الإكتفا - ج ١

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي

الإكتفا - ج ١

المؤلف:

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي


المحقق: محمّد عبدالقادر عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2943-0
ISBN الدورة:
2-7451-2943-0

الصفحات: ٦٣٠
الجزء ١ الجزء ٢

رأى وما هاله من ذلك. فقال الموبذان : وأنا أصلح الله الملك قد رأيت فى هذه الليلة رؤيا. ثم قص عليه رؤيا فى الإبل. فقال : أى شيء يكون هذا يا موبذان؟ قال : حدث يكون من ناحية العرب. وكان أعلمهم فى أنفسهم.

فكتب عند ذلك كسرى إلى النعمان بن المنذر أن يوجه إليه برجل عالم بما يريد أن يسأله عنه. فوجد إليه بعبد المسيح بن عمرو بن حيان بن بقيلة الغسانى. فلما قدم عليه قال له الملك : ألك علم بما أريد أن أسألك عنه؟ قال : ليخبرنى الملك عما أحب ، فإن كان عندى منه علم وإلا أخبرته بمن يعلمه.

فأخبره بالذى وجه إليه فيه. فقال له : علم ذلك عند خال لى يسكن مشارف الشام ، يقال له سطيح. قال : فائته فسله عما سألتك عنه ، ثم ائتنى بتفسيره. فخرج عبد المسيح حتى أتى إلى سطيح وقد أشفى على الموت ، فسلم عليه وكلمه ، فلم يرد عليه سطيح جوابا ، فأنشأ عبد المسيح يقول :

أصم أم يسمع غطريف اليمن

أم فاد فاز لم به شأو العنن

يا فاصل الخطة أعيت من ومن

أتاك شيخ الحى من آل سنن

وأمه من آل ذئب بن حجن

أبيض فضفاض الرداء والبدن

رسول قيل العجم ينمى للوسن

لا يرهب الوغد ولا ريب الزمن

تجوب بى الأرض علنداة شزن

ترفعنى وجنا وتهوى فيه وجن

حتى أتى عارى الجاحى والقطن

تلفه فى الريح بوغاء الدمن

فلما سمع سطيح شعره رفع رأسه يقول : عبد المسيح ، أتى إلى سطيح ، على جمل مشيح ، وقد أوفى على الضريح ، بعثك ملك بنى ساسان ، لارتجاس الإيوان وخمود النيران ، ورؤيا الموبذان ، رأى إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت فى بلادها.

عبد المسيح ، إذا كثرت التلاوة ، وظهر صاحب الهراوة ، وفاض وادى السماوة ، وغاضت بحيرة ساوة ، وخمدت نار فارس ، فليس الشام لسطيح شاما ، يملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرفات ، وكل ما هو آت آت.

ثم قضى سطيح مكانه ، فلما قدم عبد المسيح على كسرى أخبره بمقالة سطيح. فقال : إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكا قد كانت أمور. فملك منهم عشرة إلى أربع سنين وملك الباقون إلى خلافة عثمان رضى الله عنه.

٨١

فلما هلك ربيعة بن نصر رجع ملك اليمن كله إلى حسان بن تبان أسعد أبى كرب ، فسار بأهل اليمن يريد أن يطأ بهم أرض العرب وأرض الأعاجم حتى إذا كان بأرض العراق كرهت حمير وقبائل اليمن المسير معه وأرادوا الرجعة إلى بلادهم وأهلهم ، فكلموا أخا له يقال له عمرو وكان معه فى جيشه فقالوا له : اقتل أخاك حسان ونملكك علينا وترجع بنا إلى بلادنا. فأجابهم.

فاجتمعوا على ذلك إلا ذو رعين الحميرى ، فإنه نهاه عن ذلك ولم يقبل منه. فقال ذو رعين الحميرى :

ألا من يشترى سهرا بنوم

سعيد من يبيت قرير عين

فإما حمير غدرت وخانت

فمعذرة الإله لذى رعين

ثم كتبهما فى رقعة وختم عليها ثم أتى بها عمرا فقال له : ضع لى هذا الكتاب عندك. ففعل. ثم قتل عمرو أخاه حسان ورجع بمن معه إلى اليمن (١).

فلما نزل اليمن منع منه النوم وسلط عليه السهر ، فلما جهده ذلك سأل الأطباء والحزاة (٢) من الكهان والعرافين عما به ؛ فقال له قائل منهم : إنه والله ما قتل رجل أخاه أو ذا رحمه بغيا على مثل ما قتلت أخاك عليه إلا ذهب نومه وسلط عليه السهر.

فلما قيل له ذلك جعل يقتل كل من أمره بقتل أخيه حسان من أشراف اليمن حتى خلص إلى ذى رعين. فقال له ذو رعين : إن لى عندك براءة. قال : وما هى؟ قال :الكتاب الذي دفعت إليك.

فأخرجه فإذا فيه البيتان ، فتركه ورأى أنه قد نصحه. وهلك عمرو ، فمرج أمر حمير عند ذلك وتفرقوا ، فوثب عليهم رجل من حمير لم يكن من بيوت المملكة ، يقال له لخنيعة (٣) ينوف ذو شناتر (٤) ، فقتل خيارهم وعبث ببيوت أهل المملكة منهم ، فقال قائل من حمير :

تقتل أبناها وتنفى سراتها

وتبنى بأيديها لها الذل حمير

__________________

(١) انظر : السيرة (١ / ٤١).

(٢) الحزاة : جمع حاز ، والحازى هو الذي ينظر فى الأعضاء وفى خيلان الوجه يتكهن ، وقال الليث :هو الكاهن.

(٣) لخنيعة : قال ابن دريد : وهو من اللخع ، وهو استرخاء فى الجسم.

(٤) ذو شناتر : الشناتر هو الأصابع بلغة حمير ، واحدها : شنترة.

٨٢

تدمر دنياها بطيش حلومها

وما ضيعت من دينها فهو أكثر

كذاك القرون قبل ذاك بظلمها

وإسرافها تأتى الشرور فتخسر

وكان لخنيعة امرأ فاسقا يعمل عمل قوم لوط ، فكان يرسل إلى الغلام من أبناء الملوك فيقع عليه فى مشربة له قد صنعها لذلك لئلا يملك بعد ذلك ، ثم يطلع من مشربته تلك إلى حرسه وجنده قد أخذ مسواكا فجعله فى فيه علامة للفراغ من خبيث فعله.

حتى بعث إلى زرعة ذى نواس ، بن تبان أسعد ، أخى حسان ، وكان صبيا صغيرا حين قتل حسان ، ثم شب غلاما جميلا وسيما ذا هيئة وعقل ، فلما أتاه رسوله عرف ما يريد به ، فأخذ سكينا حديدا لطيفا فخبأه بين قدمه ونعله ، ثم أتاه فلما خلا معه وثب إليه ، فواثبه ذو نواس فوجأه حتى قتله ، ثم حز رأسه فوضعه فى الكوة التي كان يشرف منها ، ووضع مسواكه فى فيه ثم خرج على الناس ، فسألوه فأشار لهم إلى الرأس فنظروا فإذا رأس لخنيعة مقطوع ، فخرجوا فى أثر ذى نواس حتى أدركوه ، فقالوا : ما ينبغى أن يملكنا غيرك إذ أرحتنا من هذا الخبيث فملكوه ، واجتمعت عليه حمير وقبائل اليمن ، فكان آخر ملوك حمير ، ويسمى يوسف ، فأقام فى ملكه سنين (١).

قال ابن قتيبة : ثمانيا وستين سنة. إلى أن كان منه فى أهل نجران ما تقدم ذكره ، فكان ذلك سببا لاستئصال ملكه واستيلاء الحبشة على اليمن.

ذكر دخول الحبشة أرض اليمن

واستيلائهم على ملكها وذكر السبب فى ذلك

مع ما يتصل به من أمر الفيل

ولما انتهى زرعة ذو نواس إلى ما انتهى إليه بأهل نجران من التحريق والقتل ، أفلت منهم رجل من سبأ يقال له دوس ذو ثعلبان على فرس له ، فسلك الرمل فأعجزهم ، فمضى على وجهه ذلك حتى أتى قيصر صاحب الروم ، فاستنصره على ذى نواس وجنوده ، وأخبره بما بلغ منهم ، فقال له : بعدت بلادك منا ، ولكنى سأكتب لك إلى ملك الحبشة فإنه على هذا الدين ، وهو أقرب إلى بلادك.

فكتب إليه يأمره بنصره والطلب بثأره.

__________________

(١) انظر : السيرة (١ / ٤٣).

٨٣

فقدم دوس على النجاشى بكتاب قيصر ، فبعث سبعين ألفا من الحبشة ، وأمر عليهم رجلا منهم يقال له أرياط ، ومعه فى جنده أبرهة الأشرم ، فركب أرياط البحر حتى نزل بساحل اليمن ومعه دوس ، فسار إليه ذو نواس فى حمير ، ومن أطاعه من قبائل اليمن ، فلما التقوا انهزم ذو نواس وأصحابه ، فلما رأى ذو نواس ما نزل به وبقومه وجه فرسه إلى البحر ، ثم ضربه فدخل به ، فخاض به ضحضاح (١) البحر حتى أفضى به إلى غمره فأدخله فيه ، فكان آخر العهد به.

ودخل أرياط اليمن ، فملكها (٢).

فأقام بها سنين فى سلطانه ذلك ، ثم نازعه فى أمر الحبشة باليمن أبرهة الحبشى ، حتى تفرقت الحبشة عليهما ، فانحاز إلى كل واحد منهما طائفة منهم ، ثم سار أحدهما إلى الآخر ، فلما تقارب الناس أرسل أبرهة إلى أرياط أنك لا تصنع بأن تلقى الحبشة بعضها ببعض حتى تفنيها شيئا ، فابرز لى وأبرز لك ، فأينا أصاب صاحبه انصرف إليه جنده. فأرسل إليه أرياط : أنصفت.

فخرج إليه أبرهة ، وكان رجلا قصيرا لحيما ، وكان ذا دين فى النصرانية ، وخرج إليه أرياط ، وكان رجلا عظيما جميلا طويلا ، وفى يده حربة له ، وخلف أبرهة غلام له يقال له عتودة يمنع ظهره ، فرفع أرياط الحربة فضرب أبرهة يريد يافوخه (٣) ، فوقعت الحربة على جبهة أبرهة ، فشرمت حاجبه وأنفه وعينه وشفته ، فبذلك سمى أبرهة الأشرم.

وحمل عتودة على أرياط من خلف أبرهة فقتله. فانصرف جند أرياط إلى أبرهة ، فاجتمعت عليه الحبشة باليمن ، وودى أبرهة أرياط. فلما بلغ ذلك النجاشى غضب غضبا شديدا وقال : عدا على أميرى فقتله بغير أمرى! ثم حلف لا يدع أبرهة حتى يطأ بلاده ويجز ناصيته.

فحلق أبرهة رأسه وملأ جرابا من تراب اليمن ثم بعث به إلى النجاشى ، وكتب إليه : أيها الملك إنما كان أرياط عبدك ، وأنا عبدك ، اختلفنا فى أمرك ، وكل طاعته لك ، إلا أنى كنت أقوى على أمر الحبشة وأضبط لها وأسوس منه وقد حلقت رأسى كله حين

__________________

(١) الضحضاح : هو الماء القليل يكون فى الغدير ، وقيل : هو الماء اليسير ، وقيل : هو ما لا غرق فيه ولا له غمر ، وقيل : هو الماء إلى الكعبين إلى أنصاف السوق. انظر : اللسان (مادة ، ضحح).

(٢) انظر : السيرة (١ / ٤٩ ـ ٥٠).

(٣) يافوخه : أى وسط رأسه ويجمع على يآفيخ.

٨٤

بلغنى قسم الملك ، وبعثت إليه بجراب من تراب أرضى ليضعه تحت قدميه ، فيبر قسمه فى.

فلما انتهى ذلك إلى النجاشى رضى عنه ، وكتب إليه : أن اثبت بأرض اليمن حتى يأتيك أمرى (١).

فأقام بها ، ثم إن أبرهة بنى القليس (٢) بصنعاء ، فبنى كنيسة لم ير مثلها فى زمانها بشيء من الأرض ، ثم كتب إلى النجاشى : إنى قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك ، ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب.

فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشى غضب رجل من النسأة أحد بنى فقيم بن عدى بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة ، فخرج حتى أتى القليس فأحدث فيها ، ثم لحق بأرضه ، فأخبر بذلك أبرهة ؛ فقال : من صنع هذا؟ فقيل له : رجل من أهل هذا البيت الذي تحج العرب إليه بمكة ، لما سمع قولك : «أصرف إليها حج العرب» غضب فجاء فقعد فيها ، أى أنها ليست لذلك بأهل (٣).

فغضب عند ذلك أبرهة ، وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه. ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت ، ثم ساروا وخرج معه بالفيل. وسمعت بذلك العرب فأعظموه وفظعوا به ، ورأوا جهاده حقا عليهم ، حين سمعوا بأنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام.

فخرج إليه رجل كان من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر ، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت الله ، وما يريد من هدمه وإخرابه.

فأجابه من أجابه إلى ذلك ، ثم عرض له فقاتله ، فهزم ذو نفر وأصحابه ، وأخذ له ذو نفر فأتى به أسيرا ، فلما أراد قتله قال له ذو نفر : أيها الملك لا تقتلنى ، فإنه عسى أن يكون بقائى معك خيرا لك من قتلى.

وكان أبرهة رجلا حليما ، فتركه من القتل وحبسه عنده فى وثاق.

__________________

(١) انظر : السيرة (١ / ٥٣ ـ ٥٤).

(٢) القليس : هى الكنيسة التي بناها أبرهة على باب صنعاء ، وسميت القليس لارتفاع بنيانها وعلوه.

(٣) انظر : السيرة (١ / ٥٦).

٨٥

ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج له ، حتى إذا كان بأرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعمى فى قبيلى خثعم (١) : شهران وناهس ، ومن تبعه من قبائل العرب ، فقاتله فهزمه أبرهة ، وأخذ له نفيل أسيرا فأتى به ، فلما هم بقتله قال له نفيل : أيها الملك لا تقتلنى فإنى دليلك بأرض العرب ، وهاتان يداى لك على قبيلى خثعم ، شهران وناهس ، بالسمع والطاعة.

فخلى سبيله وخرج به معه يدله ، حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب ابن مالك الثقفى فى رجال ثقيف ، فقالوا له : أيها الملك إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون ليس عندنا لك خلاف ، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد. يعنون اللات ، إنما تريد البيت الذي بمكة ، ونحن نبعث من يدلك عليه.

فتجاوز عنهم. واللات بيت لهم بالطائف كانوا يعظمونه نحو تعظيم الكعبة ، فبعثوا معه أبا رغال يدله على الطريق إلى مكة. فخرج أبرهة ومعه أبو رغال ، حتى أنزله المغمس ، فلما أنزله به مات أبو رغال هنالك ، فرجمت قبره العرب ، فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمس (٢).

فلما نزل أبرهة المغمس بعث رجلا من الحبشة يقال له الأسود بن مقصود على خيل له حتى انتهى إلى مكة ، فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم ، وأصاب فيها مائتى بعير لعبد المطلب بن هاشم ، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها.

فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله ، ثم عرفوا أنه لا طاقة لهم به ، فتركوا ذلك.

وبعث أبرهة حناطة الحميرى إلى مكة وقال له : سل عن سيد أهل هذا البلد وشريفهم ، ثم قل له : إن الملك يقول لك : إنى لم آت لحربكم ، إنما جئت لهدم هذا البيت ، فإن لم تعرضوا دونه بحرب فلا حاجة لى بدمائكم. فإن هو لم يرض حربى فائتنى به.

__________________

(١) قال فى الروض الأنف : خثعم اسم جبل سمى به بنو عفرس لأنهم نزلوا عنده ، ويقال : إنهم تخثعموا بالدم عند حلف عقدوه ، وقيل : بل خثعم ثلاث : شهران ، وناهس ، وأكلب عند أهل النسب هو ابن لهيعة بن نزار.

(٢) المغمس : مكان يبعد عن مكة بثلثى فرسخ ، وهو فى طرف الحرم فيه برك محمود فيل أبرهة حين توجه به إلى مكة لأخراب الكعبة بزعمه ، والميم الثانية فى المغمس مكسورة وروى فتحها فأما الأولى فمضمومة.

٨٦

فلما دخل حناطة مكة سأل عن سيد قريش وشريفها ، فقيل له : عبد المطلب بن هاشم. فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة ؛ فقال له عبد المطلب : والله ما نريد حربه وما لنا بذلك منه طاقة ، هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم أو كما قال فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمته ، وإن يخل بينه وبينه ، فو الله ما عندنا دفع عنه.

فقال حناطة : فانطلق إليه ، فإنه قد أمرنى أن آتيه بك.

فانطلق معه عبد المطلب ومعه بعض بنيه ، حتى أتى المعسكر فسأل عن ذى نفر ، وكان له صديقا ، حتى دخل عليه فى محبسه فقال له : يا ذا نفر هل عندك من غناء فيما نزل بنا؟ فقال له ذو نفر : وما غناء رجل أسير فى يدى ملك ينتظر أن يقتله غدوا أو عشيا! ما عندى غناء فى شيء مما نزل بك ، إلا أن أنيسا سائس الفيل صديق لى فسأرسل إليه فأوصيه بك وأعظم عليه حقك ، وأسأله أن يستأذن لك على الملك فتكلمه بما بدا لك ، ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك. قال : حسبى.

فبعث : ذو نفر إلى أنيس فقال له : إن عبد المطلب سيد قريش وصاحب عير مكة يطعم الناس بالسهل والوحوش فى رءوس الجبال ، وقد أصاب له الملك مائتى بعير ، فاستأذن له عليه وانفعه عنده بما استطعت. قال : أفعل.

فكلم أنيس أبرهة ، قال له : أيها الملك ، هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك ، فأذن له فليكلمك فى حاجته. ووصفه له بما وصفه ذو نفر لأنيس.

فإذن له أبرهة ، وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجمله وأعظمه ، فلما رآه أبرهة أجله وأكرمه عن أن يجلسه تحته ، وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه ، فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه. ثم قال لترجمانه : قل له : حاجتك؟ فقال له ذلك الترجمان. فقال : حاجتى أن يرد على الملك مائتى بعير أصابها لى. فلما قال له ذلك قال أبرهة لترجمانه : قل له : قد كنت أعجبتنى حين رأيتك ، ثم قد زهدت فيك حين كلمتنى! أتكلمني فى مائتى بعير أصبتها لك ، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمنى فيه!؟.

قال عبد المطلب : أنا رب الإبل ، وإن للبيت ربا سيمنعه. قال : ما كان ليمتنع منى. قال : أنت وذاك. ويزعم بعض أهل العلم أنه كان ذهب مع عبد المطلب إلى أبرهة يعمر ابن نفاثة بن عدى بن الدئل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة ، وهو يومئذ سيد بنى بكر ، وخويلد بن واثلة الهذلى ، وهو يومئذ سيد هذيل ، فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة

٨٧

على أن يرجع عنهم ولا يهدم البيت ، فأبى عليهم ، فالله أعلم أكان ذلك أم لا.

فرد أبرهة على عبد المطلب الإبل التي أصاب له ، فلما انصرفوا عنه انصرف عبد المطلب إلى قريش ، فأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز فى شعف الجبال والشعاب ، تخوفا عليهم من معرة الجيش.

ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة ، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده. فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة :

لا هم إن العبد يم

نع رحله فامنع حلالك (١)

لا يغلبن صليبهم

ومحالهم غدوا محالك

ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة ، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال فتحرزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها.

فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة وهيأ فيله وعبى جيشه. وكان اسم الفيل محمودا ، وأبرهة مجمع لهدم البيت والانصراف إلى اليمن ، فلما وجهوا الفيل إلى مكة قام نفيل بن حبيب إلى جنب الفيل ، ثم أخذ بأذنه فقال له : ابرك محمود وارجع راشدا من حيث جئت ، فإنك فى بلد الله الحرام. ثم أرسل أذنه فبرك الفيل وخرج نفيل يشتد حتى أصعد فى الجبل.

وضربوا الفيل ليقوم فأبى ، وضربوه فى رأسه بالطبرزين (٢) ليقوم فأبى ، فأدخلوا محاجن لهم فى مراقه فبزغوه بها ليقوم فأبى ، فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول ، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك ، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك ، ووجهوه إلى مكة فبرك.

وأرسل الله عليهم طيرا من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان مع كل طائر منها ثلاثة أحجار ، يحملها حجر فى منقاره وحجران فى رجليه ، أمثال الحمص والعدس لا تصيب منهم أحدا إلا هلك ، وليس كلهم أصابت.

وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاءوا ويسألون عن نفيل بن حبيب

__________________

(١) لا هم : أى اللهم ، والعرب تحذف منها الألف واللام للتخفيف ، حلالك : جمع حلة وهى جماعة البيوت وربما أريد بها القوم المجتمعون لأنهم يحلون فيها.

(٢) الطبرزين : آلة من الحديد. وقال السهيلى فى الروض الأنف : طبر هو الفأس ، وذكر الطبرستان بفتح الباء وقال معناه : شجر قطع بفأس.

٨٨

ليدلهم على الطريق إلى اليمن ، فقال نفيل حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته :

أين المفر والإله الطالب

والأشرم المغلوب ليس الغالب

وقال نفيل أيضا :

ألا حييت عنا يا ردينا

نعمناكم مع الإصباح عينا

ردينة لو رأيت ولا تريه

لدى جنب المحصب ما رأينا

إذا لعذرتنى وحمدت أمرى

ولم تأسى على ما فات بينا

حمدت الله إذ أبصرت طيرا

وخفت حجارة تلقى علينا

فكل القوم يسأل عن نفيل

كأن علىّ للحبشان دينا (١)

فخرجوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون بكل مهلك على كل منهل ، وأصيب أبرهة فى جسده وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة ، كلما سقطت أنملة منها اتبعتها مدة تمث قيحا ودما ، حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر ، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ، فيما يزعمون.

ويقال : إنه أول ما رئيت الحصبة والجدرى بأرض العرب ذلك العام ، وإنه أول ما رئى بها مرائر الشجر الحرمل (٢) والحنظل والعشر (٣) ذلك العام.

فلما بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مما يعد الله على قريش من نعمته عليهم وفضله ، ما رد عنهم من أمر الحبشة لبقاء أمرهم ومدتهم ، فقال تبارك وتعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ).

وقالت عائشة رضى الله عنها : لقد رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعمين مقعدين يستطعمان.

قال ابن إسحاق : فلما رد الله الحبشة عن مكة وأصابهم ما أصابهم به من النقمة ،

__________________

(١) ذكر هذه الأبيات فى السيرة (١ / ٦٢). فقال :

ألا حييت عنا يا ردينا

نعمناكم مع الإصباح عينا

أتانا قابس منكم عشاء

فلم يقدر لقابسكم لدينا

ثم ذكرها سواء.

(٢) الحرمل : حب نبات معروف يخرج السوداء والبلغم إسهالا.

(٣) العشر : شجر مر يحمل ثمرا كالأترج وليس فيه منتفع.

٨٩

أعظمت العرب قريشا ، وقالوا : هم أهل الله ، قاتل الله عنهم وكفاهم مئونة عدوهم ، فقالوا فى ذلك أشعارا يذكرون فيها ما صنع الله بالحبشة وما رد عن قريش من كيدهم ، فقال عبد الله بن الزبعرى السهمى :

تنكلوا عن بطن مكة إنها

كانت قديما لا يرام حريمها

لم تخلق الشعرى ليالى حرمت

إذ لا عزيز من الأنام يرومها

سائل أمير الحبش عنها ما رأى

ولسوف ينبى الجاهلين عليهما

ستون ألفا لم يؤوبوا أرضهم

بل لم يعش بعد الإياب سقيمها

كانت بها عاد وجرهم قبلهم

والله من فوق العباد يقيمها

وقال أبو قيس بن الأسلت الأنصاري ثم الخطمى ، من قصيدة سيأتى ذكرها بجملتها:

فقوموا فصلوا ربكم وتمسحوا

بأركان هذا البيت بين الأخاشب

فعندكم منه بلاء مصدق

غداة أبى يكسوم هادى الكتائب

كتيبته بالسهل تمشى ورجله

على القاذفات فى رءوس المناقب (١)

فلما أتاكم نصر ذى العرش ردهم

جنود المليك بين ساف وحاصب

فولوا سراعا هاربين ولم يؤب

إلى قومه ملحبش غير عصائب (٢)

وقالت سبيعة بنت الأحب بن زبينة من بنى نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور ، لابنها خارجة بن عبد مناف بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة ، تعظم عليه حرمة مكة وتنهاه عن البغى فيها وتذكر تبعا وتذلّله لها ، والفيل وهلاك جيشه عندها :

أبنى لا تظلم بمك

ة لا الصغير ولا الكبير

واحفظ محارمها بن

ى ولا يغرنك الغرور

أبنى من يظلم بمك

ة يلق أطراف الشرور

أبنى يضرب وجهه

ويلح بخديه السعير

أبنى قد جربتها

فوجدت ظالمها يبور

الله آمنها وما

بنيت بعرصتها قصور

والله آمن طيرها

والعصم (٣) تأمن فى ثبير

ولقد غزاها تبع

فكسا بنيتها الحبير (٤)

__________________

(١) القاذفات : أعالى الجبال البعيدة. والمناقب : جمع منقبة ، وهى الطريق فى رأس الجبل.

(٢) ملحبش : أى من الحبش ، والعصائب : الجماعات.

(٣) العصم : جمع أعصم ، وهو الوعل ، قيل له ذلك لأنه يعتصم بالجبال.

(٤) الحبير : هو الثور الحبير : أى هو الجديد الناعم ، وقيل : الثياب الموشية.

٩٠

وأذل ربى ملكه

فيها فأوفى بالنذور

يمشى إليها حافيا

بفنائها ألفا بعير

ويظل يطعم أهلها

لحم المهارى والجزور

يسقيهم العسل المصف

ى والرحيض من الشعير

والفيل أهلك جيشه

يرمون فيها بالصخور

والملك فى أقصى البلا

د وفى الأعاجم والجزير

فاسمع إذا حدثت واف

هم كيف عاقبة الأمور

ولم يزل شعراء أهل الجاهلية يذكرون ذلك فى أشعارهم معتدين بصنع الله فيه ، وقد جرى على ذلك شعراء الإسلام ، فقال الفرزدق بن غالب التميمى ، يمدح سليمان بن عبد الملك بن مروان ويعرض للحجاج بن يوسف ، ويذكر الفيل وجيشه :

فلما طغى الحجاج حين طغى به

غنى قال إنى مرتق فى السلالم

فقال كما قال ابن نوح سأرتقى

إلى جبل من خشية الماء عاصم

رمى الله فى جثمانه مثل ما رمى

عن القبلة البيضاء ذات المحارم

جنودا تسوق الفيل حتى أعادهم

هباء وكانوا مطرخيمى الطراخم (١)

نصر كنصر البيت إذ ساق فيله

إليه عظيم المشركين الأعاجم

قال ابن إسحاق (٢) : فلما هلك أبرهة ملك الحبشة ابنه يكسوم بن أبرهة ، وبه كان يكنى ، فلما هلك يكسوم ملك اليمن فى الحبشة أخوه مسروق بن أبرهة.

فلما طال البلاء على أهل اليمن ، خرج سيف بن ذى يزن الحميرى حتى قدم على قيصر ملك الروم ، فشكا إليه ما هم فيه ، وسأله أن يخرجهم عنه ، ويليهم هو ، ويبعث إليهم من شاء من الروم ، فلم يشكه.

فخرج حتى أتى النعمان بن المنذر ، وهو عامل كسرى على الحيرة وما يليها من أرض العراق ، فشكا إليه أمر الحبشة ، فقال له النعمان : إن لى على كسرى وفادة فى كل عام ، فأقم حتى يكون ذلك ؛ ففعل.

ثم خرج معه فأدخله على كسرى ، وكان كسرى يجلس فى إيوان مجلسه الذي فيه تاجه ، وكان تاجه مثل القلنقل العظيم ، فيما يزعمون ، يضرب فيه الياقوت والزبرجد

__________________

(١) الطراخم : جمع الطراخم وهو الممتلئ كبرا المتعظم.

(٢) انظر : السيرة (١ / ٦٩).

٩١

واللؤلؤ بالذهب والفضة ، معلقا بسلسلة من ذهب فى رأس طاقة فى مجلسه ذلك ، وكانت عنقه لا تحمل تاجه ، إنما يستر بالثياب حتى يجلس فى مجلسه ذلك ، ثم يدخل رأسه فى تاجه ، فإذا استوى فى مجلسه كشفت عنه الثياب ، فلا يراه رجل لم يره قبل ذلك إلا برك هيبة له.

فلما دخل عليه سيف بن يزن برك ، وقيل : إنه لما دخل عليه طأطأ رأسه ، فقال الملك : إن هذا لأحمق! يدخل على من هذا الباب الطويل ثم يطأطئ رأسه!.

فقيل ذلك لسيف ، فقال : إنما فعلت هذا لهمى ، لأنه يضيق عنه كل شيء. ثم قال:أيها الملك ، غلبنا على بلادنا الأغربة.

فقال كسرى : أى الأغربة؟ الحبشة أم السند؟ قال : بل الحبشة ، فجئتك لتنصرنى ويكون ملك بلادى لك. قال : بعدت بلادك مع قلة خيرها ، فلم أكن لأورط جيشا من فارس بأرض العرب ، لا حاجة لى بذلك.

ثم أجازه بعشرة آلاف درهم واف ، وكساه كسوة حسنة. فلما قبض ذلك سيف خرج فجعل ينثر تلك الورق للناس. فبلغ ذلك الملك فقال : إن لهذا لشأنا.

ثم بعث إليه فقال : عمدت إلى حباء الملك تنثره للناس! فقال : وما أصنع بهذا؟! ما جبال أرضى التي جئت منها إلا ذهب وفضة ، يرغبه فيها.

فجمع كسرى مرازبته (١) فقال : ما ذا ترون فى أمر هذا الرجل وما جاء له؟ فقال قائل : أيها الملك إن فى سجونك رجالا حبستهم للقتل ، فلو أنك بعثتهم معه ، فإن يهلكوا كان ذلك الذي أردت ، وإن ظفروا كان ملكا ازددته.

فبعث معه كسرى من كان فى سجونه ، وكانوا ثمانمائة رجل ، واستعمل عليهم رجلا منهم يقال له : وهرز وكان ذا سن فيهم وأفضلهم حسبا وبيتا ، فخرجوا فى ثمان سفائن فغرقت سفينتان ووصلت إلى ساحل عدن ست سفائن.

فجمع سيف إلى وهرز من استطاع من قومه وقال له : رجلى مع رجلك حتى نموت جميعا أو نظفر جميعا. قال وهرز : أنصفت.

وخرج إليه مسروق بن أبرهة ملك اليمن وجمع إليه جنوده ، فأرسل إليهم وهرز ابنا له ليقاتلهم فيختبر قتالهم ، فقتل ابن وهرز ، فزاده ذلك حنقا عليهم. فلما تواقف الناس

__________________

(١) مرازبته : أى وزراءه. وقيل : هو الفارس الشجاع المقدم عند الملك.

٩٢

على مصافهم قال وهرز : أرونى ملكهم. قالوا له : أترى رجلا على الفيل عاقدا تاجه على رأسه ، بين عينيه ياقوتة حمراء؟. قال : نعم. قالوا : ذلك ملكهم. قال : اتركوه.

فوقفوا طويلا ثم قال : علام هو؟ قالوا : قد تحول على الفرس. قال : اتركوه. فوقفوا طويلا. ثم قال : علام هو؟ قالوا : على البغلة. قال وهرز : بنت الحمار! ذل وذل ملكه ، إنى سأرميه ، فإن رأيتم أصحابه لم يتحركوا فاثبتوا حتى أوذنكم ، فإنى قد أخطأت الرجل ، وإن رأيتم القوم قد استداروا ولاثوا به فقد أصبت الرجل ، فاحملوا عليهم.

ثم أوتر قوسه ، وكانت فيما يزعمون ، لا يوترها غيره من شدتها ، وأمر بحاجبيه فعصبا له ، ثم رمى فصك الياقوتة التي بين عينيه فتغلغلت النشابة فى رأسه حتى خرجت من قفاه؟ ونكس عن دابته ، واستدارت الحبشة ولاثت به ، وحملت عليهم الفرس وانهزموا فقتلوا وهربوا فى كل وجه.

وأقبل وهرز ليدخل صنعاء ، حتى إذا أتى بابها قال : لا تدخل رايتى منكسة أبدا ، اهدموا الباب. فهدم ، ثم دخلها ناصبا رايته. وقال فى ذلك أبو الصلت بن أبى ربيعة الثقفى ، وتروى لابنه أمية بن أبى الصلت :

ليطلب الوتر أمثال ابن ذى يزن

مذيم فى البحر للأعداء أحوالا

يهم قيصر لما حاز رحلته

فلم يجد عنده بعض الذي سالا

حتى أتى ببنى الأحرار يحملهم

إنك عمرى لقد أسرعت قلقالا (١)

لله درهم من عصبة خرجوا

ما إن أرى لهم فى الناس أمثالا

بيضا مرازبة غلبا أساورة

أسدا تربب فى الغيضات أشبالا

أرسلت أسدا على سود الكلاب فقد

أضحى شريدهم فى الأرض فلالا (٢)

فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفعا

فى رأس غمدان دارا منك محلالا (٣)

واشرب هنيئا فقد شالت نعامتهم

وأسبل اليوم فى برديك إسبالا (٤)

__________________

(١) بنو الأحرار : أراد بهم الفرس ، والقلقال : التحرك بسرعة.

(٢) الفلال : جمع فل وهم القوم المنهزمون.

(٣) رأس غمدان : قال ياقوت فى معجم البلدان (٤ / ٢١٠) : قيل إنه قصر بناه يشرح بن يحصب على أربعة أوجه وبنى فى داخله قصرا على سبعة سقوف ، وقيل : إن الذي بناه سليمان بن داود عليهما‌السلام ، وقيل : إنه بين صنعاء وطيوه وهدم غمدان فى أيام عثمان بن عفان رضى الله عنه.

(٤) شالت نعامتهم : أى هلكوا ، والإسبال : إرخاء الثوب.

٩٣

تلك المكارم لا قعبان من لبن

شيبا بماء فعادا بعد أبوالا

وأقام وهرز والفرس باليمن ، فمن بقية ذلك الجيش من الفرس الأبناء الذين باليمن اليوم.

وكان ملك الحبشة باليمن منذ دخلها أرياط إلى أن أخرجتهم الفرس عنها اثنتين وسبعين سنة ، وفق ما ذكره سطيح وشق فى تأويل رؤيا ربيعة بن نصر.

ثم مات وهرز ، فأمر كسرى ابنه المرزبان بن وهرز على اليمن ، ثم مات المرزبان فأمر كسرى ابنه التينجان بن المرزبان ، ثم مات فأمر كسرى ابن التينجان ، ثم عزله وولى باذان ، فلم يزل عليها حتى بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

فلما بلغ مبعثه كسرى كتب إلى باذان : إنه بلغنى أن رجلا من قريش خرج بمكة يزعم أنه نبى ، فسر إليه فاستتبه ، فإن تاب وإلا فابعث إلى برأسه. فبعث باذان بكتاب كسرى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكتب إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله قد وعدنى أن يقتل كسرى فى يوم كذا من شهر كذا.

فلما أتى باذان الكتاب توقف لينظر وقال : إن كان نبيا فسيكون ما قال. فقتل الله كسرى على يد ابنه شيرويه فى اليوم الذي قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فلما بلغ ذلك باذان بعث بإسلام من معه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقالت الرسل من الفرس : إلى من نحن يا رسول الله ، قال : «أنتم منا وإلينا أهل البيت».

قال الزهرى : فمن ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سلمان منا أهل البيت» (٢).

وكأن هذه الأخبار وإن قطعت بعض ما كنا بسبيله من أمر بنى قصى فلها أيضا من الإفادة بنحو ما قصدناه وحسن الإمتاع بالشأن المناسب لما اعتمدناه ما يحسن اعتراضها وينظم فى سلك واحد مع ما مر من ذلك أو يأتى أغراضها.

وعلينا بمعونة الله فى تجويد الترتيب لذلك كله تطبيق المنفصل ورد هذه الأحاديث المتفرقة فى حكم الحديث المتصل ، فنطيل ولا نمل ، ونقصر فلا نخل كل ذلك ببركة

__________________

(١) انظر : السيرة (١ / ٧٤).

(٢) انظر الحديث فى : المستدرك للحاكم (٣ / ٥٩٨) ، المعجم الكبير للطبرانى (٦ / ٢٦١) ، تفسير الطبرى (٢١ / ٨٥) ، البداية والنهاية لابن كثير (٢ / ١٨٠ ، ٤ / ٩٩) ، طبقات ابن سعد (٧ / ٦٥) ، كنز العمال للمتقى الهندى (٣٣٣٤٠) ، دلائل النبوة للبيهقى (٣ / ٤١٨) ، كشف الخفاء للعجلونى (١ / ٥٥٨) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٦ / ١٣٠).

٩٤

المختار الذي يممنا تخليد أوليته ، وتيمنا بخدمة آثاره وسيرته ، صلى الله عليه وعلى آله الأكرمين وصحابته.

وكنا انتهينا من شأن بنى قصى بعده ، إلى ما تراضوا به بينهم من الصلح على أن تكون السقاية والرفادة لبنى عبد مناف ، وتكون حجابة البيت واللواء والندوة لبنى عبد الدار ، على نحو ما جعله قصى إلى أبيهم.

فولى السقاية والرفادة هاشم بن عبد مناف. وذلك أن عبد شمس كان رجلا سفارا قلما يقيم بمكة ، وكان مقلا ذا ولد كثير ، وكان هاشم موسرا ، وكان فيما يزعمون ، إذا حضر الحج قام صبيحة هلال ذى الحجة فيسند ظهره إلى الكعبة من تلقاء بابها ، فيحض قومه على رفادة الحاج التي سنها لهم قصى ، ويقول لهم فى خطبته : يا معشر قريش ، أنتم سادة العرب ، أحسنها وجوها ، وأعظمها أحلاما ، وأوسط العرب أنسابا ، وأقرب العرب بالعرب أرحاما.

يا معشر قريش ، إنكم جيران بيت الله ، أكرمكم الله بولايته وخصكم بجواره دون بنى إسماعيل ، حفظ منكم أحسن ما حفظ جار من جاره ، وإنه يأتيكم فى هذا الموسم زوار الله ، يعظمون حرمة بيته ، فهم ضيف الله ، وأحق الضيف بالكرامة ضيفه ، فأكرموا ضيفه وزواره ، فإنهم يأتون شعثا غبرا من كل بلد على ضوامر كالقداح ، وقد أزحفوا وأرملوا فأقروهم وأعينوهم ، فو رب هذه البنية لو كان لى مال يحمل ذلك لكفيتكموه ، وأنا مخرج من طيب مالى وحلاله ، ما لم تقطع فيه رحم ، ولم يؤخذ بظلم ، ولم يدخل فيه حرام فواضعه ، فمن شاء منكم أن يفعل مثل ذلك فعله. وأسألكم بحرمة هذا البيت ألا يخرج رجل منكم من ماله لكرامة زوار بيت الله ومعونتهم إلا طيبا لم تقطع فيه رحم ، ولم يؤخذ غصبا (١).

فكانت بنو كعب بن لؤيّ وسائر قريش يجتهدون فى ذلك ويترافدون عليه ، ويخرجون ذلك من أموالهم حتى يأتوا به هاشم بن عبد مناف فيضعوه فى داره ، حتى أن كان أهل البيت ليرسلون بالشىء اليسير على قدرهم. وكان هاشم يخرج فى كل سنة مالا كثيرا. وكان قوم من قريش أهل يسار ، ربما أرسل كل إنسان منهم بمائة مثقال هرقلية.

وكان هاشم يأمر بحياض من أدم ، فتجعل فى موضع زمزم من قبل أن تحفر ، ثم يستقى فيها من البيار التي بمكة ، فيشرب الحاج.

__________________

(١) انظر : السيرة (١ / ١٢٠).

٩٥

وكان يطعمهم أول ما يطعمهم بمكة قبل التروية بيوم ، ثم بمنى ، وبجمع وعرفة ، يثرد لهم الخبز واللحم ، والخبز والسمن ، والسويق والتمر ، ويحمل لهم الماء ، فيطعمهم ويسقيهم حتى يصدروا.

وكان اسم هاشم عمرا ، ويقال له : عمرو العلا. وإنما سمى هاشما لهشمه الخبز بمكة لقومه ، وهو فيما يذكرون أول من سن الرحلتين لقريش ، رحلة الشتاء والصيف. وفى ذلك يقول بعض شعرائهم :

عمرو العلا هشم الثريد لقومه

قوم بمكة مسنتين عجاف (١)

سنت إليه الرحلتان كلاهما

سفر الشتاء ورحلة الأصياف

وذلك أن قريشا كانوا قوما تجارا ، وكانت تجارتهم لا تعدو مكة ، إنما يقدم الأعاجم بالسلع فيشترون منهم ويتبايعون فيما بينهم ، ويبيعون ممن حولهم من العرب. فلم يزالوا كذلك حتى ذهب هاشم إلى الشام ، فكان يذبح كل يوم شاة ، فيصنع جفنة ثريد ، ويدعو من حوله فيأكلون.

وكان هاشم من أحسن الناس وأجملهم ، إلى شرف نفسه وكرم فعاله. فذكر لقيصر فدعا به فلما رآه وكلمه أعجب به وأدناه. فلما رأى هاشم مكانه منه ، طلب منه أمانا لقومه ليقدموا بلاده بتجاراتهم. فأجابه إلى ذلك. وكتب لهم قيصر كتاب أمان لمن أتى منهم.

فأقبل هاشم بذلك الكتاب ، فكلما مر بحى من أحياء العرب أخذ من أشرافهم إيلافا لقومه يأمنون به عندهم وفى أرضهم من غير حلف ، وإنما هو أمان الطريق.

واستوفى أخذ ذلك ممن بين مكة والشام ، فأتى قومه بأعظم شيء أتوا به قط بركة ، فخرجوا بتجارة عظيمة ، وخرج هاشم معهم ليوفيهم إيلافهم الذي أخذ لهم من العرب ، فلم يزل يوفيهم إياه ، ويجمع بينهم وبين العرب حتى قدم بهم الشام.

فهلك هاشم فى سفره ذلك بغزة من أرض الشام. وكان أول بنى عبد مناف هلكا.

وخرج المطلب بن عبد مناف ، وهو يسمى الفيض لسماحته وفضله ، إلى اليمن ، فأخذ من ملوكهم أمانا لمن تجر من قومه إلى بلادهم ، ثم أقبل يأخذ لهم الإيلاف ممن

__________________

(١) هشم الثريد : به سمى هاشم بن عبد مناف أبو عبد المطلب جد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يسمى عمرا وهو أول من ثرد الثريد وهشمه فسمى هاشما ، فقالت فيه ابنته هذه الأبيات ، وقال ابن برى : الشعر لابن الزبعرى. انظر هذا القول والبيت فى اللسان (١٢ / ٦١١).

٩٦

كان على طريقه من العرب ، كما فعل أخوه هاشم ، حتى أتى مكة ، ثم رجع إلى اليمن ، فمات بردمان.

وخرج عبد شمس بن عبد مناف إلى ملك الحبشة ، فأخذ منه أمانا كذلك لمن تجر من قريش إلى بلاده ، ثم أخذ الإيلاف من العرب الذين على الطريق إليها حتى بلغ مكة ، وتوفى بها فقبره بالحجون.

وخرج نوفل بن عبد مناف ، وكان أصغر ولد أبيه إلى العراق ، فأخذ عهدا من كسرى لتجار قريش ، ثم أقبل يأخذ الإيلاف ممن مر به من العرب حتى قدم مكة ، ثم رجع إلى العراق فمات بسلمان من ناحية العراق.

فجبر الله قريشا بهؤلاء النفر الأربعة من بنى عبد مناف ، فنمت أموالهم ، واتسعت تجارتهم ، فكان بنو عبد مناف يسمون لأجل ذلك المجيزين ، والعرب تسميهم أقداح النضار ، لطيب أحسابهم ، وكرم فعالهم.

وقال مطرود بن كعب الخزاعى يبكيهم جميعا حين أتاه نعى نوفل منهم ، وكان آخرهم هلكا :

يا ليلة هيجت ليلاتى

إحدى ليالى القسيات (١)

وما أقاسى من هموم وما

عالجت من رزء المنيات

إذا تذكرت أخى نوفلا

ذكرنى بالأوليات

ذكرنى بالأزر الحمر وال

أردية الصفر القشيبات (٢)

أربعة كلهم سيد

أبناء سادات لسادات

ميت بردمان وميت بسل

مان وميت بين غزات (٣)

وميت أسكن لحدا لدى ال

حجون شرقى البنيات

أخلصهم عبد مناف فهم

من لوم من لام بمنجاة

إن المغيرات وأبناءها

من خير أحياء وأموات (٤)

__________________

(١) القسيات : من القسوة أى لا لين عندهن ولا رأفة ، والقسى : الشديد.

(٢) القشيبات : واحدها القشب : وهو الجديد والناس تقول ثوب قشيب أى جديد.

(٣) ردمان : بفتح أوله وهو فعلان من الردم وهو موضع باليمن. اسم ماء قديم جاهلى وبه قبر نوفل بن عبد مناف ، وكان فى الجاهلية طريق إلى تهامة من العراق. غزات : أى غزة.

(٤) المغيرات : المقصود بها بنو المغيرة وهو عبد مناف.

٩٧

وإنما سماهم المغيرات لأن عبد مناف أباهم كان اسمه المغيرة. فقيل لمطرود فيما يزعمون : لقد قلت فأحسنت ، ولو كان أفحل مما هو كان أحسن.

فقال : أنظرونى ليالى. فمكث أياما ثم قال :

يا عين جودى وأذرى الدمع وانهمرى

وابكى على السر من كعب المغيرات

يا عين واسحنفرى بالدمع واحتفلى

وابكى خبيئة نفسى فى الملمات (١)

وابكى على كل فياض أخى ثقة

ضخم الدسيعة وهاب الجزيلات (٢)

محض الضريبة عالى الهم مختلق

جلد النجيزة ناء بالعظيمات (٣)

صعب البديهة لا نكس ولا وكل

ماضى العزيمة متلاف الكريمات

صقر توسط من كعب إذا نسبوا

بحبوحة المجد والشم الرفيعات

ثم اندبى الفيض والفياض مطلبا

واستخرطى بعد فياض بجمات

أمسى بردمان عنا اليوم مغتربا

يا لهف نفسى عليه بين أموات

وابكى لك الويل إما كنت باكية

لعبد شمس بشرقى البنيات

وهاشم فى ضريح وسط بلقعة

تسفى الرياح عليه بين غزات

ونوفل كان دون القوم خالصتى

أمسى بسلمان فى رمس بموماة

لم ألق مثلهم عجما ولا عربا

إذا استقلت بهم أدم المطيات

أمست ديارهم منهم معطلة

وقد يكونون زينا فى السريات (*)

أفناهم الدهر أم كلت سيوفهم

أم كل من عاش أزواد المنيات

أصبحت أرضى من الأقوام بعدهم

بسط الوجوه وإلقاء التحيات

يا عين وابكى أبا الشعث الشجيات

يبكينه حسرا مثل البليات (**)

يبكين أكرم من يمشى على قدم

يعولنه بدموع بعد عبرات

__________________

(١) اسحنفرى : أى أديمى الدمع. والخبيئة : الشيء المخبوء يريد أنه ذخيرة عند نزول الشدائد.

(٢) الدسيعة : العطية وضخم الدسيعة أى كثير العطية.

(٣) محض الضريبة : أى مخلص الطبيعة. والمختلق : تام الخلق. والنجيزة : الطبيعة من العين المختلف من كل شيء.

(*) السريات : جمع سرية وهى طائفة من الجيش يبلغ أقصاه أربعمائة وسموا بذلك لأنهم يكونون خلاصة العسكر وخيارهم من الشيء السرى النفيس وقيل سموا بذلك لأنهم ينفذون سرا وخفية. انظر : اللسان (مادة سرا).

(**) البليات : جمع بلية ، وهى : الناقة كانت تشد فى الجاهلية عند قبر صاحبها حتى تموت ، وكانوا يقولون : يبعث صاحبها عليها. انظر : اللسان (مادة بلا).

٩٨

يبكين شخصا طويل الباع ذا فخر

أبى الهضيمة فراج الجليلات

يبكين عمرو العلا إذ حان مصرعه

سمح السجية بسام العشيات

يبكينه مستكينات على حزن

يا طول ذلك من حزن وعولات

يبكين لما جلاهن الزمان له

خضر الخدود كأمثال الحميات

محتزمات على أوساطهن لما

جر الزمان من أحداث المصيبات

أبيت ليلى أراعى النجم من ألم

أبكى وتبكى معى شجوى بنياتى

ما فى القروم لهم عدل ولا خطر

ولا لمن تركوا شروى بقيات

أبناؤهم خير أبناء وأنفسهم

خير النفوس لدى جهد الأليات

كم وهبوا من طمر سابح أرن

ومن طمرة نهب فى طمرات

ومن سيوف من الهندى مخلصة

ومن رماح كأشطان الركيات

ومن توابع مما يفضلون بها

عند المسائل من بذل العطيات

فلو حسبت وأحصى الحاسبون معى

لم أحص أفعالهم تلك الهنيات

هم المدلون إما معشر فخروا

عند الفخار بأنساب نقيات

زين البيوت التي خلوا مساكنها

فأصبحت منهم وحشا خليات

أقول والعين لا ترقا مدامعها

لا يبعد الله أصحاب الرزيات

وكان هاشم بن عبد مناف قد قدم المدينة فتزوج بها سلمى بنت عمرو أحد بنى عدى بن النجار ، وكانت قبله عند أحيحة بن الجلاح فيما ذكر ابن إسحاق. قال :وكانت لا تنكح الرجال لشرفها حتى يشترطوا لها أن أمرها بيدها ، إن كرهت رجلا فارقته.

فولدت لهاشم عبد المطلب فسمته شيبة (١) ، فتركه هاشم عندها حتى كان وصيفا أو فوق ذلك. ثم خرج إليه عمه المطلب ليقبضه فيلحقه ببلده وقومه ، فقالت له سلمى : لست بمرسلته معك.

فقال لها المطلب : إنى غير منصرف حتى أخرج به معى ، إن ابن أخى قد بلغ وهو غريب فى غير قومه ، ونحن أهل بيت شرف فى قومنا نلى كثيرا من أمرهم ، ورهطه وعشيرته وبلده خير له من الإقامة فى غيرهم. أو كما قال.

وقال شيبة لعمه المطلب فيما يزعمون : لست بمفارقها إلا أن تأذن لى. فأذنت له

__________________

(١) قال الطبرى فى تاريخه (١ / ٥٠١) : سمى شيبة لشيبة كانت فى رأسه ويكنى بأبى الحارث والحارث أكبر ولده.

٩٩

ودفعته إليه ، فاحتمله فدخل به مكة مردفه على بعيره ، فقالت قريش : عبد المطلب ابتاعه.

فبها سمى شيبة : عبد المطلب. فقال المطلب : ويحكم إنما هو ابن أخى هاشم قدمت به من المدينة (١).

وذكر الزبير أن شيبة إنما سمى عبد المطلب ، لأن عمه المطلب لما قدم به من يثرب ودخل به مكة ضحوة مردفه خلفه والناس فى أسواقهم ومجالسهم ، قاموا يرحبون به ويقولون : من هذا معك؟ فيقول : عبد لى ابتعته بيثرب ، فلما كان العشية ألبسه حلة ابتاعها له ، ثم أجلسه فى مجلس بنى عبد مناف وأخبرهم خبره ، فجعل بعد ذلك يخرج فى تلك الحلة فيطوف فى سكك مكة ، وكان أحسن الناس ، فيقولون : هذا عبد المطلب ، لقول المطلب فيه ذلك ، فلج اسمه عبد المطلب ، وترك شيبة.

وكان يقال لعبد المطلب : شيبة الحمد ، وإنما سمى شيبة لأنه كان فى ذؤابته شعرة بيضاء.

ثم ولى عبد المطلب بن هاشم السقاية والرفادة بعد عمه المطلب ، فأقامها للناس وأقام لقومه ما كان آباؤه يقيمون لقومهم من أمرهم قبله ، وشرف فى قومه شرفا لم يبلغه أحد من آبائه ، وأحبه قومه وعظم خطره فيهم.

ويقال : كان يعرف فى عبد المطلب نور النبوة وهيبة الملك.

قال الزبير : ومكارم عبد المطلب أكثر من أن أحيط بها ، كان سيد قريش غير مدافع نفسا وأبا وبيتا وجمالا وبهاء وفعالا وكمالا. فصلى الله على المنتخب من ذريته ، المخصوص بأولية الفخر وآخريته ، وعلى آله الأكرمين وعترته وسلم تسليما.

ذكر حفر عبد المطلب زمزم

وما يتصل بذلك من حديث

مولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

قد تقدم الخبر عن زمزم أنها بئر إسماعيل بن إبراهيم عليهما‌السلام ، التي سقاه الله حين ظمأ وهو صغير.

__________________

(١) انظر : السيرة (١ / ١٢٥ ـ ١٢٦).

١٠٠