مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ٢

الشيخ ذبيح الله المحلاتي

مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ٢

المؤلف:

الشيخ ذبيح الله المحلاتي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدريّة
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-503-037-4
ISBN الدورة:
964-503-039-0

الصفحات: ٣٧٢

أبي جعفر التفت أبو الحسن إلى أبي محمّد فقال : يا بني ، أحدث لله شكرا فقد أحدث فيك أمرا.

ومثله في الكافي والإرشاد وإعلام الورى وغيبة الطوسي وغيرها.

ومنها : ما رواه المفيد في الإرشاد والطبرسي في إعلام الورى بالإسناد عن سعد بن عبد الله ، عن جماعة من بني هاشم منهم الحسن بن الحسين الأفطس إنّهم حضروا يوم توفّي محمّد بن عليّ بن محمّد دار أبي الحسن عليه‌السلام وقد بسط له في صحن داره والناس جلوس حوله ، فقالوا : قدرنا أن يكون حوله من آل أبي طالب وبني العبّاس وقريش مائة وخمسون رجلا سوى مواليه وساير الناس إذ نظر إلى الحسن بن عليّ عليهما‌السلام وقد جاء مشقوق الجيب حتّى قام عن يمينه ونحن لا نعرفه ، فنظر إليه أبو الحسن عليه‌السلام بعد ساعة من قيامه ثمّ قال : يا بني ، أحدث لله شكرا فقد أحدث فيك أمرا.

فبكى الحسن عليه‌السلام واسترجع وقال : الحمد لله ربّ العالمين وإيّاه أشكر تمام نعمه علينا ، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

فسألنا عنه ، فقيل لنا : هذا الحسن بن عليّ ابنه ، وقدرنا له في ذلك الوقت عشرين سنة ونحوها فيومئذ عرفناه وعلمنا أنّه قد أشار إليه بالإمامة وأقامه مقامه.

وإن قلت : ظاهر هذين الحديثين أنّه عليه‌السلام توفّي في سامرّاء لأنّ في الخبر الثاني قال : حضروا يوم توفّي محمّد بن عليّ دار أبي الحسن عليه‌السلام.

قلنا : تقدّم أنّ من توفّي في أرجاء بلدة يقال له إنّه توفّي فيها سيّما مع كبر البلدة ، أضف إلى ذلك أنّ في الخبر الأوّل ليس فيه ذكر الدار ، فمن الممكن أنّ الإمام عليّا الهادي عليه‌السلام لمّا بلغه الخبر ركب جواده وحضر تجهيز ولده أبي جعفر فوضع له كرسيّ هناك فجرى ما جرى.

٣٠١

وأمّا ذكر الدار في الخبر الثاني لم يذكر أنّها في سامرّاء ولا يمتنع أنّ له عليه‌السلام دارا هناك ، ومن الممكن أنّه لمّا فرغ عليه‌السلام من تجهيزه رجع عاجلا إلى داره لأنّ سبعة فراسخ ليست بشيء ، فوضع له كرسيّ وحضر الناس للتعزية ، فقال عليه‌السلام ما قال ، وجرى ما جرى ، فلا منافاة بين هذين الحديثين وبين ما ذكرناه.

وسيأتي في معاجز عليّ الهادي عليه‌السلام أنّ أبا هاشم الجعفري كان يصلّي الفجر ببغداد ويسير على البرذون فيدرك الزوال بسرّ من رأى ، ويعود من يومه إلى بغداد إذا شاء على ذلك البرذون ، فالمسافة بين بلد وسامرّاء يقطعه المسافر في يوم واحد عادة فضلا عن الإعجاز.

ومنها : ما رواه الكليني بسنده عن أبي هاشم الجعفري قال : كنت عند أبي الحسن بعد ما مضى ابنه أبو جعفر وإنّي لأفكّر في نفسي وأريد أن أقول كأنّهما أعني أبا جعفر وأبا محمّد في هذا الوقت كأبي الحسن موسى وإسماعيل ابني جعفر بن محمّد عليهما‌السلام ، وإنّ قصّتهما كقصّتهما إذ كان أبو محمّد المرجى بعد أبي جعفر السيّد محمّد.

فأقبل عليّ أبو الحسن عليه‌السلام قبل أن أنطق ، فقال : نعم يا أبا هاشم ، بد الله في أبي محمّد بعد أبي جعفر ما لم يكن يعرف له كما بدا في موسى بعد مضي إسماعيل ما كشف به عن حاله ، وهو كما حدّثتك نفسك ، وإن كره المبطلون ، أبو محمّد ابني الخلف من بعدي عنده علم ما يحتاج الناس إليه ومعه آية الإمامة.

ومنها : ما رواه الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة بسنده عن عليّ بن عمر النوفلي قال : كنت مع أبي الحسن العسكري عليه‌السلام في داره فمرّ علينا أبو جعفر ، فقلت له : هذا صاحبنا؟ فقال : لا ، صاحبكم الحسن عليه‌السلام.

ومنها : ما رواه فيه أيضا بسنده عن أحمد بن عيسى العلوي قال : دخلت على أبي الحسن عليه‌السلام بصرّيا فسلّمنا عليه ، فإذا نحن بأبي جعفر وأبي محمّد وقد دخلا ، فقمنا إلى أبي جعفر لنسلّم عليه ، فقال أبو الحسن : ليس هذا صاحبكم ، عليكم

٣٠٢

بصاحبكم ، وأشار إلى أبي محمّد عليه‌السلام.

ومنها : ما رواه فيه أيضا بإسناده عن الجلّابي قال : كنت رويت عن أبي الحسن العسكري في أبي جعفر ابنه روايات تدلّ عليه ، فلمّا مضى أبو جعفر قلقت لذلك وبقيت متحيّرا لا أتقدّم ولا أتأخّر ، وخفت أن أكتب له في ذلك ، فلا أدري ما يكون ، فكتبت إليه أسأله الدعاء أن يفرّج الله عنّا في أسباب من قبل السلطان كنّا نغتمّ بها في غلماننا ، فرجع الجواب بالدعاء ورد الغلمان علينا ، وكتب في آخر الكتاب : أردت أن تسأل عن الخلف بعد مضي أبي جعفر ، وقلقت لذلك ، فلا تغتمّ بها فإنّ الله لا يضلّ قوما بعد إذ هداهم حتّى يبيّن لهم ما يتّقون ، صاحبكم بعدي أبو محمّد ابني وعنده ما تحتاجون إليه ، يقدّم الله ما يشاء ويؤخّر ما يشاء ، (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها)(١).

وروى السيّد هاشم البحراني في مدينة المعاجز عن ثاقب المناقب عن شاهويه بن عبد الله بن سليمان الخلّال وساق الحديث بمثل ما مرّ إلى أن قال : كتبت ما فيه إقناع وبيان لذي عقل يقظان ، ومثله رواه المفيد في الإرشاد.

ثمّ اعلم أنّ قوله عليه‌السلام لولده أبي محمّد عليه‌السلام : «أحدث لله شكرا فقد أحدث فيك أمرا» أو قوله عليه‌السلام : «بدا لله في أبي محمّد بعد أبي جعفر» ليس معناه البداء الحقيقي الذي هو ظهور بعد خفاء لأنّه محال بالنسبة إلى الله تعالى ، بل إظهار بعد الخفاء لأنّه تبارك وتعالى لمّا جعل الإمامة في أبي محمّد الحسن العسكري عليه‌السلام في الأزل وخفي ذلك على الناس لحسبانهم أنّ أبا جعفر السيّد محمّد لمّا كان أكبر أولاد الإمام عليّ الهادي عليه‌السلام وتكامل فيه خصال الإمامة وشرائف الأخلاق والعبادة ، كان هو الأولى بمنصب الإمامة لو مات أبوه ، فلمّا توفّي نصّ أبوه الإمام عليّ الهادي عليه‌السلام على ولده

__________________

(١) البقرة : ١٠٦.

٣٠٣

أبي محمّد وأظهر الله تعالى ما كان مخفيا ، وإنّما نسبت إليه البداء مع أنّه في الحقيقة الإبداء لكمال شباهة إبدائه تعالى كذلك بالبداء ، والبداء بهذا المعنى ممّا دلّت عليه الروايات المتواترة من الفريقين ، ولا يختصّ بالشيعة ، وقد عقد الكليني في الكافي بابا له وروى بالأسانيد عدّة روايات فيه.

أخبار البداء

منها : ما رواه عن زرارة بن أعين عن أحدهما عليهما‌السلام قال : ما عبد الله بشيء مثل البداء.

ومنها : ما رواه بإسناده عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ما عظّم الله بمثل البداء.

ومنها : ما رواه بإسناده عن الصادق عليه‌السلام قال في هذه الآية : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ)(١) قال : فقال عليه‌السلام : وهل يمحو إلّا ما كان ثابتا؟ وهل يثبت إلّا ما لم يكن؟

ومنها : ما رواه بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : ما بعث الله نبيّا حتّى يأخذ عليه ثلاث خصال : الإقرار بالعبوديّة ، وخلع الأنداد ، وأنّ الله يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء.

ومنها : ما رواه بسنده عن أبي جعفر عليه‌السلام قال في جواب من سأله عن قول الله عزوجل : (قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ)(٢) قال : هما أجلان : أجل محتوم وأجل موقوف.

ومنها : ما رواه بسنده عن مالك الجهني قال : سألت أبا عبد الله عن قول الله :

__________________

(١) الرعد : ٣٩.

(٢) الأنعام : ٢.

٣٠٤

(أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً)(١) قال : فقال : لا مقدّرا ولا مكوّنا. قال : وسألته عن قوله تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً)(٢) فقال : كان مقدّرا غير مذكور.

ومنها : ما رواه بسنده عن الفضيل بن يسار قال : سمعت أبا جعفر يقول : العلم علمان ؛ فعلم عند الله مخزون لم يطّلع عليه أحد من خلقه ، وعلم علّمه ملائكته ورسله ، فما علّمه ملائكته ورسله فإنّه سيكون لا يكذّب نفسه ولا ملائكته ولا رسله ، وعلم عنده مخزون يقدّم منه ما يشاء ويؤخّر منه ما يشاء ويثبت ما يشاء.

ومنها : ما رواه بسنده عن أبي بصير عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : إنّ لله علمين : علم مكنون مخزون لا يعلمه إلّا هو ، ومن ذلك يكون البداء ، وعلم علّمه ملائكته ورسله وأنبيائه فنحن نعلمه.

ومنها : ما رواه بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : ما بدا لله في شيء إلّا كان في علمه قبل أن يبدو له.

ومنها : ما رواه بسنده عن مالك الجهني قال : سمعت أبا عبد الله الصادق عليه‌السلام يقول : لو علم الناس ما في القول في البداء من الأجر ما افتروا عن الكلام فيه.

ومنها : ما رواه بسنده عن الريّان بن الصلت قال : سمعت الرضا عليه‌السلام يقول : ما بعث الله عزوجل نبيّا قطّ إلّا بتحريم الخمر وأن يقرّ لله بالبداء.

ومنها : ما رواه بسنده عن الحسين بن محمّد ، عن معلّى بن محمّد قال : سئل العالم عليه‌السلام : كيف علم الله؟ قال : علم وشاء ، وأراد وقدّر ، وقضى وأمضى ما قضى ، وقضى ما قدّر ، وقدّر ما أراد ، فبفعله كانت المشيّة ، وبمشيّته كانت الإرادة ،

__________________

(١) مريم : ٦٧.

(٢) الإنسان : ١.

٣٠٥

وبإرادته كان التقدير ، وبتقديره كان القضاء ، وبقضائه كان الإمضاء ، والعلم متقدّم على المشيّة ، والمشيّة ثانية ، والإرادة ثالثة ، والتقدير واقع على القضاء بالإمضاء ؛ فلله تبارك وتعالى البداء فيما علم متى شاء وفيما أراد ، لتقدير الأشياء ، فإذا وقع القضاء بالإمضاء فلا بداء.

شرح المجلسي للبداء :

ذكر قدس‌سره في المجلّد من كتابه مرآة العقول شرحا وافيا ، فقال : اعلم أنّ البداء ممّا ظنّ أنّ الإماميّة قد تفرّدت به وقد شنّع عليهم بذلك كثير من المخالفين ، والأخبار في ثبوتها كثيرة مستفيضة من الجانبين ، ولنشر إلى بعض ما قيل في تحقيق ذلك ، ثمّ إلى ما ظهر لي من الأخبار ممّا هو الحقّ في المقام.

اعلم أنّه لمّا كان البداء ممدودا في اللغة بمعنى ظهور رأي مثل أن يقال : بداء لأمر بدأ أي ظهر ، وبدا له الأمر بدأ أي فشأ له فيه رأي ، كما ذكره الجوهري وغيره. فلذلك يشكل القول بذلك في جناب الحقّ تعالى لاستلزامه حدوث علمه تعالى بشيء بعد جهله ، وهذا محال ، ولذا شنّع كثير من المخالفين على الإماميّة في ذلك نظرا إلى ظاهر اللفظ من غير تحقيق لمرامهم ، حتّى أنّ الفخر الرازي ذكر في خاتمة كتاب المحصّل حاكيا عن سليمان بن جرير أنّ أئمّة الرافضة وضعوا القول بالبداء لشيعتهم فإذا قالوا إنّه سيكون لهم ثمّ لا يكون الأمر على ما خبروه قالوا : بدا لله فيه.

أقول : إنّ الله عزوجل سلّط على الفخر الرازي مولانا المحقّق الخواجه نصير الدين الطوسي قدس‌سره فرّد عليه مقالاته في كتابه نقد المحصّل فجعله كرماد اشتدّت به الريح في يوم عاصف.

ثمّ إنّ المجلسيّ أكثر الوقيعة في الرازي ، ثمّ قال : إنّ الرازي لم يعلم أنّ مثل هذه

٣٠٦

الألفاظ المجازيّة الموهمة لبعض المعاني الباطلة قد وردت في القرآن الكريم وأخبار الطرفين ، كقوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ)(١) و (مَكَرَ اللهُ)(٢) و (لِيَبْلُوَكُمْ)(٣) و (لِنَعْلَمَ)(٤) و (يَدُ اللهِ)(٥) و (وَجْهُ اللهِ)(٦) و (جَنْبِ اللهِ)(٧) إلى غير ذلك ممّا لا يحصى ، وقد ورد في أخبارهم ما يدلّ على البداء بالمعنى الذي قالت به الشيعة أكثر ممّا ورد في أخبارنا كخبر دعاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على اليهودي ، وإخبار عيسى ، وإنّ الصدقة والدعاء يغيّران القضاء وغير ذلك.

وقال ابن الأثير في النهاية في حديث الأقرع والأبرص والأعمى : بدا لله عزوجل أن يبتليهم أي قضى بذلك ، وهو معنى بدا هاهنا ، لأنّ القضاء سابق والبداء استصواب شيء علم بعد أن لم يعلم ، وذلك على الله غير جائز ، انتهى.

ثمّ نقل المجلسي رحمه‌الله عبارة تفسير الرازي في قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ)(٨) فأخذ في ردّه وإبطال مقالاته إلى أن قال بعد نقل كلمات العلماء : اعلم أنّ الأئمّة عليهم‌السلام إنّما بالغوا في البداء ردّا على اليهود الذين يقولون إنّ الله عزوجل قد فرغ من الأمر ، ويقولون إنّ الله خلق الموجودات دفعة واحدة على ما هي عليه الآن من معادن ونبات وحيوان وإنسان ولم يتقدّم خلق آدم على خلق ، والتقدّم إنّما يقع في ظهورها لا في حدوثها ووجودها ، وإنّما أخذوا هذه المقالة من الفلاسفة

__________________

(١) البقرة : ١٥.

(٢) آل عمران : ٥٤.

(٣) المائدة : ٤٨.

(٤) البقرة : ١٤٣ و....

(٥) الفتح : ١٠.

(٦) البقرة : ١١٥.

(٧) الزمر : ٥٦.

(٨) الرعد : ٣٩.

٣٠٧

القائلين بالعقول والنفوس الفلكيّة ، وبأن الله تعالى لم يؤثّر حقيقة إلّا في العقل الأوّل ، فهم يعرونه تعالى عن ملكه وينسبون الحوادث إلى هؤلاء.

وعلى آخرين منهم قالوا إنّ الله سبحانه أوجد جميع مخلوقاته دفعة واحدة دهريّة لا ترتّب فيها باعتبار الصدور بل إنّما ترتّبها في الأزمان فقط كما أنّه لا تترتّب الأجسام المجتمعة زمانا وإنّما ترتّبها في المكان فقط ، فنفوا عليهم‌السلام كلّ ذلك وأثبتوا أنّه تعالى كلّ يوم في شأن من إعدام شيء وإحداث آخر ، وإماتة شخص وإحياء آخر إلى غير ذلك ، لئلّا يترك العباد التضرّع إلى الله ومسألته وطاعته والتقرّب إليه بما يصلح أمور دنياهم وعقباهم ، وليرجوا عند التصدّق على الفقراء وصلة الأرحام وبرّ الوالدين والمعروف والإحسان ما وعدوا عليه من طول العمر وزيادة الرزق وغير ذلك.

ثمّ اعلم أنّ الآيات والأخبار تدلّ على أنّ الله خلق لوحين أثبت فيهما ما يحدث من الكائنات أحدهما اللوح المحفوظ الذي لا تغيّر فيه أصلا وهو مطالب لعلمه تعالى ، والآخر لوح المحو والإثبات فيثبت فيه شيئا ثمّ يمحوه لحكم كثيرة لا تخفى على أولي الألباب ، مثلا يكتب فيه أنّ عمر زيد خمسون سنة ، ومعناه إنّ مقتضى الحكمة أن يكون عمره كذا إذا لم يفعل ما يقتضي طوله أو قصره ، فإذا وصل الرحم مثلا يمحي الخمسون ويكتب مكانه ستّون ، وإذا قطعها يكتب مكانه أربعون ، وفي اللوح المحفوظ أنّه يصل عمره ستّين كما أنّ الطبيب الحاذق إذا اطّلع على مزاج شخص يحكم بأنّ عمره بحسب هذا المزاج يكون ستّين سنة ، فإذا شرب سما ومات أو قتله إنسان فنقص من ذلك ، أو استعمل دواء قوي مزاجه به فزاد عليه لم يخالف قول الطبيب ، والتغيّر الواقع في هذا اللوح مسمّى بالبداء ؛ إمّا لأنّه مشبّه به كما في سائر ما يطلق عليه تعالى من الابتلاء والاستهزاء والسخريّة وأمثالها ، أو لأنّه يظهر للملائكة أو للخلق إذا أخبروا بالأوّل خلاف ما علموا أوّلا ، أي استعاد في

٣٠٨

تحقّق هذين اللوحين وأيّة استحالة في هذا المحو والإثبات حتّى يحتاج إلى التأويل والتكلّف وإن لم تظهر الحكمة فيه لعجز عقولنا عن الإحاطة بها ، مع أنّ الحكم فيه ظاهرة.

منها : أن يظهر للملائكة الكاتبين في اللوح والمطّلعين عليه لطفه تعالى بعباده وإيصالهم في الدنيا إلى ما يستحقّونه فيزدادوا به معرفة.

ومنها : أن يعلم العباد بأخبار الرسل والحجج عليهم‌السلام أنّ لأعمالهم الحسنة مثل هذه التأثيرات في صلاح أمورهم ولأعمالهم السيّئة تأثيرات في فسادها فيكون داعيا لهم إلى الخيرات صارفا لهم عن السيّئات ، فظهر أنّ لهذا اللوح تقدّما على اللوح المحفوظ من جهة لصيرورته سببا لحصول بعض الأعمال ، فبذلك انتقش في اللوح المحفوظ حصوله ، فلا يتوهّم أنّه بعد ما كتب في هذا اللوح حصوله فلا فائدة في المحو والإثبات.

ومنها : إنّه إذا أخبر الأنبياء والأوصياء أحيانا من كتاب المحو والإثبات ثمّ أخبروا بخلافه يلزمهم الإذعان به ويكون في ذلك تشديد للتكليف عليهم تسبيبا لمزيد الأجر لهم كما في ساير ما يبتلي الله عباده به من التكاليف الشاقّة وإيرادا لأمور تعجز أكثر العقول عن الإحاطة بها ، وبها يمتاز المسلمون الذين فازوا بدرجات اليقين من الضعفاء الذين ليس لهم قدم راسخ في الدين.

ومنها : أن تكون هذه الأخبار تسلية لقوم من المؤمنين المنتظرين لفرج أولياء الله وغلبة الحقّ وأهله كما روي في قصّة نوح حين أخبر بهلاك القوم ثمّ أخّر ذلك مرارا ، وكما روي في فرج أهل البيت وغلبتهم عليهم‌السلام لأنّهم لو كانوا أخبروا الشيعة في أوّل ابتلائهم باستيلاء المخالفين وشدّة محنتهم إنّه ليس فرجهم إلّا بعد ألف سنة أو ألفي سنة ليئسوا ورجعوا عن الدين ولكنّهم أخبروا شيعتهم بتعجيل الفرج وربّما

٣٠٩

أخبروهم بأنّه يمكن أن يحصل الفرج في بعض الأزمنة القريبة ليثبتوا على الدين ويثابوا بانتظارهم الفرج.

إلى أن قال : فمعنى قولهم عليهم‌السلام : «ما عبد الله بمثل البداء» أنّ الإيمان بالبداء من أعظم العبادات القلبيّة لصعوبته ومعارضته الوساوس الشيطانيّة فيه ، ولكونه إقرارا بأنّ له الخلق والأمر ، وهذا كمال التوحيد ، أو المعنى أنّه من أعظم الأسباب والدواعي لعبادة الربّ تعالى ، وكذا قولهم : «ما عظّم الله بمثل البداء» يحتمل الوجهين ، وإن كان الأوّل فيه أظهر.

وأمّا قول الصادق عليه‌السلام : «لو علم الناس ما في القلوب في البداء من الأجر ما افتروا من الكلام فيه» فلما مرّ أيضا من أنّ أكثر مصالح العباد موقوفة على القول بالبداء إذ لو اعتقدوا أنّ كلّ ما قدّر في الأزل فلا بدّ من وقوعه حتما لما دعوا الله في شيء من مطالبهم وما تضرّعوا إليه وما استكانوا لديه ولا خافوا منه ولا رجعوا إليه. إلى غير ذلك ممّا قد أومأنا إليه.

وأمّا إنّ هذه الأمور من جملة الأسباب المقدّرة في الأزل أن يقع الأمر بها لا بدونها فممّا لا تصل إليه عقول أكثر الخلق ، فظهر أنّ هذا اللوح وعلمهم بما يقع فيه من المحو والإثبات أصلح لهم من كلّ شيء.

بقي هاهنا إشكال آخر وهو أنّه يظهر من كثير من الأخبار أنّ البداء لا يقع فيما يصل علمه إلى الأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام ، ويظهر من كثير منها وقوع البداء فيما وصل إليهم أيضا ، ويمكن الجمع بينهما بوجوه :

الأوّل : أن يكون المراد الأخبار الأوّلة وقوع البداء فيما وصل إليهم على سبيل التبليغ بأن يؤمروا بتبليغه فيكون إخبارهم بها من قبل أنفسهم لا على وجه التبليغ.

الثاني : أن يكون المراد بالأوّلة الوحي ويكون ما يخبرون به من جهة الإلهام واطّلاع نفوسهم على الصحف السماويّة ، وهذا قريب من الأوّل.

٣١٠

الثالث : أن تكون الأوّلة محمولة على الغالب فلا ينافي ما وقع على سبيل الندرة.

الرابع : ما أشار إليه الشيخ قدس‌سره أنّ المراد بالأخبار الأوّلة عدم وصول الخبر إليهم وإخبارهم على الحتم فيكون إخبارهم على قسمين :

أحدهما : ما أوحي إليهم أنّه من الأمور المحتومة فهم يخبرون كذلك ولا بداء فيه.

وثانيهما : ما يوحى إليهم لا على هذا الوجه فهم يخبرون كذلك وربّما أشعروا أيضا باحتمال وقوع البداء فيه ما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد الإخبار بالسبعين : ويحموا الله ما يشاء ، وهذا وجه قريب.

الخامس : أن يكون المراد بالأخبار الأوّلة أنّهم لا يخبرون بشيء لا يظهر وجه الحكمة فيه على الخلق لئلّا يوجب تكذيبهم بل لو أخبروا بشيء من ذلك يظهر وجه الصدق فيما أخبروا به كخبر عيسى والنبيّ عليهما‌السلام حيث ظهرت الحيّة دالّة على صدق مقالهما.

بيان الصدوق رحمه‌الله للبداء :

قال قدس‌سره في كتاب التوحيد : ليس البداء كما تقوله جهّال الناس بأنّه بداء ندامة ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا ، ولكن يجب علينا أن نقرّ لله عزوجل بأنّ له البداء أن يبدأ بشيء من خلقه فيخلقه قبل شيء ثمّ يعدم ذلك الشيء ويبدأ بخلق غيره ، أو يأمر بأمر ثمّ ينهى عن مثله ، أو ينهى عن شيء ثمّ يأمر بمثل ما نهى عنه ، وذلك مثل نسخ الشرايع وتحويل القبلة ، وعدّة المتوفّى عنها زوجها ، ولا يأمر الله عباده بأمر في وقت مّا إلّا ويعلم أنّ الصلاح لهم في ذلك الوقت في أن يأمرهم بذلك ، ويعلم في وقت آخر أنّ الصلاح لهم في أن ينهاهم عن مثل ما أمرهم به فإذا كان ذاك الوقت

٣١١

أمرهم بما يصلحهم ؛ فمن أقرّ لله عزوجل بأنّ له أن يفعل ما يشاء ويؤخّر ما يشاء ويخلق مكانه ما يشاء ويقدّر ما يشاء ويؤخّر ما يشاء ويأمر بما يشاء كيف يشاء فقد أقرّ بالبداء ، وما عظّم الله بشيء أفضل من الإقرار بأنّ له الخلق والأمر والتقديم والتأخير وإثبات ما لم يكن ومحو ما قد كان.

والبداء هو ردّ على اليهود لأنّهم قالوا إنّ الله قد فرغ من الأمر ، فقلنا : إنّ الله كلّ يوم هو في شأن ، يحيي ويميت ، ويرزق ويفعل ما يشاء ، والبداء ليس من ندامة وإنّما ظهور أمر تقول العرب بدا لي شخص في طريقي أي ظهر ، وقال الله عزوجل : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)(١) أي ظهر لهم ، ومتى ظهر لله تعالى من بعد صلة رحم زاد في عمره ، ومتى ظهر له قطيعة رحم نقص من عمره ، ومتى ظهر له من عبد إتيان الزنا نقص من رزقه وعمره ، ومتى ظهر له منه التعفّف من الزنا زاد في رزقه وعمره ، ومن ذلك قول الصادق عليه‌السلام : «ما بدا لله كما بدا في إسماعيل ابني» أي ما ظهر له كما ظهر في إسماعيل إذا اخترمه قبلي ليعلم بذلك أنّه ليس بإمام بعدي.

بيان السيّد علم الهدى للبداء :

قال السيّد المرتضى علم الهدى قدس‌سره في جواب مسائل أهل الري : المراد بالبداء النسخ ، وادّعى أنّه ليس بخارج عن معناه اللغويّ.

بيان الشيخ الطوسي للبداء :

قال قدس‌سره في كتاب الغيبة بعد إيراد الأخبار المشتملة على البداء في قيام القائم عليه‌السلام : الوجه في هذه الأخبار ـ إن صحّت ـ أنّه لا يمتنع أن يكون الله تعالى قد وقّت هذا

__________________

(١) الزمر : ٤٧.

٣١٢

الأمر في الأوقات التي ذكرت فلمّا تجدّد ما تجدّد تغيّرت المصلحة واقتضت تأخيره إلى وقت آخر ، وكذلك فيما بعد ، ويكون الوقت الأوّل وكلّ وقت يجوز أن يؤخّر مشروطا بأن لا يتجدّد ، وتغيّر ما تقتضي المصلحة تأخيره إلى أن يجيء الوقت الذي لا يغيّره شيء فيكون محتوما.

وعلى هذا يتأوّل ما روي في تأخير الأعمار عن أوقاتها والزيادة فيها عند الدعاء وصلة الأرحام ، وما روي في تنقيص الأعمار عن أوقاتها إلى ما قبله عند فعل الظلم وقطع الرحم وغير ذلك ، وهو تعالى وإن كان عالما بالأمرين فلا يمتنع أن يكون أحدهما معلوما بشرط والآخر بلا شرط ، وهذه الجملة لا خلاف فيها بين أهل العدل.

وعلى هذا يتأوّل أيضا ما روي من أخبارنا المتضمّنة للفظ البداء ، ويبيّن أنّ معناه النسخ على ما يريده جميع أهل العدل فيما يجوز فيه النسخ أو تغيّر شروطها إنّ طريقها الخبر عن الكائنات ، لأنّ البداء في اللغة هو الظهور فلا يمتنع أن يظهر لنا من أفعال الله تعالى ما كنّا نظنّ خلافه ، أو نعلم ولا نعلم شرطه.

فمن ذلك ما رواه سعد بن عبد الله ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال عليّ بن الحسين وعليّ بن أبي طالب قبله ومحمّد بن عليّ وجعفر بن محمّد : كيف لنا بالحديث مع هذه الآية (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ)(١) فأمّا من قال بأنّ الله تعالى لا يعلم الشيء إلّا بعد كونه فقد كفر ، انتهى.

قال المجلسي في مرآة العقول : وقد قيل في البداء وجوه أخر :

الأوّل : ما ذكره السيّد الداماد قدّس الله روحه في نبراس الضياء حيث قال :

__________________

(١) الرعد : ٣٩.

٣١٣

البداء منزلته في التكوين منزلة النسخ في التشريع ، فما في الأمر التشريعي والأحكام التكليفيّة نسخ فهو في الأمر التكويني ، والمكوّنات الزمانيّة بداء ، فالنسخ كأنّه بداء تشريعيّ ، والبداء كأنّه نسخ تكوينيّ ، ولا بداء في القضاء ولا بالنسبة إلى الجناب المقدّس الحقّ ، فالمفارقات المحضة من ملائكته القدسيّة وفي متن الدهر الذي هو ظرف مطلق الحصول ال قارّ والثبات الباتّ ووعاء عالم الوجود كلّه.

وإنّما البداء في القدر وفي امتداد الزمان الذي موافق التقضّي والتجدّد ، وظرف التجريد والتعاقب ، وبالنسبة إلى الكائنات الزمانيّة ، ومن في عالم الزمان والمكان وإقليم المادّة والطبيعة وكما أنّ حقيقة النسخ عند التحقيق انتهاء الحكم التشريعي وانقطاع استمراره لا رفعه ، وارتفاعه عن وعاء الواقع ، فكذا حقيقة البداء عند الفحص البالغ انبتات استمرار الأمر التكويني وانتهاء اتصال الإفاضة ، ومرجعه إلى تحديد زمان الكون وتخصيص وقت الإفاضة لأنّه ارتفاع معلول الكائن عن وقت كونه وبطلانه في حدّ حصوله.

الثاني : ما ذكره بعض الأفاضل في شرحه على الكافي وتبعه غيره من معاصرينا وهو أنّ القوى المنطبعة الفلكيّة لم تحط بتفاصيل ما سيقع من الأمور دفعة واحدة لعدم تناهي تلك الأمور بل إنّما ينتقش فيها الحوادث شيئا فشيئا وجملة فجملة مع أسبابها وعللها على نهج مستمرّ ونظام مستقرّ ، فإنّ ما يحدث في عالم الكون والفساد فإنّما هو من لوازم حركات الأفلاك المسخّرة لله ونتايج بركاتها فهي تعلم أنّه كلّما كان كذا كان كذا فمهما حصل لها العلم بأسباب حدوث أمر ما في هذا العالم حكمت بوقوعه فيه فينتقش فيها ذلك الحكم. وربّما تأخّر بعض الأسباب الموجب لوقوع الحادث على خلاف ما يوجبه بقيّة الأسباب لو لا ذلك السبب ، ولم يحصل له العلم بتصدّقه الذي سيأتي به قبل ذلك الوقت لعدم اطّلاعها على سبب ذلك

٣١٤

السبب ، ثمّ لمّا جاء أوانه واطّلعت عليه حكمت بخلاف الحكم الأوّل فيمحي عنها نقش الحكم السابق ويثبت الحكم الآخر ، مثلا لمّا حصل لها العلم بموت زيد بمرض كذا في ليلة كذا والأسباب تقتضي ذلك ولم يحصل لها العلم بتصدّقه الذي سيأتي به قبل ذلك الوقت لعدم اطّلاعها على أسباب التصدّق بعد ثمّ علمت به وكان موته بتلك الأسباب مشروطا بأن لا يتصدّق فنحكم أوّلا بالموت وثانيا بالبراء.

وإذا كانت الأسباب لوقوع أمر ولا وقوعه متكافئة ولم يحصل لها العلم برجحان أحدهما بعد لعدم مجيء أوان سبب ذلك الرجحان بعد كان لها التردّد في وقوع ذلك الأمر ولا وقوعه ، أفينتقش فيها الوقوع تارة واللاوقوع أخرى ، فهذا هو السبب في البدء والمحو ، والاثبات والتردّد ، وأمثال ذلك في أمور العالم ، فإذا اتّصلت بتلك القوى نفس النبيّ أو الإمام عليه‌السلام وقرأ بعض تلك الأمور فله أن يخبر بما رآه بعين قلبه أو شاهده بنور بصيرته أو سمع بأذن قلبه.

وأمّا نسبة ذلك كلّه إلى الله تعالى فلأنّ كلّما يجري في العالم الملكوتي إنّما يجري بإرادة الله تعالى بل قبلهم بعينه فعل الله سبحانه حيث أنّهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، إذ لا داعي لهم على الفعل إلّا إرادة الله تعالى لاستهلاك إرادتهم في إرادته تعالى ، ومثلهم كمثل الحواسّ للإنسان كلّما همّ بأمر محسوس امتثلت الحواسّ لما همّ به ، فكلّ كتابة تكون في هذه الأرواح والصحف فهو أيضا مكتوب لله عزوجل بعد قضائه السابق المكتوب بقلمه الأوّل ، فيصحّ أن يوصف الله عزوجل نفسه بأمثال ذلك بهذا الاعتبار ، وإن كان مثل هذه الأمور يشعر بالتغيّر والنسوخ ، وهو سبحانه منزّه عنه ، فإنّه كلّما وجد أو سيوجد فهو غير خارج من عالم ربوبيّة.

الثالث : ما ذكره بعض المحقّقين حيث قال : تحقيق القول في البداء أنّ الأمور كلّها : عامّها وخاصّها ، ومطلقها ومقيّدها ، ومنسوخها وناسخها ، ومفرداتها

٣١٥

ومركّباتها ، وإخباراتها وإنشائاتها بحيث لا يشذّ عنها شيء منتقشة في اللوح ، والفايض منه على الملائكة والنفوس العلويّة والنفوس السفليّة قد يكون الأمر العامّ المطلق أو المنسوخ حسب ما تقتضيه الحكمة الكاملة من الفيضان في ذلك الوقت ، ويتأخّر البيان إلى وقت تقتضي الحكمة فيضانه فيه ، وهذه النفوس العلويّة وما يشبهها يعبّر عنها بكتاب المحو والإثبات ، والبداء عبارة عن هذا التغيير في هذا الكتاب.

ثمّ قال المجلسي رحمه‌الله بعد ذكره هذه الأقوال : هذا ما قيل في هذا الباب ، وقد قيل فيه وجوه أخر لا طايل في إيرادها ، والوجوه التي أوردناها بعضها بمعزل عن معنى البداء ، وبينهما كما بين الأرض والسماء ، وبعضها مبنيّة على مقدّمات لم تثبت في الدين بل ادّعي على خلافها إجماع المسلمين ، وكلّها يشمل على تأويل نصوص كثيرة بلا ضرورة تدعو إليه ، وتفصيل القول في كلّ منها يفضي إلى الإطناب ، ولنذكر ما ظهر لنا من الآيات والأخبار بحيث تدلّ عليه النصوص الصريحة ولا تأبى عنه العقول الصحيحة ، ثمّ ساق الكلام الذي تقدّم بطوله.

ولقد أجاد العلّامة الحجّة الشيخ محمّد حسين آل كاشف الغطاء في كتابه (أصل الشيعة وأصولها» ، قال دام وجوده : وممّا يشنّع به الناس على الشيعة ويزدري به عليهم قولهم بالبداء تخيّلا من المشنّعين أنّ البداء الذي تقول به الشيعة هو عبارة عن أن يظهر ويبدو لله عزّ شأنه أمر لم يكن عالما به ، وهل هذا إلّا الجهل الشنيع والكفر الفظيع لاستلزامه الجهل على الله تعالى وأنّه محلّ للحوادث والتغيّرات فيخرج من حظيرة الوجوب إلى مكانة الإمكان ، وحاشا (الإماميّة) بل وسائر فرق الإسلام من هذه المقالة التي هي عين الجهالة بل الضلالة ، اللهمّ إلّا ما ينسب إلى بعض المجسّمة من المقالات التي هي أشبه بالخرافات منها بالديانات ، حتّى قال بعضهم فيما نسب إليه : اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عمّا شئتم.

٣١٦

أمّا البداء الذي تقول به الشيعة والذي هو من أسرار آل محمّد وغامض علومهم حتّى ورد في أخبارهم الشريفة أنّه «ما عبد الله بشيء مثل القول بالبداء» وأنّه «ما عرف الله حقّ معرفته من لم يعرفه بالبداء» إلى كثير من أمثال ذلك ، فهو عبارة عن إظهار الله جلّ شأنه أمرا يرسم في ألواح المحو والإثبات ، وربّما يطّلع عليه بعض الملائكة المقرّبين أو أحد الأنبياء والمرسلين فيخبر الملك به النبيّ والنبيّ يخبر به أمّته ثمّ لم يقع بعد ذلك خلافه لأنّه جلّ شأنه محاه وأوجد في الخارج غيره ، وكلّ ذلك كان جلّت عظمته يعلمه حقّ العلم ، ولكن في علمه المخزون المصون الذي لم يطّلع عليه ؛ لا ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل ، ولا وليّ ممتحن ، وهذا المقام من العلم هو المعبّر عنه في القرآن الكريم بأمّ الكتاب المشار إليه ، وإلى المقام الأوّل بقوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ)(١). ولا يتوهّم الضعيف أنّ هذا الإخفاء والإبداء يكون من قبيل الإغراء بالجهل وبيان خلاف الواقع ، فإنّ في ذلك حكما ومصالحا تقصر عنها العقول ، وتقف عندها الألباب.

وبالجملة فالبداء في عالم التكوين كالنسخ في عالم التشريع ، فكما أنّ النسخ وتبديله بحكم آخر مصالح وأسرار بعضها غامض وبعضها ظاهر فكذلك في الإخفاء والإبداء في عالم التكوين على أنّ قسما من البداء يكون من اطّلاع النفوس المتّصلة بالملأ الأعلى على شيء وعدم اطّلاعها على شرطه أو مانعه ، مثلا اطّلع عيسى عليه‌السلام أنّ العريس يموت ليلة زفافه ولكن لم يطّلع على أنّ ذلك مشروط بعدم صدقة أهله فاتفق أنّ أمّه تصدّقت عنه ، وكان عيسى عليه‌السلام أخبر بموته ليلة عرسه فلم يمت ، وسئل عن ذلك فقال : لعلّكم تصدّقتم عنه ، والصدقة قد تدفع البلاء المبرم ، وهكذا نظائرها.

__________________

(١) الرعد : ٣٩.

٣١٧

وقد تكون الفائدة الامتحان وتوطين النفس كما في قضيّة أمر إبراهيم بذبح إسماعيل ، ولو لا البداء لم يكن وجه للصدقة ولا للدعاء ولا للشفاعة ولا لبكاء الأنبياء والأولياء وشدّة خوفهم وحذرهم من الله ، مع أنّهم لم يخالفوه طرفة عين ، وإنّما خوّفهم من ذلك العلم المصون المخزون الذي لم يطّلع عليه أحد ، ومنه يكون البداء ، وقد بسطنا بعض الكلام في البداء وأضرابه من القضاء والقدر ولوح المحو والإثبات في الجزء الأوّل من كتابنا (الدين والإسلام) فراجع إذا شئت ، انتهى كلامه دام وجوده.

أعقاب أبي جعفر السيّد محمّد بن عليّ الهادي عليهما‌السلام

وجدت في كتاب تحفة الأزهار للسيّد العلّامة النسّابة ضامن بن السيّد شدقم الحسيني رحمه‌الله أنّه قال : إنّ محمّد بن عليّ الهادي كنيته أبو علي ، خلّف عليّا ، وعليّ خلّف محمّدا ، ومحمّد خلّف حسينا ، وحسين خلّفا محمّدا ، ومحمّد خلّف عليّا ، وعليّ خلّف شمس الدين الشهير بمير سلطان البخاري.

قال صاحب الشقايق : مولده ومنشأه ببخارى ، ولهذا لقّب بالبخاري ، ويقال لولده البخاريّون ، وكان شمس الدين ورعا عابدا صالحا زاهدا في الدنيا ، صحب العلماء العظام فاقتبس من فضائلهم ، وتصدّر بأعلى مجالسهم وباحث معهم في أعلى مراتبهم ، ثمّ توجّه إلى بلاد الروم واستوطن مدينة بروسا. ونقل من المولى شمس الدين محمّد الفتوني فاستعقد فيه أهل البلاد ، ومال إليه الأعيان والرؤساء الأمجاد ، فلم يزل عندهم معزّزا معظّما مكرّما محترما ، لما رأوا من كراماته ، فأوصلوا خبره إلى السلطان بايزيد بن أيلدرم بن مراد خان العثماني ، فطلبه وزوّجه بابنته فأولدها ، فلهذا اشتهر بمير سلطان.

٣١٨

فمن بعض كراماته أنّه لمّا دخل تيمور مدينة بروسا مالت التتار معه فلم يجد أهل البلاد لهم معه حيلة فاستغاثوا بالأمير شمس الدين محمّد ، فقال لهم : امضوا إلى معسكرهم تجدوا فيه رجلا صانعا شبيها بي يصنع نعل الخيل فأبلغوه منّي السلام وقولوا له : الأمير شمس الدين يسألك أن ترحل عنّا بسرعة ، فمضوا إليه فوجدوا الرجل كما وصفه لهم فأخبروه بذلك ، فقال : سمعا وطاعة لله وله إن شاء الله ترحل غدا ، فلمّا كان الغداة رحل الأمير تيمور بعسكره.

وفي تحفة الأزهار أيضا قال : قال صاحب الشقايق : ومن كرامات الأمير شمس الدين محمّد ما روي عن الشيخ سناء الدين يوسف الأبهري قال : كان والدي مدار كسبه الفلاحة ، فأخذ ذات يوم بذر بطّيخ ومضى إلى البستان وأنا معه وعمري يومئذ خمس سنين ، فلمّا انتهينا إلى البستان قال لي : يا ولدي ، إنّ هذا البذر قليل فاجلس هاهنا لعلّي أمضي وآتيك بأخر ، فمضى عنّي فإذا أنا برجل فارس لابس ثياب خضر لا أعرفه ، فدنا منّي وسلّم عليّ ، فأجبته ، ثمّ نزل عن فرسه فتمثّلت بين يديه قائما ، فقال : يا ولدي ، أعطني ما أبقاه والدك عندك من البذر ، فأعطيته إيّاه ، فأخذه وقام ينثره في الأرض وهو يقول : «بسم الله الرحمن الرحيم ، الله أنزل البركة لصاحبه» ثمّ جلس قليلا ، فرأيت البذر اخضرّ وأينع بطّيخا من حينه ، ثمّ قال لي : يا ولدي ، قم وأتنا بتلك البطّيخة ، فقمت وأتيت بها ووضعتها بين يديه ، فقطعها نصفين ثمّ دفع إليّ أحدهما وقال : هذا نصيبك منها كلّه وحدك ، وهذا نصفها الثاني نصيب والدك ادفعه إليه يأكله وحده ، ثمّ ركب فرسه وانصرف عنّي.

فأتى والدي فعرّفته القصّة ثمّ غدونا إلى مدينة بروسا فلمّا انتهينا إلى أحد أبواب الدور برز إلينا رجل وأمرنا بالدخول ، فدخلنا فإذا أنا بذلك الفارس الذي بذر البطّيخ فأخذني من والدي فقال لي : أنت ولدي ، فلم أزل في خدمته إلى أن توفّي بمدينة بروسا في سنة ٨٣٢ وقيل ٨٣٣ ، وقبره مشهور بها يزار ويأتونه الناس

٣١٩

بالنذور ، ثمّ منحني الله منه الخلافة ، انتهى.

وذكر السيّد حسّون بن السيّد أحمد البراقي النجفي في حاشية «تحفة الأزهار» أنّ عقب السيّد محمّد ابن الإمام علي الهادي عليه‌السلام هو من شمس الدين وله سلالة منتشرة في أطراف العراق ، ومن أولاده علاء الدين إبراهيم ، وإبراهيم خلّف عليّا ، وعليّ خلّف يوسف ، ويوسف خلّف حمزة ، وحمزة خلّف السيّد محمّد البعّاج الثاني وهو خلّف المؤيّد بالله يحيى ، وكان من أكابر سادات العراق وأعيانهم في القرن الحادي عشر ، ويحيى خلّف محمّدا ، ومحمّد خلّف إبراهيم وعيسى ، وإبراهيم هو جدّ السادات البعّاجيّين المشهورين في العراق وغيره.

وقال ملك الكتّاب خان صاحب في كتابه بحر الأنساب ما ملخّص مضمونه أنّه كان للسيّد محمّد بن الإمام عليّ الهادي تسعة من الأولاد الذكور ، وهم : لطف الله وأبو طالب ورحمة الله وعناية الله وهداية الله وإسحاق واسكندر ومحمود وجعفر.

ثمّ قال : إنّ إسحاق ومحمود وجعفر واسكندر هاجروا من سامرّاء خوفا من الأعداء وكانوا مشرّدين في البلاد إلى أن وصلوا إلى نهاوند وخوي وسلماس فقتلوا في تلك البلاد ، وسائر إخوتهم رحمة الله ولطف الله وهداية الله ونعمة الله لمّا بلغوا كرمان قتلوا فيها ، انتهى. والظاهر أنّه متفرّد فيما ذكره والعلم عند الله تعالى.

ووجدت في ظهر كتاب مستند الشيعة للفقيه الأعظم العلّامة النراقي قدس‌سره أنّ كاتبه ساق نسبه بهذه الصورة :

وأنا العبد محمّد رضا بن عبد الرسول ابن السيّد جعفر بن السيّد عبد الكريم بن السيّد معين الدين بن مير حسين بن السيّد محمّد بن السيّد حسين بن السيّد علي أكبر ابن السيّد مقصود بن السيّد أمير حسين بن السيّد زين العابدين بن السيّد أمير علي أكبر بن السيّد مهدي بن السيّد أمير حسن بن السيّد جلال الدين بن السيّد أمير أحمد ابن السيّد طاهر بن السيّد يحيى بن السيّد محسن ابن السيّد عزّ

٣٢٠