تراثنا العدد [ 62 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا العدد [ 62 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 1016-4030
الصفحات: ٣٠٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

قوله تعالىٰ : ( طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ ) (١) .

قال السيّد :

« فـ ( طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ ) ( جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ ) (٢) » .

قال في الهامش :

«أخرج الثعلبي في معناها من تفسيره الكبير ، بسندٍ يرفعه إلىٰ رسول الله صلّىٰ الله عليه [ وآله ] وسلّم ، قال : طوبىٰ شجرة في الجنّة أصلها في دار عليّ وفرعها علىٰ أهل الجنّة ؛ فقال بعضهم : يا رسول الله ! سألناك عنها فقلت : أصلها في داري وفرعها علىٰ أهل الجنّة ؟ ! فقال : أليس داري ودار عليّ واحدة ؟ !» .

فقيل :

« ما نقله عن الثعلبي في معنىٰ هذه الآية من الكذب المحض البارد الذي لا يخفىٰ علىٰ من عنده طرف من العلم ، وواضعه من أشدّ الناس وقاحةً وجرأة علىٰ النبيّ صلّىٰ الله عليه [ وآله ] وسلّم .

ومن أساليب الشيعة المعتادة في الوضع والكذب أنّهم يعمدون إلىٰ شيء قد اشتهر فيحرّفونه بالحذف أو الزيادة ، وقد روىٰ أبو سعيد

__________________

(١) سورة الرعد ١٣ : ٢٩ .

(٢) سورة ص ٣٨ : ٥٠ .

٤١
 &

الخدري ، عن رسول الله صلّىٰ الله عليه [ وآله ] أنّ رجلاً قال : يا رسول الله ! ما طوبىٰ ؟ قال : شجرة في الجنّة مسيرة مائة سنة ، ثياب أهل الجنّة تخرج من أكمامها .

الطبري ١٣ / ١٤٩ .

وروىٰ الإمام أحمد في المسند ، وٱبن حبّان ، من حديث دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، وخرّجه السيوطي في الدرّ ٤ / ٥٩ وزاد نسبته لأبي يعلىٰ وٱبن أبي حاتم وٱبن مردويه والخطيب في تاريخه .

زاد المسير ٤ / ٣٢٧ .

والحديث ضعيف ؛ لأنّه من رواية دراج بن سمعان أبو السمح القرشي السهمي مولاهم المصري القاصّ :

قال عنه النسائي : ليس بالقوي ، وقال في موضع آخر : منكَر الحديث وقال أبو حاتم : في حديثه ضعف . وقال الدارقطني : ضعيف . وقال في موضع آخر : متروك . وقال فضلك الرازي لمّا ذُكر له أنّ ابن معين قال : دراج ثقة ، فقال : ليس بثقة ولا كرامة . وقال ابن عديّ : عامّة الأحاديث التي أمليتها عن دراج ممّا لا يتابع عليه . وحكىٰ ابن عديّ عن أحمد بن حنبل : أحاديث دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد فيها ضعف » .

أقول :

أوّلاً : أيّ تعارض بين حديث الطبري ، وبين حديث الثعلبي وغيره ؟ !

إنّ حديث الطبري يفيد بأنّ « طوبىٰ » هي « شجرة في الجنّة مسيرة مائة سنة ، ثياب أهل الجنّة من أكمامها » أمّا أين أصلها ؟ وأين فرعها ؟ فهو

٤٢
 &

ساكت عن ذلك .

وحديث الثعلبي أيضاً يقول : هي « شجرة في الجنّة » ، ويضيف موضع أصلها ، وموضع فرعها . . . فأين التعارض ؟ !

وهذا من مواضع جهل هذا المفتري أو تعصّبه ! !

وثانياً : أين التحريف بالحذف أو الزيادة ، في الحديث المذكور ، من قِبَل الشيعة ؟ !

إنّ من يخاف الله واليوم الآخر لا يتكلّم هكذا ألبتة !

وثالثاً : لقد خرّج السيوطي في الدرّ المنثور حديث الثعلبي وغيره بعد حديث الطبري والجماعة فقال : « وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن سيرين رضي الله عنه ، قال : شجرة في الجنّة أصلها في حجرة عليّ ، وليس في الجنّة حجرة إلّا وفيها غصن من أغصانها » فهل المفتري لم يره ؟ !

ورابعاً : إذا كان واضع هذا الحديث « من أشدّ الناس وقاحةً وجرأةً علىٰ النبيّ » فالقائلون به والرواة له كابن سيرين وٱبن أبي حاتم والثعلبي والسيوطي وغيرهم كذلك ، وهل يلتزم المفترون بذلك ؟ !

وخامساً : دعوىٰ ضعف الحديث ، من أكذب الكذب ، لأنّ « دراج بن سمعان » من رجال البخاري في الأدب وغيره ، ومن رجال الترمذي والنسائي وأبي داود وٱبن ماجة (١) .

وسادساً : إنّه قد وثّق هذا الرجل بصراحةٍ :

يحيىٰ بن معين .

عثمان بن سعيد الدارمي .

__________________

(١) تهذيب الكمال ٨ / ٤٨٠ ، تهذيب التهذيب ٣ / ١٨٠ .

٤٣
 &

أبو حفص ابن شاهين .

ابن حبّان ، حتّىٰ إنّه أخرج عنه في صحيحه .

وغيرهم .

وسابعاً : لقد حرّف هذا المفتري كلام ابن عديّ ؛ وذلك لأنّ ابن عديّ أورد أحاديث أملاها عن دراج وجعلها « ممّا لا يتابع عليه » ثمّ قال :

« وسائر أخبار دراج غير ما ذكرت من هذه الأحاديث يتابعه الناس عليها ، وأرجو إذا أخرجت دراج وبرّأته من هذه الأحاديث التي أنكرت عليه أنّ سائر أحاديثه لا بأس بها ، وتقرب صورته ممّا قال فيه يحيىٰ بن معين » .

هذا نصّ كلام ابن عديّ في كتابه (١) وتراه أيضاً في تهذيب الكمال ، وتهذيب التهذيب ، وغيرهما .

فانظر كيف يحرّفون ، وعلىٰ غيرهم يفترون ! !

*       *      *

__________________

(١) الكامل ـ لابن عديّ ـ ٤ / ١٦ .

٤٤
 &

قوله تعالىٰ : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا . . . ) (١) .

قال السيّد :

« فهم المصطفون من عباد الله ، السابقون بالخيرات بإذن الله ، الوارثون كتاب الله ، الّذين قال الله فيهم : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ ( وهو الذي لا يعرف الأئمّة ) وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ ( وهو الموالي للأئمّة ) وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ( وهو الإمام ) ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) » .

فقال في الهامش :

« أخرج ثقة الإسلام الكليني بسنده الصحيح عن سالم ، قال : سألت أبا جعفر ( الباقر ) عن قوله تعالىٰ : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) الآية . قال عليه السلام : السابق بالخيرات هو الإمام ، والمقتصد هو العارف بالإمام ، والظالم لنفسه هو الذي لا يعرف الإمام .

وأخرج نحوه عن الإمام أبي عبد الله الصادق ، وعن الإمام أبي الحسن الكاظم ، وعن الإمام أبي الحسن الرضا .

وأخرجه عنهم الصدوق وغير واحدٍ من أصحابنا .

وروىٰ ابن مردويه عن عليٍّ ، أنّه قال في تفسير هذه الآية : هم نحن .

__________________

(١) سورة فاطر ٣٥ : ٣٢ .

٤٥
 &

والتفصيل في كتابنا : تنزيل الآيات ، وفي غاية المرام » .

فقيل :

« لا يفسّر هذا التفسير من يحترم عقله وعقل القرّاء ، والصحيح الذي عليه المفسّرون المعتمدون هو . . . » .

فذكر مختار الطبري وٱبن كثير ، وما جاء في كتاب زاد المسير .

أقول :

أمّا السبّ فإليه يعود .

وأمّا الاعتماد علىٰ قول محمّد بن جرير وٱبن كثير وٱبن الجوزي ، في مقابلة قول أئمّة أهل البيت عليهم السلام ، فهو إعراض عمّا جاء في الكتاب وفي السُنّة القطعية في السؤال من أهل البيت ، والرجوع إليهم ، والأخذ عنهم ، والتمسّك بهم وٱتّباعهم . .

علىٰ إنّه إذا كان المرجع قول ابن جرير وابن كثير ، فلماذا لا يؤخذ بأقوالهما في سائر الآيات ونزولها في أهل البيت الأطهار ؟ !

*       *      *

٤٦
 &

كلمة ابن عبّاس

قال السيّد :

« وقد قال ابن عبّاس : نزل في عليٍّ وحده ثلاثمائة آية » .

قال في الهامش :

« أخرجه ابن عساكر عن ابن عبّاس ، كما في الفصل ٣ من الباب ٩ من الصواعق ص ٧٦ » .

أقول :

سيأتي الكلام عليه في المراجعة رقم ٤٩ ، فانتظر .

*       *      *

هذا تمام الكلام علىٰ هذه المراجعة المختصّة بالآيات المنزَّلة بشأن أمير المؤمنين عليه السلام ، المستدلّ بها علىٰ إمامته بلا فصل ، علىٰ ضوء كتب القوم ، ومن نَظَر إلىٰ ما حوته من بحوثٍ في الكتاب والسُنّة وبالاستناد إلىٰ أشهر الأسفار والكتب ، وحرّر فكره من التقليد والتعصّب ، هُدي إلىٰ الحقّ المبين ، مذهب النبيّ وآله الطاهرين .

للبحث صلة . . .

٤٧
 &

عدالة الصحابة ( ٥ )

الشيخ محمّد السند

بسم الله الرحمٰن الرحيم

الوجه التاريخي :

ثمّ إنّه بقي وجه آخر أو أخير يتمسّك به القائل بعدالة الصحابة ، ـ بالترديد المتقدّم في معنىٰ العدالة وفي دائرة الصحابة المرادة لذلك القائل ـ وهو : إنّ الصحابة هم الّذين قاموا بفتوحات الإسلام ونشر الدين في أرجاء المعمورة ، وهذا بعدما عانوا ما عانوا مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الغزوات الأُولىٰ . .

وهذا الوجه ـ مع غضّ النظر عن التحليل الآتي فيه ، وعن الخوض في حقيقته ـ ما هو المقدار اللازم منه في الحجّيّة المبحوث عنها في عدالة الصحابة ؛ فقد تقدّم أنّ صدور العمل الصالح أو الحسن من شخص ـ بعد افتراض ذلك ـ لا يلازم عدالته وٱستقامته في كلّ أفعاله الأُخرىٰ ، فضلاً عن عصمته وإمامته في الدين .

ففي كثير من الغزوات التي قام بها المسلمون في عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ارتكب مَن صحبه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها أعمالاً تعدّ في الشرع من الخطايا الكبيرة

٤٨
 &

المغلّظة عقوبتها ، وقد ذكرنا شطراً منها في ما سلف ، ونذكر هنا شطراً آخر منها :

قوله تعالىٰ : ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَّوْلَا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (١) .

والآية تبيّن أنّ الواجب علىٰ المسلمين الإثخان في قتل المشركين ، وعدم أخذ الأسرىٰ والحرب قائمة قبل أنّ ينهدّ صفّ المشركين ويستولي عليهم الرعب .

وقد وصفت الآية أنّ العقوبة لو لا عفو الله تعالىٰ لكانت عذاب ، ووصفته بالعظيم ، وظاهر الآية وبمقتضىٰ الإثخان هو : كون الواجب القتل لا الأسر أثناء قيام الحرب مع المشركين وقبل انتهائها بتقويض معسكرهم ، لا ما يقال : إنّ الآية ناظرة إلىٰ حكم الأسرىٰ بعد انتهاء الواقعة ، وإنّ الواجب هو قتلهم لا مفاداتهم ؛ لأنّه يخالف الآيات اللاحقة : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الْأَسْرَىٰ إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (٢) ، الدالّة علىٰ أنّ القتل المطلوب هو أثناء الحرب لا بعد أنّ تضع الحرب أوزارها .

وكلّ هذا في غزوة « بدر » ، وكذلك الحال في غزوة « حنين » ، قال تعالىٰ : ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ

__________________

(١) سورة الأنفال ٨ : ٦٧ و ٦٨ .

(٢) سورة الأنفال ٨ : ٧٠ و ٧١ .

٤٩
 &

وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ) (١) ، والفرار في اللقاء من الكبائر التي توعّد الله عليها النار ، كما في قوله تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) (٢) .

وكذلك الحال في غزوة « أُحد » كما أشرنا إليه سابقاً في سورة آل عمران ، وقد قتل خالد بن الوليد بني جذيمة في فتح مكّة حينما بعثه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حولها في سرايا تدعو إلىٰ الله تعالىٰ ولم يأمرهم بقتال ، وأمره أن يسير بأسفل تهامة داعياً ولم يبعثه مقاتلاً ، فغدر خالد بهم وقتلهم ، فانتهىٰ الخبر إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرفع يديه إلىٰ السماء ثمّ قال : « اللّهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد بن الوليد » ثلاث مرّات ؛ ثمّ أرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاً عليه‌السلام فودىٰ لهم الدماء وأرضاهم (٣) .

فتبيّن أن لا تلازم بين صدور العمل الصالح ـ علىٰ تقدير ثبوته ـ وبين استقامة الشخص في بقيّة أعماله ، فضلاً عن عصمته وإمامته في الدين .

أمّا الخوض في الفتوحات بشكل إجمالي فالنظرة المقابلة تقيّم الفتوحات التي حصلت بأنّها كانت بمثابة سدوداً أمام انتشار الدين في كلّ أرجاء المعمورة ، فإنّ هذا الدين الحنيف لا يصمد أمام بريق نوره الأقوام البشرية إلّا وتنجذب إليه ، وهذا هو عمدة نهج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في دعوته إلىٰ الإسلام . .

قال تعالىٰ : ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ

__________________

(١) سورة التوبة ٩ : ٢٥ .

(٢) سورة الأنفال ٨ : ١٥ و ١٦ .

(٣) المغازي للواقدي ـ ٣ / ٨٧٥ ـ ٨٨٤ .

٥٠
 &

فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ) (١) ، فالدخول الفوجي الأفواجي للناس كان بحكم الانجذاب إلىٰ عظمة الدين ، والمثالية التي يتّصف بها صاحب الدعوة ، والكيان الداخلي الذي بناه . .

إلّا إنّ مجموع الممارسات في أحداث الفتوحات كبّلت الدين ، وألبست الإسلام أثواباً قاتمة ، وولّدت ٱنطباعاً لدىٰ بقيّة الأُمم والملل أنّ الدين الحنيف هذا هو دين السيف والدم ، ولغته لغة القوّة بالدرجة الأُولىٰ وفي القاعدة الأصلية له ، لا أنّه دين الفطرة العقلية ، ( فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ) (٢) .

ومن ثمّ أخذت بعض الكتابات في العالم العربي الإسلامي منذ نصف قرن في التنكّر لقانون الجهاد الابتدائي في الإسلام ، باعتبار أنّه يعني لغة القوّة والعنف والعسكر ، ورفضاً للغة الدعوة إلىٰ سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، التي هي من الثوابت الأوّلية لطريقة الدعوة إلىٰ الإسلام ، وربّما تمسّكوا بسيرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جميع غزواته ؛ إذ إنّها لم تكن مبتدأة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل من مناوشات الكفّار أوّلاً للمسلمين ، وبذيل بعض الآيات من قبيل قوله تعالىٰ : ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) (٣) . .

وقوله تعالىٰ : ( لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم

__________________

(١) سورة النصر ١١٠ : ١ و ٢ .

(٢) سورة الروم ٣٠ : ٣٠ .

(٣) سورة البقرة ٢ : ١٩٠ .

٥١
 &

مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (١) . .

ونحوها من الآيات التي ظاهرها يوهم بأنّ القتال مخصوص بالمدافعة ، وقد تسرّب مثل هذا النظر إلىٰ بعض الأوساط الفقهيّة .

والذي أوقعهم في مثل هذا الوهم المخالف للمسلّمات الفقهيّة في الدين ، هو ما جرىٰ من الأحداث والممارسات في الفتوحات عبر تاريخ المسلمين . .

فإنّه قد وقع الخلط لديهم بين الجهاد الابتدائي وبين العدوان المبتدأ ، وحصر الدفاع في الجهاد الدفاعي ، مع إنّ الجهاد الابتدائي ليس بمعنىٰ الابتداء بالعدوان ، بل إنّ الغطاء الحقوقي للجهاد الابتدائي هو الدفاع الحقوقي ، وإنّ كان ابتداء الحرب من المسلمين بمعنىٰ الضغط علىٰ الكفّار تحت تأثير القوّة ، لكن ليس هو ابتداء عدوان ، بل ابتداء الضغط بالقوّة لردّ العدوان الذي مارسه الكفّار تجاه المسلمين في ما سبق ، فالابتداء في استخدام القوّة أمر ، والابتداء في العدوان أمر آخر . .

وأمّا التمسّك بسيرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلقد خلط أصحاب هذه المقولة بين الجهاد الابتدائي في مصطلح الفقهاء وبين العدوان الابتدائي الحقوقي ، فالثاني لم يكن في سيرته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أمّا الأوّل ؛ فغزوة « بدر » أعظم الغزوات كانت ابتداء في استخدام القوّة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ردّاً علىٰ مصادرة أموال المسلمين في مكّة التي قام بها كفّار قريش ، وردّاً علىٰ الغارات المباغتة التي كان يقوم بها أفراد منهم علىٰ أطراف المدينة ، ونحو ذلك ، لكنّ ذلك لا يستوجب

__________________

(١) سورة الممتحنة ٦٠ : ٨ و ٩ .

٥٢
 &

تصنيف غزوة « بدر » في الجهاد الدفاعي وإخراجه عن الابتدائي بالمصطلح الفقهي ؛ إذ لكلٍّ شرائط تختلف عن الآخر ، وكذا غزوة « خيبر » وغزوة « حنين » وغزوة « تبوك » وغيرها من الغزوات الكبرىٰ أو الوسطىٰ والصغيرة ، وقوله تعالىٰ في سورة الأنفال صريح في ذلك : ( كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ) (١) ؛ فإنّ خروج قريش للحرب كان بعد انتداب أبي سفيان لحماية قافلة التجارة التي كان فيها عندما سمع بخروج المسلمين للاستيلاء عليها ابتداءً انتقاماً لِما فعل المشركون بهم .

وقوله تعالىٰ : ( فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا * وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ) (٢) .

فإنّ هذه الآيات تفيد الغطاء الحقوقي الدفاعي للجهاد الابتدائي .

وكذا قوله تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا

__________________

(١) سورة الأنفال ٨ : ٥ ـ ٨ .

(٢) سورة النساء ٤ : ٧٤ ـ ٧٥ .

٥٣
 &

وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (١) .

و ( انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) (٢) .

و ( قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ) (٣) .

وتمام الكلام في أدلّة الجهاد الابتدائي موكول إلىٰ الكتب الفقهية ، إلّا أنّ الغرض في المقام الإشارة إلىٰ أنّ الخلط الذي حصل كان بسبب عدم التمييز بين الجهاد الابتدائي علىٰ مستوىٰ التنظير وسيرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والفلسفة الحقوقية التي تنطلق منها مشروعيّته ، وبين ما حصل من ممارسة في فتوحات البلدان ، فإنّ الانطباع الذي أورثته تلك الممارسات في أذهان الأُمم الأُخرىٰ عاد عقبة كؤوداً أمام انتشار الدين الإسلامي في أرجاء المعمورة .

فالدين الإسلامي ـ بناءً علىٰ هذا الانطباع ـ غطاء يحرز من وراءه جمع الثروات ، وٱستعباد البشر في صورة الرقيق ، ولقضاء النزوات بعنوان ملك الإماء ، فيهلك الحرث في البلدان ، ويبيد النسل البشري فيها ، وتحت ركام هذه الصورة حاولت تلك المجموعة من المثقّفين والكتّاب في الدول الإسلاميّة القيام بعملية الغسيل ، وتمييز الوجه الناصع للدين الحنيف عن تلك الممارسات ، لكنّها خلطت بين حقيقة الجهاد الابتدائي وفلسفته

__________________

(١) سورة التوبة ٩ : ٣٨ و ٣٩ .

(٢) سورة التوبة ٩ : ٤١ .

(٣) سورة التوبة ٩ : ٢٩ .

٥٤
 &

الحقوقية التي ينطلق منها ، وبين ما حصل من ممارسات باسم الجهاد الابتدائي في الفتوحات التي جرت ، ونضع القارئ أمام النقاط التالية كي يتبيّن له حقيقة الحال :

الأُولىٰ : إنّ أغراض هذا التشريع للجهاد الابتدائي كما تدلّ عليه مجموع الآيات القرآنية المتعرّضة للجهاد الابتدائي ـ والتي تقدّمت الإشارة إلىٰ بعضها ـ في الدين الحنيف ، كما في قوله تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ) (١) . .

فإنّ هذه الآية تحدّد مَعلماً مهمّاً من معالم الجهاد ، وإنّ الغرض فيه ليس جمع الغنائم والأموال والاسترقاق ، بل قيادة الجموع البشرية وهدايتها إلىٰ طريق الله وعبادته .

وكذا قوله تعالىٰ : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ) (٢) .

وهذه ملحمة قرآنية عمّن هو في الصفوف مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو عسل اللسان والكلام ، ولكنّ قلبه مخالف تماماً لِما يظهره علىٰ لسانه ، وهو شديد العداوة لله ولرسوله ، والآية تُخبر أنّه إذا تولّىٰ الأُمور فسوف يكون سعيه في ولايته فساداً في الأرض وإهلاكاً للحرث والنسل البشري ، والحال

__________________

(١) سورة النساء ٤ : ٩٤ .

(٢) سورة البقرة ٢ : ٢٠٤ ـ ٢٠٦ .

٥٥
 &

إنّ الله تعالىٰ لا يحبّ الفساد في التكوين ، وإنّ خاصية هذا المتولّي التعصّب لفِعله أمام نصيحة الآخرين له .

كما إنّ هذه الآية تحدّد أغراض الدين ـ بما فيه الجهاد الابتدائي ـ بأنّه ليس للإفساد في الأرض وإهلاك الموارد الطبيعية أو الإنجازات المدنية التي حقّقها البشر ، ولا الهدف تبديد النسل .

وكذا قوله تعالىٰ : ( فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَىٰ لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ * فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ * أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا * إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ * ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ) (١) .

فهذه الآيات ترسم ملحمة مستقبلية لجماعة ( الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ) ، وهذه الجماعة قد أشار إليها القرآن الكريم في سورة المدّثّر ،

__________________

(١) سورة محمّد ٤٧ : ٢٠ ـ ٣٠ .

٥٦
 &

رابع سورة نزلت علىٰ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أوائل البعثة الشريفة في مكّة المكرّمة ، وأعلن وجودها في صفوف الثلّة الأُولىٰ التي أسلمت . .

قال تعالىٰ : ( عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ * وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ ) (١) .

فإنّ الآيات تبيّن أنّ المخاطب بعدّة الملائكة الموكّلين بالنار علىٰ أربعة أقسام ؛ الأوّل : « الّذين آمنوا » ، والثاني : « الّذين أُوتوا الكتاب » ، والثالث : « الّذين في قلوبهم مرض » ، والرابع : « الكافرون » ، وتخبر أنّ الذي سيحصل له الإيمان هما القسمان الأوّلان ، أمّا القسمان الآخران فسيحصل لديهما الارتياب .

ومن الواضح أنّ المرض الذي في القلب نحوٌ من النفاق الخفيّ جدّاً ، أي الذي لا يظهر علىٰ صاحبه ، بل يبطنه في قلبه وخفاء أعماله ، وقد ذكرنا أنّ الآيات القرآنية تتابع هذه الفئة والجماعة في كثير من السور ، تحت هذا العنوان وبهذا الاسم إلىٰ آخر حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونزول القرآن . .

والآيات هنا من سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تبيّن أنّ غرض هذه الفئة هو تولّي الأُمور والأخذ بزمامها ، وأنّ ذلك الغرض هو وراء انضمامها إلىٰ صفوف المسلمين الأوائل ؛ إذ إنّ خبر ظفر النبيّ المبعوث صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان

__________________

(١) سورة المدّثّر ٧٤ : ٣٠ و ٣١ .

٥٧
 &

منتشراً قبل البعثة ، كما يشير إليه قوله تعالىٰ : ( وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) (١) .

فقد أشارت الآية إلىٰ أنّ أهل الكتاب كانوا يستفتحون وينتظرون ويطلبون الفتح والنصر والظفر بالنبيّ ـ الذي سيبعث خاتماً ـ علىٰ الكافرين من مشركي الجزيرة العربية ، فلمّا عرفوا ذلك وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد بُعث كفروا برسالته .

فالسورة تبيّن أنّ غرض هذه الفئة ( الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ) هو تسلّم مقاليد الأُمور ، وأنّها كانت علىٰ اتّصال في الخفاء وٱرتباط مع فئات معادية علناً لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ ( ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا . . . ) ، وكذلك بقية السور المتعرّضة لهذه الفئة بهذا الاسم تشير إلىٰ هذه العلاقات بين هذه الفئة وبين بقية الفئات الأُخرىٰ .

ثمّ إنّ السورة تبيّن أنّ طابع سياسة الدولة التي يقيمها أفراد هذه الفئة هو الإفساد في الأرض ، وقطع الصلة بمن أمر تعالىٰ بوصلهم ومودّتهم ، كالذي تشير إليه آية ٢٠٥ من سورة البقرة : ( وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ) .

فهذه الآيات تحدّد أنّ أغراض الشريعة ـ في أحكامها وقوانينها السياسية ، وأبواب فقه النظام والسياسة الشاملة للجهاد الابتدائي ـ ليس الإفساد في الأرض ، وإهلاك الحرث ، وتبديد النسل البشري ، فإنّ الله يحبّ صلاح الأرض وأهلها ، فهذا هو سبيل الله تعالىٰ الذي أمرت الآيات القرآنية

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ٨٩ .

٥٨
 &

العديدة بالقتال فيه ، وفي سبيل المستضعفين من الرجال والنساء والولدان ؛ لأجل إزالة استضعافهم وإرجاع حقوقهم المغتصبة .

الثانية : إنّ نظرة سريعة إلىٰ الثروات المتكدّسة من الفتوحات توضّح معالم الأغراض وراءها ، والأُسلوب الممارس فيها ، المباين للنهج المرسوم في الكتاب والسُنّة النبويّة ، سيرةً وأقوالاً . .

قال العلّامة الأميني (١) في جرده لثروات عدّة من الأسماء :

منهم : سعد بن أبي وقّاص ؛ قال ابن سعد : ترك سعد يوم مات مائتي ألف وخمسين ألف درهم ، ومات في قصره بالعقيق .

وقال المسعودي : بنىٰ داره بالعقيق فرفع سمكها ووسّع فضائها ، وجعل أعلاها شرفات (٢) .

ومنهم : زيد بن ثابت ؛ قال المسعودي : خلف من الذهب والفضّة ما كان يكسر بالفؤوس غير ما خلّف من الأموال والضياع بقيمة مائة ألف دينار (٣) .

ومنهم : عبد الرحمٰن بن عوف الزهري ؛ قال ابن سعد : ترك عبد الرحمن ألف بعير وثلاثة آلاف شاة ومائة فرس ترعىٰ بالبقيع ، وكان يزرع بالجرف علىٰ عشرين ناضحاً ، وقال : وكان في ما خلّفه ذهب قطّع بالفؤوس حتّىٰ مجلت أيدي الرجال منه ، وترك أربع نسوة فأصاب كلّ امرأة ثمانون ألفاً .

وقال المسعودي : ابتنىٰ داره ووسّعها ، وكان علىٰ مربطه مائة فرس ،

__________________

(١) الغدير ٨ / ٢٨٢ ـ ٢٨٨ .

(٢) الطبقات الكبرىٰ ـ لابن سعد ـ ٣ / ١٠٥ ، مروج الذهب ١ / ٤٣٤ .

(٣) مروج الذهب ١ / ٤٣٤ .

٥٩
 &

وله ألف بعير ، وعشرة آلاف من الغنم ، وبلغ بعد وفاته ثُمن ماله أربعة وثمانين ألفاً (١) .

ومنهم : يعلىٰ بن أُميّة ؛ خلّف خمسمائة ألف دينار وديوناً علىٰ الناس وعقارات وغير ذلك من التركة ما قيمته مائة ألف دينار (٢) .

ومنهم : طلحة بن عبيد الله التيمي ؛ ابتنىٰ داراً بالكوفة تعرف بالكناس بدار الطلحتين ، وكانت غلّته من العراق كلّ يوم ألف دينار ، وقيل أكثر من ذلك ، وله بناحية سراة أكثر ممّا ذكر ، وشيّد داراً بالمدينة وبناها بالآجر والجصّ والساج . .

وعن محمّد بن إبراهيم ، قال : كان طلحة يغلّ بالعراق ما بين أربعمائة ألف إلىٰ خمسمائة ألف ، ويغلّ بالسراة عشرة آلاف دينار أو أكثر أو أقلّ .

وقال سفيان بن عيينة : كان غلّته كلّ يوم ألف وافياً . والوافي وزنه وزن الدينار .

وعن موسىٰ بن طلحة : إنّه ترك ألفي ألف درهم ومائتي ألف درهم ومائتي ألف دينار ، وكان ماله قد اغتيل .

وعن إبراهيم بن محمّد بن طلحة : كان قيمة ما ترك طلحة من العقار والأموال وما ترك من النافيّ ثلاثين ألف ألف درهم ، ترك من العين ألفي ألف ومائتي ألف درهم ومائتي ألف دينار والباقي عروض .

__________________

(١) الطبقات الكبرىٰ ـ لابن سعد ـ ٣ / ٩٦ ، مروج الذهب ١ / ٤٣٤ ، تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٤٦ ، صفة الصفوة ـ لابن الجوزي ـ ١ / ١٣٨ ، الرياض النضرة ـ لمحبّ الدين الطبري ـ ٢ / ٢٩١ .

(٢) مروج الذهب ١ / ٤٣٤ .

٦٠