السيد جعفر مرتضى العاملي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-176-9
ISBN الدورة:
الصفحات: ٣٦٧
بل يذكر لنا الواقدي : مشادة عنيفة ، حصلت بين أبي عبيدة وخالد ، بسبب صلح خالد لهم ، تظهر لنا بوضوح مدى عناد خالد في موقفه ، وضعف أبي عبيدة معه (١) الأمر الذي ينسجم كثيرا مع ما نذهب إليه ، من أن قيادة الجيش كانت لخالد آنذاك.
يضاف إلى ما تقدم : أن البلاذري وغيره قد ذكروا : أن أبا عبيدة كان على الباب الشرقي ، فدخلها عنوة ، فجاء أهل المدينة إلى خالد ، فصالحوه ، وكتب لهم كتابا ، وفتحوا له الباب ، ثم نقل البلاذري قول أبي مخنف ، الذي يعكس القضية ، ثم قال : والأول أثبت (٢).
ويدل على أن ذلك هو الأثبت : أن أكثر المؤرخين يذكرون أن خالدا كان هو المصالح لأهل دمشق ، ومن ثم كان هو أمير الجيش.
وتلك الرسالة المذكورة في أول هذا الكلام ونصوص أخرى ، تدل دلالة قاطعة على ذلك أيضا.
وأما عزل خالد ، فقد جاءهم وهم محاصرون لدمشق ، فكتمه عنه أبو عبيدة نحو عشرين ليلة ، حتى فتحت دمشق ، حتى لا يوهن أمر خالد ، وهم بإزاء العدو (٣).
وقال الواقدي : إن فتحها كان في ليلة وفاة أبي بكر (٤).
__________________
(١) فتوح الشام ج ١ ص ٥٨ ـ ٦٠.
(٢) فتوح البلدان ص ١٢٩ ، وليراجع أيضا : البداية والنهاية ج ٧ ص ٢١ ونقله عن آخرين.
(٣) البداية والنهاية ج ٧ ص ٢٣ ، وفتوح البلدان ص ١٢٧ ـ ١٢٩.
(٤) فتوح الشام ج ١ ص ٥٨ و ٥٩.
وقال زيني دحلان : «وقيل : إنما جاء خبر وفاة أبي بكر ، بعد فتح دمشق في سنة ثلاث عشرة ، وأن وفاة أبي بكر (رض) كانت في الليلة التي دخلوا فيها دمشق ، وكان ذلك لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة ، والقائلون بأن خبر وفاته إنما جاء بعد فتح دمشق هم القائلون بأن وقعة اليرموك كانت بعد فتح دمشق ، وأنها سنة خمس عشرة» (١).
وقال ابن كثير : «ظاهر سياق سيف بن عمر يقتضي : أن فتح دمشق وقع في سنة ثلاث عشرة ، ولكن نص سيف على ما نص عليه الجمهور من أنها فتحت في نصف رجب سنة أربع عشرة» (٢).
وعن عبد الرحمن بن جبير : أن أبا عبيدة نفسه قد ذهب ليبشر أبا بكر بفتح دمشق ، فوجده قد توفي وأمره عمر على الناس ، فلما عاد إلى دمشق قالوا : «مرحبا بمن بعثناه بريدا فقدم علينا أميرا» (٣).
وعلى كل حال ، فإن كتاب الصلح المتقدم ، وسائر ما قدمناه يشهد : بأن خالدا هو الذي صالح أهل الشام وفاقا لأكثر المؤرخين.
وقد قلنا : إنه حتى لو كان الكتاب مؤرخا بسنة ١٥ ، أو كان ذلك كتابا آخر ، فإنه أيضا يدل دلالة واضحة على أن التاريخ كان قد وضع قبل خلافة عمر.
وأما لماذا يعدل الرواة والمؤرخون عن الحقيقة ، ألا وهي مصالحة خالد
__________________
(١) الفتوحات الإسلامية ج ١ ص ٤٧.
(٢) البداية والنهاية ج ٧ ص ٢٢.
(٣) البداية والنهاية ج ١ ص ٢٤.
لأهل الشام قبل وفاة أبي بكر ، فلعل تقارب الأحداث وتتابعها قد أوقعهم في الخلط والاشتباه ، ولعله حين نريد أن نحسن الظن بهم ـ وهم أهل ومحل لذلك!! ـ قد كان لتعمد إظهار : أن عهد عمر كان عهد الفتوحات العظيمة ، والتوسع الكبير ، ولا بد أن يكون فتح الشام ، وهي هامة جدا ، في عهده هو لا في عهد أبي بكر.
وأيضا فثمة اهتمام خاص ظاهر للعيان بإثبات شجاعة خالد وإظهار قوته ، وبطولاته في مواقفه ، وأنه ـ دون كل أحد ـ رجل السيف والسنان ، فلا بد أن يكون قد فتحها عنوة ، وأن يكون الذي صالح أهلها غيره!! ولو كان ذلك عن طريق الكذب والدجل والتزوير.
وأما أن أي ذلك الذي ذكرناه هو السبب الحقيقي في العدول عن الحقيقة ، فلست أدري ، ولعل القارئ الفطن الذكي يدري.
٩ ـ ونقل السيوطي عن مجموعة بخط ابن القماح ذكر فيها : أن ابن الصلاح قال : «ذكر أبو طاهر ، محمد بن محمش الزيادي في تاريخ الشروط :
أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» أرخ بالهجرة حين كتب الكتاب لنصارى نجران وأمر عليا أن يكتب فيه : أنه كتب لخمس من الهجرة.
قال : فالمؤرخ بهذا إذا رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وعمر تبعه في ذلك» (١).
وقال السيد عباس المكي : «التاريخ سنة ماضية ، وطريقة راضية ، أمر
__________________
(١) راجع : الشماريخ في علم التاريخ للسيوطي ص ١٠ ، والتراتيب الإدارية ج ١ ص ١٨١ عنه.
بها رسول الله «صلى الله عليه وآله» حين كتب إلى نصارى نجران ، فأمر عليا «رضي الله عنه» : أن يكتب فيه : (كتب لخمس من الهجرة)» (١) ، ثم نقل رواية ابن شهاب المتقدمة.
وقال السخاوي : «فإن ثبت ، فيكون عمر متبعا ، لا مبتكرا» (٢).
وقال السيوطي أيضا : «وقد يقال : هذا صريح في أنه يقال : أرخ سنة خمس.
والحديث الأول (يعني رواية الزهري المتقدمة) فيه : أنه أرخ يوم قدوم المدينة.
ويجاب : بأنه لا منافاة ، فإن الظرف وهو قوله : «يوم قدم المدينة» ليس متعلقا بالفعل وهو أمر ، بل بالمصدر وهو (التاريخ) ، أي أمر بأن يؤرخ بذلك اليوم ، لا أن الأمر كان في ذلك اليوم» (٣) ، هذا كلام السيوطي.
ولكن ثمة جواب أوضح وأظهر ، وهو : أنه «صلى الله عليه وآله» قد أمر بالتاريخ من أول قدومه ، وجعل مبدأه أول ربيع الأول ؛ واستعمله النبي «صلى الله عليه وآله» نفسه حين كتب لنصارى نجران في سنة خمس.
١٠ ـ خبر الصحيفة السجادية الذي يظهر منه : أن جعل هجرة الرسول الأكرم «صلى الله عليه وآله» مبدأ للتاريخ كان مرتبطا بالمبدأ الأعلى جل وعلا ، حيث جاء في الخبر : أن جبرائيل «عليه السلام» قال للنبي «صلى
__________________
(١) نزهة الجليس ج ١ ص ٢١.
(٢) التراتيب الإدارية ج ١ ص ١٨١.
(٣) الشماريخ ص ١٠.
الله عليه وآله» : «تدور رحى الإسلام من مهاجرك ؛ فتلبث بذلك عشرا ، ثم تدور رحى الإسلام على رأس خمس وثلاثين من مهاجرك ، فتلبث بذلك خمسا» (١).
١١ ـ وعن أم سلمة قالت : «قال رسول الله «صلى الله عليه وآله» يقتل حسين بن علي على رأس ستين من مهاجري» (٢).
١٢ ـ وعن أنس قال : «حدثنا أصحاب النبي «صلى الله عليه وآله» : أن النبي «صلى الله عليه وآله» قال : لا تأتي مئة سنة من الهجرة ومنكم عين
__________________
(١) البحار ج ٥٨ ص ٣٥١ بعد تصحيح أرقام صفحاته ، وسفينة البحار ج ٢ ص ٦٤١ ، والصحيفة السجادية ص ١٠ ، وقد روي هذا عن النبي «صلى الله عليه وآله» بطرق أخرى ذكرها في البداية والنهاية ج ٦ ص ٢٠٦ ـ ٢٠٧ ، وج ٧ ص ٢١٩ وص ٢٧٥ ـ ٢٧٦ عن أحمد وأبي داود وابن داود ، ولكن باختلاف وتصرف وحذف فراجع ، وراجع : سنن أبي داود نشر دار الكتاب العربي ج ٤ ص ١٥٩ ـ ١٦٠ وغير ذلك.
(٢) مجمع الزوائد ج ٩ ص ١٩٠ عن الطبري ، ولم يطعن في سنده إلا في سعد بن طريف وليس ذلك إلا لتشيعه حسبما صرحوا به ، وترجمة الإمام الحسين «عليه السلام» من تاريخ دمشق بتحقيق المحمودي ص ١٨٥ وفي هوامشه عن مصادر أخرى ، وتاريخ بغداد ج ١ ص ١٤٢ ، والإلمام ج ٥ ص ٢٩٩ ، وكنز العمال ج ١٣ ص ١١٣ ط حيدرآباد ، وميزان الإعتدال ج ١ ص ٢١٢ عن الطبراني ، والخطيب ، وابن عساكر ، ومنتخب كنز العمال هامش مسند أحمد ج ٥ ص ١١١ ، ومقتل الحسين «عليه السلام» للخوارزمي ج ١ ص ١٦١ ، وإحقاق الحق ج ١١ ص ٣٥٤ عن بعض ما تقدم ، وعن مفتاح النجا ص ١٣٦ مخطوط ، وعن المعجم الكبير للطبراني.
تطرف» (١).
١٣ ـ وقد ذكر البعض نصا للكتاب الذي كتبه خالد بن الوليد لأهل الحيرة ، وجاء في آخره : «وإن غدروا بفعل أو بقول فالذمة منهم بريئة ، وكتب في شهر ربيع الأول من سنة اثنتي عشرة» (٢).
ومن المعلوم : أن فتح الحيرة على يد خالد كان في زمن أبي بكر ، وذلك معناه أن التاريخ كان قد وضع واستعمل قبل خلافة عمر ، فكيف يكون عمر هو واضع التاريخ في سنة ست عشرة؟ وقد يمكن تأييد ذلك بما تقدم عن السهيلي وابن عباس ، وغير ذلك مما لا مجال لذكره.
هذا ، واحتمال أن تكون العبارة الأخيرة من كلام الرواة أو المؤرخين ليس له ما يؤيده ، كما ألمحنا.
١٤ ـ ما رواه الحافظ عبد الرزاق عن أبي هريرة قال : «ويل للعرب من شر قد اقترب على رأس الستين تصير الأمانة غنيمة الخ ..» (٣).
١٥ ـ ما رواه عبد الرزاق أيضا عن ابن مسعود قال : «إذا كانت سنة خمس وثلاثين حدث أمر عظيم ، فإن تهلكوا فبالحرا ، وإن تنجوا فعسى. وإذا كانت سبعين رأيتم ما تنكرون» (٤).
__________________
(١) مجمع الزوائد ج ١ ص ١٩٧ عن أبي يعلى ، وله ألفاظ وطرق عديدة كثيرة أخرى لكن بلا ذكر كلمة : من الهجرة.
(٢) هي الدكتورة سعاد ماهر محمد ، في كتابها : مشهد الإمام علي في النجف الأشرف ص ١٠٤ ـ ١٠٥.
(٣) مصنف عبد الرزاق ج ١١ ص ٣٧٣ و ٣٧٥.
(٤) تطهير الجنان واللسان ص ٦٦ سنة ١٣٧٥ ، وكنز العمال ج ١١ ص ١١٣ عن أحمد وغيره.
فإن ابن مسعود وأبا هريرة إنما علما ذلك عن طريق النبي «صلى الله عليه وآله» ؛ لأنه تنبؤ بالغيب ، وهذا يدل على أنه «صلى الله عليه وآله» هو واضع التاريخ الهجري.
١٦ ـ وفي حديث رواته ثقات : «نعوذ بالله من رأس الستين وفي رواية : من سنة ستين ، ومن إمارة الصبيان» (١).
وعن أبي هريرة أنه قال : اللهم لا تدركني سنة ستين ولا إمارة الصبيان (٢).
١٧ ـ عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر «رض» مرفوعا : «إذا كان على رأس السبعين ومئة فالرباط بجدة من أفضل ما يكون من الرباط» (٣).
عود على بدء :
وبعد كل ما قدمناه ، يتضح : أن ما اشتهر بين الناس من أن واضع التاريخ الهجري الإسلامي هو عمر بن الخطاب ، مما لا يمكن القبول به ولا المساعدة عليه ؛ وأن ما حدث في زمن عمر هو فقط : جعل مبدأ السنة الهجرية شهر محرم ، بدلا من ربيع الأول ، إما باقتراح من عمر نفسه ، أو بإشارة من عثمان ، ومحرم ـ كما هو معلوم ـ كان مبدأ السنة في الجاهلية!! (٤).
وليس من البعيد : أن يكون التاريخ الهجري الذي وضعه النبي «صلى
__________________
(١) مصنف عبد الرزاق ج ١١ ص ٣٧٣ و ٣٧٥.
(٢) الإتحاف بحب الأشراف ص ٦٥ عن ابن أبي شيبة وغيره.
(٣) لسان الميزان ج ٢ ص ٧٩.
(٤) البداية والنهاية ج ٣ ص ٢٠٦ و ٢٠٧ ، والسيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ٢٨٨ و ٢٨٩.
الله عليه وآله» ، وأرخ به أكثر من مرة ، لم يكن قد اشتهر بين الناس ، بسبب قلة احتياجهم للتاريخ في تلك الفترة ، فجمع عمر الصحابة ليتفقوا على تاريخ ، حسبما تقدم بيانه (١).
ولكننا رأينا في الاجتماع دعوات مغرضة لتناسي ذلك التاريخ الذي أمر به ووضعه الرسول الأكرم «صلى الله عليه وآله» ، فهذا يشير بتاريخ الروم ؛ وبعض مسلمي اليهود يشير بالتاريخ الذي يرجع إلى زمان الإسكندر والهرمزان ، يستشيره عمر ـ مع أن عمر كان يكره الفرس كراهية شديدة ـ فيشير عليه بتاريخ الفرس ، كلما هلك ملك أرخوا من ولاية الذي بعده.
ورابع : يشير بجعل مبدأ التاريخ مولد النبي «صلى الله عليه وآله» ـ عام الفيل ـ الذي كان العرب يؤرخون به في جاهليتهم المتأخرة ، وهكذا ، «وكثر منهم القول وطال الخطب في تواريخ الأعاجم وغيرها» على حد تعبير المسعودي (٢).
ولكن عليا «عليه السلام» حافظ الدين ورائد الحق ، قد أعلن في الوقت المناسب : التاريخ الهجري الذي وضعه الرسول «صلى الله عليه وآله» ، وأرخ به هو نفسه في حياة النبي «صلى الله عليه وآله» العديد من الكتب والمعاهدات.
__________________
(١) احتمل ذلك العلامة المحقق السيد مهدي الروحاني في مقال له نشرته مجلة الهادي في سنتها الأولى عدد ٤ ص ٤٨.
(٢) التنبيه والإشراف ص ٢٥٢.
فلم يكن ثمة بد من قبول رأيه والإذعان لمشورته ، لأنها حق ، والحق يعلو ولا يعلى عليه.
واتخاذه الهجرة مبدأ للتاريخ دون يوم ولادته ووفاته «صلى الله عليه وآله» ، إنما هو لأهمية الهجرة من دار الشرك ؛ حيث الذل والهوان إلى دار الإسلام حيث العزة والكرامة ، فهي مهمة جدا في صنع التاريخ والإنسانية ، كما أنه يكون بذلك «صلى الله عليه وآله» قد أبعد كل المواقف المخزية ، والأحداث التي تختص بالطواغيت والظلام عن أن تجعل مبدأ للتاريخ ، وعن أن تصبح في جملة الرواسب والمرتكزات ، التي يعتادها الإنسان ويألفها ، وتستقر في وعي الناس كجزء من التراث ، والثقافة ، والحياة.
والتاريخ المسيحي إذا لماذا؟ :
وبعد ... فإننا نسجل هنا بكل أسف وأسى حقيقة : أن الغربيين وغير المسلمين يحافظون على تراثهم وعلى خصائصهم ، مهما كانت تافهة وحقيرة ، وغير ذات أهمية ، ولا يتنازلون عنها في أي من الظروف والأحوال ، بل هم يطمحون إلى بثها وترسيخها لدى غيرهم من الجماعات والأمم ، ولو على حساب تدمير تاريخ وتراث تلك الجماعات ؛ فنجد أنهم عند ما يكتبون عن الشؤون والتواريخ الإسلامية يصرون على تحوير التاريخ الهجري ، الذي ضبطت به الحوادث إلى الميلادي الشمسي ، مهما كان ذلك موجبا لضياع كثير من الحقائق ، والغلط والخلط فيها نتيجة للاختلاف فيما بين التاريخين.
أما نحن : فإننا نتنازل عن كثير من الأشياء التي قد يكون الكثير منها رئيسيا وأساسيا ، بدعوى التقدمية والرقي ، وغير ذلك من ألفاظ خلابة ،
وشعارات براقة ، تخفي وراءها الكثير الكثير من المهالك والأخطار ، بل لقد تخلت بعض البلاد الإسلامية حتى عن الخط العربي ، واستبدلته بالخط اللاتيني ، بالإضافة إلى تخليهم عن كثير من شؤونهم الحياتية حتى زيهم ولباسهم ، وحتى طريقة عيشهم أيضا.
وهكذا كان حالنا بالنسبة للتاريخ الهجري ، حيث قد تخلينا عنه ، وبكل يسر وسهولة رغم أنه من موجبات عزتنا ، وعليه يقوم تاريخنا وتراثنا ، فاستبدلناه بالتاريخ المسيحي الشمسي ، المستحدث بعد ظهور الإسلام ببرهة طويلة ، لأن النصارى كانوا يؤرخون برفع المسيح «عليه السلام» (١) ، لا بميلاده ، وعلى حسب نص آخر : إنهم كانوا يؤرخون بعهد الإسكندر ذي القرنين (٢) ، حتى إن ابن العبرى ، وهو من اليعاقبة المسيحيين ، وقد بلغ إلى درجة تعادل درجة الكاردينال ، وتوفي سنة ٦٨٥ ه. لم يؤرخ في كتابه بتاريخ المسيح أصلا ، بل اعتمد تاريخ الإسكندر في مواضع عديدة في كتابه فراجع.
فلو كان تاريخ المسيح شائعا أو معروفا في عصره لم يعدل عنه.
ويظهر من كلام السخاوي المتقدم ، والمتوفى سنة ٩٠٢ ه أن التاريخ بميلاد المسيح لم يكن متداولا إلى أوائل القرن العاشر الهجري.
وها نحن نرى العديد من الدول التي تطلق على نفسها اسم الإسلام ،
__________________
(١) الإعلان بالتوبيخ لمن يذم التاريخ ص ٨٣.
(٢) نزهة الجليس ج ١ ص ٢٢ ، وراجع : كنز العمال ج ١٠ ص ١٩٥ عن المستدرك ، وعن البخاري في الأدب.
قد اتخذت هذا التاريخ المسيحي ، لا الفارسي ولا الرومي اللذين سبق أن اقترحا على الصحابة في الصدر الأول.
نعم ، لقد اعتمدوا التاريخ المسيحي ، بدعوى الحضارة والتقدمية ، وما إلى ذلك من شعارات ، وتركوا ما هو مصدر عزتهم ، وما عليه يقوم تاريخهم وتراثهم ، كما تنازلوا عن الكثير الكثير مما هو أعظم وأهم ، والتنازل عنه أخطر ، وأدهى.
ملاحظة :
قيل لأبي عبد الله «عليه السلام» فيما روي : إن النصارى يقولون : إن ليلة الميلاد في أربعة وعشرين من كانون؟
فقال : كذبوا ، بل في النصف من حزيران ، ويستوي الليل والنهار في النصف من آذار (١).
والملاحظ : أن الآية قد صرحت بوجود الرطب في وقت ميلاد عيسى «عليه السلام» قال تعالى : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا)(٢) ، إلا أن يدعى : أن وجود الرطب كان على سبيل الإعجاز.
ومن جهة أخرى نقول : إن مريم قد انتبذت من أهلها مكانا قصيا وشرقيا أيضا ، وكان في مكان الولادة نخل ورطب ..
وهذا يشير إلى صحة الروايات التي تقول : أنها ولدت عيسى في مسجد
__________________
(١) البحار ج ٧٥ ص ٣٦ ، وتحف العقول ، ومختصر التاريخ لابن الكازروني ص ٦٧ ومروج الذهب ج ٢ ص ١٧٩ و ١٨٠.
(٢) الآية ٢٥ من سورة مريم.
براثا في بغداد فراجع ..
دعوة مخلصة :
فنحن ندعو الأمم الإسلامية إلى اعتماد التاريخ الهجري القمري في تقاويمهم وتواريخهم ، لأن ذلك يصل ماضيهم بحاضرهم ، ويذكرهم بسر مجدهم وعزتهم ، وهو هذا الدين الذي اختاره الله لهم وللإنسانية جمعاء.
مضافا إلى أنه لو كان المفروض جعل أعظم الحوادث مبدأ للتاريخ ، فأي حادثة أعظم من ظهور نبي الإسلام ، وما تلا ذلك من الحوادث العظام؟.
قال العلامة المجلسي : «والعلة الواقعية في ذلك ، يمكن أن تكون ما ذكر من أنها مبدأ ظهور غلبة الإسلام والمسلمين ، ومفتتح ظهور شرائع الدين ، وتخلص المؤمنين من أسر المشركين ، وسائر ما جرى بعد الهجرة من تأسيس قواعد الدين المبين» (١).
نقول ذلك للأمم الإسلامية جمعاء وللعرب على الخصوص ، فإننا حتى لو تنزلنا عن ذلك من حيث الدين ، فإن عليهم أن يلتزموا به بما أنهم عرب ، وأذكرهم هنا بالكلمة القوية التي أطلقها الحسين سيد الشهداء «عليه السلام» حينما قال : «إن لم يكن لكم دين ، وكنتم لا تخافون المعاد ، فكونوا أحرارا في دنياكم هذه ، وارجعوا إلى أحسابكم ، إن كنتم عربا كما تزعمون» (٢).
__________________
(١) البحار ج ٥٨ ص ٣٥١.
(٢) اللهوف ص ٥٠ ، ومقتل الحسين للمقرم ص ٣٣٥ عنه.
نسأل الله أن يعيد إليهم صوابهم ، ويجعلهم يسترشدون بعقولهم وضمائرهم.
وإذا كانوا يقلدون غيرهم في كل شيء تحت ظل مثل تلكم الشعارات ، فليقلدوهم في هذه النقطة أيضا ، أي في عدم التنازل عن الخصائص الخيرة ، والتراث العظيم ، ثم الاستجداء من الآخرين والأخذ منهم ما قد يكون ـ بل هو كائن فعلا ـ ضرره أكثر من نفعه.
(قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)(١).
__________________
(١) الآية ١٠٨ من سورة يوسف.
الفصل الثاني :
بناء مسجد المدينة
بناء المسجد :
واشترى النبي «صلى الله عليه وآله» ـ أو وهب له ـ موضع المسجد ، الذي يقال : إنه كان مربدا (١) ليتيمين من الخزرج ، كانا في حجر أسعد بن زرارة ، أو غيره اشتراه ـ على ما قيل ـ بعشرة دنانير.
فأسس «صلى الله عليه وآله» المسجد في ذلك الموضع ، ونقلوا إليه الحجارة من منطقة الحرة ، وشارك «صلى الله عليه وآله» بنفسه في نقلها ، الأمر الذي دفع الصحابة إلى الدأب في العمل ، والجد فيه ، حتى قال قائلهم :
لئن قعدنا والنبي يعمل |
|
لذاك منا العمل المضلل |
وارتجز المسلمون وهم يبنونه يقولون :
اللهم إن الأجر أجر الآخرة |
|
فارحم الأنصار والمهاجرة |
أو نحو ذلك (٢).
وسيأتي : أن هذين البيتين أنشدهما المسلمون وهم يحفرون الخندق.
ولا مانع من تعدد الواقعة إذا تشابهت الحالات والدواعي.
__________________
(١) المربد : محبس الإبل أو مكان تجمع التمر أو المكان الخالي خلف البيوت.
(٢) راجع ما تقدم في السيرة الحلبية ج ٢ ص ٦٧ و ٧١ و ٦٤ و ٦٥.
وجعل طوله مئة ذراع في مثلها ، أو قريبا من ذلك ، وقيل : جعله سبعين في ستين.
ونحتمل أن يكون كلاهما صحيحا ، وأنه جعله في البناء الأول سبعين في ستين ، ثم وسعه في البناء الثاني (١).
وابتنى الرسول «صلى الله عليه وآله» مساكنه ، وابتنى أصحابه مساكنهم حول المسجد ، وكل قد شرع له إلى المسجد بابا ، وقد سدت الأبواب كلها فيما بعد سوى باب أمير المؤمنين «عليه السلام» ، كما سيأتي.
وقبل أن نمضي في الحديث ، لا بد من الالتفات إلى بعض ما يقال هنا ، من أجل تقييمه ، وبيان وجه الحق فيه وذلك حسبما يلي :
أ ـ أبوبكر والعشرة دنانير :
إنهم يقولون : إن أبابكر هو الذي دفع العشرة دنانير ، ثمن المربد (٢).
ونحن نشك في ذلك.
أولا : لأن أبابكر لم يكن له القدرة المالية على ذلك ، ولو كانت ، فنحن نشك في إقدامه على هذا الأمر ، وذلك استنادا إلى ما قدمناه في حديث الغار.
ثانيا : لو سلمنا وقبلنا : أنه كان قادرا ، فإننا نجد في المقابل رواية تقول : إن أسعد بن زرارة قد عوض اليتيمين نخلا له في بني بياضة ، وفى أخرى :
__________________
(١) وفاء الوفاء ج ١ ص ٣٤٠ فما بعدها ، وراجع : تاريخ الخميس ج ١ ص ٣٦٥ و ٣٦٦ ، وراجع : التراتيب الإدارية ج ٢ ص ٧٧.
(٢) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٦٥.
أرضاهما أبو أيوب ، وفي ثالثه : معاذ بن عفراء (١).
واحتمل البعض : أن يكون أبو بكر قد دفع الثمن ، وأعطى الباقون زيادة عليه برا وصلة (٢).
ولكن ذلك ليس بأولى من العكس ، أضف إلى ذلك أنه لا ينسجم مع التعبير بكلمة : «عوضهما» فإنه ظاهر في كونه ثمنا وعوضا ، لا برا وصلة.
ثالثا : قد روى البخاري وغيره : أن الرسول «صلى الله عليه وآله» أرسل إلى ملأ من بني النجار ، فقال : يا بني النجار ، ثامنوني بحائطكم هذا ، قالوا : لا والله ، لا نطلب ثمنه إلا من الله (٣).
ب ـ أحجار الخلافة :
وقد روى الحاكم ، عن عائشة ، قالت : أول حجر حمله النبي «صلى الله عليه وآله» لبناء المسجد ، ثم حمل أبوبكر حجرا آخر ، (ثم حمل عمر) (٤) ، ثم حمل عثمان حجرا آخر.
فقلت : يا رسول الله ، ألا ترى إلى هؤلاء كيف يساعدونك؟.
__________________
(١) البداية والنهاية ج ٣ ص ٢١٥ ، ووفاء الوفاء ج ١ ص ٣٢٣ و ٣٢٤ عن ابن حجر ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٦٥.
(٢) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٦٥ ، ووفاء الوفاء ج ١ ص ٣٢٣ و ٣٢٤.
(٣) صحيح البخاري (ط الميمنية) ج ١ ص ٥٧ ، وتاريخ الطبري (ط الاستقامة) ج ٢ ص ١١٦ ، والكامل لابن الأثير (ط صادر) ج ٢ ص ١١٠ ، ووفاء الوفاء ج ١ ص ٣٢٣ ، والتراتيب الإدارية ج ٢ ص ٧٧.
(٤) الزيادة من تلخيص المستدرك.
فقال : يا عائشة ، هؤلاء الخلفاء من بعدي.
هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه (١).
ولكن هذه الرواية لا يمكن أن تصح ، فعدا عن تناقض واختلاف نصوصها كما لا يخفى على من راجعها في المصادر المختلفة وقارن بينها ، فإننا نذكر :
أولا : قال الذهبي ، بعد أن ضعف سند الحديث : «لو صح هذا لكان نصا في خلافة الثلاثة ، ولا يصح بوجه ، فإن عائشة لم تكن يومئذ دخل بها النبي «صلى الله عليه وآله» ، وهي محجوبة صغيرة ، فقولها هذا يدل على بطلان الحديث» (٢).
ولنا تحفظ على قوله : إنها كانت صغيرة ، ذكرناه في موضع آخر من هذا الكتاب.
وقال ابن كثير : «هذا الحديث بهذا السياق غريب جدا» (٣).
ثانيا : وفي مقام الإشكال على حديث سفينة : في أحجار الخلافة المتقدم (٤) قال البخاري في تاريخه : «ابن حبان لم يتابع على الحديث المذكور لأن عمر
__________________
(١) مستدرك الحاكم ج ٣ ص ٩٦ و ٩٧ وتلخيصه للذهبي بهامشه ، وراجع : وفاء الوفاء ج ١ ص ٣٣٢ و ٣٣٣ و ٣٥١ وراجع ص ٢٥١ ، والبداية والنهاية ج ٣ ص ٢١٨ ، وج ٦ ص ٢٠٤ مصرحا بأن ذلك كان في مسجد المدينة ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٥٦ و ٦٦ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٣٤٤ و ٣٤٣ ، ودلائل النبوة للبيهقي ج ٢ ص ٢٧٢.
(٢) تلخيص المستدرك للذهبي ، المطبوع بهامش مستدرك الحاكم ج ٣ ص ٩٧.
(٣) البداية والنهاية ج ٣ ص ٢١٨.
(٤) مستدرك الحاكم ج ٣ ص ١٣.