما فالمحتملات فيه أربع :

الأول : أن يحمل المطلق على المقيد.

الثاني : أن يحمل المقيد على أفضل الأفراد.

الثالث : لا هذا ولا ذاك فيبنى على تعدد التكليف لكن من قبيل واجب في واجب آخر هذا يعني ان عتق الرقبة واجب على نحو الإطلاق وخصوصية كونها مؤمنة أيضا واجبة ، نظير ما لو نذر المكلف الإتيان بالصلاة في المسجد أو في الجماعة أو في الحرم الشريف أو شاكل ذلك ، فان طبيعي الصلاة واجب على نحو الإطلاق وأينما سرى وخصوصية كونها في المسجد أو في الجماعة واجبة أيضا فيكون من قبيل الواجب في الواجب وقد اختار بعض الفقهاء هذا الوجه في الأغسال الثلاثة للميت حيث قال ان طبيعي الغسل بالماء واجب أينما سرى وخصوصية كونه بالكافور واجبة أخرى ، وكذا خصوصية كونه بماء السدر ، ويترتب على ذلك ان المكلف إذا أتى بالصلاة في غير المسجد مثلا سقط الأمر الثاني أيضا بسقوط موضوعه ولا مجال له بعد ذلك ، غاية الأمر أنه قد خالف نذره ، وبترتب على مخالفته استحقاق العقاب من ناحية ، ولزوم الكفارة من ناحية أخرى.

الرابع : أن يكون كل من المطلق والمقيد واجباً مستقلا ، نظير ما إذا أمر المولى بالإتيان بالماء على نحو الإطلاق وكان غرضه منه غسل الثوب به ، ومن المعلوم أنه لا فرق في كونه ماء حاراً أو بارداً أو ما شاكل ذلك ثم أمر بالإتيان بالماء البارد لأجل الشرب فلا شبهة في أنهما واجبان

٣٧٧

مستقلان. هذا بحسب مقام الثبوت. وأما بحسب مقام الإثبات فالاحتمال الثاني من هذه المحتملات خلاف الظاهر جداً فلا يمكن الأخذ به ، لما عرفت من ظهور الأمر في الوجوب وحمله على الندب خلاف هذا الظهور فيحتاج إلى دليل ، ولا دليل في المقام عليه وبدونه فلا يمكن.

وأما الاحتمال الثالث : فالظاهر ان المقام ليس من هذا القبيل أي من قبيل الواجب في الواجب كما هو الحال في مورد النذر ، أو العهد ، أو الشرط في ضمن العقد المتعلق بحصة خاصة من الواجب ، والوجه في ذلك هو ان الأوامر المتعلقة بالقيودات والخصوصات في باب العبادات والمعاملات ظاهرة في الإرشاد إلى الجزئية أو الشرطية ، وليست ظاهرة في المولوية وان كانت بأنفسها كذلك ، إلا ان لخصوصية في المقام تنقلب ظهورها من المولوية إلى الإرشاد ، كما ان النواهي المتعلقة بها ظاهرة في الإرشاد إلى المانعية من جهة تلك الخصوصية.

ومن هنا يكون المتفاهم العرفي من مثل قوله عليه‌السلام (لا تصل فيما لا يؤكل لحمه) هو الإرشاد إلى مانعية لبسه في الصلاة ، وكذا الحال في المعاملات مثل قوله (نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن بيع الغرر) فانه ظاهر في الإرشاد إلى مانعية الغرر عن البيع ، هذا مضافاً إلى أن الأمر في أمثال هذه الموارد قد تعلق بالتقييد لا بالقيد فصرف الأمر عنه إليه خلاف الظاهر جداً.

وأما الاحتمال الرابع : فهو يتصور على نحوين : (أحدهما) أن يسقط كلا التكليفين معاً بالإتيان بالمقيد و (ثانيهما) عدم سقوط التكليف بالمطلق بالإتيان بالمقيد ، بل لا بد من الإتيان به أيضا.

أما الأول : فيكون المقام نظير ما ذكرناه سابقاً من انه لو كان بين متعلقي التكليفين عموم من وجه كعنوان العالم وعنوان الهاشمي سقط كلا

٣٧٨

التكليفين بامتثال المجمع ـ وهو إكرام العالم الهاشمي ـ حيث ان هذا مقتضى طلاق دليل كل منهما ، وما نحن فيه من هذا القبيل يعني أن المقيد مجمع لكلا العنوانين فيسقط كلا التكليفين بإتيانه.

وغير خفي ان هذا بحسب مقام الثبوت وان كان أمراً ممكناً إلا انه لا يمكن الأخذ به في مقام الإثبات ، وذلك لأن الإتيان بالمقيد إذا كان موجباً لسقوط الأمر عن المطلق أيضا فلا محالة يكون الأمر به لغواً محضاً حيث ان الإتيان بالمقيد مما لا بد منه. ومعه يكون الأمر بالمطلق لغواً وعبثاً ولا يقاس هذا بما ذكرناه من المثال ، فان إطلاق الأمر فيه بكل من الدليلين لا يكون لغواً أبداً. لفرض ان لكل منهما مادة الافتراق بالإضافة إلى الآخر.

وعلى الجملة فلا بد حينئذ من تقييد الأمر بالمطلق بالإتيان به في ضمن غير المقيد مع الترخيص في تركه بالإتيان بالمقيد ابتداء ، ومرد ذلك إلى ان المكلف مخير بين الإتيان بالمقيد ابتداء ليسقط كلا التكليفين معاً وبين الإتيان بالمطلق في ضمن حصة أخرى أو لا ثم بالمقيد وهذا يعنى ان المكلف لو أتى بالمطلق فلا بد من الإتيان به في ضمن حصة أخرى.

ولكن من الواضح ان ذلك يستلزم خلاف الظاهر من جهتين : (الأولى) ان التقييد المذكور خلاف الظاهر جداً فيحتاج إلى قرينة (الثانية) ان حمل الأمر في طرف المطلق على التخيير خلاف الظاهر فلا يمكن الأخذ به بدون قرينة.

وان شئت قلت : ان هذا التخيير نتيجة التقييد المزبور ، فانه مضافاً إلى أنه بنفسه خلاف الظاهر يستلزم خلاف الظاهر من هذه الناحية أيضا ولأجل ذلك لا يمكن الأخذ به.

وأما الثاني : وهو ما إذا لم يسقط التكليف بالمطلق بالإتيان بالمقيد

٣٧٩

فأيضاً لا يمكن المساعدة عليه ، وذلك لأنه لا بد حينئذ من تقييد الأمر بالمطلق بغير هذه الحصة وإلا فلا موجب لعدم سقوطه بالإتيان بالمقيد بعد فرض انطباقه عليه انطباق الطبيعي على حصته.

ومن المعلوم ان التقييد خلاف الظاهر فيحتاج إلى قرينة ولا قرينة في المقام على ذلك وبدونها فلا يمكن.

فالنتيجة أنه لا يمكن الأخذ بشيء من هذه الوجوه الثلاثة فيتعين حينئذ الوجه الأول وهو حمل المطلق على المقيد.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي انه إذا علم من الخارج تعدد التكليف فالمتعين هو الوجه الرابع ، واما إذا لم يعلم تعدده وان احتمل فالمتعين هو الوجه الأول ، لما عرفت من عدم مساعدة الدليل على بقية الوجوه ، هذا تمام الكلام في المقام الأول.

وأما المقام الثاني : وهو ما إذا كان الحكم متعلقاً بمطلق الوجود يعني ان الحكم يكون انحلالياً كما في قوله تعالى : «أحل الله البيع» و «تجارة عن تراض» وما شاكل ذلك فيقع الكلام فيه تارة فيما إذا كان دليل المقيد مخالفاً له في الإيجاب والسلب وأخرى يكون موافقاً له في ذلك.

أما على الأول : فلا شبهة في تقييد المطلق به ، ومن هنا قد قيد إطلاق الآية بغير موارد البيع الغرري وبيع الخمر وبيع الخنزير والبيع الربوي وما شاكل ذلك وأمثلة هذا في الآيات والروايات كثيرة ولا كلام ولا خلاف في ذلك.

وأما على الثاني : فالمعروف والمشهور بينهم أنه لا موجب لحمل المطلق على المقيد لعدم التنافي بينهما فالمقيد فيه يحمل على أفضل الأفراد. ولكن هذا انما يتم فيما إذا لم نقل بدلالة الوصف على المفهوم بالمعنى الّذي تقدم

٣٨٠