الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

إلياس شوفاني

الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

المؤلف:

إلياس شوفاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٩

لاحقا). وتشكلت هذه الكتيبة ونقلت إلى مصر ، ولم تعد إلى فلسطين إلّا بعد انتهاء الحرب. وغداة احتلال بلاد الشام ، كان في قوات الحلفاء نحو ٥٠٠٠ جندي يهودي ، تجمعوا في فلسطين ، على أن يمهدوا الطريق أمام إقامة الدولة اليهودية فيها. ولكن ذلك لم يتحقق ، وتفككت هذه الكتائب وتبعثرت.

وعلى صعيد أعمال التجسس ، وفضلا عن نشاط المنظمة الصهيونية على الساحة الدولية ، فقد تشكلت في فلسطين منظمة سرّية من غلاة التطرف الصهيوني. وكان مؤسسها أهرون أهرونسون ، يعمل مديرا لمحطة التجارب الزراعية في عتليت. وبسبب خبرته الزراعية تقرب من جمال باشا ، الذي عينه رئيسا لهيئة مكافحة الجراد في سورية. ومن موقعه هذا ، تنقل أهرونسون في طول البلاد وعرضها ، وجمع المعلومات عن انتشار القوات التركية وتحصيناتها ، ونقلها إلى القيادة البريطانية. وحملت الشبكة اسم «نيلي» ، وكانت على اتصال ، عبر سارة ، أخت أهرونسون ، مع السفير الأميركي في إستنبول. إلّا إن الأتراك اعتقلوها أخيرا ، وانتحرت في السجن. وقد سافر أهرونسون عدة مرات إلى مصر وإنكلترا ، وحتى إلى الولايات المتحدة ، إذ شجعته الدوائر الاستخبارية على مواصلة العمل مع الاستخبارات البريطانية. وكان من أهداف «نيلي» التمهيد لإنزال بحري على شواطىء فلسطين. لكن الشبكة اكتشفت ، واعتقل بعض أفرادها ، وهرب آخرون ، كما أعدم عدد منهم. وعلى الرغم من تنصل الحركة الصهيونية من أعمال «نيلي» واستنكارها لفترة طويلة ، فقد أعادت حكومة إسرائيل لها اعتبارها (١٩٦٧ م) ، عندما قلد رئيسها وسام الاستحقاق لأخت سارة ، نيابة عنها. أمّا أهرون فقد مات في أوضاع غامضة ، وهو في رحلة جوية بين باريس ولندن ، إذ تحطمت طائرته وسقطت في البحر.

ولكن ، بغض النظر عن النشاط الصهيوني في الحرب ، بأشكاله المتعددة ، وكذلك عن الدوافع الأميركية لدعم المشروع الصهيوني ، فإن وعد بلفور يبرز تلاقي المصالح الإمبريالية البريطانية مع الأهداف الصهيونية. وقد عبر عن هذا التلاقي الوزير في حكومة لندن ، هربرت سامويل ، في مذكرة قدمها لحكومته ، ولبعض أعضاء البرلمان (١٩١٥ م) ، شرح فيها الفوائد التي ستجنيها بريطانيا من تأسيس دولة يهودية في فلسطين ، تحت إشرافها وحمايتها ، بعيدا عن فكرة تدويلها. فمثل هذه الدولة ، في هذه النقطة الاستراتيجية ـ قلب الوطن العربي ـ وعند ملتقى طرق المواصلات بين القارات الثلاث ـ آسيا وأوروبا وإفريقيا ـ تحقق لبريطانيا مصالح حيوية متعددة. فهي تشكل مرتكزا لحماية قناة السويس ـ أهم ممر مائي في العالم ـ وقاعدة للسيطرة على شواطىء البحرين ، المتوسط والأحمر ، وخط دفاع أول عن الاحتلال البريطاني

٣٦١

لمصر ، كما أنها تقطع الطريق على التنافس بين الدول الكبرى بشأن النفوذ فيها بذريعة الأمكنة المقدسة. ولعل الاعتبار الأهم أنها تشطر الوطن العربي إلى شطرين ، وتحول دون توحيدهما ، كما تشكل مركزا إقليميا مناهضا للحركة القومية العربية ، التي تناضل من أجل الاستقلال ، وبالتالي ضد الاستعمار.

إن وعد بلفور ، الذي اعتبرته الصهيونية العالمية بمثابة البراءة الدولية للاستيلاء على فلسطين وتحويلها إلى «وطن قومي» ليهود العالم ، لم يسهم في إيجاد حل لمشكلة الصهيونية في المنطقة ، بقدر ما أسس لصراع طويل وعنيف بشأنها ، لم يصل بعد إلى نهايته (١٩٩٦ م). ولعل هذا بالذات ما أرادته حكومة بريطانيا في حينه. ولا غرو ، فهذا الوعد ، في سياق صدوره ومضمونه ، وما نجم عنه ظل موضع رفض واحتجاج من قبل العرب ، ومحط نقد قانوني من أوساط متعددة في العالم ، وخصوصا أنه ضمّن في وثائق ومعاهدات دولية ، أصبحت مرتكزات لسياسة منظمات دولية رئيسية إزاء المنطقة. والوعد بتسليم فلسطين للحركة الصهيونية هو عطاء من لا يملك لمن لا يستحق ، وبالتالي فهو باطل ، ليس أخلاقيا فحسب ، بل قانونيا أيضا. وهو اقتطاع جزء من الوطن العربي ، وفرزه ليكون قاعدة للعدوان على الأمة العربية ، وتجزئتها واستنزاف طاقاتها ، وليس الاندماج فيها. وهو تغييب للشعب الفلسطيني ـ ماديا وحضاريا وسياسيا ـ وقطع لصلته بوطنه ، ونفي لحقه التاريخي فيه. وهو كذلك تجاهل للأمة العربية وأهدافها المشروعة بالاستقلال والوحدة والتقدم ، وتنكر للعهود التي قطعت لها في الحرب ، بل هو تآمر على استقلالها ووحدتها ومستقبلها. ويندرج هذا الوعد في سلسلة الجرائم البشعة التي اقترفتها الدول الإمبريالية في بلدان العالم التي وقعت تحت سيطرتها ، ولعله من أبشعها على العموم.

رابعا : الانتداب البريطاني

إن إصدار وعد بلفور كان يحتم على حكومة بريطانيا أن تتولى رعاية تجسيده ، ولن يتم ذلك إلّا ببسط سلطتها على فلسطين ، ولعله صدر لهذا الغرض بالذات ، أي التمهيد لوضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني ، وإخراجها من حلبة المنافسة الدولية. فلدى إصدار هذا الوعد ، لم تكن الحركة الصهيونية في وضع يؤهلها لتحمل تبعاته ، إذ خلال الحرب توقفت المؤتمرات الصهيونية عن الانعقاد ، وتعرقلت أعمال اللجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية ، وانقطعت الهجرة اليهودية إلى فلسطين ، بل اجتاحت المستعمرات موجة من النزوح إلى الخارج. وكانت أغلبية يهود العالم لا

٣٦٢

تزال خارج الدعوة الصهيونية ، وتيارات قوية بينهم تعارضها بشدة ، ولأسباب متعددة ـ فكرية ودينية وسياسية واجتماعية. وأغلبية يهود أوروبا الشرقية ، حيث الشعور بوطأة المسألة اليهودية ، كانت تفضل الهجرة إلى الولايات المتحدة ، وليس إلى فلسطين. في المقابل كانت المقاومة العربية للمشروع الصهيوني في تصاعد ، والاستيطان اليهودي في تراجع ، وهو ليس في موقع يتيح له التصدي لهذه المقاومة. ولمجمل هذه الأسباب ، أرادت انقيادة الصهيونية من حكومة بريطانيا وضع فلسطين تحت انتدابها ، لتشكل بذلك حاضنة للمشروع الصهيوني ، ولترعى بناءه وتهيئته للتحول إلى دولة يهودية عندما تتهيّأ الظروف الذاتية والموضوعية لذلك.

وفي مؤتمر السلام ، الذي انعقد في باريس في ١ كانون الثاني / يناير ١٩١٩ م لتسوية القضايا الناجمة عن نهاية الحرب ، وبناء على نتائجها ، والذي حضره الأمير فيصل بن الحسين ، نيابة عن والده ، كان الوفد العربي في موقع الدفاع بشأن مصير «الدولة العربية» الموعودة ، بينما كانت الحركة الصهيونية في موقع الهجوم بشأن فلسطين. ومرة أخرى تكرّر المشهد ـ الهمّ العربي الاستقلال ، والصهيوني فلسطين. وبينما كان الوفد العربي ، برئاسة فيصل ، واحتضان بريطانيا ، يصارع للمشاركة في المؤتمر ، على أرضية عهود مكماهون للشريف حسين ، وبالتالي دخول العرب الحرب إلى جانب الحلفاء ، الأمر الذي عارضته فرنسا في البداية ، ثم تراجعت ، كانت الوفود الصهيونية المتعددة تسعى لتكريس وعد بلفور في وثائق المؤتمر ، وضمان تنفيذه عبر الانتداب البريطاني على فلسطين. أمّا في فلسطين ، فقد قامت إدارة عسكرية بريطانية بقيادة الجنرال كلايتون وسعت منذ البداية لتهدئة ردة الفعل العربية على وعد بلفور خاصة ، وعلى تراجع الحلفاء عن تعهداتهم للعرب بالاستقلال عامة. في المقابل ، سارع قادة العمل الصهيوني إلى إيجاد أمر واقع في فلسطين ، يضمن تجسيد وعد بلفور ، فاصطدم النشاط الصهيوني المحموم للإسراع في إعلان فلسطين وطنا قوميا يهوديا ، بالسياسة المتروية التي انتهجتها الإدارة العسكرية.

لقد ظل اتفاق سايكس ـ بيكو طيّ الكتمان إلى أن كشفت النقاب عنه حكومة روسيا السوفياتية (تشرين الثاني / نوفمبر ١٩١٧ م) ، ومع ذلك ، نفت الدولتان ـ بريطانيا وفرنسا ـ وجود مثل هذا الاتفاق للحؤول دون انقلاب العرب عليهما ، والانحياز إلى التحالف مع تركيا وألمانيا في الحرب. وذهب مهندسا الاتفاق ، سايكس الإنكليزي ، وبيكو الفرنسي ، إلى الحجاز لطمأنة الشريف حسين ، وكذبا عليه بنفيهما وجود مثل هذا الاتفاق. ولكن الأحداث اللاحقة كشفت أن بريطانيا رأت في الاتفاق مناورة مرحلية تتطلبها أوضاع الحرب ، ولم تكن قط تقصد تنفيذه بصيغته. وجاء صدور وعد

٣٦٣

بلفور في سياق نسف هذا الاتفاق ، الذي يقضي بوضع فلسطين تحت إدارة دولية. وكان واضحا أنه كي يتحقق هذه الوعد ، لا بدّ من أن تكون فلسطين تحت حكم بريطانيا ، لترعى إنشاء «الوطن القومي اليهودي» فيها. وعندما انتهت الحرب ، كشفت بريطانيا عن نواياها من الاتفاق ، وكتب رئيس حكومتها ، لويد جورج ، (كانون الأول / ديسمبر ١٩١٨ م) ، إلى رئيس حكومة فرنسا ، كليمنصو ، يقول إنه بحسب رأيه فقد اتفاق سايكس ـ بيكو صلاحيته. وتذرع لويد جورج بخروج روسيا من الحرب ، بعد أن كانت طرفا في الاتفاق. وفي البداية رفض كليمنصو هذا الطرح ، لكنه عاد وقبل به لاحقا.

وفي مؤتمر باريس للسلام (١٩١٩ م) ، كان موقف الوفد العربي ، برئاسة فيصل ، حرجا جدا ، وبالتالي في موضع الابتزاز ، فاستغلت بريطانيا ذلك إلى أقصى الحدود. وبداية رفضت فرنسا إدراج الوفد العربي في قائمة الوفود المشاركة في المؤتمر ، انطلاقا من أن إمارة الحجاز لم تكن رسميا طرفا في الحرب ، بحسب ادعاء فرنسا. وكذلك كانت وزارة الخارجية الأميركية قد أسقطتها من لائحة الدول المشاركة في المؤتمر. ولقاء دعم بريطانيا لمشاركة الوفد العربي في المفاوضات ، انتزعت من فيصل تنازلات لمصلحة المطالب الصهيونية في فلسطين ، على أمل أن يحقق الاستقلال للأجزاء الأخرى من الولايات العربية التي كانت تحت الحكم العثماني. لكن هذه الولايات كانت تحت الحكم العسكري البريطاني ، إذ إن الجيش البريطاني هو الذي احتلها ، بينما فرنسا مشغولة على الجبهة الغربية للحرب. واستعملت بريطانيا فيصل ورقة في صراعها مع فرنسا بشأن تغيير بنود اتفاقية سايكس ـ بيكو ، من جهة ، والحصول على دعم أميركا لذلك ، عبر تلبية المطالب الصهيونية ، واعتراف فيصل بذلك ، من جهة أخرى. وهكذا ، ونتيجة الأوضاع التي تشكلت بعد الحرب ، كان الوفد العربي في مؤتمر السلام تحت رحمة بريطانيا ، ولا يملك القدرة على الخروج على إرادتها ، وذلك بغض النظر عن الرغبات الذاتية.

وفي مواجهة هذا الوفد العربي الصغير ، الذي تخندق في معسكر العدو ، فكان «كالأيتام على مأدبة اللئام» ، تجمعت في المؤتمر وفود صهيونية من معظم أقطار العالم ، لكن الأكبر والأكثر أهمية بينها كان الوفد الأميركي. وإذ كان معظم هذه الوفود يحضر المؤتمر بصفة مراقب ، غير أنه كانت لها قنوات مفتوحة على الوفود الرسمية ، بصور متعددة ، وبالتالي امتلكت قدرة هائلة على ممارسة النشاط كمجموعات ضغط متعدد الجوانت والأهداف. وبصورة مفتعلة ، أثارت هذه الوفود مسألة «اللاسامية» ، وخصوصا في دول أوروبا الشرقية ، والأخطار التي تتهدد اليهود في روسيا الشيوعية.

٣٦٤

وفي باريس ، وتحت تأثير براندايس ، وزميله ، الحاخام وايز ، برز انحياز الرئيس الأميركي ولسون إلى الصهيونية. وكان تأثيره في أعمال المؤتمر كبيرا ، وخصوصا ما يتعلق منها بدعم المطالب الصهيونية في فلسطين ، التي تولى معالجتها وزير الخارجية الأميركي ، لانسنغ ، الصديق المجرب للصهيونية ، ومعه مستشار الرئيس ، هاوس ، حلقة الاتصال مع الوفد الصهيوني الأميركي. والواقع أن طروحات الرئيس الأميركي بشأن مستقبل فلسطين ، كانت تتمتع بموافقة كبيرة في أوساط المشاركين في المؤتمر ، على عكس منظوره للنظام العالمي الجديد ، الذي تضمنته المبادىء الأربعة عشر التي تقدم بها بشأن تقرير المصير للشعوب الواقعة تحت حكم أجنبي.

وفي المؤتمر ، تميّز الموقف الأميركي بازدواجية المعايير ، والتأرجح بين القيم الإنسانية والمثل العليا التي يطلقها الرئيس ولسون ، وبين الانحياز الصارخ إلى المزاعم الصهيونية ، وبالتالي النشاط المحموم الذي يمارسه أعضاء الوفد الأميركي لدعم مطالبها ، بتنسيق تام بين المستشار هاوس ووفد المنظمة الصهيونية الأميركي. وهذا إن دل على شيء ، فعلى أن واشنطن كانت تعمل لخدمة مصالحها الإمبريالية ، القائمة على «سياسة الباب المفتوح» ، من خلال تجسيد الأهداف الصهيونية في فلسطين. وليس أدق في التعبير عن ذلك من سلوك لويس براندايس في المؤتمر ، إذ وصل حدّا من الجرأة حين خاطب أعضاءه من رؤساء الدول المشاركة ، في برقية تؤكد على المطالب الصهيونية. وقد دعا ذلك المندوب الفرنسي إلى الردّ على البرقية قائلا «إن القاضي براندايس يتمتع بنظرة مبالغ بها جدا لأهميته.» والأكيد أنه ما كانت لبراندايس هذه الثقة بالنفس ، وهو قاض في المحكمة العليا الأميركية ، وليس عضوا في الوفد الأميركي إلى المؤتمر ، لو لا الدعم الذي كان يتلقاه من الإدارة الأميركية ، ومن المؤسسات المالية الصهيونية ، التي كان لها مساهمة كبرى في النصر الذي حققه الحلفاء في الحرب. وبناء عليه ، رأى المؤتمرون إرسال رد إلى براندايس ، يشرحون فيه مواقفهم من برقيته ، وليس ذلك إلّا لأنهم كانوا يعرفون جيدا أن الرد إلى براندايس هو رسالة إلى الإدارة الأميركية. وإزاء الدعم الكبير الذي كانت تتمتع به الصهيونية في المؤتمر (بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا واليابان) ، كانت بريطانيا تمارس الضغط والابتزاز على الأمير فيصل ، وتخوفه من الأطماع الفرنسية في سورية ، وتحثه على المرونة إزاء المشروع الصهيوني. وتدعي الأوساط الصهيونية أن حاييم وايزمن ، بوساطة بريطانية ، توصل إلى اتفاق مع فيصل. وبحسب الاتفاق ، قبل فيصل من حيث المبدأ وعد بلفور ، شرط تحقيق المطالب التي ضمّنها في مذكرة إلى الحكومة البريطانية في ٤

٣٦٥

كانون الثاني / يناير ١٩١٩ م ، والمتعلقة باستقلال البلاد العربية في حدود معينة. وأورد فيصل في نص الاتفاق ، الذي وقعه مع وايزمن ، أن أيّ انحراف عن تلك الشروط يجعله في حل منه. وقد نشرت الأوساط الصهيونية نصّ الاتفاق سنة ١٩٣٦ م ، أي بعد موت فيصل. أمّا المصادر العربية فتنفي وجود مثل هذا الاتفاق. وتؤكد شخصيتان كانتا مع فيصل في حينه (عوني عبد الهادي وفايز الغصين ، وكلاهما فلسطيني) أن فيصل لم يوقع قط مثل هذا الاتفاق ، وأن لا علم لهما بذلك أبدا.

وقدم الوفد العربي مذكرة إلى المجلس الأعلى لمؤتمر السلام في باريس ، حدّد فيها أهداف العرب بالاستقلال والوحدة ، وذلك في المنطقة الواقعة بين لواء الإسكندرون والمحيط الهندي. وأكدت المذكرة على عناصر الوحدة العربية ـ اللغة والدين والتراث ـ وعلى تطلعهم إلى الحرية ، وإمكان تحقيق ذلك ، ذاتيا وموضوعيا ، على أرضية الوعي القومي الذي يمتلكه العرب ، والطاقات المتوفرة لديهم ، والوسائل الحديثة الموجودة في بلادهم. وتضمنت المذكرة فقرة صيغت بلهجة تصالحية حذرة مع المشروع الصهيوني ، فلم ترفضه تماما ، لكنها أكدت على حقوق العرب في فلسطين. وأشارت إلى ضرورة إقامة إدارة في هذا البلد ، بإشراف دولة كبرى ، تضمن ازدهاره ، وتحافظ على التوازن بين الأجناس والأديان فيه. ودعت في النهاية الدول الكبرى إلى تسهيل استقلال العرب ووحدتهم ، والتخلي عن التنافس بينها ، والبحث عن المكاسب في الوطن العربي. وواضح أن أيدي موظفي الخارجية البريطانية كانت وراء هذه الصيغ ، التي تلمح ولا تصرح ، لكنها لا تخفي مراميها.

في المقابل قدم الوفد الصهيوني ، الذي كان يرئسه حاييم وايزمن وناحوم سوكولوف ، مذكرة طالبت الدول ب «الاعتراف بالحق التاريخي للشعب اليهودي في فلسطين ، وبحق اليهود في إعادة بناء وطنهم القومي فيها.» وفي ملحق المذكرة ، ورد تفصيل حدود الرقعة الجغرافية التي تطالب بها المنظمة الصهيونية ، كالتالي :

إن حدود فلسطين يجب أن تسير وفقا للخطوط العامة المبينة أدناه. تبدأ في الشمال عند نقطة على شاطىء البحر الأبيض المتوسط بجوار مدينة صيدا وتتبع مفارق المياه عند تلال سلسلة جبال لبنان حتى تصل إلى جسر القرعون. فتتجه منه إلى البيرة متبعة الخط الفاصل بين حوضي وادي القرعون ووادي التيم ، ثمّ تسير في خط جنوبي متبعة الخط الفارق بين المنحدرات الشرقية والغربية لجبل الشيخ (حرمون) حتى جوار بيت جن ، وتتجه منها شرقا بمحاذاة مفارق المياه الشمالية لنهر مغنية حتى تقترب من سكة حديد الحجاز إلى الغرب منها.

ويحدها شرقا خط يسير بمحاذاة سكة حديد الحجاز وإلى الغرب منها

٣٦٦

حتى ينتهي في خليج العقبة.

وجنوبا حدود يجري الاتفاق عليها مع الحكومة المصرية.

وغربا البحر الأبيض المتوسط. (١)

واندلع الخلاف بين فرنسا وبريطانيا ، الأولى تتشبث باتفاقية سايكس ـ بيكو ، والثانية تريد أن تتنصل منها. أمّا الولايات المتحدة ، فلم تكن المسألة تهمها كثيرا ما دامت تضمن المصلحة الصهيونية في وعد بلفور ، والانتداب على فلسطين ، الذي يجسده. ودعا ولسون إلى إرسال لجنة تقصي حقائق إلى المنطقة ، وخصوصا إلى سورية ، الأمر الذي طرحه بقوة رئيس الجامعة الأميركية في بيروت ، الدكتور هوارد بلس. ووافقت عليه بريطانيا وفرنسا ، إلّا إنهما تملصتا من المشاركة في اللجنة ، إذ من الواضح أنهما لا تنويان أخذ توصياتها في الاعتبار. وجاءت توصيات لجنة كنغ ـ كرين متعارضة جذريا مع أهداف فرنسا ، وجزئيا مع أهداف بريطانيا والمنظمة الصهيونية. ولعل هذا ما دعا الرئيس ولسون إلى صرف النظر عن اللجنة وتوصياتها. وعلى كل حال ، فقبل أن تنهي اللجنة عملها وتعود ، كان المؤتمرون قد أقرّوا معاهدة فرساي (٢٨ حزيران / يونيو ١٩١٩ م) ، وميثاق عصبة الأمم ، الذي تضمن في بنده الثاني والعشرين مبدأ وضع مناطق وشعوب تحت انتداب الدول الكبرى ، بذريعة إعدادها للاستقلال. ووقع فيصل على المعاهدة ، لكن الشريف حسين رفضها ، لأنها لم تتضمن التزاما بمنح العرب استقلالهم.

وفي سان ريمو ، وبعد مفاوضات طويلة ، حصلت بريطانيا على ما تريد. وتراجعت فرنسا عن المطالبة بتنفيذ اتفاقية سايكس ـ بيكو ، ولكن لمصلحة اتفاقية أخرى ، أكثر سوءا بالنسبة إلى الوطن العربي. فقد تنازلت فرنسا عن منطقة الموصل في العراق لبريطانيا ، ووافقت على انتداب بريطاني على فلسطين وشرق الأردن والعراق ، وعلى أن يتضمن صك الانتداب على فلسطين وعد بلفور. وفي مقابل ذلك ، وافقت بريطانيا على منح فرنسا الانتداب على سورية ولبنان. وأقرّ مؤتمر سان ريمو في ٢٤ نيسان / أبريل ١٩٢٠ م انتداب بريطانيا على العراق وفلسطين (على أساس وعد بلفور) ، وانتداب فرنسا على سورية ولبنان. وبذلك اختفت مناطق النفوذ في اتفاقية سايكس ـ بيكو (أوب) ، وحل محلها انتداب مباشر. وترك المؤتمر لفرنسا وبريطانيا تحديد الحدود بين انتدابيهما. وتضمنت معاهدة سيفر (١٠ آب / أغسطس ١٩٢٠ م) بنودا تؤكد الانتداب ، وكذلك معاهدة لوزان في ٢٨ أيلول / سبتمبر ١٩٢٣ م ،

__________________

(٦) «القضية الفلسطينية والخطر الصهيوني» ، مصدر سبق ذكره ، ص ٧٦.

٣٦٧

التي في إثرها أصبح الانتداب ساري المفعول بصورة رسمية ، مع أنه جرى تنفيذه بصورة عملية منذ سنة ١٩٢٠ م. وفي عصبة الأمم ، تمت الموافقة على الانتداب فقط في ٢٤ تموز / يوليو ١٩٢٢ م.

لم تشارك الولايات المتحدة في مؤتمر سان ريمو ، ولا حتى في معاهدة سيفر أو لوزان ، لكنها وافقت رسميا على وعد بلفور ، عبر قرار مشترك لمجلس الشيوخ والنواب في ٣٠ حزيران / يونيو ١٩٢٢ م ، ووقعه الرئيس هاردنغ (٢٠ أيلول / سبتمبر ١٩٢٢ م). غير أن الانتداب ، على الرغم من إقراره في عصبة الأمم ، فإنه لم يدخل حيز التنفيذ الرسمي ، نظرا إلى أن تركيا رفضت معاهدة سيفر. وبعد ثورة مصطفى كمال ، وضمان سلامة الأراضي التركية ، وقعت حكومة كمال الثورية معاهدة لوزان ، وتنازلت بذلك عن الولايات العربية التي كانت تابعة للسلطنة العثمانية ، والتي فصلت عنها عمليا منذ سنة ١٩١٨ م. ودخل الانتداب البريطاني على فلسطين في الاتفاق الأنكلو ـ أميركي في ٣ كانون الأول / ديسمبر ١٩٢٤ م ، إذ ضمنت الولايات المتحدة امتيازات لشركات أميركية ، أهمها امتياز للتنقيب عن النفط في النقب ، لشركة ستاندارد أويل. وفقط بعد حصول هذه الشركة على الامتياز المذكور ، تعهدت واشنطن بالموافقة على نص ميثاق الانتداب البريطاني على فلسطين في عصبة الأمم ، والذي يتضمن في متنه وعد بلفور. وكانت مجموعة روتشيلد البريطانية ، بمشاركة مالية أميركية ، تمول مؤسسات استيطانية صهيونية ، مثل : شركة كهرباء روتنبرغ ، وشركة بورتلاند للأسمنت (نيشر) ، وشركة بوتاس البحر الميت ، ومياه السامرة.

أ) لجنة المندوبين الصهيونية

بينما التحالف البريطاني ـ الصهيوني يخوض المعركة السياسية ـ الدبلوماسية في المؤتمرات الدولية التي عقبت نهاية الحرب ، راح يسعى لإيجاد واقع على الأرض ، يمهد السبيل أمام تحقيق أهدافه ، حتى قبل استكمال احتلال فلسطين وبلاد الشام. وساعده على ذلك وقوع المنطقة تحت الاحتلال البريطاني ، وبالتالي إدارته العسكرية. وفي الواقع ، فإنه قبل أن تقر الوثائق في المعاهدات بين الأطراف المعنية ، وبناء عليه ، في عصبة الأمم ، كانت بريطانيا تضع الأسس للترتيبات التي ينطوي عليها وعد بلفور ، وعلى رأسها الانتداب البريطاني على فلسطين ، الذين يضمن تجسيده. وبناء على تعهداتها للحركة الصهيونية ، ولكي تضمن دعم الولايات المتحدة لمشاريعها ، سارعت الحكومة البريطانية إلى إرسال لجنة صهيونية إلى فلسطين ، في ربيع سنة ١٩١٨ م ، بينما نصفها الشمالي لم يحتلّ بعد ، للتنسيق مع الإدارة العسكرية في تهيئة الأوضاع

٣٦٨

لإنشاء «الوطن القومي اليهودي» فيها ، من جهة ، ولتوجيه نشاط المؤسسات الصهيونية نحو هذه الغاية ، وبالسرعة القصوى ، من جهة أخرى. لكن هذا النشاط المشترك ، بين حكومة بريطانيا والمنظمة الصهيونية ، اصطدم بالمقاومة العربية التي راحت تتصاعد ضده.

وكانت لجنة المندوبين الصهيونية برئاسة حاييم وايزمن. واعتذر براندايس عن المشاركة فيها ، تحاشيا للإحراج ، لأن الولايات المتحدة لم تعلن الحرب على تركيا. وعينت حكومة لندن أورمسبي ـ غور ، ضابط ارتباط بين اللجنة والإدارة العسكرية في فلسطين ، كونه ضابطا في الجيش البريطاني معروفا بميوله الصهيونية. وفي الطريق عرجت اللجنة على القاهرة ، حيث التقت عددا من قيادات العمل القومي العربي ، وحاولت تهدئة مخاوفهم من الأهداف الصهيونية. ومن مصر توجهت إلى فلسطين ، وراحت تتصرف ، بناء على التفويض من حكومة لندن ، كحلقة اتصال بين الإدارة العسكرية والمستوطنين الصهيونيين ، وكمرشد لتلك الإدارة بشأن ما يتوجب عمله للتسريع في تجسيد وعد بلفور. وبموازة الإدارة العسكرية ، شكلت اللجنة دوائر متعددة لشؤون السياسة والدعاية والزراعة والاستيطان والهجرة والإحصاء والتجارة والعمل والمال. وبذلك أصبحت في الواقع سلطة موازية للإدارة العسكرية ، بل ومتناقضة معها. وكان على رأسها في البداية حاييم وايزمن ، ثم خلفه الدكتور إيدار ،

ومن بعده مناحم أوسشكين.

وبادر وايزمن ، يرافقه غور ، إلى زيارة فيصل في العقبة ، ومعه لورنس في أيار / مايو ١٩١٨ م ، لطمأنته من المشروع الصهيوني في فلسطين. وتدّعي المصادر الصهيونية أن فيصل لم يعترض على ذلك ، شريطة صيانة حقوق شعبها والحفاظ على عروبتها. وبعد ذلك ، واستنادا إلى التفويض الذي تحمله من حكومة بريطانيا ، راحت لجنة المندوبين الصهيونية تتصرف كأنها «حكومة في طور التكوين». وفي ١٨ كانون الأول / ديسمبر ١٩١٨ م ، عقدت مؤتمر يافا للمستوطنين ، بعد أن وضعت يدها على مكتب فلسطين ، الذي أسس سنة ١٩٠٨ م. وفي المؤتمر ، جرى تشكيل جمعية تأسيسية. وحمل وايزمن معه مطالب المستوطنين ، كما عبّرت عنها هذه الجمعية إلى مؤتمر باريس للسلام ، ومنها :

أ ـ الاعتراف بفلسطين وطنا قوميا يهوديا.

ب ـ منح الشعب اليهودي بأسره صوتا حاسما وفعالا في تقرير شؤون البلد.

ج ـ الإصرار على وصاية بريطانيا وحمايتها.

د ـ ضرورة إنشاء جمعية للاستعمار اليهودي تحظى باعتراف عصبة الأمم

٣٦٩

وتتمتع بسلطات واسعة في حقل تنظيم الهجرة اليهودية إلى فلسطين.

ه ـ الاستيلاء على أملاك الدولة وأراضيها بحجة تطويرها واستصلاحها.

و ـ الحصول على امتيازات حكومية لمد الخطوط الحديدية وتوسيع الموانىء وتنفيذ مشاريع الري في البلد.

ز ـ أن يعهد إلى جمعية الاستعمار بإدارة المصرف الزراعي التابع للحكومة العثمانية.

ح ـ أن تمنح الجمعية بالذات حقوقا استثنائية لاستغلال الموارد الطبيعية واستخراجها من باطن الأرض. (١)

لم يمرّ وقت طويل على هذه اللجنة ، التي كانت على عجل من أمرها لتحويل فلسطين إلى «أرض ـ إسرائيل» (الأرض والشعب والسوق) ، من دون أن تمتلك المؤهلات الذاتية لذلك ، ومن دون أن تتوفر الشروط الموضوعية في البلد ، حتى تسببت في توتير العلاقة مع الإدارة العسكرية البريطانية. ويبدو أن حكومة لندن لم تضع القادة العسكريين في فلسطين بصورة الوضع الذي وصلت إليه مع الحركة الصهيونية ، أو أن هؤلاء لم يكونوا مقتنعين بسياسة تلك الحكومة ، ولذلك لم يتجاوبوا تماما مع المطالب الصهيونية ، ونصحوا بضرورة التأني في اتخاذ الإجراءات. وحاولت الإدارة العسكرية في البداية التعتيم على وعد بلفور ، واستغلال التناقضات بين الأهداف الصهيونية والتطلعات العربية ، وتخفيف حدة التوتر الناجم عن سلوك اللجنة الصهيونية. لكن أعضاء هذه اللجنة كانوا على عكس ذلك تماما. لقد وعوا مبكرا أن مشروعهم في فلسطين لن يمرّ برضى سكانها الأصليين ، فطرحوا أفكارا متعددة لإخضاعهم لإملاءات المشروع الصهيوني ـ ترحيلهم وإكراههم على قبوله وتغييبهم السياسي وتجاهلهم ... إلخ. لقد كان همهم «تهويد فلسطين» ، وبالسرعة القصوى ، وإذا لم يكن ذلك ممكنا باليهود ، لقلة عددهم في البلد ، فالخيار الأفضل الثاني هو تغييب سكانها الأصليين عنها ، وبالتالي قطع الصلة بين الشعب الفلسطيني وأرضه الوطنية ـ فلسطين.

وفي الوقت نفسه ، طالبت هذه اللجنة بنشر وعد بلفور ، وتوضيح موقف حكومة بريطانيا منه علنا ، وإلزام الفلسطينيين بقبوله ، ولو قسرا. وطرحت لجنة المندوبين مطالب كثيرة ، بدت غير معقولة في الأوضاع القائمة ، وناشدت الإدارة العسكرية الزعماء الصهيونيين التروي لتهيئة الأوضاع ، الأمر الذي اعتبره هؤلاء مناورة للتملص من التعهدات التي قطعتها حكومة بريطانيا لهم. وكان الفرع الصهيوني الأميركي ،

__________________

(٧) المصدر نفسه ، ص ٧٥.

٣٧٠

بزعامة براندايس ، أكثر تصلبا في المطالبة بتنفيذ تلك التعهدات ، حتى لو أدّى ذلك إلى إحراج الحكومة البريطانية ، التي ، كما يبدو ، لم يكن كل أعضائها متحمسين لوعد بلفور بالدرجة نفسها. وطالبت اللجنة الصهيونية إعلان العبرية لغة رسمية في البلاد ، والعلم الصهيوني علم البلاد ، وتغيير اسم فلسطين إلى «أرض ـ إسرائيل» ، وتشكيل إدارة للأراضي والتوطين وقوة عسكرية وشرطة مدنية ، وإلزام الإدارة العسكرية بالتشاور مع اللجنة الصهيونية في كل الشؤون السياسية المتعلقة بالبلد ، وفي المحصلة خلق نواة «الدولة اليهودية». وإزاء هذا التصرف الأرعن ، توترت العلاقة بين هذه اللجنة والإدارة العسكرية ، فاشتكت اللجنة لحكومة بريطانيا سلوك رجال هذه الإدارة ، فأصدرت لهم الأوامر بالتنسيق التام مع قادة اللجنة ، واستدعت بعضهم إلى لندن ، ونقلت آخرين من مواقعهم ، وأخيرا استبدلت الإدارة العسكرية كلها بأخرى مدنية (١٩٢٠ م).

وعلى أرضية الاحتكاك بين لجنة المندوبين الصهيونية والإدارة العسكرية البريطانية ، التي كانت تابعة لقيادة الجنرال أللنبي العامة ، تقلب عدد من الجنرالات على الحكم العسكري في فلسطين. فبداية تولى الجنرال كلايتون منصب المدير العسكري ، وكان يشغل سابقا منصب «الضابط السياسي العام» في «المكتب العربي» في القاهرة. فعيّن الكولونيل ستورز حاكما للقدس (كانون الأول / ديسمبر ١٩١٧ م). ثم جرى استبدال كلايتون بالجنرال موني (٥ نيسان / أبريل ١٩١٨ م) ، الذي نحي عن منصبه تحت ضغط المنظمة الصهيونية ، بعد أن وجه إلى سلوكها نقدا شديدا لضيق ذرعه بفجاجة تصرف أعضاء لجنة المندوبين. وفي آب / أغسطس ١٩١٩ م ، عيّن الجنرال واطسون خلفا لموني ، لكنه لم يكن أوفر حظا ، فاستبدل في كانون الأول / ديسمبر ١٩١٩ م بالجنرال بولز ، الذي لم يعجب لجنة المندوبين أيضا. وبسحبه من منصبه ، وتعيين هربرت سامويل (تموز / يوليو ١٩٢٠ م) مندوبا ساميا في فلسطين ، انتهى عمل الإدارة العسكرية ، وبدأت الإدارة المدنية ، وبالتالي تجسيد سياسة الانتداب في فلسطين ، قبل ان يقر ذلك في عصبة الأمم ، أو يتمّ الاتفاق النهائي عليه بين فرنسا وإنكلترا رسميا ، وقبل أن يتم التوصل إلى معاهدة نهائية مع تركيا.

لقد وقعت الإدارة العسكرية البريطانية في فلسطين بين مطرقة اللجنة الصهيونية وسندان المقاومة العربية. ولم تكن تلك الإدارة ترفض وعد بلفور من منظور استراتيجي ، بقدر ما وجدت أن التكتيكات الصهيونية تؤدي إلى نتائج عكسية ، وذلك نظرا إلى المقاومة العربية المتصاعدة ، من جهة ، ولأن أوضاع البلد الاقتصادية

٣٧١

والاجتماعية لم تكن مهيّأة للتجاوب مع المطالب الصهيونية المتسرعة من جهة أخرى. فقادة اللجنة الصهيونية ، متسلحين برسالة من حكومة بريطانيا إلى الإدارة العسكرية ، وعلى أرضية وعد بلفور ، والتفاهم مع بعض أعضاء حكومة لندن ، من دون البعض الآخر ، كما خطط سايكس وبلفور ، وبالاستناد إلى الموقف المتطرف للفرع الأميركي من المنظمة الصهيونية ، كما عبر عنه براندايس ، كانوا يضغطون على الإدارة العسكرية لتحويل فلسطين إلى «وطن قومي يهودي» بأسرع ما يمكن. واشتكى قادة الإدارة العسكرية من سلوك اللجنة الصهيونية إلى حكومتهم ، لكنها كانت منحازة إلى الصهيونية ، ولديها حسابات اقتصادية وتمويلية تستوجب منها استرضاء الولايات المتحدة. لقد أرادت اللجنة الصهيونية توظيف الإدارة العسكرية ، بإمكاناتها السياسية والقمعية ، في خدمة البرنامج الصهيوني ، الأمر الذي اعتبرته الإدارة العسكرية عملا طائشا ، قد يكلف بريطانيا ثمنا باهظا. فعمدت إلى التباطؤ ، الأمر الذي أدّى إلى توتير علاقتها مع اللجنة الصهيونية ، وبالتالي حدوث حالة من عدم الثقة بين حكومة لندن والمنظمة الصهيونية. وأخيرا ، استبدلت الحكومة البريطانية الإدارة العسكرية بأخرى مدنية ، على رأسها هربرت سامويل ، أحد أهم أقطاب الصهيونية في بريطانيا.

لقد كان على رأس هموم القيادة العسكرية البريطانية في الشرق الأوسط تأمين قناة السويس ، وفي هذا السياق رأت أهمية فلسطين الاستراتيجية. وإزاء المقاومة العربية لوعد بلفور ، راح أركان تلك القيادة يشككون في سلامة قرار حكومتهم جعل فلسطين «وطنا قوميا يهوديا». ولم يتعاطف كلايتون مع المشروع الصهيوني ، فنقل إلى القاهرة ليتولى إدارة المكتب السياسي هناك. وعندما عبّر عن شكوكه بشأن المشروع الصهيوني أعيد إلى لندن. وكذلك فعل خلفه الجنرال موني ، فاضطر إلى الاستقالة. أمّا الجنرال بولز ، فعندما طلب صراحة من وزارة الخارجية سحب اللجنة الصهيونية ، تسبب باستبدال الإدارة العسكرية ليحل محلها «المندوب السامي» ، بإدارته المدنية ، وليبدأ إعداد فلسطين كي تصبح «أرض ـ إسرائيل» ، عبر تهويدها. وكان من أهم نقاط الخلاف بين اللجنة الصهيونية والإدارة العسكرية ، إصرار الأولى على تشكيل كتائب عسكرية ، تدعم مشروعها الاستيطاني بالقوة المسلحة ، ورفض الثانية لذلك ، على اعتبار أنه يجعل وجودها لزوم ما لا يلزم. ولكن الإدارة العسكرية خسرت معركتها السياسية ، فأبعدت عن تولي شؤون فلسطين ، لتفسح في المجال أمام اللجنة الصهيونية التقدم نحو أهدافها عبر إدارة الانتداب.

وكان الفشل كذلك من نصيب لجنة كنغ ـ كرين الأميركية ، التي تشكلت في أثناء انعقاد مؤتمر باريس ، بمبادرة من الرئيس ولسون ، وبالاستناد إلى اقتراح تقدم به

٣٧٢

الدكتور هوارد بلس (رئيس الجامعة الأميركية في بيروت). وغادرت اللجنة إلى الشرق الأوسط ، وعادت بعد أن انفضّ المؤتمر ، ولم يكترث أحد لتقريرها أو لتوصياتها ، فظلت نسيا منسيا. ولعل أهم عوامل تجاهل توصيات هذه اللجنة كونها تتعارض مع الأهداف الصهيونية ، وكذلك مع المخططات البريطانية والفرنسية ، وتدعو إلى تعزيز الدور الأميركي في ترتيبات ما بعد الحرب في الشرق الأوسط. وبينما أكدت اللجنة رغبة العرب القوية في الاستقلال في بلادهم الموحدة ، ورفضهم الانتداب البريطاني والفرنسي ، وكذلك معارضتهم الشديدة للمشروع الصهيوني ، فقد أشارت إلى إمكان قبولهم بانتداب أميركي. ومع أن أعمال هذه اللجنة لم تحقق فائدة عملية ، فإن تقريرها يبقى مهما لأنه يعبر عن الموقف العربي العام. (١)

ب) ترسيم الحدود

بينما كانت لجنة كنغ ـ كرين تستطلع أراء السكان في بلاد الشام بشأن المستقبل الذي يتطلعون إليه ، كانت فرنسا وبريطانيا تتصارعان بشأن تقسيم المشرق العربي بينهما ، بعد أن وضعتا اليد على المغرب وشمال إفريقيا. ولم يكن أيّ منهما يرغب في الالتزام باتفاقية سايكس ـ بيكو. فبريطانيا أرادت أن تنتزع منطقة الموصل من فرنسا ، كما أرادت إخراج فلسطين من إطار الإدارة الدولية لتضعها تحت انتدابها ، وبالتالي تجسد فيها وعد بلفور ، وكذلك ضمّ شرقي الأردن إلى هذا الانتداب ليكون هناك تواصل برّي بين الأراضي الواقعة تحت حكمها. أمّا فرنسا فأرادت كل سورية ، وليس لبنان فقط. وفي أيلول / سبتمبر ١٩١٩ م ، تقدم لويد جورج بمقترحات تعترف فيها بريطانيا بانتداب فرنسا على سورية ، في مقابل اعتراف فرنسا بانتداب بريطانيا على فلسطين والأردن والعراق. وتضمنت مقترحات لويد جورج سحب القوات البريطانية من سورية ، لتحل محلها قوات فرنسية على الساحل ، وعربية في الداخل ، بحسب الحدود التي تنص عليها اتفاقية سايكس ـ بيكو. وطرح الاتفاق على المجلس الأعلى لمؤتمر باريس ، بعد أن قبلت به فرنسا ، فووفق عليه في ١٥ أيلول / سبتمبر ١٩١٩ م ، من دون الالتفات إلى لجنة كنغ ـ كرين وتوصياتها ، وترك للدولتين ـ فرنسا وبريطانيا ـ رسم الحدود بين مناطق انتدابيهما.

وأخذ ترتيب الحدود بين الانتدابين ـ البريطاني والفرنسي ـ في بلاد الشام فترة

__________________

(٨) راجع : «الموسوعة الفلسطينية» ، القسم الثاني ، المجلد ٢ (بيروت ، ١٩٩٠) ، ص ١٠٠٢ ـ ١٠٠٣.

٣٧٣

طويلة ، ودخلت في ترسيمها اعتبارات متعددة ، أعطت الأولوية لمصالح الدولتين الاستعماريتين ، وكذلك لمتطلبات المشروع الصهيوني. أمّا السكان المحليون فقد أهملت مصالحهم وعلاقاتهم وتطلعاتهم السياسية. وبالنسبة إلى بريطانيا ، كان الاعتبار الأول حماية قناة السويس ، الأمر الذي يجعل فلسطين على نفس الدرجة من الأهمية مثل مصر ، كما كان الخبراء العسكريون يطرحون. وكذلك أرادت بريطانيا أن تضمن للمشروع الصهيوني مستلزمات التحول إلى ظاهرة قابلة للحياة ، من الأراضي الخصبة والمياه والمرافق والموارد الطبيعية. وبالنسبة إلى فرنسا ، كما إلى بريطانيا ، أدّت المطامع الاقتصادية دورا مهما ـ موانىء وشبكات مواصلات وموارد طبيعية وثروات معدنية ... إلخ. وبعد مفاوضات طويلة ، تمّ الاتفاق في ٢٣ كانون الأول / ديسمبر ١٩٢٠ م على رسم الحدود ، ثم جرى عليها تعديل لتستجيب أكثر للمطالب الصهيونية ، وخصوصا في الشمال الشرقي ، حيث منابع نهر الأردن. ولكن هذه الحدود لم تثبت على الأرض حتى سنة ١٩٢٦ م. وعلى العموم نجحت بريطانيا في قضم مناطق حدودية من سورية ، وضمها إلى فلسطين ، لتصبح لاحقا من نصيب الكيان الصهيوني الذي يجري العمل على تأسيسه.

لم ترض الصهيونية بالحدود التي رسمتها اتفاقية ٢٣ كانون الأول / ديسمبر ١٩٢٠ م ، وشجعتها بريطانيا على المطالبة بتوسيعها ، وخصوصا في الزاوية الشمالية ـ الشرقية ، إذ لم تكن هذه الاتفاقية تضم كل بحيرة طبرية وسهل الحولة ومنابع الأردن. وبعد أخذ ورد ، تمت اتفاقية ٣ شباط / فبراير ١٩٢٢ م بين بريطانيا وفرنسا ، وفيها تعديل على الحدود السابقة ، فأصبحت الحدود السياسية لفلسطين تحت الانتداب. وفي التعديل دخلت كل بحيرة طبرية في فلسطين ، كذلك قرية الحّمّة الواقعة على نهر اليرموك ، إلى الجنوب الشرقي من البحيرة. كما جرى توسيع حدود سهل الحولة شرقا ، بحجة حفر قنوات مياه ، ودخلت بحيرة الحولة كلها في فلسطين ، وكذلك تمددت الحدود في الشمال لتضم منابع الأردن كلها تقريبا ، وخصوصا نهر دان (تل القاضي) ، بالقرب من بانياس ، وبعيدا داخل لبنان في مجرى الحاصباني. ويبرز هذا التعديل على صورة نتوء شمال فلسطين (إصبع الجليل) ، طوله نحو ٢٢ كلم ، وعرضه ١٤ كلم ، وتبلغ مساحته ٣٢٥ كلم (٢). وواضح أن هذا التعديل يستهدف منابع نهر الأردن ، إضافة إلى المسطّحين المائيين العذبين ـ طبرية والحولة ـ مع ما يلحق بذلك من الأراضي الخصبة.

وهكذا تمّ ترسيم حدود فلسطين وإقرارها في الوثائق الدولية ، على أساس المصالح الاستعمارية والصهيونية ، من دون الالتفات إلى رغبات السكان المحليين ،

٣٧٤

أو مراعاة مصالحهم وممتلكاتهم على جانبي الخطوط التي وضعت. والحدود مع الأردن ، وضعتها بريطانيا ، بما أملتها عليها التزاماتها في وعد بلفور ، وما نجم عنها لاحقا من مقاومة وصراع ، وبالتالي تسويات مشوهة. وقد أوجد ترسيم الحدود الكثير من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية ، أدّت إلى نشوب أعمال عنف ، الأمر الذي استدعى عقد اتفاقية «حسن جوار» (١٩٢٦ م) ، بين فلسطين وسورية للتخفيف من النتائج السلبية لتلك الخطوط ، وتهدئة الأوضاع الأمنية ، في منطقة لم تفرض السلطة المركزية سيطرتها الكاملة عليها إلّا بعد مرور فترة طويلة على إعلان الانتداب.

ج) مقاومة الانتداب

في سلوكها إزاء العرب ، كانت حكومة لويد جورج تخادع وتحاول التمويه على ازدواجية مواقفها وإخفاء أسرارها. لكن الأخبار راحت تتسرب عن هذا الخداع ، ومن مصادر متعددة. فثار العرب ، وعمدت هي من جانبها إلى النفاق في تبديد مخاوفهم. وبعد الكشف عن وعد بلفور ، سارعت حكومة بريطانيا إلى إبلاغ الشريف حسين تصميمها على ألّا يخضع شعب لآخر في فلسطين ، وأنها لن تفعل ما من شأنه الإجحاف بحق سكانها العرب. وبناء عليه ، طمأن الشريف القادة العرب إلى حسن نوايا بريطانيا ، ودعا المتطوعين العرب إلى الاستمرار في القتال إلى جانبها. وكان هؤلاء المتطوعون قد بدأت تساورهم الشكوك في جدوى التحالف مع دولة تخطط سرّا لتقسيم بلادهم ، والسيطرة عليها بعد الحرب ، واقتطاع جزء منها ليكون «وطنا قوميا يهوديا». وراحت التصريحات تتوالى لإزالة الشكوك العربية ، وخصوصا أن الإعداد للهجوم الأخير على الجيش العثماني في بلاد الشام كان على قدم وساق. وفي ٧ تشرين الثاني / نوفمبر ١٩١٨ م ، أصدرت فرنسا وبريطانيا تصريحا ، جرى توزيعه في البلاد العربية ، يعلن

أن السبب الذي من أجله حاربت فرنسا وإنكلترا في الشرق ... إنما هو لتحرير الشعوب التي رزحت أجيالا طوالا تحت مظالم الترك تحريرا نهائيا تاما وإقامة حكومات وإدارات وطنية تستمد سلطتها من اختيار الأهالي الوطنيين لها اختيارا حرّا. (١)

ومنذ أن تسربت المعلومات عن وعد بلفور ، بدأ الفلسطينيون يعبرون عن رفضهم له ومخاوفهم من نتائجه بصور متعددة. وتشكلت في البلاد لجان إسلامية ـ

__________________

(٩) «القضية الفلسطينية والخطر الصهيوني» ، مصدر سبق ذكره ، ص ٢١٢.

٣٧٥

مسيحية ، انطلاقا من الوعي الذي ساد أن المشروع الصهيوني ينطلق من أرضية يهودية. ومن هنا ، رأى رجال هذه اللجان في بريطانيا طرفا ثالثا ، تجري مناشدته التخلي عن دعم هذا المشروع ، من أجل الحفاظ على الصداقة مع العرب. وكانت هذه اللجان خطوة أولى نحو التنظيم السياسي ، من جهة ، وتعميق الوعي بطبيعة المشروع الصهيوني ، من جهة أخرى ، الأمر الذي أدّى إلى وقوع صدامات عنيفة مع المستوطنين ، على الرغم من وجود الحكم العسكري البريطاني. وقد تشكلت تلك اللجان من الوجهاء والأعيان والملاكين ورجال الدين والمثقفين ورجال الأعمال. وإذ ظلت ترفع شعار الاستقلال والوحدة العربية ، فإنها لم تدع إلى مقاومة الاحتلال البريطاني ، وإنما شدّدت على مناشدته الوقوف في وجه الأهداف الصهيونية ، وعلى دعوة حكومة بريطانيا إلى الوفاء بتعهداتها للعرب ، عشية اندلاع الحرب وفي أثنائها. وفي ظل الاحتلال ، وبينما راحت الحركة القومية العربية ، في دمشق ، تركز اهتمامها على الاحتلال الجديد ، بهدف تحقيق الاستقلال ، راحت الحركة الوطنية الفلسطينية مع الوقت تركز على درء الأخطار الصهيونية ، التي تهدد مستقبل البلد وسكانه.

وردّا على مؤتمر يافا الصهيوني ، الذي دعت إليه لجنة المندوبين (كانون الأول / ديسمبر ١٩١٨ م) ، وخرج بقرارات بعيدة الأثر بالنسبة إلى «تهويد فلسطين» الفوري ، عقد المؤتمر العربي الفلسطيني الأول في القدس في ٢٧ كانون الثاني / يناير إلى ١٠ شباط / فبراير ١٩١٩ م. وقد تنادى المؤتمرون للنظر في المطالب الفلسطينية من مؤتمر باريس للسلام ، على قاعدة تقرير المصير ، وتحديد الموقف من المشروع الصهيوني ، وذلك بعد أن راحت عناصر ذلك المشروع وغاياته تتكشف بوتيرة متسارعة ، نتيجة النشاط الذي تمارسه لجنة المندوبين برئاسة وايزمن. وكان هذا الأخير قد التقى عددا من الوجهاء العرب في يافا (٨ أيار / مايو ١٩١٨ م) ، بعد وصوله إلى فلسطين بفترة وجيزة ، وبناء على اقتراح من الإدارة العسكرية البريطانية. وحاول وايزمن تهدئة مخاوف السكان العرب من الصهيونية. لكن تسارع البيانات والتصريحات ، واستعجال مطالب لجنة المندوبين ، وسلوك المؤسسات الاستيطانية الصهيونية ، كشفت زيف كلام وايزمن مع الشخصيات الفلسطينية.

في هذه الفترة ، كانت بلاد الشام كلها تحت الحكم العسكري البريطاني. وكانت قد تشكلت في دمشق حكومة عربية بقيادة الأمير فيصل (٣٠ أيلول / سبتمبر ١٩١٩ م) ، وكانت الحركة الوطنية الفلسطينية على صلة وثيقة مع الحركة القومية العربية في دمشق. إلّا إنه إزاء النشاط الصهيوني المتزايد في فلسطين ، وانكشاف وعد بلفور ، وما نجم عنه ، راح الهمّ الفلسطيني يتركز حول المشروع الصهيوني. في المقابل ،

٣٧٦

ومع تكشف عملية الخداع التي مارسها الحلفاء على الحركة القومية العربية ، وافتضاح مؤامراتهم على تقسيم الوطن العربي إلى مناطق نفوذ لهم ، تمحور الهمّ العربي (دمشق) على الاستقلال. ومع أن لا تعارض نظريا بين الهمّين ـ العربي والفلسطيني ـ إذ لم يبرز هذا التعارض في المرحلة المبكرة ، إلّا إنه مع اشتداد الهجمة الإمبريالية ـ الصهيونية ، وتقسيم البلاد العربية ، أصبحت الحركة العربية بمجملها في موقع الدفاع عن النفس ، وتركزت أولوية كل جانب فيها على مشكلاته المباشرة. وراحت الاتصالات بين الأجزاء تضعف ، وبالتالي يأخذ النشاط طابعا إقليميا ، شكلا ومضمونا. وتظهر مؤشرات ذلك في قرارات المؤتمر العربي الفلسطيني الأول ، إذ رفعت شعارات الوحدة والاستقلال ، لكن الأساس تمحور حول الخطر الصهيوني المتفاقم ، وفي المقابل ، صار الهمّ في دمشق الحفاظ على الاستقلال في مواجهة الخطر الفرنسي الداهم.

وفي الواقع ، فإنه إزاء الوضع الذي تشكل بعد الحرب ، وعلى أرضية المشاريع المطروحة بالنسبة إلى الوطن العربي ، لم يعد الاستقلال على رأس هموم الحركة الوطنية في فلسطين ، بقدر ما أصبح همها إنقاذ البلد من براثن الصهيونية. ولا غرو أن هذه الحركة كانت معنية بتوثيق الارتباط بالحركة القومية الأم ، لكن الواقع فرض نفسه بقوة. لقد أصبحت فلسطين تحت الاحتلال البريطاني ، وتسيطر عليها إدارة عسكرية ، بينما المنظمة الصهيونية تحاول الانقضاض عليها لتهويدها. في المقابل ، كانت الحركة القومية في دمشق ، وإزاء مشاريع الانتداب ، وبعد أن أعلنت حكومتها ، تصارع على البقاء في مواجهة فرنسا الطامعة باحتلال سورية ، وذلك من دون الاستناد إلى دعم أكيد من بريطانيا ، التي راحت تعد للانسحاب منها. وبناء عليه ، أعربت قرارات المؤتمر الذي عقد في القدس عن الرغبة في اعتبار فلسطين جزءا لا يتجزأ من سورية ، بعد منحها الاستقلال الناجز ، كما عبرت عن الرفض القاطع لتهويد فلسطين على قاعدة وعد بلفور. ومع ذلك ، طلب المؤتمر من بريطانيا «الصديقة» العون على تطوير البلد وتحسين أوضاع سكانه ، ووعد بالحفاظ على علاقات طيبة مع الحلفاء. وأبلغ المؤتمر مضمون قراراته إلى مؤتمر باريس للسلام ، لتعزيز موقف الوفد العربي هناك برئاسة الأمير فيصل. كما أرسل وفدا إلى دمشق لإبلاغ الوطنيين العرب هناك مضمون القرار الذي يدعو إلى تسمية فلسطين «سورية الجنوبية» ، وتوحيدها مع «سورية الشمالية». واعتمدت قرارات المؤتمر أساسا لكل الشهادات المقدمة إلى لجنة كنغ ـ كرين الأميركية ، التي بدأت عملها في فلسطين في ١٠ حزيران / يونيو ١٩١٩ م. وتوالت بعد المؤتمر المذكرات وعرائض الاحتجاج ضد وعد بلفور وسلخ

٣٧٧

فلسطين عن سورية. ونشطت الجمعيات والهيئات والشخصيات والصحافة في تفنيد المزاعم الصهيونية بشأن «الحق التاريخي» لليهود في فلسطين. وعلى سبيل المثال ، رفعت الجمعية الإسلامية ـ المسيحية الفلسطينية عريضة إلى مؤتمر السلم العام ، أعربت فيها عن تمسك عرب فلسطين ببلدهم ورفضهم الشديد لفكرة الوطن القومي اليهودي والهجرة الصهيونية. وناشدت المؤتمر ألّا يتجاهل الحق العربي المطلق والأكثرية العربية ، فيسمح للأقلية اليهودية بالمطالبة بإنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين ، «بينما تبين جميع الحقائق الدامغة (أن اليهود ليس لهم من الأملاك أو الحقوق التاريخية أو عدد السكان في فلسطين ما يخولهم حق المطالبة والادعاء).» (١)

لكن النشاطات العربية ـ الفلسطينية الموجهة إلى مؤتمر باريس للسلام كانت في واد ، والمؤتمرون في واد آخر. وبينما العرب ينادون بالوحدة والاستقلال ، ويطالبون الحلفاء الوفاء بتعهداتهم ، كان هؤلاء يتخاصمون على تقسيم الوطن العربي بينهم. وعندما اتضحت للعرب نوايا فرنسا وبريطانيا ، ظلّوا يعلقون الأمل على الموقف الأميركي المنادي بحق تقرير المصير للشعوب. وبناء عليه ، وعندما علم العرب بقدوم لجنة كنغ ـ كرين ، سارعوا إلى عقد المؤتمر السوري العام ، الذي ضمّ مندوبين عن سورية ولبنان وفلسطين ، وذلك للاتفاق على صيغة الموقف الذي سيرفع إلى «الوفد الأميركي المحترم في اللجنة الدولية.» وعقد المؤتمر في دمشق (٣ تموز / يوليو ١٩١٩ م) ، بحضور فلسطيني كبير نسبيا (١٥ من مجموع ٦٩ عضوا). واعتبرته الحركة الوطنية في فلسطين مؤتمرها الأول ، وتبنت قراراته قاعدة للسياسة التي سارت عليها في مواجهة المشروع الصهيوني والاحتلال البريطاني. ولا غرو ، فالحركة الوطنية في فلسطين ، إزاء المشاريع الإمبريالية المطروحة ، تأكدت أن الأفق مسدود أمام أي مشروع قطري بالنسبة إليها ، وإذا كان هناك من أمل في تحقيق أهدافها ، كليا أو جزئيا ، فذلك سيكون من خلال المشروع القومي ، والتمسك بالشعارات التي رفعتها الحركة القومية العربية بالاستقلال والوحدة ، وبالتالي التنسيق مع قيادتها في دمشق.

وعلى الرغم من اتفاق بريطانيا وفرنسا على تقسيم بلاد الشام بينهما (١٩١٩ م) ، ومن ثم ترسيم الحدود بين انتدابيهما (١٩٢٠ م) ، فقد ظلت الحركة الوطنية الفلسطينية وثيقة الصلة بالحركة القومية العربية. ففي ٢٧ شباط / فبراير ١٩٢٠ م ، عقد المؤتمر العربي الفلسطيني الثاني في دمشق ، تكريسا للعلاقة القومية ، ورمزا لوحدة النضال ضد

__________________

(١٠) المصدر نفسه ، ص ٢١٤.

٣٧٨

الاحتلال الأجنبي والاستيطان الصهيوني ، وبالتالي لوحدة مصير الأمة العربية. واتخذ المؤتمر القرارات التالية :

١ ـ إن أهالي سورية الشمالية والساحلية يعتبرون سورية الجنوبية «فلسطين» قطعة متممة لسورية.

٢ ـ رفض الهجرة الصهيونية لخطرها على كيان البلاد السياسي ورفض جعل فلسطين وطنا قوميا لليهود.

٣ ـ عدم الاعتراف بأية حكومة وطنية في فلسطين قبل أن تعترف الحكومة المحلية بالمطلبين اللذين قدمهما الفلسطينيون إلى لجنة التحقيق الأميركية وهما : عدم فصل فلسطين عن سورية ومنع الهجرة الصهيونية.

٤ ـ إن الحركة الوطنية القائمة في البلاد للمطالبة باستقلال سورية بحدودها الطبيعية تهدف إلى أمرين :

ـ إخراج المحتلين من الساحل.

ـ وإخراج المحتلين من فلسطين. (١)

وإزاء التطورات المتسارعة ، اجتمع في النادي العربي بدمشق حشد من الشخصيات الفلسطينية ، وقرّر تشكيل الجمعية العربية الفلسطينية (٣١ أيار / مايو ١٩٢٠ م). وانتخبت للجمعية لجنة إدارية من : الحاج أمين الحسيني وعارف العارف ورفيق التميمي وعزة دروزة ومعين الماضي وإبراهيم عبد الهادي ، وسليم عبد الرحمن. ودعت اللجنة إلى توحيد الجمعيات الفلسطينية في إطار للعمل المشترك ، واحتجت بشدة على قرار مؤتمر سان ريمو ، القاضي بانتداب بريطانيا على فلسطين ، وعلى تعيين هربرت سامويل اليهودي مندوبا ساميا على فلسطين. كما قامت الجمعية بإذاعة بيان عام إلى مسلمي الهند والعالم أجمع ، لفتت فيه أنظارهم إلى الخطر الصهيوني. ورفعت إلى قداسة البابا احتجاجا شديد اللهجة بصدد قضية فلسطين. وشهدت سنة ١٩٢٠ انعطافا في الحركة القومية العربية بصورة عامة ، والحركة الوطنية الفلسطينية بصورة خاصة ، كان العامل الخارجي هو الأكثر تأثيرا في فرض المسارات اللاحقة.

فبعد إقرار ميثاق عصبة الأمم (٢٨ نيسان / أبريل ١٩١٩ م) الذي تضمن نظام الانتداب ، وتوقيع معاهدة فرساي (٢٨ حزيران / يونيو ١٩١٩ م) ، حملت سنة ١٩٢٠ م سلسلة من الأحداث كان لها أثر مباشر على التطورات في فلسطين. فقد بادر المؤتمر السوري العام (٨ آذار / مارس ١٩٢٠ م) ، وبعد افتضاح مخططات بريطانيا وفرنسا إزاء

__________________

(١١) المصدر نفسه ، ص ٢١٦.

٣٧٩

المنطقة ، إلى إعلان استقلال سورية بحدودها الطبيعية ، لتشمل فلسطين ، وبالتالي رفض المشروع الصهيوني ، ونودي بفيصل ملكا عليها. وسارت تظاهرات في فلسطين تأييدا للإعلان. ولذلك ، سارعت الدول الأوروبية إلى توقيع معاهدة سيفر (٢٠ نيسان / أبريل ١٩٢٠ م) ، وبعدها سان ريمو (٢٥ نيسان / أبريل ١٩٢٠ م) ، اللتين فرضتا الانتداب على بلاد الشام. وتحركت فرنسا لاحتلال سورية ، وبعد معركة ميسلون (٢٤ تموز / يوليو ١٩٢٠ م) ، التي قتل فيها وزير الدفاع ، يوسف العظمة ، سقطت الحكومة العربية في دمشق ، وغادرها فيصل. في المقابل ، أوفدت بريطانيا هربرت سامويل مندوبا ساميا على فلسطين ، ليحل محل الإدارة العسكرية هناك (تموز / يوليو ١٩٢٠ م).

نتيجة هذه المستجدات ـ انهيار الحكومة العربية في دمشق ، وترسيم الحدود بين الانتدابين (البريطاني والفرنسي) في بلاد الشام ـ عزلت الحركة الوطنية الفلسطينية عمليا عن الحركة القومية الأم في سورية. فبدأت مرحلة جديدة من العمل الوطني الفلسطيني ، سمته العامة قطرية ، حيث تمحور حول الانتداب البريطاني والمشروع الصهيوني. وإذ أدركت قيادات هذا العمل عدم قدرتها على التصدي للانتداب والحؤول دون تجسيده على أرض الواقع ، فقد تحولت إلى استنكار الإجراءات التي تتم في ظله وبرعايته دعما للمشروع الصهيوني ، والنضال لتغييرها أو لعرقلتها. وعقد المؤتمر العربي الفلسطيني الثالث (١٣ ـ ١٩ كانون الأول / ديسمبر ١٩٢٠ م) في حيفا ، برئاسة موسى كاظم الحسيني ، ليضع أسس العمل الفلسطيني في المرحلة الجديدة. وكان هذا المؤتمر الأول في سلسلة مؤتمرات دورية ، بلغ عددها سبعة ، وتوقفت سنة ١٩٢٨ م. وكان ينبثق من كل مؤتمر لجنة تنفيذية ، تكون الناطقة باسم عرب فلسطين ، وتتولى الإشراف على تنفيذ القرارات المتخذة في المؤتمرات ، وتقود الحركة الوطنية وتوجهها.

وفي ديباجة قراراته ، عمد المؤتمر الثالث إلى تذكير الحكومة البريطانية بالعهد الذي قطعته للشريف حسين ، كما أشار إلى مجمل التصريحات التي رافقت مؤتمر السلام بشأن تقرير المصير للشعوب. ونوه بمآخذ الشعب الفلسطيني على إجراءات الإدارة البريطانية الجديدة ، خلافا لرغبات السكان العرب. واستنكر الإجراءات والترتيبات التالية :

أ ـ اتخاذها صلاحية سن القوانين لنفسها أي بدون مجلس تشريعي نيابي منتخب وقبل صدور قرار جمعية الأمم النهائي.

ب ـ اعترافها بالجمعية الصهيونية كهيئة رسمية.

٣٨٠