كتاب الأعلام بأعلام بيت الله الحرام

محمّد بن أحمد بن محمّد النهرواني

كتاب الأعلام بأعلام بيت الله الحرام

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن محمّد النهرواني


المحقق: هشام عبدالعزيز عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المكتبة التجاريّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦

وعادت الحضرة الشريفة السلطانية إلى دار ملكها المسعود ، مظفر الجنود ، سعيد الحدود ، فى أواخر ربيع الآخر سنة ٩٣٩ ه‍.

الغزوة السادسة : صفر العجم.

أرسل قبل سفره الميمون ، الوزيري الأعظم إبراهيم باشا بعسكر معظم وجيش كالبحر الفطمطم ، وقبة كبيرة كالخميس العرمرم ، لليلتين مضتا فى شهر ربيع الأول سنة ٩٣٩ ه‍ ، ووصل إلى حلب ، وشتى بها ، هو ومن معه من العساكر المنصورة ، والجيش المؤيدة الخاقانية.

وبرز عقبة الوطاق الشريف والمخيم الكريم الخاقانى إلى أسكند ، أواخر شهر القعدة الحرام سنة ٩٤١ ه‍ ، واستمر متوجها إلى نصرة السنة الشريفة السنية وقطع طوائف الرافضة لدينه ، إلى أن وصل مخيمه الشريف العالى إلى بلدة أوجان قريب إلى سلاق وجان قرب تبريز ، وجاء إلى استقباله الوزير المعظم إبراهيم باشا بمن معه من العساكر المنصورة ، وتوجها بجميع العساكر المنصورة إلى أخذ سلطانية من مملكة العجم ، فلما وصل الركاب الشريف السلطانى قصبة أبهر ، هرب من طائفة القرلباس محمد خان بن ذو الغار ، ووصل إلى البساط الشريف العثمانى ؛ فحصل له التشريف والإنعام ، وقوبل بالتكريم والإكرام والاحترام ، وصار من جملة عبيد الباب ، واستولى البرد الشديد على العسكر المنصور ، ونزل الثلج كأنه الجبال ، وهرب العدو ، ولم يقابل وصار يخادع ويحامل ، فلزم التوجه إلى بغداد لصولة الرجال والأبطال فلما سمع بوصول العسكر المنصور حافظ بغداد من جانب قولياش محمد خان ، هرب وترك بغداد ومن بها من الرعية ، فجاءوا بمفاتيحها إلى الأوطاق الشريف السلطانى ونزل بعسكره المنصور من بغداد ، وأعطى أهلها الأمان واستكنوا كنّها.

وصارت من مضافات المماليك الشريفة العثمانية ، وكذلك جميع ما حولها من البلاد والبقاع ، وسائر الحصون والقلاع ، وكذلك المشعشع ، والجزائر ، وواسط ، وأمرت الحضرة السلطانية بتحصين قلعة بغداد ، وحفظها وصونها من أهل الإلحاد.

٣٢١

وزار مشهد الإمام الحسين بن سيدنا الإمام موسى الكاظم رضي‌الله‌عنهما ، ونوّر مرقدهما ، ونفع ببركاتهما ، وبركات أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمر بتعميرهما وتكريم مزارهما الشريف ، وزار الإمام الأعظم أبا حنيفة (رضى الله تعالى عنه) ، وبنى على قبره الشريف قبّة وعمارة ومدرسة.

وصلب فى بغداد دفترداره المرحوم المغفور السعيد الشهيد أسكندر جلبى ، بتهمة الخيانة فى المال السلطانى بر من أعداه وحساده ، وبرأته فى ذلك عند الله ، وعضد الناس ، وكان كريما بذولا ، حسن الخلق ، محسنا ، ما خاب من قصده ، ولا حرم من أمله ، مع الفضل التام ، والكرم العام ، رحمه‌الله تعالى ، وأسكنه الفردوس الأعلى ، وبوّأه من الجنات الدرجات العلى.

ويتهم الوزير إبراهيم باشا برمية بمار من به ، وما حال عليه الحول حتى ألحق به ، واجتمعا فى دار الحق بين يدى الحكم العدل اللطيف الخير.

ثم توجه الركاب الشريف السلطانى ، بعد مضى نبذة الشتاء ، لليلتين مضتا من شهر رمضان المبارك ، إلى ناحية تبريز ، لأنه بلغه أن الشاة شتى فى تبريز ، وأنه مقيم بها ، فقصده للقتال ، ومحو أثره فى صحائف الأيام والليالى ، فلما وصل إلى منزل صاردفاس ، وصل إلى الشاه راح لوحاتم إيلجا يطلب الصلح ، فلم يقابل بالقبول ، وتوجه إلى تبريز ، فخرج الشاه وطائفة القولباش من تبريز إلى الأطراف والجهات ، وتركوا شهر فى تبريز خالية خاوية على عروشها ، ومعهم العسكر المنصور ، فما ظفروا بهم ، فصار الشاه ينتقل من مكان إلى مكان.

وتكررت رسله إلى الأبواب العالية ، بطرق باب الصلح ، وتحقق حضرة السلطان الأعظم أن الصلح خير ؛ فقبل الصلح وكتب الأجوبة بقبول ما طلب وانطوى بساط الحرب ، وتوجه المخيم الشريف السلطانى إلى العود من بلاد العجم ، وغنم السلطان فى تلك السفرة ، أخذ البلاد وفتح العراق ، وألطف تاريخ قيل فيه فتحنا العراق.

وكان وصول الركاب الشريف السلطانى مع العسكر المظفر العثمانى إلى

٣٢٢

محل التخت الشريف الخاقانى ، مع النصر والتأييد الربانى ، والفتح والظفر العظيم السبحانى ، لأربع عشر ليلة مضت من شهر رجب المرجب سنة ٩٤١ ه‍.

الغزوة السابعة : غزوة أولوبية المعروفة بكورفيس.

وهى من بلاد الكفار والفجار من أتباع أسبانيا العزاز ، توجه إليها فى البر بركابه الشريف العالى ، وأرسل من البحر لطفى باشا ، والقبودان خيري الدين باشا ، نحو خمسمائة غراب ، مشحونة بعساكر البر إلى أن نزل بمخيمه المنصور على أولوبية فى سنة ٩٤٤ ه‍.

فاستباحها قتلا وأسرا ، ونهبا ، وافتتحت من جزائر ملك البحر أربعة وثلاثين حصنا حصينا ، هدمت إلى الأساس ، وقتل من فيها من الناس ، وقتلت جيوش المسلمين من طائفة الكفار المشركين ، ما لا يحصى من الأموال والسبايا ، وعاد السلطان مع سائر عساكره المجهزة وأبحر إلى تخت الملك الشريف ، سالمين غانمين ، والحمد لله رب العالمين.

الغزوة الثامنة : غزوة بغداد.

توجه بنفسه النفيسة ، لافتتاح تلك البلدان ، وبرز بعسكره الجرار ، لقتل الكفار الفجار ، بالسيف والنار ، ووصل ركابه الشريف إلى تلك البلاد ، وقتل فيها ، وفتك وأسال الدماء ، وسفك وافتتح البلاد ، وأخذ الرقاع والبقاع ، وغنم أموالا ومغانم كثيرة ، وأسر نفوسا عديدة ، غير محصورة ، وعاد إلى تخت ملكه الشريف ، مؤيدا من عند الله بالنصر والتأييد ، والفتح الجديد ؛ فوصل إلى دار الإسلام القسطنطينية الكبرى لست ليال بقين من ربيع الأول سنة ٩٤٤ ه‍.

الغزوة التاسعة : غزوة أسطوبور من بلاد أنكروس.

وذلك أن السلطان (رحمه‌الله تعالى رحمة واسعة) كان قد أنعم على أردل بانو ، بتلك البلاد ، وبلغه أنها توفيت ، وأن نمجه قزال ومن معه من الكفرة الفجار أرادوا الاستيلاء على بلادها بعد موتها.

٣٢٣

فتوجه السلطان (رحمه‌الله تعالى) إلى دفع أولئك الكفار الفجار سنة ٩٤٨ ه‍ ، وصمم السلطان على قتال نمجه قزال ؛ لأنه أراد أخذ بودون ، ووسوست له نفسه بتخلية المفسدون.

فلما أحسن بوصول العسكر المنصور ، فر هاربا إلى الجبال ، وتقهقر عن القتال ، فبلغته الأبطال ، ففر منهم إلى أطراف تلك المحال ، فجالست العساكر المنصورة السليمانية فى تلك البلدان ، وقتلواب أهل البغى والعدوان ، وقتلوا جيوش الكفر والطغيان ، وسبوا الأولاد والأطفال والنسوان ، وتركوا ديار الكفر قاعا صفصفا ، وغنموا مغانم كثيرة ، وذخائر تختار وتصطفى.

وفتحت قلعة أسطوبور بقرب بودون ، بعد الحرب الشديد ، وأضيفت إلى الممالك السلطانية ، وضبطت وفتحت أيضا قلعة وسوة ، وقتل من الكفار ما لا يعد ولا يحصى ، وعادت الحضرة الشريفة السلطانية بمن فى ركابها الشريف من العساكر الشريفة السلطانية إلى مقر تختها الشريف ، منصورين مؤيدين بتأييدهم الدين الحنيف ، والله يؤيد بنصره من يشاء.

الغزوة العاشرة : بيج واسترعون.

توجه الركاب الشريف السلطانى ، والمخيم الشريف السليمانى إلى افتتاح عدة قلاع فى بلاد بيج ؛ لتنظيف البلاد من طوائف الكفار ، أهل العناد ، من قطع دابر أولئك الفجار بالغزو والجهاد فى سنة ٩٩٥ ه‍.

وبرز فى دار الملك أسطنبول بالجيش المتواتر الموصول والجند الأعظم المهول إلى أن أحاط بقلعة وايلوه ، وقلعة سفلا ولاش ، وهما من أحكام القلاع السامية ، وأعظم الحصون المرتفعة العالية ، تناطح النطح ، وتسامك السماك وتوازن الميزان ، فافتتحها فى غرة ربيع الأول فى ذلك العام ، وصارت من مضافات ممالك الإسلام ، ثم افتتحت قلعة استرعون ، وهى قلعة فى غاية الاستحكام والإتقان ، وأحكم من بنيان الأهرام ، وكان قنديل سقفها نجوم الثريا ، وحارس بابها كواكب العواد يطاف منطقها وشاح الجوزاء ، مشحونة بالأموال والذخائر ، مملوءة بالعد ، والعدد الوافر ، ألقى الله تعالى فى قلوب

٣٢٤

أهلها رعب عساكر الإسلام وخذلهم الله تعالى ؛ فما عصمهم ذلك الحصن المنيع ، ما وجدوا الاعتصام ، فأخذوا أخذا وبيلا ، وأسروا وقتلوا تقتيلا ، ونهبت الأموال ، وسبيت النساء والأولاد والأطفال ، وأخذوا ما حولها من البلاد ، والقلاع ، والبقاع ، وافتتح ما يقربها من الحصون والقلاع.

وكذلك فتحت قلعة استولين بلغراد ، وهى قلعة سامية العماد ، راسخة الأوتاد ، لم يخلق مثلها فى البلاد كأنه من بناء شداد ، أخذت وضبطت وعين لها ولغيرها من القلاع ، الحفاظ النبلاء الأيقاظ ، ونصب لكل منها دارا وحصاريا ، وقاضيا يجرى الأحكام الشرعية ، وسنجقا للاستحفاظ.

وصارت من مضافات الممالك المحروسة السلطانية ، وصارت الكنائس مساجد للصلاة والعبادات والبيع ، ومشهد الخيرات والطاعات ، وعاد الركب الشريف السلطانى إلى سرير ملكه ، وتخته الخاقان ، مظفرا منصورا ، غانما سالما ، مسرورا ، والله يؤيد بنصره من يشاء.

الغزوة الحادية عشر : سفر الفاس.

وهى تحتمل تفصيلا طويلا لا تحتمله هذه العجالة ؛ فنعدل عن الإيهاب والإطالة ، ومجملها ، أن الفاس أخو الشاه لأبيه ، وكان واليا على شروان ؛ فوقعت بينهما مشاحنة فى الباطن ، أدت إلى أن توجه الفاس إلى الأبواب الشريفة السلطانية ، وقبل اليد الكريمة الخاقانية السليمان ، فحصل له من الحضرة السليمانية إقبال عظيم ، ومرتبة عليّة ، وأنعم عليه بإنعامات الجلية السنية ، ووعده بأن ينصره على أخيه ، ويدانيه ويعلى كلمته ، ويوانيه.

وأمر الوزير العظام وأركان دولة الإسلام ، أن يقدموا إليه الهدايا الجزيلة ، والتحف الوافرة الجميلة ، ففعلوا ذلك ، وجابروه وأزروه ، وعظموه وناصروه وكان ذلك فى سنة ٩٥٤ ه‍ ، واستمر ملتجئا إلى الظل الشريف الوريف الممدود على القوى والضعيف ، وصار يصاحبه ويلاطفه ويقويه ويستدنيه ، ويؤالفه ، إلى أن صمم العزم ، وشد بطاق الضرامة والحزم ، وبرز بعسكره المظفر ، ونصب وطاقه فى أسكودو لثمان ليال مضين من شهر صفر الخير سنة ٩٥٥ ه‍ ، ومعه الفاس ميزر مكرما تكريما ومعززا تعزيزا.

٣٢٥

وتوجهت الحضرة الشريفة السلطانية إلى أخذ تبريز ، وأمر الناس أن يشتى فى بغداد ، إلى أن يمضى زمن الشتاء ، فهم بالعساكر المنصورة إلى بلاد العجم.

واستمر الركاب الشريف سائرا بالغوث السبحانى والنصر والفتح الربانى ، إلى أن أخذت قلعته ، وحصنت بعساكر أهل الإيمان ، وجعل فيها بكلاريكيا ، وعسكرا قويا ، فإنها قفل ديار العجم ، وحصنها بآلات الحصار والخدم ، واستمر الفاس ميرزا متوجها إلى بغداد ، ثم توجه ببعض العساكر السلطانية إلى دركرمر ، ووصل إلى همدان ، وتعدى منها إلى أردبانجان ، ونهبت تلك البلدان وأسلبت أوطاق أخيه شاه ميرزا ، وعاد إلى المخيم الشريف السلطانى ، والوطاق المحفوف الخاقانى ، بما نهبه من الأموال وحصل له غاية الاعتبار والإقبال.

وغلب برد الشتاء ، فشتى حضرة السلطان بالمخيم الشريف السلطانى فى حلب ، وجهز جيشا كثيفا مع أحمد باشا لحفظ حدود البلاد ، وغزا طائفة الكرجى ، واغتنم منها الغنائم ، وعاد إلى الوطاق السلطانى بغنائمه.

وأما القاضى ميرزا فنابذ بعض الوزراء ؛ فخرج من بغداد مغاضبا ، وأظهر النفور من جانب السلطنة الشريفة ، ولم يراعى الأيادى الجميلة السابقة واللاحقة ، وعزم إلى أمير من الأكراد ؛ فعلم به أخوه ، فأرسل إليه وخادعه واستدعاه إلى عنده ؛ فلما أتاه دلاه فى بئر ؛ فطم أثره ومحا ذكره ، فرزق الشهادة ، ولحق بالشهداء والى الله المصير.

ولما وصل علم ذلك بالحضرة الشريفة السلطانية تأسف على ذهابه ، وعزل ذلك الوزير عذلا مؤيدا ، وعادت العساكر المنصورة السليمانية ، فى ركاب الحضرة السليمانية إلى دار ملكها السعيد ، بالنصر والتأييد ، والسعد الجديد والعز المشيد.

الغزوة الثانية عشر : سفره إلى بلاد الشرق.

لما بلغ الحضرة الشريفة السلطانية تحرك طائفة القزلباش على بعض الحدود

٣٢٦

السلطانية من جانب الشرق ، بادرت الحضرة السليمانية بجيوشها المنصورة العثمانية ، إلى أن تشتى فى مدينة حلب ، وبعد انقضاء زمن الشتاء ، يتوجه إلى أخذ بلاد قزلباس.

فبرز الوطاق الشريف السلطانى من دار الإسلام القسطنطينية العظمى إلى أسكودر فى أوائل شهر رمضان سنة ٩٩٦ ه‍ ، واستمر إلى أن وصل إلى أرجلى ؛ لقطع الراحل والمناذر ، فاستقر أوطاقه العالى خارج أركى ، واستدعى والده السلطان مصطفى ، فامتثل أمره الشريف ، ووصل إليه ، ودخل إلى أخى كاهه العالى ، فما برز إلا فى تابوت حمل على الأعناق إلى بروسنا ، ودفن بها ، واتبع به والده ودفن معه فى بروسا أيضا ، عليهما الرحمة والرضوان ، وروائح الروح والريحان ، ووقع ذلك فى أخر سنة ٩٩٦ ه‍ ، وقد قدمنا شرح ذلك.

وتوجهت الركائب السلطانية الشريفة إلى بلاد حلب واستمر بها أيام الشتاء ، وتوفى السلطان جهانكير قوة عين السلطنة الشريفة وثمرة فؤادها ، لعشر ليال بقين من ذى الحجة الحرام سنة ٩٩٦ ه‍ ، وجهز تابوته إلى أسطنبول فى ذى الحجة من السنة المذكورة.

ولما انقضى الشتاء توجه الركاب الشريف السلطانى إلى نحجوان من بلاد العجم ؛ فأخلى الشاه وتركها خالية ، ومضى إلى بعض الأطراف والجوانب ، ولم يقاتل ، ولم يحارب ، ولم يقارب ؛ فعادت الحضرة السيلطانية رلى أماسيه ، وقام ليكن على بلاد العجم نائبا ، فجاءت رسل الشاه وطرق باب الصلح ، فرأت الحضرة الشريفة السلطانية إجابة الشاه إلى سؤاله ؛ ترويحا للعساكر السلطانية ، وصونا لدماء الرعية ، فأنعمت على الشاه ، بقبول ما يتمناه ، وأمرت بإرسال أجوبة حسب مراده ومناه.

وعادت حضرتها الشريفة إلى تخت ملكها الشريف ، ممدودا ظل سلطانها الوريف ، واستقرت ذاتها العلية قريرة العين بالسعادات الباهرة السنية على تخت الخلافة البهية ، بدار الإسلام قسطنطينية ، لا زالت بعيون السلطنة العثمانية محروسة محمية ، آمين.

٣٢٧

الغزوة الثالثة عشر : غزوة سبكتوار وهى أخر غزواته الكبار.

لما كان دأب هذا السلطان الأعظم المجاهد فى سبيل الله ، ونصرة دينسي الإسلام ، كدأب آبائه ، وأسلافه العظماء ، ولكل امرء من دهره ما تعود ، وعادة الجهاد فى سبيل الله أعظم ذخرا عند الله ، تاقت نفسه النفيسة إلى الجهاد ، واشتاقت إلى قتال الفجار الكفار ، وصمم على السفر إلى بيج ودشوار ؛ وكان مزاجه الشريف متوعكا باستيلاء مرض النقرس عليه ، ويتألم بذلك ألما شديدا ، ويتصبر صبر الرجال ويظهر لناس غاية التجلد والاحتمال.

فمنعه عن السفر رئيس الأطباء ، صاحبنا المرحوم بدر الدين محمد بن محمد القوصونى المصرى ، وكان من أحذق الحذاق ، وأفضل الفضلاء فى سائري العلوم على الإطلاق ، أديبا أريبا ، رئيبسا طبيبا ، بينى وبينه مرسلات وملاطفات أدبية ومطارحات ، يجتنى ثمار الأدب الغصن من رياضها ، ويقتطف أزهار الفاكهة من أكمام أغصان حياضها ، برد الله مضجعه ، وأنزل عليه زلال رحمته سلسبيلا ، وسقاه من الجنة كأسا مزاجها زنجبيلا.

فلم يمتنع المرحوم السلطان بما أمر ، ولم يطع الطيب فيما ذكر وقال : أريد أن أموت غازيا ، وأبذل روحى فى سبيل الله مجتهدا ساعيا.

فبرز بجيوشه المنصورة ، وجنوده وراياته المفروفة بالنصر وبنوده ، والظفر يقدمه ، والسعد يخدمه ، وانقض كالشهاب الثاقب ، والحسام القاطع القاصب ، حتى طرق الكفار كالأحلام الطوارق ، وختمت بالنصر أغلامه ، كالرياح الخوانق ، واصطفت أبصارهم ببراق الأسياف الصواعق ، وكان بروزه من القسطنطينية الحمية فى يوم الاثنين المبارك ، لتسع مضين من شهر شوال المقرون بالظفر والسعادة والإقبال سنة ٩٧٤ ه‍.

واستمر يموج بجيوشه ، كالبحر المواج ، ويفيض إحسانه على كل فقير محتاج ، كالغيث التجاج ، وهو يقطع المراحل والمنازل ، ويسلك فجاج المسالك والمناهل والمناهك ، وينزل فى السواحل إلى أن قطع الأنهار الكبار الغزار ، والمياه العظيمة الكبار بحوز مملكته ، بنيت عليها سفائن كالأطواد

٣٢٨

وتمزقت فيها ؛ ليدغم الجسور إليها ، إلى أن أمكن تعدية ذلك الجيش العرموم ، ومقاسات الأهوال إلى قلعة سكتوار ، من أعظم قلاع دمشوار.

فأحاط بها كإحاطة الطوق بالعنق ، وداروا عليها دوران الأفلاك على الأفق وهى مدينة حصينة واسعة شائعة مكينة ، راسخة البناء فى حصن الماء شامخة الهوى إلى عنان السماء فى غاية العلو والتحصين ، وأع لى درجات الاستحكام والتمكين ، وأقوى مأيد الكفار من المكان الحصين ، كأنها فى الارتفاع والشهوق تناطح النطح ، وتعابق العبوق ، وكان بريق نيرانها لمعان البرق عند الحقوق ، مشحونة بآلات الحرب والمدافع ، مملوءة بالمكاحل الكبيرة ، والمقامع ، موثوقة بجيوش النصارى ، وأبطالهم ، مرسومة لفتيانهم وأبطالهم الشجعان من رجالهم ، فحصروهم ؛ هكذا الإسلام ، وحاصروهم وضيقوا عليهم مسالكهم ، وصابروهم ، ونازلوهم القتال ، وناشدوهم ، وصالوا عليهم ، وحاسوهم ، فتهيأ الكفار فى قلعة سكتوار ، ورموا على المسلمين بمقامع من النار ؛ فتترس المسلمون بالمتاريس ، وهجموا على الكفرة المناحيس ، وحمى الوطيس ونحس النحس الخمير ، وأقدم من الأبطال المشهورين ، والفرسان والشجعان المخيورين من ظهور شجاعته اليد البيضاء للناظرين ، وطلب من الله تعالى النصر وهو خير الناصرين.

وعند اشتداد الحرب والقتال ، وتصادم الأبطال تصادم أطواد الجبال ؛ إذ غلب على السلطان توعك وسقمه واشتد عليه مرضه ، وآلمه ، وغمره غمران الموت ، ولاحت عليه أمارات الفوت ، وهو يلهج إلى الله ـ تعالى ـ ويتضرع إلى جنابه الرحيب ؛ لطلب الفتح القريب ، وسأل من الله الظفر والتأييد ، على أخذ الكافر العنيد.

فاستجاب الله ـ تعالى ـ دعاءه ، وحقق بحصول المراد رجاءه ، واضطربت النار فى حربة بارد والكفار ، وهى مخزونة بقلعة سكتوار ، وكانوا أعدوها لقتال المسلمين ، وأكثروا فيها ؛ لتكون موفورة عندهم ، فأابهم شرر من النار بتقدير الله القدير القهار ، فأخذت جانبا كبيرا من القلعة ، رفعته إلى عنان السماء ، وزلزلت الأرض زلزلة هائلة ، إلى تخوم الماء ، وتطايرت

٣٢٩

جلاميد الصخار إلى الهواء ، ورمت شررا ولهبا ودخانا إلى أن امتلأ الفضاء ، فضعفت بذلك طائفة من الكفار ، وعذبهم الله قبل عذاب النار.

وتزاحم المجاهدون فى سبيل الله ، معتمدين على نصر الله ، خالصا لوجه الله ، وحملت على الكفار حملة واحدة بغاية التيقظ والانتباه ، غير مبالين بموت ولا حياة ، مؤمنين بأن لا مفر مما قدره الله ، وتعلقوا بأطراف القلعة ، واقتلعوها من أيدى الكفار ، وهجموا عليها ، ودخلوها من فوق الأسوار ، وقتل من قتل ونجا من نجا بمساعدة الأقدار ، وافتتحت قلعة سكتوار ، ورفعت الراية الشريفة السلطانية السليمانية على أعلى منار ، ووضع السيف فى جميع الكفار والفجار ، وقتلوهم وساقوهم إلى جهنم وبئس القرار ، وعند وصول الخبر إلى السلطان سليمان ، فرح وحمد الله على هذه النعمة ، واستسلم لربه ، وقال : طلب الموت الآن ، وانتقل من سرير ملك الدنيا إلى سرر مرفوعة فى أعلى الجنان.

وأخفى حضرة الوزير الأعظم محمد باشا وفاة حضره السلطان ، وخرج من عنده ، وفرق الجوائز السنية والإنعامات ، وأعطى الأمراء والكباربكية الترقيات ، وأمر بإرسال البشائر إلى سائر الأطراف والجهات ، وأرسيل سرا يستدعى السلطان سليم خان الثانى ، ويستعجله فى سرعة الوصول إلى التخت الشريف العثمانى ، وكتم ذلك عن جميع الخواص والخدم ، وأحسن التدبير فى هذا الكتم ، وهو من اللازم الحاتم فى الأمور العظام.

واستمرت أمور المملكة فى غاية الانتظام ، وأحوال العسكر المنصور السلطانى فى أعلى درجات النظام ، وهم فى ديار الكفر ، بعيدون عن ديار الإسلام ، وذلك من كمال العقل التام ، فمن الرأى الثاقب الصائب التمام إلى أن وصل ركاب حضرة السلطان سليم إلى مقر تخته الكريم ، وأذن للعساكر المنصورة بالرجوع إلى أوطانها ، وعاد مع أركان دولته ، ووزراء سلطنته ، وبقية عسكر بابه العالى إلى القسطنطينية العظمى ، كما سيأتى تفصيله إن شاء الله تعالى.

٣٣٠

وغسل المرحوم السلطان سليمان وحنط وكفن ، وأنشد لسان الاعتبار :

انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها

هل راح منها سوى بالقطن والكفن

ووضع فى تابوته على العجلة ، وساروا به بسرعة وعجلة ، وهو ممن يليق أن ينشد فيه:

كم قلت للرجل المولى غسله

هل لا أطعت وكنت من نصائحه

حسه مال ثم حنطه بما

ذرفت عيون المجد عند بكائه

وأزال أقويه الحنوط ونحها

عنه وحنطه بماء سحابه

ومن الملائكة الكرام بحمله

فلطالما حملت من نعمائه

واستمر محمولا إلى أن أتوابه إلى أسطنبول ، وخرج إلى استقباله جميعي العلماء والموالى العظام ، والمشايخ الأتقياء الكرام ، وسائر أصناف الأنام ، وبكوا عليه بكاءا طويلا ، وأكثروا نحيبا وعويلا ، وصلوا عليه ، وأمهم فى صلاة الجنازة المفتى الأعظم مولانا أبو السعود أفندى ، عالم بلاد الإسلام ، ودفن فى تربة أعدها لنفسه (رحمه‌الله تعالى).

ورثاه الشعراء بكل قصيدة طنانة ، صار بها الركبان ، أعظمها وأحسنها ، قصيدة المفتى المذكور ، وهى طويلة ، حذفت بعضها روما للاختصار ، وأثبت مختارها بحسن الاختيار ، وهو قوله (رحمه‌الله تعالى) :

أصوت صاعقة أم نفخة الصور

فالأرض قد ملئت من نقر ناقور

أصاب منها الورى دهيا واهية

وذاق منها البرايا صعقة الطور

تهدمت بقعة الدنيا لوقعتها

وانهد ما كان من دور ومن سور

أمسى معالمها يتما مقفرة

ما فى المنازل من دار وديور

تصدعت قبل الأطود وارتعدت

كأنها قلب مرعوب ومذعور

وأغبر ناسية الخضراء وانكدرت

وكاد يمتلئ الغبراء بالمسور

فمن كئيب وملهوف ومن دنق

عان بسلسلة الأحزان مأسور

٣٣١

فياله من حديث موحش نكر

يعافه السمع مكروه ومنفور

ناهت عيون الورى من هول وحشه

فأصبحوا مثل مجنون ومسحور

تقطعت قطعا منه القلوب فلا

يكاد يوجد قلب غير مكسور

أجفانهم سفن مشحونة بدم

يجرى ببحر من العبرات مسجور

أتى بوجه نهار لا ضياء له

كأنه غارت سنة بديخور

أم ذاك نعى سليمان الزمان ومن

قضيت أوامره فى كل مأمور

ومن ومن ملأ الدنيا مهابته

وسخرت كلّ جبار ومشهورة

مدار مدرسة الدنيا ومركزها

خليفة الله فى الأفاق مذكور

معلى معالم دين الله مظهرها

فى العالمين بسعى منه مشكور

وحين رأى الخيرات منصرفا

وصدف عزم على الألطاف مقصور

بآية العدل والإحسان مشتمل

بغاية القسط والإنصاف موفور

مجاهد فى سبيل الله مجتهد

مؤيد من جناب القدس منصور

بأيد إلى الأعداء منعطف

ومشرف على الكفار مشهور

وراية رفعت للمجد خافقة

تجوى على علم بالنصر منشور

وعسكر ملأ الأفاق محتشد

من كل قطر فى الأقطار محشور

له وقائع فى الأكناف شائعة

أخبارها زبرت فى كل طامور

يا نفس مالك فى الدنيا مخلفة

من بعد رحلته عن هذاه الدار

وكيف تمسين فوق الأرض غافلة

ليس جسمانه فيها بمقبور

فالمنايا مواقيت مقدرة

تأتى على قدر فى اللوح مسطور

وليس فى شأنها للناس من قصر

ومدخل ما بتقديم وتأخير

يا نفس فأيدى لا تهلكى أسفا

فأنت منظومة فى سلك مقدور

٣٣٢

إذ لست مأمورة بالمستحيل ولا

بما سبوى بذل مجهود وميسور

ولا تظنيه مات بل هو ذا

مى بنص من القرآن مزبور

مجاهد فى سبيل الله مقتحم

معارك ، التحف بالرضوان مأجور

له نعيم وأرزاق مقدرة

تجرى عليه بوجه غير مشعور

إن المنايا وإن عمت محرمة

على الشهيد جميل الحال مبرور

ما مات بل نال عيشا باقيا أبدا به

عن عيش فاز بكل الشر مغمور

ابتاع سلطنة الدنيا بسلطنة ال

عقبى فأعظم بريح غير محصور

بل حاز كلتهما دخل منزلة

من لم يغايره فى أمر ومأمور

أما ترى ملكه المحمى آل إلى

شر سرى فى الدهر مشهور

ولى سلطنة الأفاق مالكها

برا وبحرا بعين اللطف منظور

ظل الإله ملاذ الخلق قاطبة

وملتجأ كل مشهور ومدهور

فإن عينه فى كل مأثرة

وكل أمر عظيم الشأن مأثور

ولا امتياز ولا فرقان بينهما

وهل يميز بين الشمس والنور

سميدع ماجد زادت مهابته

تحت الخلافة فى عزو ويفور

جد الجديدان فى أيام دولته

كان أركانها مسك بكافور

أضحى بقبضته الدنيا برمتها

ما كان يجهل بناء ومعمور

بدأ بطلعته والناس فى كرب

وسوء حال من الأحوال منكور

فأصبحت صفحات الأرض مشرفة

وعاد كنافها نورا على نور

سبحانه من ملك جلت مفاخره

عن البيان بمنظوم ومنثور

كأنها وبراع الواصفون لها

بحر خميس إلى منقار عصفور

لا زال أحكامه بالعدل جارية

بين البرية حتى نفخة الصور

٣٣٣

(فصل فى ذكر بعض مآثر السلطان سليمان وخيراته.

وصدقاته الجارية الحسان فى جميع البلاد سيما بلد الله الحرام)

اعلم أن الخيرات والميراث والمساجد ، والعمارات والمدارس ، والخانقان وأجر العيون ، وبناء القلاع والخانات وغير ذلك من أنواع الخيرات فى كل الجهات التى أنشأها المرحوم السلطان سليمان (رحمه‌الله تعالى) كثيرة جدا لا يمكن حصرها ، ولا يدخل تحت خطة البنا ذكرها ، ولا يسع هذا الكتاب شرحها وسيرها ، لكنما نذكر مجملا من ذلك ، فما لا يدرك كله لا يترك كله ، ونذكر خيراته فى الحرمين الشريفين ، ونحيل ما عداها إلى السماع ، والمشاهدة رأى العين.

من ذلك الصدقة الروضية ، التى هى الآن مادة حياة أهل الحرمين الشريفين وبها معايشهم ، وقيام أودهم ، وسبب بقائهم ومددهم ، فإنها وإن كانت قديمة متواصلة فى زمن آبائه السلاطين العظام ، وأجداده الملوك الكبار الفخام.

إن المرحوم السلطان سليمان هو الذى ضاعفها وزادها ، وأنماها وكثرها وقررها ، وأضاف إليها من خزائنه الخاصة مبلغا كبيرا ، فهى ولله الحمد كرد فى كل عام بدفتر محفوظ ، وأمين وكاتب ، يقسمه فى الحرم الشريف تجاه بيت الله العظيم المنيف ، وتقرأ الفواتح بالإخلاص ، ويكثر الضجيج من الفقهاء والفقراء والعلماء والصلحاء ، بدوام دولة سلطان الزمان والرحمة والرضوان على آبائه وأجداده من آل عثمان ، ويفرض عليهم حسب الدفتر الشريف السلطانى المرسوم بالشأن الشريف العثمانى فيصرفون ذلك فى قضاء ديونهم ، وإن فضل صرفوها فى حجهم وكساويهم ، وأنفقوها على عيالهم وأولادهم ، ولم يقع الإحسان على هذه الصورة لأحد من السلاطين والخلفاء والملوك وغيرهم على أهل الحرمين الشريفين والصدقات وإن كانت تربى السلاطين وغيرهم ، ولكن ليست بهذا الضبط والاستمرار والوصول فى محلها وتعميم الناس بها للخلفاء العباسيين وغيرهم صدقات كثيرة واسعة إلا أنها كانت ترد مرة فى العمر ، وعند وصول خليفة منهم إلى الحج وما تحققت

٣٣٤

مواطن وصولها على هذا الوجه الذى ترضاه لأحد غير ملوك آل عثمان خلد الله تعالى ملكهم.

ومنها : صدقة الحب ، وقد تقدم أن المرحوم المقدس السلطان سليم خان الأول ، أول من تصدق بإرسال صدقة الحب إلى أهل الحرميين الشريفين ، عند افتتاح بلاد العرب ، وأخذه لأقاليم مصر والشام وحلب ، واستمرت متواصلة إلى زمن المرحوم السلطان سليمان ، وكان ترسل فى أمار الخاص السلطانى ، فأبرز لها السلطان سليمان قرى بمصر ، واشترى لها من بيت مال المسلمين ، ووقفها وجعل عليها ، وريعها لأهل الحرمين الشريفين ، وكتب بذلك كتاب ووقف.

حكم بصحته قضاة العسكر بالديوان الشريف العالى ، وجعل من ريعها ألفا وخمسمائة أردب لأهل المدينة المنورة ، يجهزها فى كل عام من الناظر المتولوى على ذلك ، ثم ضاعفها وجعل كل عام لأهل مكة المشرفة ثلاثة آلاف أردب ؛ ولأهل المدينة المنورة ألفى أردب.

واستمرت ترد فى كل عام وتوزع على أهل الحرمين حسب دور مقرر بأحكام شريفة ، وتذاكر بأسوية ، وتقريرات من القضاة ونظار الحرم الشريف ، واستقر الحال على ذلك ، واستمر إلى أثناء هذا ، أو إلى ما بعد إن شاء الله تعالى ، وهذا أيضا إحسان جميل ، وخير عظيم صار سببا لمعاش أهل الحرمين الشريفين ، وتقوتهم ، ومادة لحياتهم وتعيشهم وأودهم وقوتهم.

فلو عدموه والعياذ بالله تعالى هلكوا.

والدعاء من صدور قلوبهم مبذول فى المسجد الشريف بدوام دولة سلطان الإسلام ، والترحم على آبائه الكرام وأسلافه العظام ، وهذا إحسان لم يعهد فى زمن السلاطين السابقة ، ولا أيام الخلفاء السابقة ، بل هو مخصوص بسلاطين آل عثمان ؛ إلا ما فعله السلطان قايتباى (رحمه‌الله تعالى) بعد ما حج بيت الله الحرام ، وزار المدينة المنورة (على صاحبها أفضل الصلاة والسلام).

٣٣٥

فإنه وقف على أهالى المدينة المنورة ضياعا وقرى جعل يرعها إلى الآن لأهل الحرمين الشريفين ، وللسلطان جقمق أيضا أوقاف يصل منها شىء دون ذلك إلى الحرميني الشريفين ، وقد آلت أوقافهما إلى الخراب ، وضعف ريعهما جدا.

وأما الأوقاف الشريفة العثمانية : فعامرة جدا ، يفيض منها الزوائدة ، ويحصل فيها النمو عليها مدار معيشة أهل الحرمين الشريفين (عمرها الله تعالى) وأنماها وعمّر عمر من عمرها ، وزكى عمل من زكاها.

ومنها : صدقات الجوالى ، وهى جمع جالية ؛ ما يؤخذ من أهل الذمة فى مقابلة استمرارهم فى بلاد الإسلام تحت الذمة ، وعدم جلائهم عنها ، وهى من أحل الأموال ؛ إذا أخذت على وجهها المشروخ ، ولأجل حلها جعلت وظائف للعلماء والصلحاء والمتقاعدين من الكبراء.

وكان يخرج منها شىء قليل جدا فى أيام الجراكسة لبعض المشايخ ، فلما كانت أيام سلطنة المرحوم السلطان سليمان خان (نور الله تعاللى مرقده ، وخصها بالرحمة والرضوان) أخرجها من خزائنة الفائقة العامرة بالتدريج إلى العلماء والمشايخ من أهل الحرمين الشريفين ، واستوعب جميعها ، وزاد عليها قدرا كثيرا أخرجه من خزائنه الفائقة العامرة بالتدريج إلى العلماء والمشايخ من أهل الحرمين الشريفين ، واستوعب جميعها ، وزاد عليها قدرا كثيرا أخرجه من خزائن الشريفة ، وذلك من جوالى مصر وحدها ، غير جوالى الشام وحلب وغيرهما من الممالك الشريفة العثمانية ، وغير ما يرصف على الفقراء والعلماء والمشايخ فى محصول المملكة فى سائر ممالكهم المحروسة ، وغير ما يصرفه ملوك بنى عثمان من ريع أوقافهم وزوائدها وغير ما يخرجون خزائنهم العامرة فى وجوه الخيرات والصدقات ، وأطعتمة العمارات بحيث لا يحصى مقدارها ، ولا يستقصى انحصارها وناهيك بكثرة هذا المصارف فى وجوه الخيرات والعوارف.

ولم يعهد مثل كثرة هذه الخيرات ، واستمرار هذه الإرادات لأحد من

٣٣٦

السلاطين والخلفاء ، والملوك والعظماء الكرماء الحنفاء ، فى زمن الأزمان ، فى دولة ملك أودار سلطان ، فالله تعالى يبقى هذه الدولة الشريفة.

ومن خيراته الدارة إجراء العيون ، ومن أعظمها إجراء عين عرفات إلى مكة المشرفة ، وسبب ذلك أن العين التى كانت جارية بمكة فى عين حنين ، وهى من عمل أم جعفر زبيدة بنت جعفر بن المنصور زوجة هارون الرشيد ، واسمها أم العزيز ، وكان جدها المنصور يرفضها ، وهى طفلة ويقول : أنت زبيدة ، فاشتهرت بها ، وكانت من أهل الخيرات ، ولها مآثر عظيمة إلى الآن منها إجراء ماء حنين إلى مكة المشرفة ، وصرفت عليها خزائن أموال إلى أن جرت ، وهى واد قليل الأمطار بين جبال سود عاليات خاليات من المياه والنبات ، وصفها الله تعالى بأنها واد غير ذى زرع ؛ فنقبت أم جعفر زبيدة الجبال ، إلى أن سلك الماء من أرصد الحل إلى أرض الحرم ، وأنفقت على عملها ألف ألف وسبعمائة ألف من الذهب.

فلما تم عملها اجتمع المباشرون والعمال لديها وأخرجوا دفاترهم ؛ لإخراج ما صرفوه بالدجلة ، فأخذت الدفاتر ورمتها فى بحر الفرات وقالت : الحساب ليوم الحساب ، فمن فضل عنده من بقية المال شىء فهو له ، ومن بقى له عندنا شىء أعطيناه ، وألبستهم الخلع والتشاريف ، فخرجوا من عندها حامدين شاكرين ، وبقى لها هذا الأثر العظيم فى العالمين (رحمها الله تعالى) وأسكنها الفردوس الأعلى فى أعلى عليين.

وكانت هذه العين ترد إلى مكة وينتفع الناس بها ، ومنبع هذه العين فى جبل شامخ يقال له طاد ـ بالطاء المهملة بعدها دال المهلمة ـ من جبال الثنية من طريق الطائف ، وكان يجرى المياء إلى أرض يقال لها حنين ، يسقى به نخيل ومزارع مملوكة الناس ، وإليها ينتهى جريان هذا الماء.

وكان يسمى حائط حنين ، يعنى بنى سنين حنين ، وهو موضع غزا فيه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم المشركين ، ويقال لتلك الغزوة غزوة حنين ، خيرها مذكور فى كتب سيرة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣٣٧

فاشترت زبيدة هذا الحائط ، وبدلت تلك المزارع والنخيل ، وسقت لها الفتاة فى الحال ، وجعلت لها الشحاحيذ فى كل جبل ، يكون ذيله مظنة لاجتماع الماء عند الأمطار ، وجعلت فيه قناة متصلة إلى مجرى هذه العين فى محاذاتها ، يحصل منها الممد بهذه العين ، فصار كل شحاذ عينا يساعده عين حنين ، منها عين مساس وعين ميمون ، وعين الزعفران ، وعين البرود ، وعين الطارقى ، وعين ثقبه والجرينات ، وكل مياه هذه العيون تنصب فى ذيل حنين ، ويبطل بعضها ويزاد بعض وينقص ، بحسب الأمطار الواقعة على أم إحدى هذه العيون أو على جميعها ، إلى أوصلت على هذه الصورة إلى مكة المشرفة.

ثم إنها أمرت بإجراء عين وادى نعمان إلى عرفة ، وهى عين منبعها ذيل جبل كدا ، وهو جبل شامخ جدا أعلاه أرض الطائف مسيرة نصف نهار من أسفله إلى أعلاه ، من صعد فيه أؤ نزل منه مرة لا يعود لوعرة مرقاه وصعوبته وينصب من ذيل جبل كدا فى قناة فى موضع يقال له الأوجر وادى نعمان ، ويجرى منه إلى موضع بين جةبلين شاهقين فى علو أرض عرفات فيها مزارع.

ولشعر العرب تشوقات وتغزلات فى واد النعمان ، وفيه يقول :

أيا جبلى نعمان بالله خليا

نسيم الصبا يخلص إلى نصيبها

فعملت القنوات إلى أن جرى ماء عين نعمان من أرض عرفة ، ثم أديرت القناة بجبل الرحمة ، محل الوقف الشريف الأعظم فى الحج ، وجعل فيها الطرق إلى البرك التى فى أرض عرفات ، ويقال لها طريق «ضابّ» ـ بالضاء المعجمة المفتوحة ، فالأف بعدها باء واحد مشددة ـ وتسمى الآن عند أهل مكة «المظلمة» ـ بضم الميم ثم ظاء معجمة ساكنة ، فلام مكسورة ، ثم ميم مفتوحة ، ثم هاء التأنيث.

ثم يصل منها إلى مزدلفة ، ثم يستمر إلى جبل خلف «منى» فى قبيلها ، ثم ينصب إلى بئر عظيمة منطوية بالأحجار ، كبيرة جدا ، تسمى بئر زبيدة ، إليها ينتهى عمل هذه القناة ، وهن من الأبنية المهولة ، كما يتوهم أنه من بناء

٣٣٨

الجسر ، ثم صارت عين حنين ، وعين عرفات تنقطع لقلة الأمطار ، وتهدم قناتهما ، وتجريهما السيول بطول الأيام ، وكانت الخلفاء والسلاطين إذا بلغهم ذلك ، أرسلوا وعمروها ، عند انتظام سلطنتهم وقوة ملكهم ، فتجرى تارة ، وتنقطع أخرى ، واستمر الحال على هذا المنوال.

فمن عمرها صاحب أربل ، وهو المملك الجليل مظفر الدين كوكرى بن على فى سنة ، كما وجدت ذلك مكتوبا فى بعض حجارة مبنية فى قرب الموقف الشريف بعرفات ، ثم بعد مائة عام ترقيبا عمد عين حنين الأمير جويان نائب السلطنة بالعراقيين ، فى أيام السلطان خزاينده سنة.

فأجرى عين حنين إلى مكة ، وعم نفعها لأهل مكة ، فإنهم كانوا فى جهد عظيم ؛ لقلة المياء ، فرحمهم‌الله تعالى بذلك ، ورحم الله تعالى أهل الخير.

ثم عمرها شريف مكة يومئذ الشريف حسن بن عجلان جد ساداتنا أشراف مكة الآن ، وأبقاهم الله تعالى وأدام عزهم وسعادتهم أمد الزمان ، وكان منب أهل الخيرات والإحسان أجزل الله ثوابه فى الجنان ، وكان تعميره فى سنة ٨١١ ه‍ ؛ فجرت وانفجرت ، ونفعت وأبلجت ، وكثر الدعاء من أهل البلاد والحجاج ، تقبل الله منه صالح أعماله.

ثم انقطعت ولقى الناس لذلك شدة عظيمة شديدة إلى أن عمرها صاحب مصر من ملوك الجراكسة الملك المؤيد أبو الفتح شيخ المحمودى فى سنة ٨٣١ ه‍ هكذا ذكره التقى الفارسى رحمه‌الله تعالى.

ثم عمرها وعمر عين عرفات أيضا بعد ذلك من ملوك مصر الجراكسة السلطان الملك الأشرف قايتباى وعمر عين عرفات ، وأجراها إلى أرض عرفات وعمر عين حنين إلى أن جرت إلى مكة ، وعمر عين خليص ، وحصل بها الرفق للحجاج وأهل البلاد ، ودعوا له ، وأثنوا عليه بذلك بمباشرة الأمير يبوسف الجمالى وأخيه الأمير سنقر الجمالى (رحمهما‌الله تعالى) فى سنة ٨٧٥ ه‍.

ثم عمر عين آخر ملوك الجراكسة السلطان قنصوه الغورى (رحمه‌الله

٣٣٩

تعالى) فى عام سنة ٩١٦ ه‍ ، على يد الأمير خير باك العمار (رحمه‌الله تعالى) إلى أن جرت وملأت به فى البرك فى المعلاة ، ثم جرت إلى بازان ، ثم إلى بركة ما جره فى درب اليمن من أسفل مكة ، وارتق الناس بذلك.

ثم انقطعت من أوائل الدولة العثمانية بهذه أقطار الحجازية ، وبطلت العيون لقلة الأمطار ، وتهدمت قنواتها ، وانقطعت عين حنين عن مكة المشرفة ؛ فصار أهل البلاد يستقون من آبار حول مكة ، من آبار يقال لها العيلات فى علو مكة ، قريب من المنحنى ، ومن آبار فى أسفل مكة يقال لها الزاهر ، وتسمن الآن بالجوخى فى طريق التنعيم ، وكان الماء غاليا قليل الوصول ، وكذلك انقطعت عيون عرفات ، وتهدمت من قنواتها ، وكان الحجاج يحملون من الماء إلى عرفات ، من الأمكنة البعيدة ، وصار فقراء الحجاج فى يوم عرفة لا يطلبون شيئا غير الماء لعزته ، ولا يطلبون الزاد ، وربما جلبه بعض الأقوياء من الأمكنة البعيدة للبيع ؛ فيحصلون أموالا فى ذلك لغلو ثمنه.

وإنى أذكر أنه فى سنة قل الماء فى الآبار البعيدة أيضا ؛ فارتفع سعر الماء جدا فى يوم عرفة ، وكنت يومئذ مراهقا فى خدمة والدى رحمه‌الله وفرغ الماء الذى كنا حملناه من مكة إلى عرفات ، وعطش أهلنا ؛ فطلبت قليلا من الماء للشرب ، فاشتريت قربة ماء صغيرة جدا ، يحملها الإنسان بأصبعه بدينار ذهب ، والفقراء يصيحون من العطش يطلبون من الماء ما يبل حلوقهم فى ذلك اليوم الشريف ، فشرب أهلنا بعض تلك القربة ، وتصدقوا بباقيه على الفقراء ، وعطشت عقيبه ، وجاء بعد الوقوف ، والناس عطاشى مهلوفون ؛ فأمطرت السماء ، وسالت السيول من فضل الله تعالى ، ورحمه‌الله ، والناس واقفون تحت جبل الرحمة ، فصاروا يشربون من السيل من تحت أرجلهم ، ويسقون دوابهم ، وحصل البكاء والضجيج الكثير من الحجاج فى وقت الوقوف ، لما رأوا من رحمة الله تعالى ولطفه بهم ، وإحسانه إليهم ، وتكرمه عليهم ، ولا أزال أتذكر به من رحمة الله الكريم ، وأتيقن نه هو الغفور الرحيم الذى ينزل على عباده الرحمة من بعد ما قنطوا.

٣٤٠