أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

وإنما هو أن الظالمين وهم المشركون ما يعد بعضهم بعضا وهو أن الآلهة ستشفع لنا وتقربنا إلى الله زلفى إلا غرورا وباطلا فالرؤساء غرّروا بالمرء وسين وكذبوا عليهم بأن الآلهة تشفع لهم عند الله وتقربهم منه زلفى فلهذا عبدوها من دون الله وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ (١) السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) يخبر تعالى عن عظيم قدرته ولطفه بعباده ، ورحمته بهم وهي أنه تعالى يمسك السموات السبع والأرض أن تزولا أي تتحول عن أماكنهما ، إذ لو زالتا لخرب العالم في لحظات ، وقوله : (وَلَئِنْ زالَتا) أي ولو زالتا (إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ (٢) أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) أي لا يقدر على ذلك إلا هو سبحانه وتعالى ، وقوله إنه كان حليما غفورا إذ حلمه هو الذي غرّ الناس فعصوه ، ولم يطيعوه ، واشركوا به ولم يوحدوه ومغفرته هي التي دعت الناس إلى التوبة إليه ، والإنابة إلى توحيده وعبادته.

وقوله تعالى في الآية الثالثة من هذا السياق (٤٢) (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) يخبر تعالى عن المشركين العرب بأنهم في يوم من الأيام كانوا يحلفون بالله جهد أيمانهم أي غاية اجتهادهم فيها لئن جاءهم رسول يرشدهم ويعلمهم لكانوا أهدى أي أعظم هداية من إحدى الطائفتين اليهود والنصارى. هكذا كانوا يحلفون ولما جاءهم نذير (٣) أي الرسول وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما زادهم مجيئه (إِلَّا نُفُوراً) أي بعدا عن الدين ونفرة منه ، و (اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ ، وَمَكْرَ السَّيِّئِ) الذي هو عمل الشرك والظلم والمعاصى.

وقوله تعالى (وَلا يَحِيقُ (٤) الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) إخبار منه تعالى بحقيقة يجهلها الناس وهي أن عاقبة المكر السيىء تعود على الماكرين بأسوأ العقاب وأشد العذاب وقوله تعالى : (فَهَلْ يَنْظُرُونَ) أي ينتظرون وهم مصرون على المكر السيىء وهو الشرك ومحاربة الرسول وأذية المؤمنين. إلا سنة الأولين وهي إهلاك الماكرين الظالمين (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ) أيها (٥)

__________________

(١) لما بين لهم عجز آلهتهم وعدم قدرتها على خلق شيء في السموات والأرض بين لهم أن خالقها وممسكها هو الله فلا يوجد شيء إلا بإيجاده ولا يبقى شيء إلا بإبقائه.

(٢) (إِنَ) نافية بمعنى ما أي ما أمسكهما أحد سواه.

(٣) هذا كان منهم قبل البعثة النبوية فقد بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم فلعنوا من كذب نبيه منهم وأقسموا بالله جل أسمه لئن جاءهم نذير أي نبي ليكونن أهدى من إحدى الأمم يعني ممن كذب الرّسل من أهل الكتاب وكانوا يتمنون أن يكون منهم رسول فلما جاءهم ما تمنوه نفروا عنه ولم يؤمنوا به.

(٤) حاق به : أحاط والحوق الإحاطة روى أن كعبا قال لابن عباس إني أجد في التوراة : من حفر حفرة لأخيه وقع فيها. فقال ابن عباس فإني وجدت في القرآن ذلك قال وأين؟ قال اقرأ «ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله» ومن أمثال العرب : من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا» وجملة لا يحيق المكر السيء إلا بأهله تذييل لما سبق وتحمل موعظة.

(٥) السنة الطريقة والجمع سنن.

٣٦١

الرسول (تَبْدِيلاً) بأن يتبدل العذاب بغيره بالرحمة مثلا (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) بأن يتحول العذاب عن مستحقه إلى غير مستحقه إذا فليعاجل قومك الوقت بالتوبة وإلا فهم عرضة لأن تمضى فيهم سنة الله بعذابهم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير التوحيد وإبطال الشرك والتنديد.

٢ ـ بيان أن المشركين لا دليل لهم على صحة الشرك لا من عقل ولا من كتاب.

٣ ـ بيان قدرة الله ولطفه بعباده ورحمته بهم في إمساك السموات والأرض عن الزوال.

٤ ـ بيان كذب المشركين ، ورجوعهم عما كانوا يتقاولونه بينهم من أنه لو أرسل إليهم رسولا لكانوا أهدى من اليهود أو النصارى.

٥ ـ تقرير حقيقة وهي أن المكر السيىء (١) عائد على أهله لا على غيرهم وفي هذا يرى أن ثلاثة على أهلها رواجع ، وهي المكر السيىء ، والبغي ، والنّكث لقوله تعالى (إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ). وقوله (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) وقوله (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ).

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥))

__________________

(١) المكر إخفاء الأذى وهو سيء لأنه غدر وخديعة.

٣٦٢

شرح الكلمات :

(وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) : أي وأهلكهم الله تعالى بتكذيبهم رسلهم.

(وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ) : أي ليسبقه ويفوته فلم يتمكن منه.

(إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً) : أي عليما بالأشياء كلها قديرا عليها كلها.

(بِما كَسَبُوا) : أي من الذنوب والمعاصى.

(ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها) : أي ظهر الأرض من دابة أي نسمة تدب على الأرض وهي كل ذي روح.

(إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) : أي يوم القيامة.

(فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) : فيحاسبهم ويجزيهم بحسب كسبهم خيرا كان أو شرا.

معنى الآيات :

لما هدد الله تعالى المشركين بإمضاء سنته فيهم وهي تعذيب وإهلاك المكذبين إذا أصروا على التكذيب ولم يتوبوا. قال (أَوَلَمْ يَسِيرُوا) أي المشركون المكذبون لرسولنا (فِي الْأَرْضِ) شمالا أو جنوبا (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كقوم صالح وقوم هود ، إنها كانت دمارا وخسارا (وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ (١) قُوَّةً) أي من هؤلاء المشركين اليوم قوة وقوله تعالى (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ (٢) شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) أي لم يكن ليعجز الله شيء فيفوت الله ويهرب منه ولا يقدر عليه بل إنه غالب لكل شيء وقاهر له وقوله : (إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً) تقرير لقدرته وعجز كل شيء أمامه ، فإن العليم القدير لا يعجزه شيء بالاختفاء والتستر ، ولا بالمقاومة والهرب. وقوله تعالى (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) وهي الآية (٣) الأخيرة من هذا السياق (٤٥) أي ولو كان الله يؤاخذ الناس بذنوبهم فكلّ من أذنب ذنبا انتقم منه فأهلكه ما ترك على ظهر الأرض من نسمة ذات روح تدب على وجه الأرض ، ولكنه تعالى يؤخر الظالمين (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) (٤) أي معين الوقت محدده إن كان في الدنيا ففي الدنيا ، وإن كان يوم القيامة ففي القيامة. وقوله

__________________

(١) الجملة في محل نصب حالية أي كان عاقبتهم الاضمحلال وكانوا أشد قوة من هؤلاء فيكون استئصال هؤلاء أقرب.

(٢) أي هبكم أنكم أقوى ممن كان قبلكم وأشد حيلة وتصرفا في الحياة فإن الله تعالى لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وذلك لعلمه وقدرته ، إذا فلا مهرب لكم منه إذا أراد إهلاككم.

(٣) قال ابن مسعود ، يريد جميع الحيوان مما دبّ ودرج قال قتادة وقد فعل ذلك زمن نوح عليه‌السلام : قال ابن جرير هنا الناس وحدهم وهو كذلك.

(٤) قال مقاتل الأجل المسمى هو ما وعدهم في اللوح المحفوظ وقيل هو يوم القيامة ولا منافاة بين القولين إذ يوم القيامة مكتوب في اللوح المحفوظ.

٣٦٣

(فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ (١) فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) يخبر بأنه إذا جاء أجل الظالمين فإنه تعالى بصير بهم لا يخفى عليه منهم أحد فيهلكم ولا يبقى منهم أحدا لكامل علمه وعظيم قدرته ، ألا فليتق الله الظالمون.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية السير في الأرض للعبرة لا للتنزه واللهو واللعب.

٢ ـ بيان أن الله لا يعجزه شيء وذلك لعلمه وقدرته وهي حال توجب الترهيب منه تعالى والإنابة إليه.

٣ ـ حرمة استعجال العذاب فإن لكل شيء أجلا ووقتا معينا لا يتم قبله فلا معنى للاستعجال بحال.

سورة يس (٢)

مكية وآياتها ثلاث وثمانون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى

__________________

(١) قوله (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) هو كالجواب لمن قال وكيف يهلك كل من في الأرض وفيهم الصالحون والمؤمنون فقال إنه كان بعباده بصيرا فقد ينجي من لا يستحق الهلاك ويهلك من يستحقه.

(٢) ورد في فضل هذه السورة حديث أبي داود عن معقل بن يسار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم انه قال اقرأوا يس على موتاكم وورد عن أبي الدرداء أو أم الدرداء عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ما من ميت يقرأ عليه سورة يس إلا هون الله عليه ، وأخرج الدارمي عن أبي هريرة عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة يس في ليلة ابتغاء وجه الله غفر له في تلك الليلة وخرجه الحافظ أبو نعيم أيضا.

٣٦٤

الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢))

شرح الكلمات :

(يس) : هذا أحد الحروف المقطعة يكتب هكذا يس ، ويقرأ هكذا ياسين والله أعلم بمراده به.

(وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) : أي ذي الحكمة إذ وضع القرآن كل شيء في موضعه فهو لذلك حكيم ومحكم أيضا بعجيب النظم وبديع المعاني.

(إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) : أي يا محمد من جملة الرسل الذين أرسلناهم إلى أقوامهم.

(عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) : أي طريق مستقيم الذي هو الإسلام.

(تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) : أي القرآن (١) تنزيل العزيز في انتقامه ممن كفر به الرحيم بمن تاب إليه.

(ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) : أي لم ينذر آباؤهم إذ لم يأتهم رسول من فترة طويلة.

(فَهُمْ غافِلُونَ) : أي لا يدرون عاقبة ما هم فيه من الكفر والضلال ، ولا يعرفون ما ينجيهم من ذلك وهو الإيمان وصالح الأعمال.

(لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ) : أي وجب عليهم العذاب فلذا هم لا يؤمنون.

(إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) : أي جعلنا أيديهم مشدودة إلى أعناقهم بالأغلال.

(فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) : أي أيديهم مجموعة إلى أذقناهم ، والأذقان جمع ذقن وهو مجمع اللحيين.

(فَهُمْ مُقْمَحُونَ) : أي رافعو رؤوسهم لا يستطيعون خفضها ، فلذا هم لا يكسبون بأيديهم خيرا ، ولا يذعنون برؤوسهم إلى حق.

__________________

(١) هذا على قراءة أهل المدينة وهي رفع تنزيل. أما على قراءة النصب فالتقدير أقرأ تنزيل العزيز الرحيم أو أمدح تنزيل.

٣٦٥

(فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) : أي جعلنا على أبصارهم غشاوة فهم لذلك لا يبصرون.

(وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) : أي استوى إنذارك لهم وعدمه في عدم إيمانهم.

(مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) : أي القرآن.

(وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) : أي بالجنة دار النعيم والسّلام.

(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى) : أي نحن ربّ العزة نحيى الموتى للبعث والجزاء.

(وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) (١) : أي ما عملوه من خير وشر لنحاسبهم ، وآثارهم أي خطاهم إلى المساجد وما استنّ به أحد من بعدهم.

(فِي إِمامٍ مُبِينٍ) : أي في اللوح المحفوظ.

معنى الآيات :

(يس) الله أعلم (٢) بمراده به

(وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) (٣) أي المحكم نظما ومعنى وذي الحكمة الذي يضع كل شيء في موضعه أقسم تعالى بالقرآن الحكيم على أن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبيا رسولا فقال (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الذي هو الإسلام. وقوله (تَنْزِيلَ (٤) الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) أي هذا القرآن هو تنزيل الله (الْعَزِيزِ) في الانتقام ممن كفر به وكذب رسوله (الرَّحِيمِ) بأوليائه وصالحى عباده. وقوله (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) أي أرسلناك وأنزلنا إليك الكتاب لأجل أن تنذر قوما ما أنذر آباؤهم من فترة طويلة وهم مشركو العرب إذ لم يأتهم رسول من بعد إسماعيل عليه‌السلام (فَهُمْ غافِلُونَ) أي لا يدرون عاقبة ما هم عليه من الشرك والشر والفساد ، ومعنى تنذرهم تخوفهم عذاب الله تعالى المترتب على الشرك والمعاصى.

وقوله تعالى (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ) أي أكثر خصوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كفار قريش كأبي جهل حق عليهم القول الذي هو قوله تعالى (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) فوجب لهم العذاب فلذا هم لا يؤمنون إذ لو آمنوا لما عذبوا ، وعدم إيمانهم لم يكن مفروضا عليهم

__________________

(١) وهم بعض فقال هذه الآية نزلت بالمدينة في بني سلمة والصحيح أن السورة كلها مكي وليس فيها مدني وانما قرأ صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية محتجا بها على بني سلمه لما أرادوا النزول قرب المسجد فقال لهم بني سلمة دياركم تكتب آثاركم. وقرأ هذه الآية ، ونكتب ما قدموا وآثارهم.

(٢) كره مالك رحمه‌الله تعالى التسمية بيس وهو كذلك لعدم علمنا بالمراد منه وليس هو باسم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ ذكر أسماءه الخمسة ولم يذكر بينها يس ولا حجة في قول الرافضي :

يا نفس لا تمحضي بالود جاهدة

على المودة إلا آل ياسين

(٣) والقرآن الواو للقسم والقرآن مقسم به وجواب القسم : إنك لمن المرسلين وعلى صراط مستقيم خبر ثان لإن.

(٤) قرأ نافع والجمهور تنزيل بالرفع على أنه خبر محذوف المبتدأ أي هو تنزيل والضمير عائد على القرآن المقسم به وقرأ حفص (تَنْزِيلَ) بالنصب على المصدرية أو على تقدير أعنى أو أخص فيكون مدحا وإشادة بشأنه وهو أليق.

٣٦٦

وإنما هو باختيارهم وحرية إرادتهم إذ لو كان جبرا لما استحقوا العذاب عليه. وقوله تعالى (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ) أي أيديهم (إِلَى الْأَذْقانِ) مشدودة بالأغلال (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) أي رافعو رؤوسهم لا يستطيعون خفضها ، وهذا تمثيل لحالهم في عدم مدّ أيديهم للإنفاق في الخير ، وعدم إذعان رؤوسهم لقبول الحق (١) وقوله (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) وهذا تمثيل آخر لحالهم وهي أنهم زينّت لهم الحياة الدنيا فأصبحوا لا يرون غيرها فهو سد أمامهم ومانع لهم من الإيمان وترك الشرك والمعاصى ، وصورت لهم الآخرة بصورة باطلة مستحيلة الوقوع فكان ذلك سدا من خلفهم فهم لذلك لا يتوبون ولا يذكرون لعدم خوفهم من عذاب الآخرة وقوله تعالى (فَأَغْشَيْناهُمْ) هذا مبالغة في إضلالهم فجعل على أعينهم غشاوة من كره الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبغض ما جاء به فهم لذلك عمى لا يبصرون. وقوله تعالى (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ (٢) أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) هذا إخبار منه تعالى بأن هذه المجموعة من خصوم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أكابر مجرمى مكة استوى فيهم الإنذار النّبويّ وعدمه ف لا يؤمنون فكأن الله تعالى يقول لرسوله إن هؤلاء العتاة من خصومك إنذارك لهم لا ينفعهم فأنذر الذين ينفعهم إنذارك ودع من سواهم وهو قوله تعالى (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) أي القرآن (وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) أي خافه فلم يعصه وهو لا يراه ، كما لم يعصه عند ما يخلو بنفسه ولا يراه غيره فمثل هذا بشره بمغفرة منا لذنوبه وأجر كريم على صالح عمله وهو الجنة دار المتقين وقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى) أي للبعث والجزاء (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا) أي أولئك الأموات أيام حياتهم من خير وشر ، (وَآثارَهُمْ) أي ونكتب آثارهم وهو ما استنّ به من (٣) سننهم الحسنة أو السيئة. (وَكُلَّ شَيْءٍ) أي من أعمال العبادة وغيرها (فِي إِمامٍ مُبِينٍ) وهو اللوح المحفوظ ، وسنجزى كلا بما عمل. وفي هذا الخطاب تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) وجائز أن يكون هذا بيان لحالهم في النار يوم القيامة ولكن ما في التفسير أولى وأحق والسياق يؤكده.

(٢) أنذرتهم أصل الهمزة الاستفهام ولكنها هنا للتسوية متمحضة لها.

(٣) شاهده حديث مسلم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سن في الإسلام سنة حسنه كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينتقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء وكذا حديثه الأخر : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث من علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ، أو صدقة جارية من بعده.

٣٦٧

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير النبوة المحمدية وتأكيد رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ بيان الحكمة من إرسال الرسول وإنزال الكتاب الكريم.

٣ ـ بيان أن الرسول محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث على فترة من الرسل.

٤ ـ بيان أن حب الدنيا والإقبال عليها والإعراض عن الآخرة وعدم الالتفات اليها يضعان الإنسان بين حاجزين لا يستطيع تجاوزهما والتخلص منهما.

٥ ـ بيان أن الذنوب تقيد صاحبها وتحول بينه وبين فعل الخير أو قبول الحق.

٦ ـ بيان أن من سن سنة حسنة أو سيئة يعمل بها بعده يجزى بها كما يجزى على عمله الذي باشره بيده.

٧ ـ تقرير عقيدة القضاء والقدر وأن كل شيء في كتاب المقادير المعبر عنه بالإمام. ومعنى المبين أي ان ما كتب فيه بيّن واضح لا يجهل منه شيء.

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩))

شرح الكلمات :

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً) : أي واجعل لهم مثلا.

(أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) : أي انطاكيه عاصمة بلاد يقال لها العواصم بأرض الروم.

٣٦٨

(إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) : أي رسل عيسى عليه‌السلام.

(فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) : أي قوينا أمر الرسولين ودعوتهما برسول ثالث وهو حبيب بن النجار.

(وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) : أي التبليغ الظاهر البين بالأدلة الواضحة وهي إبراء الأكمه والأبرص والمريض وإحياء الموتى.

(إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) : أي تشاءمنا بكم وذلك لانقطاع المطر عنا بسببكم.

(قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) : أي شؤمكم معكم وهو كفركم بربكم.

(أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) : أي وعظتم وخوفتم تطيرتم وهذا توبيخ لهم.

(بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) : أي متجاوزون للحد في الشرك والكفر.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً) (١) أي واضرب أيها الرسول لقومك المصرين على الشرك والتكذيب لك ولما جئتهم به من الهدى ودين الحق (مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) فإن حالهم في التكذيب والغلوّ في الكفر والعناد كحال هؤلاء. (إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) وهم رسل عيسى (٢) عليه‌السلام إذ بعث برسولين ثم لما آذوهما بالضرب والسجن بعث بشمعون الصّفي رأس الحواريين تعزيزا لموقفهما كما قال تعالى (فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) (٣) ، فقالوا لأهل انطاكيه (٤) (إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) من قبل عيسى عليه‌السلام ندعوكم إلى عبادة الرحمن وترك عبادة الأوثان (قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ) أي ما أنتم إلا تكذبون علينا في دعواكم أنكم رسل إلينا فقال الرسل (رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) فواجهوا شك القوم فيهم بما يدفع الشك من القسم وتأكيد الخبر بالجملة الاسمية ولام التوكيد فقالوا : (رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي البيّن الواضح فإن قبلتم ما دعوناكم إليه فذلك حظكم من الخير والنجاة وإن أبيتم فذلك حظكم من الهلاك والخسار. ورد أهل انطاكيه على الرسل قائلين : (إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) أي تشاءمنا (٥) بكم حيث انقطع عنا المطر بسببكم (*) فرد عليهم المرسلون بقولهم (طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) أي شؤمكم في كفركم وتكذيبكم ، ولذا حبس الله المطر

__________________

(١) (اضْرِبْ) أي اجعل والمثل للتشبيه والمعنى اجعل اصحاب القرية والمرسلين إليهم شبها لأهل مكة وارسالك إليهم.

(٢) كان هذا بعد رفع عيسى إلا أنه كان بإذن الله تعالى فلذا قال تعالى أرسلنا إليهم.

(٣) قرىء عززنا بالتخفيف والمعنى واحد.

(٤) كان أهل انطاكيا من اليهود ومن اليونان.

(٥) وجائز أن يكون قد حدث بينهم تشاجر وتشاحن نتيجة قبول الدعوة من أفراد منهم فحصل بينهم شجار وخلاف لم يألفوه فقالوا ما قالوا مشائمين ، وفي الحديث : لا عدوى ولا طيرة وإنما الطيرة على من تطير.

(*) (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا) من دعواكم بأنكم رسل إلينا بترك آلهتنا (لَنَرْجُمَنَّكُمْ) بالحجارة (وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ).

٣٦٩

عليكم. ثم قالوا لهم موبخين لهم : (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) (١) أي وعظتم وخوّفتم بالله لعلكم تتقون تطيّرتم. بل أنتم أيها القوم (مُسْرِفُونَ) أي متجاوزون الحد في الكفر والشرك والعدوان.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ استحسان ضرب المثل وهو تصوير حالة غريبة بحالة أخرى مثلها كما هنا في قصة حبيب بن النجار.

٢ ـ تشابه حال الكفار في التكذيب والإصرار في كل زمان ومكان.

٣ ـ لجوء أهل الكفر بعد إقامة الحجة عليهم الى التهديد والوعيد.

٤ ـ حرمة التطير والتشاؤم في الإسلام.

(وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧))

شرح الكلمات :

وجاء رجل : أي جاء حبيب بن النجار صاحب يس (٢).

(مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ) : أي من أقصا دور المدينة وهي انطاكيا العاصمة.

__________________

(١) الاستفهام إنكاري ويل للإضراب الانتقالي أضرب عن دعواهم لبطلانها وانتقل بهم إلى الحقيقة وهي اسرافهم في الشرك والشر والفساد.

(٢) ما جاء في التفسير من كون الرسل هم رسل عيسى عليه‌السلام ، وأن القرية هي أنطاكية ـ هو ما عليه أكثر المفسرين مثل قتادة وابن جرير وغيرهما ، إلّا أن ابن كثير رحمه‌الله تعالى رجّح أن الرسل رسل من الله تعالى ، وأن القرية ليست أنطاكية ، وحجته فيما رآه أنّ الله تعالى لم يهلك أمّة بعد نزول التوراة ، وهذه القرية أهلك أهلها. وهذه غفلة منه رحمه‌الله تعالى إذ أهلك الله أهل قرية كانت حاضرة البحر ، ومسخ أهلها قردة وخنازير على عهد داود بعد نزول التوراة بقرن وإنما رفع هلاك العامّة بعد بعثة النبي محمد نبي الرحمة صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣٧٠

(يَسْعى) : أي يشتد مسرعا لما بلغه أن أهل البلد عزموا على قتل رسل عيسى الثلاثة.

(قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) : أي رسل عيسى عليه‌السلام.

(اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً) : اتبعوا من لا يطلبكم أجرا على إبلاغ دعوة الحق.

(وَهُمْ مُهْتَدُونَ) : أي الرسل إنهم علي هداية من ربهم ما هم بكذابين.

(فَطَرَنِي) : أي خلقني.

(إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ) : أي بمرض ونحوه.

(وَلا يُنْقِذُونِ) : أي مما أراد الله لي من ضر في جسمي وغيره.

(إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) : أي إني إذا اتخذت من دون الله آلهة أعبدها لفى ضلال مبين.

(إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) : أي صارح قومه بهذا القول وقتلوه.

(قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) : قالت له الملائكة عند الموت ادخل الجنة.

(يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ) : قال هذا لما شاهد مقعده في الجنة.

(بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) : وهو الإيمان والتوحيد والصبر على ذلك.

معنى الآيات :

ما زال السياق في مثل أصحاب القرية إنه بعد أن تعزز موقف الرسل الثلاثة وأعطاهم الله من الكرامات ما أبرأوا به المرضى بل وأحيوا الموتى بإذن الله وأصبح لهم أتباع مؤمنون غضب رؤساء البلاد وأرادوا أن يبطشوا بالرسل ، وبلغ ذلك حبيب بن النجار وكان شيخا مؤمنا موحدا يسكن في طرف المدينة الأقصى فجاء يشتد سعيا على قدميه فأمر ونهى وصارح القوم بإيمانه وتوحيده فقتلوه رفسا بأرجلهم قال تعالى (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ) ـ انطاكيه ـ (رَجُلٌ يَسْعى) (١) أي يمشى بسرعة لما بلغه أن أهل البلاد قد عزموا على قتل الرسل الثلاثة وما إن وصل إلى الجماهير الهائجة حتى قال بأعلى صوته : (يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) (٢) وسأل الرسل هل طلبتم على إبلاغكم

__________________

(١) هذا الرجل هو حبيب بن النجار صاحب ياسين كما في الحديث والرجل كان مصابا بالجذام سنين وشفاه الله تعالى على يد رسل عيسى وبذلك آمن وأسلم وبقي في أرض أنطاكيا يعبد الله تعالى حتى بلغه هم أهل المدينة انطاكيا بالبطش بالرسل جاء مسرعا لينقذ دعوتهم ويدعو إلى الله تعالى بما أخبر به تعالى في هذه الآيات.

(٢) المراد بالمرسلين رسل عيسى الذين أرسلهم بالوصية إليهم إلى أنطاكيا من بينهم شمعون الذي عزز به الرسولين قبله.

٣٧١

دعوة عيسى أجرا قالوا لا. فقال (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) فاتبعوهم تهتدوا بهدايتهم. وقال له القوم وأنت تعبد الله مثلهم ولا تعبد آلهتنا؟ فقال : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) أي وأي شيء يجعلني لا أعبده وهو خلقني (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي بعد موتكم فيحاسبكم ويجزيكم بعملكم. ثم اغتنم الفرصة ليدعو إلى ربّه فقال مستفهما (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) أي أصناما وأوثانا لا تسمع ولا تبصر (إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) (١) وإن قل ولا ينقذون مما أراده بي من ضر ونحوه (إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢) أي إني إذا أنا عبدت هذه الأصنام التي لا تنفع ولا تضر لفي ضلال مبين واضح لا يحتاج الى دليل عليه. ورفع صوته مبلغا (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ) أي بخالقكم ورازقكم ومالك أمركم دون هذه الأصنام والأوثان (فَاسْمَعُونِ) وهنا وثبوا عليه فقتلوه. ولما قيل له ادخل الجنة ورأى نعيمها ذكر قومه ناصحا لهم فقال : (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي) (٣) (رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) (٤) أي يعلمون بما غفر له وجعله من المكرمين وهو الإيمان والتوحيد حتي يؤمنوا ويوحدوا فنصح قومه حيّا وميتا وهذا شأن المسلم الحسن الإسلام والمؤمن الصادق الإيمان ينصح ولا يغش ويرشد ولا يضل ومهما قالوا له وفيه ومهما عاملوه به من شدة وقسوة حتى الموت قتلا.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان كرامة حبيب بن النجار الذي نصح قومه حيا وميتا.

٢ ـ بيان ما يلاقي دعاة التوحيد والدين الحق في كل زمان ومكان من شدائد وأهوال.

٣ ـ وجوب إبلاغ دعوة الحق والتنديد بالشرك ومهما كان العذاب قاسيا.

٤ ـ بشرى المؤمن عند الموت لا سيما الشهيد فإنه يرى الجنة رأي العين.

__________________

(١) (إِنْ يُرِدْنِ) و (لا تُغْنِ) و (لا يُنْقِذُونِ) ، (فَاسْمَعُونِ) حذفت منها كلها ياء المتكلم مراعاة للتخفيف ولظهورها وعدم اللبس مع حذفها ، وجملة إن يردن في محل نصب نعت.

(٢) (إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الجملة جواب للاستفهام الانكاري في قوله (أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) أي إن اتخذت من دون الله آلهة إني في ضلال مبين.

(٣) بما غفر : ما مصدرية تسبك بمصدر نحو بمغفرة ربي لي.

(٤) من المكرمين الملائكة والأنبياء والشهاداء والصالحين.

٣٧٢

الجزء الثالث والعشرون

(وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢))

شرح الكلمات :

(وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ) : أي على قوم حبيب بن النجار وهم أهل أنطاكية.

(مِنْ بَعْدِهِ) : أي من بعد موته.

(مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ) : أي من الملائكة لإهلاكهم.

(وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) : أي الملائكة لإهلاك الأمم التي استوجبت الهلاك.

(إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) : أي ما هي إلا صيحة واحدة هي صيحة جبريل عليه‌السلام.

(فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) : أي ساكتون لا حراك لهم ميتون.

(يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) : أي يا حسرة العباد هذا أوان حضورك فاحضرى وهذا غاية التألم. والعباد هم المكذبون للرسل الكافرون بتوحيد الله.

(ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) : هذا سبب التحسّر عليهم.

(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) : أي ألم ير أهل مكة المكذبون للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) : أي وإن كل الخلائق إلا لدينا محضرون يوم القيامة لحسابهم ومجازاتهم.

٣٧٣

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ) أي قوم (١) حبيب بن النجار (مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد موته (مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ) للانتقام من قومه الذين قتلوه لأنه أنكر عليهم الشرك ودعاهم إلى التوحيد وما كنا منزلين إذ لا حاجة تدعو إلى ذلك. (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) من (٢) جبريل عليه‌السلام فإذا هم خامدون أي هلكى ساكنون ميتون لا حراك لهم ولا حياة فيهم وقوله تعالى (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) أي يا حسرة العباد (٣) على أنفسهم احضري أيتها الحسرة (٤) هذا أوان حضورك (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ (٥) يَسْتَهْزِؤُنَ) هذا موجب الحسرة ومقتضيها وهو استهزاؤهم بالرسل. وقوله تعالى (أَلَمْ يَرَوْا) أي أهل مكة (كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) أي ألم يعلموا القرون الكثيرة التي أهلكناها قبلهم كقوم نوح وعاد وثمود وأصحاب مدين ، (أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) فيكون هذا هاديا لهم واعظا فيؤمنوا ويوحدوا فينجوا من العذاب ويسعدوا. وقوله تعالى (وَإِنْ كُلٌ) أي (٦) من الأمم الهالكة وغيرها من سائر العباد (لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) أي إلا لدينا محضرون لفصل القضاء يوم القيامة فينجو المؤمنون ويهلك الكافرون.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ مظاهر قدرة الله تعالى في إهلاك أهل انطاكية بصيحة واحدة.

٢ ـ إبداء التحسر على العباد من أنفسهم إذ هم الظالمون المكذبون فالحسرة منهم وعليهم.

٣ ـ حرمة الاستهزاء بما هو من حرمات الله تعالى التي يجب تعظيمها.

٤ ـ طلب العبرة من أخبار الماضين وأحوالهم ، والعاقل من اعتبر بغيره.

٥ ـ تقرير المعاد والحساب والجزاء.

__________________

(١) هذا تابع لقصة حبيب بن النجار صاحب ياسين والجملة معطوفة على جملة قيل ادخل الجنة.

(٢) كون جبريل هو الذي صاح فيهم وارد عند أهل التفسير فإن ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجب الإيمان به وإلا فلا يجب ولا يلزم الإيمان به إذ جائز أن يكون ملكا آخر غير جبريل.

(٣) العباد جمع عبد من عباد الله تعالى والعبيد جمع عبد مملوك للناس.

(٤) الحسرة شدة النّدم مشوبا بتلهف على نفع فائت.

(٥) الاستثناء مفرغ من أحوال عامة من الضمير في (يَأْتِيهِمْ) أي لا يأتيهم رسول في حال من أحوالهم إلا استهزأوا به.

(٦) قرأ نافع وإن كل لما بتخفيف الميم وشددها حفص فعلى تخفيفها تكون إن مخففة من الثقيلة واللام هي اللام الفارقة وما مزيدة للتوكيد. وإن قدرت ما نافية وجب تشديد لما إذ تكون بمثابة الاستثناء أي وما كلهم إلا محضرون لدينا.

٣٧٤

(وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦))

شرح الكلمات :

(وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ) : أي على صحة البعث ووجوده لا محالة.

(أَحْيَيْناها) : بإنزال المطر عليها فأصبحت حيّة بالنبات والزروع.

(وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ) : أي بساتين.

(وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) : أي لم تصنعه أيديهم وإنما هو صنع الله وخلقه.

(أَفَلا يَشْكُرُونَ) : أي أفيرون هذه النعم ولا يشكرونها إنه موقف مخز منهم.

(سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) : أي تنزيها وتقديسا لله الذي خلق الأصناف كلها.

(وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ) : أي الذكور والإناث.

(وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) : من المخلوقات كالتي في السموات وتحت الأرضين.

معنى الآيات :

لما تقدم في الآيات قبل هذه تقرير عقيدة البعث والجزاء في قوله وإن كل لما جميع لدينا محضرون ذكر هنا الدليل العقلي على صحة إمكان البعث فقال (وَآيَةٌ لَهُمُ) (١) أي على صحة البعث الأرض الميتة التي أصابها المحل فلا نبات فيها ولا زرع أحييناها بالمطر فأنبتت من كل زوج بهيج فهذه آية أي علامة كبرى وحجة واضحة على إمكان البعث إذ الخليقة تموت ولم يبق إلا الله تعالى (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) ثم ينزل الله تعالى ماء

__________________

(١) (وَآيَةٌ لَهُمُ) مبتدأ والخبر (الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ). قرأ نافع الميتة بتشديد الياء وسكنها حفص.

٣٧٥

من تحت العرش فتحيا البشرية على طريقة الأرض الميتة ينزل عليها المطر فتحيا بالنبات. وهذه المرة تحيا بالبشر إذ يركب خلقهم من عظم يقال له عجب الذنب هو في بطن الأرض لا يتحلل ومنه يركب الخلق كما أخبر بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح. هذا معنى قوله تعالى في الاستدلال على البعث (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا) أي حبّ البر فمنه أي من ذلك يأكلون الخبز. وقوله (وَجَعَلْنا فِيها) أي في الأرض الميتة جنات أي بساتين من نخيل وأعناب ، وفجرنا فيها من العيون أي عيون الماء ، هذه مظاهر القدرة والعلم الإلهي وكلها تشهد بصحة البعث وإمكانه وأن الله تعالى قادر عليه وعلى مثله. وقوله تعالى (لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) أي من ثمر المذكور (١) من النخل والعنب وغيره. وقوله (وَما (٢) عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) أي لم تخلقه ولم تكونه أيديهم بل يد الله هي التي خلقته أفلا يشكرون يوبخهم على عدم شكره تعالى على ما أنعم به عليهم من نعمة الغذاء. وقوله تعالى (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ (٣) كُلَّها) أي تنزيها وتقديسا لله الذي خلق الأزواج كلها (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) يقدس تعالى نفسه وينزهها عن العجز عن إعادة الخلق ويذكر بآيات القدرة والعلم وهي نظام الزوجية إذ كل المخلوقات أزواج أي أصناف من ذكر وأنثى فالنباتات على سائر اختلافها ذكر وأنثى والناس كذلك وما هو غائب عنا في السموات وفي بطن الأرض أزواج كذلك ولا وتر أي لا فرد إلا الله تعالى فقد تنزه عن صفات الخلائق ، ومنها كان للحياة الدنيا نوع آخر هو لها كالزوج وهي الحياة الآخرة فهذا دليل عقلي من أقوى الأدلة على الحياة الثانية.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء التي هي القوة الدافعة للإنسان على فعل الخيرات وترك الشرور والمنكرات.

٢ ـ دليل نظام الزوجيّة وهو آية على أن القرآن وحي الله وكلامه إذ قرر القرآن نظام الزوجية قبل معرفة الناس لهذا النظام في الذرة وغيرها في القرن العشرين.

__________________

(١) الثمر بمنزلة الحب للسنبل وهو ما يغله النخل والعنب ، وقرأه الجمهور بفتحتين. وقرأه خلافهم بضمتين.

(٢) جائز أن يكون ما نافية أي ولم تعمله أيديهم وإنما الله جل جلاله هو الذي انبته وسخره لهم وجائز أن تكون ما موصولة أي والذي عملته أيديهم من أصناف الحلاوات والأطعمة وما يتخذونه كالخبز والجبن وما إلى ذلك وما في التفسير أرجح وأدل على نعم الله وقدرته وقرأ الجمهور ومما عملته بهاء الضمير وقرأ بعض عملت بدونه.

(٣) (الْأَزْواجَ) جمع زوج ويطلق على كل من الذكر والأنثى ، وعلى الأصناف المختلفة فإن أريد بالأزواج الذكر والأنثى فمن ابتدائية في المواقع الثلاثة وإن أريد بها الأصناف فمن بيانية في المواطن الثلاثة : ولقوله : ومما لا يعلمون مقابل محذوف تقديره وما يعلمون وهذا من دلالة الإشارة.

٣٧٦

٣ ـ وجوب شكر الله تعالى بالإيمان وبطاعته وطاعة رسوله على نعمه ومنها نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد أي بالغذاء والماء والهواء.

(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠))

شرح الكلمات :

(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) : وآية لهم على إمكان البعث الليل نسلخ منه النهار أي نزيل النهار عن الليل فإذا هم مظلمون بالليل.

(لِمُسْتَقَرٍّ لَها) : أي مكان لها لا تتجاوزه.

(ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) : أي جريها في فلكها تقدير أي تقنين العزيز في ملكه العليم بكل خلقه.

(وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) : وآية أخرى هي تقدير منازل القمر التي هي ثمان وعشرون منزلة.

(حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) : أي حتى رجع كعود العذق الذي أصله في النخلة وآخره في الشماريخ وهو أصفر دقيق مقوس كالقمر لما يكون في آخر الشهر.

(لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) : أي لا يصح للشمس ولا يسهل عليها أن تدرك القمر فيجتمعان في الليل.

(وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) : أي بأن يأتي قبل انقضائه.

(وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) : أي كل من الشمس والقمر والنجوم السيارة في فلك يسبحون أي يسيرون والفلك دائرة مستديرة كفلكة المغزل وهو مجرى النيرين والكواكب السيارة.

٣٧٧

معنى الآيات :

ما زال السياق في البرهنة على إمكان البعث ووقوعه لا محالة فقال تعالى (وَآيَةٌ) أي علامة لهم أخرى على قدرة الله على البعث (اللَّيْلُ نَسْلَخُ (١) مِنْهُ النَّهارَ) أي نفصل عنه النهار بمعنى نزيله عنه فإذا هم في الليل مظلمون أي داخلون في الظلام فهذه آية على قدرة الله على البعث وقوله (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ (٢) لَها) أي تجري في فلكها منه تبتدىء سيرها وإليه ينتهي سيرها وذلك مستقرها ، ولها مستقر آخر وهو نهاية الحياة الدنيا ، وإنها لتسجد كل يوم تحت (٣) العرش وتستأذن باستئناف دورانها فيأذن لها كما صح بذلك الخبر عن سيد البشر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكونها تحت العرش فلا غرابة فيه فالكون كله تحت العرش وكونها تستأذن فيؤذن لها لا غرابة فيه إذا كانت النملة تدبر أمر حياتها بإذن ربّها وتقول وتفكر وتعمل فالشمس أحرى بذلك وأنها تنطق بنطقها الخاص وتستأذن ويؤذن لها وقوله تعالى (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) أي الغالب على مراده العليم بكل خلقه ، وتقدير سير الشمس في فلكها بالثانية وتقطع فيه ملايين الأميال أمر عجب ونظام سيرها طوال الحياة فلا يختل بدقيقة ولا يرتفع مستواها شبرا ولا ينخفض شبرا إذ يترتب على ذلك خراب العالم الأرضي كل ذلك لا يقدر عليه إلا الله ، أليس المبدع هذا الإبداع في الخلق والتدبير قادر على إحياء من خلق وأمات؟ بلى ، بلى إن الله على كل شيء قدير. وقوله تعالى (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ (٤) مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) هذه آية أخرى على إمكان البعث وحتميته والقمر كوكب منير يدور حول الأرض يتنقل في منازله الثمانية والعشرين منزلة بدقة فائقة وحساب دقيق ليعرف بذلك سكان الأرض عدد السنين والحساب إذ لولاه لما عرف يوم ولا اسبوع ولا شهر ولا سنة ولا قرن. فالقمر يبدأ هلالا صغيرا ويأخذ في الظهور فيكبر بظهوره شيئا فشيئا حتى يصبح

__________________

(١) السلخ الكشط والنزع كسلخ الشاة من جلدها فيبقى اللحم أبيض كذلك يسلخ تعالى النهار من الليل فيبقى الناس في ظلام حالك.

(٢) جائز أن يكون في الكلام حذف أي وآية لهم الشمس تجري وجائز أن يكون الشمس مبتدأ وتجري الجملة خبر أي آية اخرى.

(٣) (لِمُسْتَقَرٍّ لَها) جائز أن يكون اللام بمعنى إلى وجائز أن يكون لام الصيرورة والمآل أي يصير أمرها فتؤول إلى مستقرها ، والمستقر مكان الاستقرار روى البخاري ومسلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل أبا ذر حين غربت الشمس «أتدري أين تذهب» قال قلت الله ورسوله أعلم ، قال فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تستأذن فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها يقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع في مغربها فذلك قوله تعالى والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم.

(٤) جائز أن يكون قدرنا له منازل أو قدرناه ذا منازل وهي ثمانية وعشرون منزلا ينزل القمر كل ليلة بها بمنزل وهي : السرطان ، البطين ، الثريا ، الدبران ، الهقعة ، الهنعة ، الذراع ، النثرة ، الطرف ، الجبهة ، الخراتان ، الصرفة ، العواء ، السماك ، الغفر ، الزبانيان ، الاكليل ، القلب ، الشولة ، النعائم ، البلدة ، سعد الذابح ، سعد بلع ، سعد السعود ، سعد الاخبية ، الفرع المقدم ، الفرغ المؤخر ، بطين الحوت. فإذا صار القمر في آخرها عاد إلى أولها.

٣٧٨

في نصف الشهر بدرا كاملا ، ثم يأخذ في الأفول والاضمحلال بنظام عجب حتى يصبح في آخر الشهر كالعرجون القديم أي كعود العرجون أصفر دقيق مقوس كل ذلك لفائدة الإنسان الذي يعيش على سطح هذه الأرض أليس هذا آية كبرى على قدرة الله العزيز العليم على إعادة الحياة لحكمة الحساب والجزاء؟ بلى إنها لآية كبرى فقوله (لَا الشَّمْسُ (١) يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) أي لا يسهل على الشمس ولا يصح منها أن تدرك القمر فيذهب نوره بل لكل سيره فلا يلتقيان إلا نادرا في جزء معين من الأفق فيحصل خسوف القمر وكسوف الشمس. وقوله (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) بل كل من الليل والنهار يسير في خط مرسوم لا يتعداه فلذا لا يسبق الليل النهار ولا النهار الليل فلا يختلطان إلا بدخول جزء من هذا في هذا وجزء من ذاك في ذا وهو معنى (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) وقوله (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٢) أي كل واحد من الشمس والقمر والكواكب السيارة في فلك يسبحون فلذا لا يقع فيها خلط ولا ارتطام (٣) بعضها ببعض إلى نهاية الحياة فيقع ذلك ويخرب الكون.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ إقامة الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة على إمكان البعث ووقوعه حتما.

٢ ـ ذكر القرآن لأمور الفلك التي لم يعرف عنها الناس اليوم إلا جزء يسير آية عظمى على أنه وحي الله وأن من أوحي إليه هو رسول الله قطعا.

٣ ـ ما ذكره القرآن عن الكون العلوي من الوضوح بحيث يعرفه الفلاح والراعي كالعالم المتبحر والأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب وذلك لتقوم الحجة على الناس إن هم لم يؤمنوا بالله ولم يوحدوه في عبادته ويخلصوا له في طاعته وطاعة رسوله.

(وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ

__________________

(١) هذا لأن سير القمر سريع وسير الشمس دونه فلا تدركه.

(٢) لم يقل تسبح لأنه وصفها بوصف العقلاء يسبحون ، أي يجرون وجيء بضمير الجمع وهما اثنان الشمس والقمر لا غير لإفادة تعميم هذا الحكم فيشمل الكواكب ايضا.

(٣) هذا لما بين بينها من أبعاد لا يقادر قدرها ولا يعرف مداها إلا الله خالقها فلذا لا يدرك بعضها بعضا لشدة الأبعاد بين مداريها.

٣٧٩

وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦))

شرح الكلمات :

(وَآيَةٌ لَهُمْ) : أي وعلامة لهم على قدرتنا على البعث.

(أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ) : أي ذريّات قوم نوح الذين أهلكناهم بالطوفان. نجينا ذريّتهم لأنهم مؤمنون موحدون وأغرقنا آباءهم لأنهم مشركون.

(فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) : أي في سفينة نوح المملوءة بالأزواج من كل صنف.

(وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ) : أي من مثل فلك نوح ما يركبون.

(فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) : أي مغيث ينجيهم فيكف صراخهم.

(وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) : أي وتمتيعا لهم بالطعام والشراب إلى نهاية آجالهم.

(اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ) : أي من عذاب الدنيا أي بالإيمان والاستقامة.

(وَما خَلْفَكُمْ) : أي من عذاب الآخرة إذا أصررتم على الكفر والتكذيب.

(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ) : أي وما تأتيهم من آية أو من حجة من حجج القرآن وبيّنة من بيناته الدالة على توحيد الله وصدق الرسول إلا كانوا عنها معرضين غير ملتفتين إليها ولا مبالين بها.

معنى الآيات :

ما زال السياق في عرض الآيات الكونيّة للدلالة على البعث والتوحيد والنبوّة فقال تعالى (وَآيَةٌ لَهُمْ) أي أخرى غير ما سبق (أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (١) أي حملنا ذريّة قوم نوح

__________________

(١) قرأ نافع ذرايتهم جمع ذرية وقرأ حفص بالإفراد (ذُرِّيَّتَهُمْ) اسم جمع فهو بمعنى ذرياتهم. لفظ الذرية وإن كان أساسا يطلق على الأولاد فإنه أطلق هنا على الأباء والأجداد إذ الكل هم ذرية لآدم عليه‌السلام والمشحون الموقر بما حمل فيه من سائر المخلوقات.

٣٨٠