تراثنا ـ العددان [ 73 و 74 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العددان [ 73 و 74 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٦

وقد اعترض الصحابة على عمر فعله وسُـنّته بتقديم بعض الناس على بعض في الأموال بمزية ، كتقديم : زوجات النبيّ صلى الله عليه وآله أُمّهات المؤمنين على غيرهنّ ، والبدري على مَن سواه ، والمهاجرين على الأنصار ، والعرب على الموالي (١).

وقد كانت سياسة وسُـنّة عمر بن الخطّاب في الحكم مبنية على التفريق بين العرب والعجم في عدّة أحكام ، منها : ما تقدّم في العطاء من بيت المال ..

ومنها : ما رواه مالك بسنده : أبى عمر بن الخطّاب أن يورّث أحداً من الأعاجم إلاّ أحداً ولد في العرب (٢).

وهذه العصبية تجلّت في غير هذين الموردين أيضاً ..

وقد ذُكر في تقسيم غنائم الفتوح أنّه كان يعطي للهجين سهماً وللعربي سـهمين ، مع أنّهم أبلوا بلاءً حسناً كالعرب (٣).

ومنها : منعه الموالي من دخول المدينة ، ولم يكن دخول أبي لؤلؤة مولى المغيرة بن شعبة إلاّ بالتماس من المغيرة ، وكذا آحاد من الموالي.

* * *

____________

(١) الأمـوال ـ لأبي عبيدة ـ : ٢٢٤ ـ ٢٢٧ ، سُـنن البيهقي ٦ / ٣٤٩ ـ ٣٥٠ ، تاريخ عمر بن الخطّاب ـ لابن الجوزي ـ : ٧٩ ـ ٨٣.

(٢) الموطّأ ٢ / ١٢.

(٣) كتاب الفتوح ـ لابن أعـثم ـ ١ / ٢١٠ ـ غنائم اليرموك.

١٢١

علامات أوقفت انتشار الاِسلام

أخلاقيات السقيفة في الفتوح والحكم

الأُولى :

ما تقدّم مفصّلاً من ريبة القبائل العربية في الجزيرة في الدين بسبب استخلاف أبي بكر وإزواء الخلافة عن أهل بيت النبوة عليهم السلام ، وتمرّدهم على أبي بكر ، ووصول الأمر إلى ردّة بعضهم.

الثانية : عصيان أهل البلاد المفتوحة :

وتجلّى ذلك في قيام الموالي بقتل الخليفة الثاني بعد أن رأوا أنّهم قد خُدعوا بأمل المساواة والعدالة في ظلّ دين الاِسلام ؛ إذ وجدوا أنّ نظام السقيفة يستحقرهم ويعدّهم مواطنون في الدين من الدرجات الدانية ، ومن ثمّ بدأت تظهر الحركات والمسارات الشعوبية منادية بإحياء النزعة القومية والعرف العِرقي مقابل العِرق العربي ، فكأنّهم انطبع لديهم أنّ الدين الاِسلامي وسيلة اتّخذها العرب للسيادة على الشعوب والقوميات الأُخرى ، وهذا الملف الشعوبي طويل الذيل لا يكاد يخلو منه كتاب تاريخ أو كتاب تراجم رجال.

وهكذا الحال بالنسبة لأهل مصر والعراق ؛ إذ ثاروا على الخليفة الثالث فقتلوه عندما شاهدوا استئثار عشيرته بالمال ، وعيثهم بمقدّسات الدين.

بينما نرى أنّ مَن اغتال عليّ عليه السلام ليس من أهل البلاد المفتوحة ، بل

١٢٢

هو من أصحاب الانحراف الفكري الشذوذي من المسلمين ، وهم الخوارج ، أي أصحاب نظرية فكرية ممسوخة عن ثوابت الدين الحنيف.

أمّا الأوّل فذُكر أنّه سُمّ ، وقيل : لعلّه لتقاطع المصالح بين جماعة السقيفة بين بعضهم البعض ، ولا مجال لذكر مؤشّرات ذلك في المقام.

الثالثة :

دخول الروم وأوربا عموماً في الدين المسيحي بعد أن كانوا وثنيّين في القرن الثاني الهجري ، كما تذكر المصادر التاريخية وهذه حادثة مرّة على كلّ مسلم ومؤمن ..

فأين ذهب نور الدين القويم ، وأين ذهبت جاذبية مبادئه العالية؟!

وأين هو نور جاذبية سيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وآله؟!

وأين هي ظاهرة : (ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا) (١)؟!

وأين هو الوعد الاِلهي : (ليُظْهِرَه على الدين كلّه ولو كرِهَ المشـركون) (٢)؟!

والغريب أنّ الجانب والعامل المؤثّر لدخول البلدان الأُوروبية في الديانة المسيحية هو شعار الرحمة والعطف واللين والسماحة ، الذي رفعه القساوسة والأساقفة من رجال المسيحية ، بينما تسامع أهل الروم ومن والاهم من جيوش الفتوح سواء داخل الجزيرة أو في بلاد العراق وفارس ومصر والشام عن سياسات نظام السقيفة في تلك البلدان ، إلى أن بلغت

____________

(١) سورة النصر ١١٠ : ٢.

(٢) سورة الصفّ ٦١ : ٩.

١٢٣

ذروتها في عهد الأُمويّين ، التي مرّ علينا بعضاً منها في كيفية الممارسات في كلا البعدين في خصوص عهد الشيخين.

والغريب ممّن يبصر الفساد والانحراف في النظام السياسي والديني في عصر الأُمويّين والعبّاسيّين ويتعامى عن جذوره في نظام السقيفة!!

الرابعة :

بقاء الصورة المظلمة في أذهان كثير من شعوب دول العالم عن دين الاِسلام نتيجة الممارسات القديمة على الصعيدين الداخلي والخارجي ، وكذلك الممارسات الحديثة الداخلية في البلدان الاِسلامية ؛ فإنّ الملاحظ أنّ عوامل ضعف المسلمين وتضعضعهم واستشراء الفساد في النظام الاجتماعي ترجع بالأساس إلى نوعية الطبقة السياسية الحاكمة ، وهي وليدة عوامل عدّة تتناهى إلى عامل أخير ، هو : المذاهب الدينية المبرّرة لمشروعية الحاكم مهما كانت أوصافه وأحواله ما لم يظهر منه كفراً بواحاً ؛ كما روى ذلك البخاري في صحيحه في كتاب الفتن : «والخارج على جماعة المسلمين ونظامهم مهما بلغ في الفساد مهدور الدم» ، إلى غير ذلك من ثوابت مذاهب السقيفة.

للبحث صلة ...

١٢٤

مثابـرة أعلام الاِمامية

في حفظ وإحياء تراث الطائفة

الشيخ الهمداني نموذجاً

الشيخ محمّد باقر الأنصاري الزنجاني

بسـم الله الرحمن الرحـيم

لكثير من علماء وأعلام الشيعة الاِمامية أعمال متفرّدة وجهود كبيرة في المحافظة على تراث الطائفة الحقّة وإحيائه ؛ ليكون رافداً ثرّاً للمسلمين ، في حاضرهم ومستقبلهم ، وفي مختلف جوانب الحياة ..

والعلاّمة النسّاخة الشيخ شير محمّـد الهمداني الجورقاني النجفي واحد من أُولئك الأعلام ، ممّن أفنى عمره الشريف في هذا السبيل ، تأليفاً ، وانتخاباً ، واستنساخاً ؛ إذ عُرف باستنساخه لكثير من مصادر ومراجع وكتب الطائفة ، وهو ما سيكون محور بحثنا في هذا المقال.

كان رحمه الله ممّن أحسّ بكلّ وجوده بأهمّية المخطوطات في أصالتنا العقائدية والاجتماعية في الجانب العلمي والبُعد التراثي والديني والتأريخي ، وعرف أنّها عبارة أُخرى من الحصيلة النهائية للجهود المضنية التي بذلها الآباء في الدين والعلم ، وتوارثها الأبناء خلفاً عن سلف وجيلاً بعد جيل في سبيل الرقيّ العلمي والتسامي الروحي ، وللحفاظ على الجذور العلمية

١٢٥

والأُسس الاعتقادية والمباني الدينية.

وانطلاقاً من الجانب الاعتقادي للتراث كان الشيخ رحمه الله ينظر إلى تلك المخطوطات من ناحية المسؤولية ، فيرى أنّ المصادر والأسانيد ، كلّما كانت صلتها وثيقة بالدين والمذهب ازدادت أهمّيتها أكثر فأكثر ؛ لِما في حفظها من تشييد لأركان الاِسلام ، واطّلاع على حقائق مذهب أهل البيت عليهم السلام.

وكان شيخنا قد عرف أيضاً ما تكتسب بعض المصنّفات الحديثية الموغلة في القدم من أهمّية كبيرة على غيرها من الكتب الأُخرى ؛ لوجود النقل عن المعصوم عليه السلام فيها ، الذي يعدّ من المصادر الأساسية للتشريع ، إضافة إلى الواجب المفروض علينا في الأخذ بالدقّة والاحتياط في تحصيل مختلف مواضيع مسائل الشريعة السمحاء عن تلك المصنّفات الأصليّة.

وفي الجانب التراثي تنبّه الشيخ الهمداني إلى أنّه ليست بالقليل تلك الكتب التي لم تطبع ولم تشهدها المكتبات ، وظلت حبيسة خزائن المخطوطات تترقّب الظهور ، في الوقت الذي افتقدتها المكتبة الاِسلامية وحرمتها الأوساط والمحافل الدينية والعلمية.

كما عرف أنّ ليس للمشكلة حلّ إلاّ الكتابة ، التي قد عبّر عنها الاِمام الصادق عليه السلام بقوله : «بالكتابة تقيّد أخبار الماضين للباقين ، وأخبار الباقين للآتين ، وبها تخلد الكتب في العلوم والآداب وغيرها ؛ ولولاه لانقطع أخبار بعض الأزمنة عن بعض ، ودَرَست العلوم ، وضاعت الآداب ، وعظم ما يدخل على الناس من الخلل في أُمورهم ، وما يحتاجون إلى النظر فيه من أمر دينهم ، وما روي لهم ممّا لا يسعهم جهله» (١) ..

____________

(١) بحار الأنوار ٣ / ٨٢.

١٢٦

كما رغَّب عليه السلام في الكتابة قائلاً : «كتبوا ، فإنّكم لا تحفظون إلاّبالكتاب» (١) ..

وقال عليه السلام أيضاً : «أما إنّكم لن تحفظوا حتّى تكتبوا» (٢).

ثمّ ممّا أحسّ به شيخنا رحمه الله مشكلة تلف المخطوطات أو فقدانها ؛ لعلل وأسباب مختلفة ، لعلّ من أهمّها جمود حركة الاستنساخ ، وربّما تعطيلها أو ندرتها ؛ أثر الركود العلمي والثقافي الناجم عن الأوضاع الاجتماعية المختلفة ، والذي أدّى إلى وضع النسخ القديمة في معرض الزوال دون أن يستنسخ عليها نسخة جديدة تحفظها من الاندثار.

ولقد نهضت محاولات عديدة ومثمرة من أجل صيانة المخطوطات وحفظ متونها ، إحداها ما قام به الشيخ رحمه الله ، فقد تتبّع الكتب المخطوطة القيّمة أينما وجدت ، وقام باستنساخ بعضها وتحقيق بعضها الآخر ، في مدىً عميق من عمره المبارك ، استغرق أكثر من خمسين عاماً. منطلقاً من قول الاِمام الحسن المجتبى عليه السلام : «إنّكم صغار قوم ويوشك أن تكونوا كبار قوم آخرين ، فتعلّموا العلم ، فمَن يستطع منكم أن يحفظه فليكتبه وليضعه في بيته» (٣) ، وقول الاِمام الصادق عليه السلام : «احتفظوا بكتبكم فإنّكم سوف تحتاجون إليها» (٤).

وقد مرّت فترات زمنية مهمّة في التاريخ شكَّلت انعطافة كبيرة في المجال العلمي ؛ نتيجة ما قدّمه النسّاخ من أعمال وجهود محمودة خلال

____________

(١) بحار الأنوار ٢ / ١٥٣ ح ٤٦.

(٢) بحار الأنوار ٢ / ١٥٣ ح ٤٧.

(٣) بحار الأنوار ٢ / ١٥٢ ح ٣٧.

(٤) بحار الأنوار ٢ / ١٥٢ ح ٤٠.

١٢٧

تلك الفترات ، من تكثير لنسخ الكتب والمصادر المختلفة وتوزيعها في الأمصار ، فتمكَّن علماؤنا أن يستثمروا هذه الفرص السانحة ، فقاموا بنشر علومهم المختلفة ، التي هي الامتداد الطبيعي لعلوم أهل البيت عليهم السلام ، واستمر هذا الازدهار العلمي في رُقي ونمو إلى أوان ظهور المطابع.

ولذلك فعندما ظهرت المطابع شعر شيخنا بحساسية الموقع وعرف أنّ تحقيق وطبع المخطوطات عامل مهمّ وله فضل كبير في إحياء التراث وحفظ المخطوطات ونشرها ، فقام بإعداد بعض المصادر الشيعية الأصلية للطبع باستنساخها وتحقيقها وإخراجها بصورة تليق بالثقافة الاِسلامية ؛ شعوراً بالمسؤولية الملقاة على عاتقه في خدمة أهل البيت عليهم السلام ونشر علومهم.

وقد شكر الله سعي أمثاله ـ ممّن أعطى ما أمكنه في سبيل نشر التراث الفكري للمسلمين ـ على لسان رسوله الأكرم صلى الله عليه وآله ؛ إذ قال : «المؤمن إذا مات وترك ورقة واحدة عليها علم ، تكون تلك الورقة يوم القيامة ستراً فيما بينه وبين النار ، وأعطاه الله تبارك وتعالى بكلّ حرف مكتوب عليها مدينة أوسع من الدنيا سبع مرّات» (١) ..

ويزداد الأمر أهمّيةً في ما يتّصل بأصحاب الولاية الاِلهية العظمى المعصومين الأربعة عشر عليهم السلام ؛ فقد قال صلى الله عليه وآله : «من كتب فضيلة من فضائل علي بن أبي طالب عليه السلام لم تزل الملائكة تستغفر له ما بقي لتلك الكتابة رسم ، ومن نظر إلى كتابة من فضائله غفر الله الذنوب التي اكتسبها بالنظر» (٢).

____________

(١) بحار الأنوار ٢ / ١٤٤ ح ١.

(٢) بحار الأنوار ٢٦ / ٢٢٩ ح ١٠ ، ٣٨ / ١٩٦ ح ٤.

١٢٨

وقد وفّق الباري تعالى واحد من ذوي الاختصاص والهمّة ، صديق الشيخ المترجم له ، العلاّمة المحقّق السـيّد محمّـد حسين الجلالي حفظه اللهتعالى ، لتتبّع ما خطّه يراع هذا الشيخ الجليل ، استنساخاً وتأليفاً ، في مكتبة الاِمام أمير المؤمنين عليه السلام في النجف ؛ إذ نقلت كتب الشيخ الهمداني إليها ، فتكلَّف ـ حفظه الله ـ عناء العمل في هذه الخدمة الجليلة وقام بإحصاء وإعداد فهرس خاصّ لِما وجده محفوظاً في المكتبة من مخطوطات كتبها الشيخ عليه السلام ، جاء غنيّاً في جوانبه ، وأحصى فيه ١٠٧ مخطوطات.

ونحن في هذا المقال نذكر أوّلاً ترجمة الشيخ شير محمّـد الهمداني ، جمعناها من عدّة مصادر تعرّضت لترجمته ، إضافة إلى ما حصلنا عليه من سؤال عدّة من معاصريه وذوي قرابته وأصدقائه من أهل بلدته ، ونثنّي بجولة خاطفة في ما خطّه رحمه الله بيمينه المباركة ، وأخيراً نورد فهرست مستنسخاته الذي نظَّمه ودوَّنه العلاّمة الجلالي ـ حفظه الله ـ.

ومن الله جلّ شأنه نستمدّ العون والتوفيق لنشر ما اندثر من مؤلّفات أصحابنا الاِمامية رضوان الله تعالى عليهم ، وإليه نبتهل أن يتقبّل عملنا خالصاً لوجهه تعالى ، ويعمّ النفع به لكلّ راغب ، إنّه وليّ التوفيق.

١٢٩

أوّلاً ـ ترجمة الشيخ الهمداني

هو الشيخ شيرمحمّـد بن صفرعلي بن شيرمحمّـد الجورقاني ، الهمداني مولداً ، والنجفي مسكناً ومدفناً.

* ولادته ووفاته :

وُلد رحمه الله في المحرّم من سنة ١٣٠٢ هـ في قرية «جورقان» الواقعة على بعد فرسخ من مدينة همدان في الطريق إلى طهران.

هاجر الشيخ إلى النجف الأشرف في ربيع الأوّل من سنة ١٣٣٨ هـ ، وسكنها في ما بقي من حياته ؛ إذ توفّي بها في ٢٨ جمادى الآخرة من سنة ١٣٩٠ هـ عن عمر ٨٨ سنة.

* أُسـرته وأولاده :

كان رحمه الله من أُسرة معروفة بالنجابة والتصلّب في المحبّة والولاء لآلبيت رسول الله صلى الله عليه وآله ، وتزوّج من أُسرة علمية في بلده ، وُلد له ابنان ، درجوا أطفالاً ، ولذلك بقي الشيخ بلا عقب ، ورجعت زوجته إلى إيران بعد وفاته ، وتوفّيت بعد وفاته بثـمان سـنوات.

* خُلقه ومنظره :

كان رحمه الله متوسّط القامة ، كثيف اللحية ، ضعف بصره في آخر عمره ، قليل الكلام ، منزوياً عن الناس ، مشتغلاً بما يرجع إلى إحياء التراث ،

١٣٠

ولذلك كان لا يحفل بمجلس لا صلة له بأمر الكتب ، كما كان يوصي أصدقائه أن لا يأتوا بأحد إلى بيته لكثرة أشغاله ، مع أنّه كان رجلاً متواضعاً في لقائه بالناس ، يلتقي بهم بانطلاقة وجه وبشاشة ، وكان من دأبه السلام على غيره متقدّماً وكان لا يترك المصافحة.

وكان دقيقاً في جميع أُموره ، ولا يقدم على عمل إلاّ بمبانٍ دينية واعتقادية وأخلاقية ، كما كان في كلامه وكتابته دقّة وظرافة خاصّة ، وكان جيّد الخطّ أيضاً.

* نشأته العلمية :

تعلّم الشيخ رحمه الله وقرأ مبادىَ العلوم والمقدّمات على عدد من العلماء في همدان ، فقرأ المعالم والمطوّل على السـيّد حسين الشوريني ، وأتمّ قراءة السطوح على الشيخ محمّـد هادي الطهراني والسـيّد عبـدالحسين بن فاضل الدزفولي الهمداني.

ثمّ هاجر إلى النجف في السادسة والثلاثين من عمره برفقة عدد من معاصريه ، منهم : الشيخ محمّـد الأنواري ، وأخيه الشيخ حسين الأنواري ، والشيخ حيدر الأنصاري ..

وقد حضر على بعض علمائها يومئذ ، كـ : آية الله الشيخ ضياءالدين العراقي ، آية الله الميرزا حسين النائيني ، الشيخ على أصغر الخطائي ، السـيّد محمّـد الفيروزآبادي ، والشيخ مهدي المازندراني ، وحضر في الرجال على السـيّد أبي تراب الخوانساري ، وحضر بحثه في الفقه أيضاً ، وقد حاز من كلّ ذلك القسط الوافر ، وبلغ درجة الاجتهاد.

فكان في مستوىً عالٍ من العلم والتحقيق ، حاملاً للقرآن ، حافظاً

١٣١

للأخبار ، متبحّراً في العقائد والأخلاق ، ورغم درسه الفقه وأُصوله وتعمّقه فيهما إلاّ أنّه تركهما وولع بإحياء التراث الحديثي والعقائدي.

وكان من فتاواه : جواز التقليد الابتدائي للميت ، كفاية الأغسال المستحبّة عن الوضوء ، عدم وجوب الخمس في عصر الغيبة ، وجوب صلاة الجمعة ، عدم جواز التصوير حتّى بالكاميرا ، وكان يرى الدولة في زمانه غاصبةً فلا يجوز المشاركة معها في مثل الاتّصال بالكهرباء وأخذ السجل ، أي ما يعرف بالجنسية أو بطاقة الأحوال المدنية ، ونحوه.

من تلامذته : الشيخ سيفالله النورمحمّـدي ، الشيخ محمّـدجواد المظفّر ، والشيخ معراج الشريفي.

وكان رحمه الله يدرّس اللمعة في أوّل الأمر ، واشتغل ببحث الخمس وصلاة الجمعة والحجّ ، وكان يعظ في درسـه أيضاً.

له إجازة في الرواية عن أُستاذه السـيّد أبي تراب الخوانساري ، وعن العلاّمة الشيخ آغا بزرك الطهراني (١).

* كلمات العلماء فيه :

ذكره رحمه الله عدد من معاصريه بكلّ تقدير واحترام ، وذكروا علمه الجمّ ، وتتبّعه الواسع ، وتقواه وورعه ، ووثاقته ، وجِدِّه في إحياء التراث ..

قال العلاّمة الطهراني : «عالم تقي وفاضل جليل ، وقد حاز من كلّ دروسه القسط الأوفر ، كما أنّه من الثقات الأخيار المعروفين بالنسك والدين» (٢).

____________

(١) نقباء البشر ٢ / ٨٥٠.

(٢) نقباء البشر ٢ / ٨٤٩.

١٣٢

قال العلاّمة محمّـدهادي الأميني : «عالم فاضل ، مجتهد جليل ، مؤلّف متتبّع ، محقّق ورع ، تقي صالح ، وكان من الثقات الأخيار المعروفين بالنسك والدين والورع» (١).

قال العلاّمة السـيّد محمّـدحسين الجلالي : «كان الشيخ آية في الزهد والورع والجَلد والمثابرة في سبيل إحياء تراث الشيعة» (٢).

* زهده والثقة به :

كان رحمه الله شديد المراعاة للتقوى ، وممّن لم يتّجه إلى الدنيا أو يبهره بريقها ، ويعظ ـ دوماً ـ غيره بتركها ، وكانت له صلة وصداقة خاصّة بالشيخ محمّـد علي الخراساني المعروف بالتقوى والورع ..

في أوّل اشتغاله بالعلوم الدينية كان يصل إليه أمر معاشه من قبل بعض من يعرفه ، ولم يقدم بنفسه لأخذ الراتب الشهري ، حتّى قام بعض أصدقائه بأخذه وإيصاله إليه.

وكان له بيت حقير جدّاً ، يعين فيه زوجته في أُمور البيت لمِا أصاب رجلها من وجعٍ أعجزها عن المشي.

وكان رحمه الله مولعاً بمساعدة الفقراء والضعفاء مع ما كان عليه من العسر في حياته.

ولأنّه كان يرى الدولة في زمانه غاصبةً كان يحترز عن كلّ ما تتدخّل فيه ، كالاتّصال بالكهرباء والخبز الحكومي الذي كان أرخص من غيره ، وكان يوصي غيره أيضاً باجتنابه ، ويقول : لو أمكنني ما استفدت من الماء الذي

____________

(١) معجم رجال الفكر والأدب في النجف خلال ألف عام (٣ /) : ١٣٤٣.

(٢) فهرست مستنسخات الشيخ الهمداني ـ مخطوط : ١.

١٣٣

يأتي إلى البيوت من عند الدولة. ولم يأخذ السجل ، وهو ممّا سبّب له مشاكل عدّة رحمه الله ، عند مجيئه إلى ايران ؛ إذ وردها بدون جواز سفر ، وعند دفنه رحمه الله كذلك ، وكان محترزاً عن الدهن النباتي لِما سمع في شأنه وأصله.

وكان يقول أيضاً : «لقد جئنا إلى النجف لنشتغل فيها بالعلم ٥ سنوات إلى ٦ سنوات ثمّ نرجع ، إلاّ أنّ قضية الحجاب واتّحاد اللباس في إيران صرفنا عن الرجوع».

كلّ هذه الأُمور فرضت أن يكون الشيخ موضع ثقة عند الكلّ ، حتّى كان من يريد أن يوصل إلى أولاده أو أقربائه أو أصدقائه بالنجف مالاً كان يكتب بالحوالة إلى الشيخ فكان هو الذي يأخذ النقود من أصحاب الحوالة ويوصلها إلى أهلها.

وكان موضع ثقة عند آية الله السـيّد الحكيم ، وآية الله السـيّد عبـدالهادي الشيرازي ، وآية الله السـيّد الخوئي ، كما كان أصحاب الكتب المخطوطة يثقون به عندما يأخذها للاستنساخ والمقابلة ونحوهما.

* حالاته الروحية :

كان الشيخ الهمداني رحمه الله من أصحاب الروحيات المعنوية ، شاكراً مديماً للذكر ، مواظباً على المستحبّات وكذلك الزيارات ، ومن البكائين في الدعاء والزيارة.

ينظر إلى الكتب الحديثية بتقدير خاصّ ، ويحترمها مثل القرآن ، حتّى أنّه يقرؤها بالتجويد.

وفوق كلّ ذلك كان شديد المحبّة لآل البيت النبوي : ومتصلّباً في ولائهم ، كلّما ذكر اسم مولانا أمير المؤمنين رحمه الله يجري دمعه ويبكي على

١٣٤

مظلوميته كثيراً.

وكان يزور أمير المؤمنين عليه السلام كلّ صباح بخضوع ، وكلّما دخل الصحن الشريف اشتغل بالمناجاة مع مولاه أمير المؤمنين عليه السلام إلى حدٍّ يغفل فيه عن من حوله ، وكان يجلس في الاِيوان قبال الضريح المقدّس ويشتغل بزيارةٍ «أمين الله» بخضوع وبكاء يغبطه به الّذين يمرّون عليه وهو في تلك الحالة.

كان ممّن يواظب على الذهاب إلى كربلاء لزيارة الاِمام الحسين عليه السلام في كلّ ليلة جمعة ، ومن عادته في كلّ سنة أن يسافر إلى كربلاء والكاظمية وسامرّاء ، يبقى في كلّ منها عشرة أيام.

وجاء مرّة واحدة إلى مشهد الرضا عليه السلام عن طريق البصرة وعبادان ، وزار في سفره هذا السـيّدة معصومة عليها السلام بقم ، ثمّ ذهب إلى مدينة همدان وأقام هناك عدّة أشهر ، وكان قليل السفر ، ولم يوفّق للحجّ.

ثمّ إنّ من دأبه اليومي المشي الكثير ؛ لِما أوصاه الطبيب بذلك لتطهير الأمعاء ، فكان يخرج كلّ يوم عند العصر باتّجاه بحر النجف وبيده سبحته ويمشي حدود ساعتين ونصف الساعة ، ويصلّي ويرجع بعد الصلاة ماشياً ، فيبلغ مسيره عشرة كيلومترات.

* وفاته ومدفنه :

انتقل الشيخ شير محمّـد الهمداني إلى جوار رحمة ربّه في ٢٨ جمادى الآخرة من سنة ١٣٩٠ هـ بالنجف الأشرف ..

وقد يذكر في تاريخ وفاته سنة ١٣٨١ هـ ، وهو ليس صحيحاً ؛ أوّلاً : لِما عرفناه من بعض أقربائه ممّن حضره عند وفاته ، وصرّح السـيّد الجلالي

١٣٥

أيضاً بذلك في فهرسته ، وثانياً : لِما جاء في فهرست مستنسخاته من أنّ تاريخ عدد منها كان في السنين ١٣٨٢ ، ١٣٨٣ ، ١٣٨٧ ، ١٣٨٩ هـ ، وهذا يدلّ على أنّه كان حيّاً في تلك السنين.

ونقل عن زوجته أنّها قالت : صلّى الشيخ العشائين على سطح داره ، ثمّ نزل وغسل يده وجلس على المائدة ووضع إصبعه في الملح وقال : «بسم الله الرحمن الرحيم» فوقع على الأرض ولم يتحرّك بعد.

وأوّل من أُخبر بوفاته الشيخ محمود بن الشيخ معراج الشريفي ، وأخبر هو الشيخ عليأكبر الهمداني والسـيّد علي الشاهرودي والسـيّد المستنبط ، وبات بعضهم عند جنازته تلك الليلة ، وصباحاً قام عدد من العلماء بغسله وتكفينه ، وحضر في تشييعه حدود ٣٠٠ شخصاً من الخواص ، وصلّى على جنازته الشيخ حسين الأنواري ، ودفن في مقبرة خاصّة للشيخ الأنواري المذكور في وادي السلام بالنجف.

وأقيمت له مجالس الفاتحة من قبل العلماء ، وخاصّة آية الله السـيّد الخوئي ، وأرسل آية الله السـيّد الشاهرودي الخبر برقياً إلى بلدة همدان ، كما أرسلت رسالة خاصّـة في ذلك إلى أخي زوجته الشيخ أبي طالب الديني.

* * *

١٣٦

ثانياً ـ جولة خاطفة في مخطوطات الشيخ

ينقسم ما خطَّه الشيخ شير محمّـد الهمداني بيمينه المباركة إلى تصنيفات ومستنسخات ، فنذكر أوّلاً مصنّفاته ثمّ مستنسخاته ، وبما أنّه كان من المولعين بإحياء التراث فإنّ الفصل المشبع في هذا الباب يتعلّق بمستنسخاته.

مصنّفاته :

اشتملت تأليفات الشيخ رحمه الله على : تقريرات شيوخه في الفقه والأُصول ، وهي غير مهذّبة. وحواشٍ على خمسة من كتب الرجال والحديث ، ومنتخبات من عدّة كتب من مصادر العامّة يبلغ عددها ٦ كتب ، ومستدرك على كتاب واحد ، وهناك كتاب ألَّفه بتحمّل المشاقّ في إنجازه ، هو الوحيد الذي وصل إلينا من كتبه ، وبذلك بلغت مصنّفاته ١٤ كتاباً ، هي :

* الف ـ التأليف :

١. كلمة الحقّ.

مخطوط في مجلّدين : الأوّل في ٥٥٠ صفحة ، والثاني في ٥٣٠ صفحة ، وأصل النسخة في مكتبة السـيّد محمّـد النبوي بمدينة دزفول ، وتوجد نسخة مصوّرة عنها في مركز إحياء التراث الاِسلامي بقم المقدّسة في مجلّدين رقمهما ٥٦ ، ٥٧ ، ونسخة مصوّرة أُخرى في مكتبة أميرالمؤمنين عليه السلام المختصّة في مشهد الاِمام الرضا عليه السلام.

١٣٧

ذُكر الكتاب في فهرس المركز بهذا النصّ : «كتاب في فضائل أميرالمؤمنين عليه السلام ، وأكثرها منقولة عن طرق الخاصّة ، وهو مجلّدان كبيران ، في الأوّل منهما روايات غير مبوّبة في المناقب ، وأمّا الثاني فهو في عشرة فصول كما يلي :

الأوّل : في طرق قول رسول الله صلى الله عليه وآله : «مثل أهل بيتي ...». الثاني : في طرق قول رسول الله صلى الله عليه وآله : «أعطاهم الله فهمي وعلمي». الثالث : في طرق قوله صلى الله عليه وآله : «إنّهم لا يدخلونكم في باب ضلال». الرابع : في أنّ أهل الذكر هم الأئمّة عليهم السلام. الخامس : في ما فرض الله ورسوله من الكون مع الأئمّة عليهم السلام. السادس : في شيء من الأخبار الواردة في ولاية أمير المؤمنين عليهم السلام. السابع : في جملة من الأخبار الواردة في وجوب طاعة الأئمّة عليهم السلام. الثامن : في جملة من أخبار الشفاعة. التاسع : في جملة من الأخبار الواردة في اتّباع الأئمة : والمعتقدين بإمامتهم. العاشر : في جملة من الأخبار الواردة في محبّي أهل البيت عليهم السلام.

والنسخة بخطّ النسخ (خطّ المؤلّف) ، فرغ من المجلّد الأوّل في ٢٥ شعبان ١٣٨٢ في النجف ، والمجلّد الثاني مشوّش الخطّ في أواخره ، ولعلّ ذلك لتأليفه في أواخر عمره» (١).

* ب ـ التقريرات :

٢. تقريرات شيوخه في الفقه والأُصول.

وقد كتب في أوائل وروده النجف ـ حينما كان مقبلاً على الدرس ـ كتاباً في حجّية الظن والاستصحاب والخبر الواحد ، ورتّبه بصورة : «قال

____________

(١) فهرس مركز إحياء التراث الإسلامي ١ / ٦٩.

١٣٨

الأُستاذ : ... أقول : ...» ، وقد بقي ناقصاً غير مبوَّب ولا مهذَّب بعدما أقبل على العقائد والحديث وعُني بأمر المخطوطات.

* ج ـ التعليقات :

٣. الحاشية على فهرست الشيخ الطوسي.

٤. الحاشية على رجال النجاشي.

٥. الحاشية على الهداية.

٦. الحاشية على نهج البلاغة.

٧. الحاشية على كتاب «حجّة الذاهب إلى إيمان أبي طالب عليه السلام».

* د ـ المستدركات :

٨. مستدرك الاِيقاظ من الهجعة.

استدرك فيه لِما فات الشيخ الحرّ العاملي في كتاب الاِيقاظ ، والنسخة في مكتبة الاِمام أمير المؤمنين عليه السلام ، في مجموعة رقمها ٣٢٣١.

* هـ ـ المنتخبات :

٩. سند الخصام.

في مجلّدين ، يحتوي على ما انتخبه من مسند أحمد بن حنبل ، ومن غيره كما صرّح به في آخر الكتاب ، والمجلّد الثاني انتهى إلى الجزء السادس من أصل الكتاب ، وهو الطبعة الأُولى من مسند أحمد ، فرغ من الانتخاب في شوّال سنة ١٣٧٦ هـ ، والمجلّدان في مكتبة الاِمام أمير المؤمنين عليه السلام بالنجف ، رقمهما ٣٢٤١ و ٣٢٤٢.

١٣٩

١٠. المنتخب من «ربيع الأبرار» للزمخشري.

فرغ من الانتخاب في ربيع الآخر سنة ١٣٨٩ هـ ، والنسخة في مكتبة الاِمام أمير المؤمنين عليه السلام بالنجف ، رقمها ٣٢٤٠.

١١. المنتخب من «المجموع الرائق من أزهار الحدائق».

استخرجها من نسخة عتيقة ، لعلّها نسخت قبل ٣٠٠ سنة ، وفرغ منها في شعبان سنة ١٣٧٣ هـ ، والنسخة في مكتبة الاِمام أمير المؤمنين عليه السلام بالنجف ، في مجموعة رقمها ٣٢٠٧.

١٢. الأخبار المنتخبة من «البيان والتبيّن» للجاحظ.

انتخبها من نسخة تاريخها سنة ١٠١٨ هـ ، فرغ منها في ربيع الآخر سنة ١٣٦١ هـ ، والنسخة في مكتبة الاِمام أمير المؤمنين عليه السلام بالنجف ، في مجموعة رقمها ٣٢٢١.

١٣. الأحاديث المنتخبة من «المستدرك على الصحيحين» للحاكم.

فرغ منها في شعبان سنة ١٣٥٣ هـ ، والنسخة في مكتبة الاِمام أمير المؤمنين عليه السلام بالنجف ، في مجموعة رقمها ٣٢٣٠.

١٤. الأحاديث المنتخبة من «الاستيعاب» لابن عبـدالبرّ.

انتخبها من الطبعة الأُولى لكتاب الاستيعاب ، فرغ منها في ربيع الآخر سنة ١٣٦١ هـ ، والنسخة في مكتبة الاِمام أمير المؤمنين عليه السلام بالنجف ، في مجموعة رقمها ٣٢٢١.

وفي ما يأتي صورة الصفحات الأُولى والأخيرة لكل من المجلّد الأوّل والثاني من كتاب كلمة الحـقّ ، وهو المؤلَّف الفريد الذي وصل إلينا من مؤلّفات الشيخ شير محمّـد الهمداني رضوان الله عليه.

١٤٠