مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ١

الشيخ ذبيح الله المحلاتي

مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ١

المؤلف:

الشيخ ذبيح الله المحلاتي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدريّة
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-503-035-8
ISBN الدورة:
964-503-039-0

الصفحات: ٤٠٨

أصاب بهم نوحا ونوحا نجا بهم

وناجوا بهم موسى وأعقب سام

لقد كذب الواشون فيما تخرّصوا

وحاشا الضحى أن يعتريه ظلام

جاء في أنيس المسافر المطبوع في بمبئي للشيخ يوسف البحراني صاحب الحدائق أنّ لأحمد الناصر من المبّار والوقوف ما يفوت الحصر ، وبنى من دور الضيافات والمساجد والربط ما يتجاوز حدّ الكثرة ، وكان وقته مصروفا إلى تدابير أمور المملكة وإلى التولية والعزل والمصادرة وتحصيل الأموال ، وتنسب إليه هذه الأبيات :

قسما بمكّة والحطيم وزمزم

والراقصات ومشيهنّ إلى منى

بغض الوصيّ علامة مكتوبة

كتبت على جبهات أولاد الزنا

من لم يوال من البريّة حيدرا

سيّان عند الله صلّى أو زنا

وفي كتاب ماضي النجف وحاضرها للبحّاثة الشيخ جعفر آل محبوبة النجفي (١) أبيات للناصر العبّاسي وهي :

إليكم بني الزهراء حجّي وعمرتي

وأنتم إذا صلّيت لله قبلتي

ولو لا وصاياكم تظاهرت بالبرا

ولكن أمرتم عبدكم بالتقيّة

وفي روضة الصفا (٢) قال : لمّا تمكّن الناصر بالله على سرير الملك أمر بإهراق كلّ خمر وجدوه ، وكسر المزامير ، وكان الناصر بالله يحامي عن الشريعة ، والناس في عصره يزدحمون إلى بغداد من أطراف البلاد ، وانتشر العدل في البلاد والعباد ، وكان صاحب الرأي والذهن الوقّاد ، فطنا فاضلا لم يكن بأقلّ من العلماء والمحدّثين ، وكان شجاعا لا يهاب ، حاضر الجواب ، باحثا عن العلوم من كلّ باب ،

__________________

(١) ماضي النجف وحاضرها : ١٤٦.

(٢) روضة الصفا ٣ : ١٦٨.

٣٦١

وكان في الليل يطوف في السكك والمحلّات ، حتّى أنّ امرأة لو تكلّمت في الفراش مع زوجها تخاف حذرا من استراق السمع الناصر لدين الله ، وكان لا يخفى عليه أحوال الملوك والسلاطين ، وكان إذا أطعم أشبع ، وإذا ضرب أوجع ، وله مواطن يعطي فيها عطاء من لا يخاف الفقر.

ووصل إليه رجل معه ببغاء ـ وهو نوع من الطيور أخضر اللون ، أحمر المنقار والرجلين ، يعلّمونه الكلام ويقال له طوطي ـ فقرأ قل هو الله أحد أرسلها للخليفة بعض من كان في الهند تحفة له ، فلمّا وصل بغداد ماتت الببغاء ، فأصبح الرسول في غاية الحزن والتحيّر ، فجاءه فرّاش الخليفة يطلب منه الببغاء ، فبكى الرسول وقال : الليلة ماتت. فقال : قد عرّفناه هاتها ميتة ، وقال : كم كان ظنّك أن يعطيك الخليفة؟ قال : خمسمائة دينار. قال : خذها فقد أرسلها إليك الخليفة فإنّه أعلم بحالك منذ خرجت من الهند.

وقال أيضا : عمّر الناصر بالله الرباط الخلاطيّة في الجانب الغربي ببغداد ، فلمّا فرغ من العمارة دعا الناس على مائدة أنفق فيها مالا عظيما كثيرا ، وذبح خمسة عشر ألف غنم وثلاثين ألف دجاج ، وهيّأ من الفواكه والأشربة والحلاوات ما لا يحصى كثرة.

وقال جمال الدين القاشاني : رفع إلى الناصر أنّ طلبة المدرسة النظامية يشربون الخمر ويشتغلون بالزنا واللواط ، فلمّا كثر الواشون أمر بإخراج الطلّاب ذلّا وصغارا وجعل المدرسة اصطبلا ومربطا للدوابّ ، فرأى بعد أيّام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام ومعه نظام الملك الطوسي الذي بنى المدرسة النظاميّة فتقدّم الناصر وسلّم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فأعرض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عنه ، فانكبّ الناصر على قدمي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقول : يا سيّدي ، بأيّ ذنب طردتني وأعرضت عنّي؟ فأشار رسول الله إلى نظام الملك وقال : إذا رضي عنك هذا فأنا راضي عنك ، فالتفت الناصر إلى نظام الملك

٣٦٢

وقال : أيّ إساءة رأيت منّي؟ وما سبب انقباضك عنّي؟ قال نظام الملك : لأنّك جعلت مدرستي التي بنيتها وعمّرتها للطلّاب مربطا للدوابّ ، فاعتذر الناصر وألزم على نفسه أن يعمرها ، ثمّ قبّل يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله واستيقظ فرحا مسرورا فأمر على الفور بإخراج الدوابّ وعمارة المدرسة ورجوع أرباب الفضائل إلى منازلهم ، وجعل فيها بيتا من الكتب فجمع فيه من أنواع الكتب العلميّة مقدارا وافيا وعددا كافيا ، انتهى.

وقال الدميري في حياة الحيوان في ترجمة أحمد الناصر : إنّه أمر بإراقة الخمور وكسر الملاهي وإزالة المكوس والضرائب ، فعمرت البلاد وكثرت الأرزاق ـ إلى أن قال مثل ما مرّ ـ قال : يحكى أنّ بعض الكبار كان يعتقد فيه أنّ له كشفا واطّلاعا على المغيّبات.

وفي أخبار الدول : إنّه كان مخدوما من الجنّ.

وقال محي الدين بن العربي في مسامرة الأخيار : كان أحمد الناصر مولانا أمير المؤمنين يحجّ متنكّرا ، ثمّ أثنى عليه.

وقال الذهبي في دول الإسلام : إنّه أهل البندق والحمام في شيبه ، وكان بعض الكبار يعتقد فيه إنّه كشفا واطّلاعا على المغيّبات.

وقال السيوطي في تاريخ الخلفاء : كان الناصر لم يزل مدّة حياته في عزوجلالة وقمع الأعداء واستظهار على الملوك ولم يجد ضيما ، ولا خرج عليه خارجيّ إلّا قمعه ، ولا مخالف إلّا دفعه ، وكلّ من أضمر له سوء رماه الله بالخذلان ، وكان شديد الاهتمام بمصالح الملك ، لا يخفى عليه شيء من أحوال رعيتّه ؛ كبارهم وصغارهم ، وأصحاب أخباره في أقطار البلاد يوصلون إليه أحوال الملوك الظاهرة والباطنة ، وكانت له حيل لطيفة ومكائد غامضة ، وخدع لا يفطن عليها أحد ، ويوقع الصداقة بين ملوك متعاديين وهم لا يشعرون ، ويوقع العداوة بين ملوك متفقين وهم لا يفطنون.

٣٦٣

ولمّا دخل رسول صاحب مازندران بغداد وكانت تأتيه ورقته كلّ صباح بما عمله في الليل ، فصار يبالغ في التكتّم والورقة تأتيه بذلك ، فأخلى ليلة بامرأة دخلت من باب السرّ فصحبة الورقة بذلك ، وفيها : كان عليكم دواج فيه صوره الفيلة ، فتحيّر وخرج من بغداد وهو لا يشكّ أنّ الخليفة يعلم الغيب.

وأتى رسول خوارزمشاه من خراسان وماوراء النهر وتجبّر وطغى واستعبد الملوك الكبار وأبادهم وقطع خطبة بني العبّاس من بلاده ، وقصد بغداد ووصل إلى همذان فوقع عليهم ثلج عظيم عشرين يوما في غير أوانه ، فقال له بعض خواصّه : إنّ ذلك غضب من الله حيث قصدت بيت الخلافة ، وبلغه أنّ أمما من الترك قد تألّبوا عليه وطمعوا في البلاد لبعده عنها ، فكان ذلك سببا لرجوعه وكفى الناصر شرّه بلا قتال.

وكان صدر جهان قد صار إلى بغداد ومعه جماعة من الفقهاء وواحد منهم لمّا خرج من داره من سمرقند على فرس جميل ، فقال له أهله : لو تركته عندنا لكان أحسن لئلّا يؤخذ منك في بغداد ، فقال : الخليفة لا يقدر أن يأخذه منّي ، فأمر بعض قوّاده أنّه حين يدخل بغداد يأخذ فرسه منه فيهرب في الزحام ، ففعل فجاء الفقيه يتسغيث فلا يغاث ، فلمّا رجعوا من الحجّ خلع على صدر جهان وأصحابه وخلع على ذلك الفقيه وقد مثّله فرسه وعليها سرج من ذهب وطوق وقيل له : لم يأخذ فرسك الخليفة إنّما أخذه من أخذ ، فخرّ مغشيّا عليه وأسجل بكرامته.

وقال الموفّق عبد اللطيف : كان الناصر قد ملأ القلوب هيبة وخيفة ، فكان يرهبه أهل الهند ومصر كما يرهبه أهل بغداد ، فأحيا هيبة الخلافة وماتت بموته ، وكان الملوك والأكابر بمصر والشام إذا جرى ذكره في خلواتهم خفّضوا أصواتهم هيبة وإجلالا.

وقال ابن النجّار : دانت السلاطين للناصر ، ودخل في طاعته من كان من

٣٦٤

المخالفين ، وذلّت له العتاة والطغاة ، وانقهرت بسيفه الجبابرة واندحضت أعداؤه وكثر أنصاره ، وفتح البلاد العديدة ، وملك بن الممالك ما لم تملّكه أحد ممّن تقدّمه من الخلفاء والملوك ، وخطب له ببلاد الأندلس وبلاد الصين ، وكان أشدّ بني العبّاس يتصدّع لهيبته الجبال ، وكان حسن الخلق لطيف الخلق ، كامل الظرف ، فصيح اللسان ، بليغ البيان ، له التوقيعات المسدّدة والكلمات المؤيّدة ، وكانت أيّامه غرّة في وجه الدهر ، ودرّة في تاج الفخر.

وقال ابن واصل : كان الناصر شجاعا ذا فكرة صائبة ، وعقل رصين ، ومكر ودهاء ، وله أصحاب أخبار في العراق وسائر الأطراف يطّلعونه بجزئيّات الأمور ، حتّى ذكر أنّ رجلا عمل ببغداد دعوة وغسل يده قبل أضيافه فأخبر الناصر بذلك وقال : سوء أدب من صاحب الدار وفضول من كاتب المطالعة.

وقال سبط ابن الجوزي : قلّ بصر الناصر في آخر عمره ولم يشعر بذلك أحد من الرعيّة حتّى الوزير وأهل الدار ، وكان له جارية قد علّمها الخطّ بنفسه فكانت تكتب مثل خطّه فتكتب على التوقيع.

وقال الجزري في الكامل : كان الماء الذي يشربه الناصر تأتي به الدوابّ من فوق بغداد بسبعة فراسخ ، ويغلى سبع غلوات كلّ يوم غلوة ثمّ يحبس في الأوعية سبعة أيّام ثمّ يشرب منه ، ومع هذا ما مات حتّى سقي المرقد ودواء يرقد من شربه وشقّ ذكره وأخرج منه الحصى ، ومات منه يوم الأحد سلخ رمضان سنة ٦٢٢.

العمارة الثامنة

للمستنصر العبّاسي في سنة أربعين وستّمائة ، وكان المتولّي للعمارة السيّد الجليل العلّامة أحمد بن طاوس طيّب الله رمسه.

٣٦٥

جاء في كتاب الحوادث الجامعة للعلّامة أبي الفضل عبد الرزّاق ابن الفوطي (١) : إنّ في سنة أربعين وستّمائة وقع حريق في مشهد سرّ من رأى فأتى على ضريحي علي الهادي والحسن العسكري عليهما‌السلام فتقدّم الخليفة المستنصر بالله بعمارة المشهد المقدّس والضريحين الشريفين وإعادتهما على أجمل حالاتهما ، وتقدّم أنّ الضريح الذي أهداه البساسيري احترق في السنة المذكورة.

وقال العلّامة السماوي في وشايح السرّاء :

ثمّ أتاها بعده المستنصر

إذ الشموع أحرقت ما تبصر

وغفل القوّام عن إخمادها

واشتعلت بالساج من إيقادها

فأبدل الصندوق منها ساجا

وعمّر الروضة والسياجا

على يدي أحمد ذي اليقين

من آل طاوس جمال الدين

وكان ذا في عام أربعينا

من بعد ستّ مئة سنينا

وعارض الجمال ما تقوّلا

فأرّخوا (أنهي ما تقبلا) (٢)

ويظهر من هذين التاريخين أنّ المستنصر وفّق لعمارة سرّ من رأى مرّتين : مرّة في سنة أربع وستّمائة ، وأخرى في سنة أربعين وستّمائة ، وأيضا وفّق لعمارة مشهد الجوادين عليهما‌السلام كما صرّح بذلك الطقطقي في الآداب السلطانيّة (٣) قال : لم تطل أيّام أبي نصر محمّد الظاهر بأمر الله ابن الناصر لدين الله ولم يجر فيها ما يسيطر سوى احتراق القبّة الشريفة بمشهد موسى والجواد عليهما‌السلام فشرع الظاهر في عمارتها فمات ولم تفرغ فتمّمها المستنصر ، وبويع المستنصر بالله بالخلافة في سنة ثلاثة وعشرين وستّمائة ، ومات في سنة أربعين وستّمائة ، وكان شهما جوادا ، يباري الريح كرما

__________________

(١) الحوادث الجامعة : ١٥٢.

(٢) مطابقة لسنة ٦٤٠.

(٣) الآداب السلطانيّة : ٢٩٤.

٣٦٦

وجودا ، وكانت هباته وعطاياه أشهر من أن يدلّ عليها ، وأعظم من أن تحصى ، ولو قيل إنّه لم يكن في خلفاء بني العبّاس مثله لصدّق القائل ، وله الآثار الجليلة للمستنصر العبّاسي ، هو السادس والثلاثون من الخلفاء العبّاسيّين ، ولد في صفر سنة ٥٨٨ وأمّه جارية تركيّة ، وبويع بعد أبيه في رجب سنة ٦٢٣ ، وتوفّي سنة ٦٤٠ في بكرة يوم الجمعة عاشر جمادى الثانية ، وكانت خلافته سبع عشرة سنة ، وبويع وهو ابن خمس وثلاثين سنة ، وكان عمره اثنين وخمسين سنة ، وكان مليح الشكل كأبيه ، وكان أشقر ضخما قصيرا ، أقنى الأنف ، رحب الصدر.

وذكره الدميري في حياة الحيوان.

قال السيوطي في تاريخ الخلفاء : إنّ المستنصر نشر العدل في الرعايا ، وبذل الانصاف في القضايا ، وقرّب أهل العلم والدين ، وبنى المساجد والرباط والمدارس والبيمارستانات ، وقام بأمر الجهاد أحسن قيام ، وجمّع الجيوش لنصرة الإسلام وحفظ الثغور ، وافتتح الحصون ، فسار سيرة جميلة ، واجتمعت القلوب على محبّته ، والألسن على مدحه ، وكان جدّه الناصر بالله يقرّبه ويسمّيه القاضي لهديه وعقله وإنكار ما يجده من المنكر ، وكان راغبا في فعل الخير ، مجتهدا في تكثير البرّ ، وله في ذلك آثار جميلة وأنشأ المدرسة المستنصريّة على دجلة من الجانب الشرقيّ ما بني على وجه الأرض أحسن منها ولا أكبر منها وقوفا ، ورتّب فيها الرواتب الحسنة وجعل فيها من المدرّسين أربعة : الحنفي والشافعي والحنبلي والمالكي ، يدرّسون على المذاهب الأربعة ، وعمل فيها بيمارستان ورتّب فيها مطبخا للفقهاء ، ومزملة الماء البارد ، ورتّب لبيوت الفقهاء الحصر والبسط والزيت والورق والخبز وغير ذلك ، ولكلّ فقيه بعد ذلك في الشهر دينارا ، رتّب لهم حماما وهو أمر لم يسبقه إلى مثله ، واستخدم عساكر عظيمة لم يستخدم مثلها أبوه ولا جدّه ، وكان ذا همّه عالية وشجاعة وإقدام عظيم.

٣٦٧

وذكر عبد الرزّاق بن أحمد بن محمّد المعروف بابن الفوطي في كتابه الحوادث الجامعة في المأة السابعة أنّ المستنصر بالله تقدّم إلى فخر الدين أحمد بن نائب الوزارة مؤيّد الدين القمّي بعمارة مساجد الكرخ لأنّها تهدّمت في غرق بغداد ، فشرع في ذلك فلمّا تكاملت عمارتها رتّب بها الأئمّة والمؤذّنون وتكامل بناء قصر المبارك الذي أمر بعمارته بباب البصرة وتكامل بناء سور الرصافة ، وفي سنة إحدى وثلاثين وستّمائة في جمادى الآخرة تكامل بناء مدرسته المستنصريّة ، وكان الشروع فيها ٦٢٥ سنة ، وأنفق عليها أموالا كثيرة ، وتولّى عمارتها مؤيّد الدين محمّد العلقمي ، ونقل من العلوم الدينيّة والأدبيّة والأدعية ما حمله مائة وستّون حمّالا ، وجعلت في خزانة الكتب.

وفي عمدة الطالب : وكان المستنصر قد أودع خزانته في المستنصرية ثمانين ألف مجلّد.

قال ابن الفوطي : وفي يوم الخميس خامس شهر رجب حضر نصير الدين نائب الوزارة وسائر الولاة والحجّاب والقضاة والمدرّسون والفقهاء ومشايخ الرباط والصوفيّه والوعّاظ والقرّاء والشعراء وجماعة من أعيان التجّار والغرباء إلى المدرسة واختار لكلّ مذهب من المدرّسين وغير المدرّسين اثنان وستّون نفسا ، ورتّب لها مدرّسا ونائبا للتدريس ، وخلع على كلّ واحد منهما جبّة سوداء ، وطرحة كحليته (وهو الطيلسان) وأمطى بمركب جميل وعدة كاملة ثمّ خلع على كلّ واحد من نائبي التدريس قميص مصمّت وعمامة قصب ، ثمّ خلع على جميع المهندسين والمتولّين للعمارة والصنّاع والحاشية وعلى المعيّنين للخدمة بخزانة الكتب ثمّ مدّ سماط في صحن المدرسة أجمع فكان عليه من الأشربة والحلواء وأنواع الأطعمة ما يجاوز حدّ الكثرة ، ثمّ أفيضت الخلع على الحاضرين ، ثمّ أنشد الشعراء المدائح فيها ، ثمّ شرط شروطا للمدرسة :

٣٦٨

منها أن يكون عدّة الفقهاء مأتين وثمانية وأربعين متفقّها من كلّ طائفة اثنان وستّون بالمشاهرة الوافرة والجراية الدارة واللحم الراتب والطبنخ الدائر إلى غير ذلك من الحلواء والفواكه والصابون والبزر والفرش والتعهّد.

وشرط أن يكون في دار الحديث التي بها شيخ عالي الإسناد وقاريان وعشرة أنفس يشتغلون بعلم الحديث النبوي ، وأن يقرأ الحديث في كلّ يوم سبت واثنين وخميس من كلّ أسبوع.

وشرط لهم جراية والمشاهرة والتعهّد أسوة بالفقهاء ، وشرط أن يكون في الدار المتصلة بالمدرسة ثلاثون صبيّا أيتام يتلقّنون القرآن المجيد من مقرئ متقن صالح ولهم من الجراية والمشاهرة والتعهّد ما للمشتغلين بعلم الحديث.

وشرط أن يرتّب بها طبيب حاذق مسلم وعشرة أنفس من المسلمين يشتغلون بعلم الطبّ ويوصل إليهم مثل ما تقدّم ذكرهم ، وأن يكون الطبيب يطبّب من يعرض له مرض من أرباب هذا الوقف ، ويعطي المريض ما يوصف له من أدوية وأشربة وغير ذلك.

وشرط أن يكون بها من يشتغل بعلم الفرائض الحديث إلى غير ذلك ممّا استقصى ذكره طال تعداده.

قال : وفي سنة ثلاث وثلاثين وستّمائة تكامل بناء الأيوان الذي أنشئ مقابل المدرسة المستنصريّة وعمل تحته صفّته يجلس فيها الطبيب وعنده الجماعة الذين يشتغلون عليه بعلم الطبّ ويقصده المرضى فيداويهم ، وبني في حائط هذه الصفّة دائرة وصوّر فيها صورة الفلك وجعل فيها طاقات لطاف لها أبواب لطيفة ، وفي الدائرة بازان من ذهب في طاستين من ذهب وورائهما بندقتان من شبه لا يدركهما الناظر ، فعند مضي كلّ ساعة ينفتح فم البازان ويقع من فمهما البندقتان ، وكلّما سقطت بندقة افتتح باب من أبواب تلك الطاقات والباب من ذهب فيصير حينئذ

٣٦٩

مفضّضا ، وإذا وقعت البندقتان في الطاستين تذهبان إلى مواضعهما ثمّ تطلع شموس من ذهب في سماء لازورديّة في ذلك الفلك مع طلوع الشمس الحقيقيّة ، وتدور من دورانها وتغيب مع غيبوبتها ، فإذا جاء الليل فهناك أقمار طالعة من ضوء خلفها ، كلّما تاملت ساعة تكامل ذلك الضوء في دائرة القمر ، ثمّ يبتدأ في الدائرة الأخرى إلى انقضاء الليل وطلوع الشمس فيعلم بذلك أوقات الصلاة. ونظم الشعراء في ذلك أشعارا ، منها قول أبي الفرج عبد الرحمان ابن الجوزي :

يا أيّها المنصور يا مالكا

برأيه صعب الليالي يهون

شيّدت لله ورضوانه

أشرف بنيان يروق العيون

أيوان حسن وضعه مدهش

يحار في منظره الناظرون

صور فيه فلك دائر

والشمس تجري مالها من سكون

دائرة من لازورد حكت

نقطة بتر فيه سرّ مصون

وتلك في الشكل وهذي معا

كمثل هاء ركّبت وسط نون

وممّا يناسب هذا المقام أنّ العلّامة الخبير ملّا محمّد باقر الطهراني رحمه‌الله ذكر في كتاب الخصائص الفاطميّة الفارسي المطبوع ما ملخّص تعريبه : إنّ المستنصر مع وزيره أبي طالب مؤيّد الدين العلقمي دخل سامرّاء لزيارة الخلفاء من آبائه فرأى قبورهم معطّلة لا يزورها أحد ولا شموع موقدة عليها وليست مرشوشة ولا مفروشة ، وعليها ذروق الحمام والعصافير والخفافيش والغبار ، ثمّ أتى قبور الصالحين في روضة العسكريّين عليهما‌السلام فرأى زوّارا وقوّاما وفرشا والقناديل في غاية النظافة واللطافة والناس بين مقبّل أعتابهما وطائف حول ضريحيهما مع كمال الخضوع والانكسار ، فسأله أبو طالب العلقمي ـ وكان من معاريف الشيعة ـ وقال : يا أمير المؤمنين ، ما بال قبر آبائك بهذه الصفة مع كونهم ملوك الدنيا وبأيديهم أمر العباد والبلاد واليوم لا يكترث بزيارتهم أحد ، وهذا عليّ الهادي

٣٧٠

والحسن عليهما‌السلام كانا محبوسين في سامرّاء ، منقطعين عن أهل الدنيا ومع ذلك مشهدهما بهذه الصفة يؤمّه الرجال والنساء زرافات ووحدانا من كلّ فجّ عميق؟! فقال المستنصر : هذا أمر سماوي ليس بأيدينا ، ثمّ رأيت هذه الحكاية في المجلّد الثالث من كشف الغمّة ص ٣٠٩.

وقال ابن الفوطي عطفا على عبارته السابقة : وقد قال في ذلك ـ أي في احتراق الضريح ـ السيّد الفقيه جمال الدين أحمد بن موسى ابن طاوس الحسني كلاما بديعا وجمع فيه جزأ نظما ونثرا ، منه : لا يلزم من الحادث المتجدّد قدح في شرف من انتظمت هاتيك الأعواد على مقدّس جثّتيهما بل قد يكون في ذلك برهان واضح شاهد بجلالتيهما روحي من وقعت الإشارة إليهما خالية من عرصات اللحود ، ساكنة في حضرة المعبود ، والشرف التامّ لجواهر النفوس دون من عداها عند من يذهب إلى وجود معناها. وقد ذكر في التواريخ أنّ صاعقة سماويّة نزلت في المسجد الحرام ولم يقدح ذلك في شرفه ، وللسيّدين صلوات الله عليهما مناقب مذكورة ، ومفاخر مشهورة ، تحتوي عليها الكتب ، تشهد بحراستهما من الوهن ، ونزاهتهما من الطعن :

فمن ذلك ما رواه أبو عمرو الزاهد في أخباره عن عليّ بن الحسين عليهما‌السلام إنّه قال : محمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الشجرة العالية الكريمة الجليلة المباركة الطيّبة ، وبنو هاشم أغصانها ، والحسن والحسين عليهما‌السلام ثمرتها ، ومحبّو بني هاشم ورقها ؛ فمن تعلّق بغصن من أغصانها أو شجنة من شجنتها ، أو بورقة من أوراقها ، أو استظلّ بظلّها فاز ونجا ، ومن تخلّف عنها هلك وضلّ.

وروى عبد الله بن أحمد بن حنبل بإسناد يرفعه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذ بيد الحسن والحسين عليهما‌السلام فقال : من أحبّني وأحبّ هذين وأباهما وأمّهما كان معي في درجتي في الجنّة.

٣٧١

ومن ذلك ما رواه أبو إسحاق الثعلبي في كتاب كشف البيان يرفع الحديث إلى جرير بن عبد الله البجلي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من مات على حبّ آل محمّد مات شهيدا. ومن مات على حبّ آل محمّد مات مؤمنا مستكمل الإيمان. ألا ومن مات على حبّ آل محمّد يزفّ إلى الجنّة كما تزفّ العروس إلى بيت زوجها. ألا ومن مات على حبّ آل محمّد جعل الله زوّار قبره الملائكة بالرحمة. ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات على السنّة والجماعة. ألا ومن مات على بغض آل محمّد لم يشمّ رائحة الجنّة.

هم معشر حبّهم دين ، وبغضهم

كفر ، وقربهم منجى ومعتصم

يستدفع السوء والبلوى بحبّهم

ويسترب به الإحسان والنعم

مقدّم بعد ذكر الله ذكرهم

في كلّ بدء ومختوم به الكلم

يأبى لهم أن يحلّ الذمّ ساحتهم

خيم كريم وأيد بالندى هضم

انتهى كلام ابن الفوطي.

وقول ابن الفوطي جمال الدين أحمد بن طاوس هو ابن السيّد الزاهد سعد الدين أبي إبراهيم موسى بن جعفر الذي هو صهر الشيخ الطوسي على بنته ، وأحمد بن طاوس هو أوّل من ولي النقابة بسوراء ولكن الصحيح أنّ أوّل من ولي النقابة محمّد ابن إسحاق الذي هو من أجداد ابن طاوس ، وإنّما لقّب بالطاوس لأنّه كان مليح الصورة وقدماه غير مناسبة لحسن صورته.

ومحمّد هذا ابن إسحاق الذي كان يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة ؛ خمسمائة من نفسه وخمسمائة من والده. وإسحاق هذا هو ابن الحسن بن محمّد بن سليمان بن داود ، وداود هو رضيع أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام وهو ابن الحسن المثنّى.

وكان أحمد بن طاوس فقيه أهل البيت عليهم‌السلام وشيخ الفقهاء وملاذهم ، صاحب التصانيف الكثيرة البالغة إلى حدود ثمانين كما في مستدرك الوسائل ، وكانت وفاته

٣٧٢

في حدود سنة ٦٧٣ ، ودفن بالحلّه البهيّة ، وقبره يزار ويقصده الناس بالهدايا والنذور.

وقال صاحب روضات الجنّات : أحمد بن طاوس كان مجتهدا واسع العلم ، إماما في الفقه والأصول والأدب والرجال ، وكان من أورع فضلاء أهل زمانه وأتقاهم وأثبتهم وأجلّهم ، حقّق الرجال والدراية والتفسير تحقيقا لا مزيد عليه ، وصنّف اثنين وثمانين كتابا في فنون من العلوم ، واخترع توزيع الأخبار إلى أقسامها الأربعة المشهورة بعد ما كان المدار عندهم في الصحّة والضعف على القرائن الخارجة والداخلة ، ثمّ اقتفى أثره تلميذه العلّامة وسائر من تأخّر عنه من المجتهدين ، وقد بالغ في الثناء عليه العلّامة والشهيدان في كتبهم وإجازاتهم. ومن مصنّفاته الفقهيّة كتاب بشرى المحقّقين أو المخبّتين ـ على اختلاف نسخ الضابطين ـ في ستّ مجلّدات ، وكتاب ملاذ العلماء في أربع مجلّدات ، وكتاب حلّ الإشكال في معرفة الرجال وقد كانت نسخة الأصل منه عند شيخنا الشهيد الثاني قدس‌سره وينقل عنها كثيرا في تعليقاته على الخلاصة وغيرها ، ثمّ انتقلت إلى ولده المحقّق الشيخ حسن صاحب المعالم فصنّف في تحريره وتهذيبه كتابه المسمّى بالتحرير الطاووسي وكتاب عين العبرة في غبن العترة وبناؤه فيه على التكلّم في الآيات الواردة في شأن أهل البيت وتحقيق ذلك مع الآيات النازلة في بطلان طريقة مخالفيهم ، وحقّق الإبانة عن جملة من مساويهم وهو نادر في بابه ، مشتمل على فوائد جليلة لم توجد في غيره ، وعندنا منه نسخة كلّها بخطّ شيخنا الشهيد الثاني.

وقال في المستدرك : وله كتاب بناء المقالة العلويّة في نقض الرسالة العثمانيّة للجاحظ ، قال : وعندنا منه نسخة بخطّ تلميذه الأرشد تقي الدين حسن بن داود .. الخ.

وفي ريحانة الأدب عدّ له أربعة عشرة من مؤلّفاته.

٣٧٣

الحريق الثاني

لمّا احترق الضريحان اللذان أهداهما المستنصر إلى العسكريّين عليهما‌السلام وهو الحريق الثاني صار ذلك فتنة لضعفاء العقول من الفريقين وهتفوا بما لا يليق بشأن الأئمّة عليهم‌السلام كما أشار إليه العلّامة المجلسي قدس‌سره في آخر المجلّد الثاني عشر من البحار ، قال : قد وقعت داهية كبرى وفتنة عظمى في سنة ١١٠٦ في الروضة المنوّرة بسرّ من رأى وذلك أنّه لغلبة أجلاف العرب على سرّ من رأى وقلّة اعتنائهم بإكرام الروضة المقدّسة وأجلّاء السادات والأشراف لظلمهم عليهم ووضعوا ليلة من الليالي سراجا داخل الروضة المطهّرة في غير المحلّ المناسب له فوقعت من الفتيلة نار على بعض الفرش أو الأخشاب ولم يكن أحد في حوالي الروضة فيطفيها فاحترقت الفرش والصناديق المقدّسة والأخشاب والأبواب ، وصار ذلك فتنة لضعفاء العقول من الشيعة والنصّاب من المخالفين ، جهلا منهم بأنّ أمثال ذلك لا يضرّ بحال هؤلاء الأجلّة الكرام ، ولا يقدح في رفعة شأنهم عند الملك العلّام ، إنّما ذلك غضب على الناس ، ولا يلزم ظهور معجزة في كلّ وقت وإنّما هو تابع للمصالح الكلّيّة والأسرار في ذلك خفيّة ، وفيه شدّة تكليف وافتتان وامتحان للمكلّفين ، وقع مثل ذلك في الروضة المقدّسة النبويّة بالمدينة أيضا.

قال الشيخ الفاضل الكامل السديد يحيى بن سعيد قدّس الله روحه في كتاب جامع الشرايع في باب اللعان : إنّه إذا وقع بالمدينة يستحبّ أن يكون بمسجدها عند منبره. ثمّ قال : في هذه السنة وهي سنة أربع وخمسين وستّمائة في شهر رمضان احترق المنبر وسقوف المسجد ثمّ عمل بدل المنبر.

وقال صاحب كتاب عيون التواريخ من أفاضل المخالفين ، في وقايع السنة الرابعة والخمسين والستّمائة : ليلة الجمعة أوّل ليلة من شهر رمضان احترق مسجد

٣٧٤

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة وكان ابتداء حريقه من الزاوية الغربيّة من الشمال ، وكان أحد السدنة قد دخل إلى خزانته ومعه نار فتعلّق به بعض الآلات ثمّ اتصلت بالسقف سرعة ثمّ دبّت في السقوف وأخذت مقبلة فأعجز الناس عن قطعها ، فما كان إلّا ساعة حتّى احترقت سقوف المسجد أجمع ، ووقع بعض أساطينه وذاب رصاصها ، وكلّ ذلك قبل أن ينام الناس ، واحترق سقف الحجرة النبويّة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ، ووقع ما وقع منه بالحجرة ، وبقي على حاله وأصبح الناس يوم الجمعة فعزلوا موضع الصلاة.

وقال : والقرامطة هدموا الكعبة ونقلوا الحجر الأسود ونصبوه في مسجد الكوفة.

وفي كلّ ذلك لم تظهر معجزة ظاهرة في ذلك الحال ولم يمنعوا من ذلك على الاستعجال ، بل ترتّب على كلّ منها آثار غضب الله تعالى مثل استيلاء بخت نصّر على بيت المقدّس وتخريبه إيّاه وهتك حرمته له مع أنّه كان من أبنية الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام وأعظم معابدهم ومساجدهم ، وقبلتهم في صلاتهم ، وقتل آلافا من أصفياء بني إسرائيل وصلحائهم وأحبارهم ورهبانهم ، وكلّ ذلك لعدم متابعتهم للأنبياء عليهم‌السلام وترك نصرتهم والاستخفاف بشأنهم وشتمهم وقتلهم ، انتهى.

وستأتي قصّة القرامطة بأنّهم نقلوا الحجر الأسود إلى هجر وهي بلدة من بلاد البحرين وبقي عندهم عشرين سنة ثمّ ردّوه إلى مكانه ، ووقعة الحرّة وما فعله مسلم ابن عقبة بالمدينة ومسجدها مشهور مسطور ، وحكاية الحجّاج بن يوسف الثقفي وإحراقه بيت الله الحرام أشهر من أن يذكر ، ولم تظهر مع ذلك معجزة.

وذكر أبو الفداء في حوادث سنة ٤٩٤ من تاريخه أنّ الفرنج حاصروا القدس نيّفا وأربعين يوما وملكوه لسبع بقين من شعبان من هذه السنة ، ولبث الفرنج يقتلون

٣٧٥

المسلمين في القدس أسبوعا ، وقتل من المسلمين في المسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألف نفس ، منهم جماعة كثيرة من أئمّة المسلمين وعلمائهم وزهّادهم ممّن جاور في ذلك الموضع الشريف وغنموا ما لا يقع عليه الإحصاء ، ووصل المستنفرون إلى بغداد في رمضان فاجتمع أهل بغداد في الجوامع واستغاثوا وبكوا حتّى أنّهم أفطروا من عظم ما جرى عليهم ، ووقع الخلاف بين السلاطين السلجوقيّة ، فتمكّن الفرنج من البلاد ، وقال في ذلك المظفّري الأبيوردي أبياتا منها :

مزجنا دماء بالدموع السواجم

فلم يبق منها عرضة للمراجم

وشرّ سلاح المرء دمع يفيضه

إذ الحرب شبّت نارها بالصوارم

وكيف تنام العين ملء جفونها

على هفوات ايقظت كلّ نائم

وإخوانكم بالشام يضحى مقيلهم

ظهور المذاكي أم بطون القثاعم

يسومهم الروم الهوان وأنتم

تجرّون ذيل الخفض فعل المسالم

وكم من دماء قد أبيحت ومن إياما

توارى حياء حسنها بالمعاصم

أترضى صناديد الأعاريب بالأذى

وتغضي على ذلّ الكماة الأعاجم

فليتهم إذ لم يدوروا حميّة

عن الدين ضنّوا غيرة بالمحارم

وقال اليافعي في مرآة الجنان : وفي سنة أربع وخمسين وستّمائة أوّل ليلة من رمضان ليلة الجمعة احترق المسجد الشريف النبوي بعد صلاة التراويح على يد فرّاش في الحرم الشريف عرف بأبي بكر المراغي ، واحترق هو أيضا لسقوط ذبالة يده في المساف من غير اختيار منه واحترق جميع سقف المسجد الشريف حتّى لم يبق إلّا السواري قائمة وحيطان المسجد الشريف والحائط الذي بناه عمر بن عبد العزيز حول حائط الحجرة الشريفة المجعول على خمسة أركان لئلّا يصل الضريح الطاهر الشريف ، ووقع ما ذكرنا من الحريق بعد أن عجز عن إطفائه كلّ فريق.

٣٧٦

العمارة التاسعة

لأبي أويس الحسن الجلائري في سنة خمسين وسبعمائة ، كما ذكره العلّامة الخبير الشيخ محمّد السماوي :

ثمّ أتاها الحسن الجلائري

أبو أويس لسرور الزائر

فزيّن الضريح بالمحاسن

وشيّد القبّة في المآذن

وعمل البهو لها وشيّدا

دار الأئمّة الهداة السّعدا

ونقل المقابر البوادي

في الصحن للصحراء والبوادي

وذاك في الخمسين والسبعمئه

على يدي أويس أحزم الفئه

فسّر فيه قلب كلّ زائر

حسنا وأرّخوا (انتدى الجلائري) (١)

قال القاضي في مجالس المؤمنين (٢) : ولا يخفى أنّ قرا محمّد كان من أمراء محمّد جلاير وملازم للسلطان أويس الإيلكاني ثمّ عدّ أمرائهم ووزرائهم ومن ملك منهم من أعيان الشيعة ، والجلائريّون ، والإيلخانيّون ، والإيلكانيّون ، كانت حكومتهم واحدة ويطلق كلّ واحد على الآخر ، وأطنب الكلام في مآثرهم المؤرّخ الشهير محمّد خواند شاه في روضة الصفا.

وذكر الفاضل البحّاثة الشيخ جعفر باقر آل محبوبة النجفي في تاريخ النجف المطبوع (٣) تحت عنوان «مدافق الإيلخانيين أو الجلائريين وغيرهم» : الإيلخانيون من الدول الشيعة التي حكمت في العراق من سنة ستّ وثلاثين وسبعمائة إلى سنة ثلاث عشرة وثمانمائة ، وقد شيّدوا في زمن حكومتهم في العراق معابد وتكايا

__________________

(١) مطابقة لسنة ٧٥٠.

(٢) مجالس المؤمنين : ٣٩٣.

(٣) تاريخ النجف : ١٦٤.

٣٧٧

ومساجد ، وآثارهم في العتبات جليلة ، وممّن نقل منهم إلى النجف الشيخ حسن الكبير المتوفّى في بغداد سنة سبع وخمسين وسبعمائة.

الأمير الشيخ حسن الكبير

جاء في روضة الصفا (١) : إنّ أبا أويس الشيخ حسن الكبير تزوّج بنت الأمير جوبان المسماّة ب «بغداد خاتون» ، وكانت في نهاية الحسن والجمال ، وكان الأمير جوبان من أمراء السلطان أبي سعيد بهادر خان الذي هو من أحفاد ملوك المغول ، ثمّ توفّي السلطان أبو سعيد في الثالث عشر من ربيع الآخر سنة ٧٣٦ ، وقال سلمان الساوجي في رثائه من قصيدة :

گر بگريد تاج وسوزد تخت كى باشد بعيد

بر زمان دولت سلطان أعظم بو سعيد

ثمّ قتل الأمير جوبان في شهر المحرّم سنة ٧٢٨ وأوصى أن يدفن بالمدينة ، فحمل نعشه إلى مكّة ثمّ إلى المدينة ودفن في البقيع عند قبور الأئمّة عليهم‌السلام ـ في قصّة طويلة ـ وكانت له آثار كثيرة وعمارات جليلة في مصر والشام ومكّة والمدينة وغيرها ، وكان له تسعة أولاد ذكورا أكبرهم الشيخ حسن يعرف باسم الشيخ حسن كوچك أي الصغير ، ثمّ إنّه خرج على حسن الكبير ووقعت بينهما معارك على الملك ثمّ قتل الشيخ حسن الأصغر بعد تسخيره البلاد ، قتلته زوجته برضّ خصيتيه مع نسوة أخرى في السابع والعشرين من رجب سنة ٨٤٤ ، ثمّ قتلوا زوجته ، فقال شاعرهم من قصيدة :

ز هجرت نبوى بود بهفصد وچهل وچار

در آخر رجب افتاد اتفاق حسن

زنى چگونه زنى خير خيرات جهان

بزور وبازوى خود خصيتين شيخ حسن

__________________

(١) ٥ : ١٥١.

٣٧٨

فاستبدّ بالملك حسن الكبير فأنشأ معابد وتكايا ومساجد وبذل جهده في عمارة المشاهد ، ثمّ توفّي ببغداد سنة ٧٥٧ وولي الملك ابنه السلطان أويس وطار صيته في الآفاق ، واستولى على بغداد والموصل وديار بكر ، وقام في بغداد ستّة أشهر ، ثمّ سار إلى تبريز وملك البلاد وخضع له العباد وذلّ له كلّ صعب الانقياد ، وتوفّي أخوه الأمير قاسم سنة ٧٧٩ وحمل جثمانه إلى النجف ودفن عند أبيه الشيخ حسن الأكبر ، ثمّ توفّي أويس في الثاني من جمادى الأولى سنة ٧٧٦ ودفن في شيروان.

وقال العلّامة الخبير الشيخ عبد العزيز آل صاحب الجواهر في كتابه آثار الشيعة الإماميّة (١) ما نصّه : الإيلخانيّة أو آل جلاير قد حكموا من سنة ٧٣٦ إلى سنة ٨١٣ ، وأوّل من ملك منهم الشيخ حسن بن أمير حسين بن أمير آق بوقا بن أمير إيلكان ، وكان آق بوقا المذكور من أعاظم أمراء كيخاتون خان ، قتل في حرب نايدو خان ، وكان أمير حسين كبير العائلة لعصره ، تزوّج بابنة أرغون خان فولدت له الشيخ حسن المترجم ، وكان الشيخ حاكم الروم آخر أيّام أبي سعيد وبعد موت أرپا خان أقام مقامه محمّد خان وخلع موسى خان وقتل علي شاه ، ومات الشيخ حسن سنة ٧٥٧ ومدّة ملكه ١٧ سنة ، فقام مقامه ولده الشيخ حسن أويس ثمّ ذكر بقيّة الجلائريّين.

العمارة العاشرة

للسلطان الشاه حسين الصفوي آخر ملوك الصفويّة ، وقد جاء في أواخر الثاني عشر من البحار للعلّامة المجلسي قدس‌سره إنّه بعد أن نقل احتراق الضريح كما تقدّم آنفا قال : ثمّ إنّ هذا الخبر الموحش لمّا وصل إلى سلطان المؤمنين ومروّج مذهب آبائه الأئمّة الطاهرين وناصر الدين المبين ، نجل المصطفين السلطان حسين برّأه الله من

__________________

(١) آثار الشيعة الإماميّة ٣ : ٤٣ طبع ايران.

٣٧٩

كلّ شين ومين ، عدّ ترميم تلك الروضة البهيّة وتشييدها فرض العين فأمر بإتمام صناديق أربعة في غاية الترصيص والتزيين ، وضريح مشبّك كالسماء ذات الحبك زينة للناظرين ورجوما للشياطين ، انتهى.

ونقل عن السيّد العلّامة الخبير السيّد مصطفى التفرشي إنّه قال : ولمّا أرسل ا لضريح والصناديق السلطان المزبور إلى سامرّاء ، أصحبها بعدّة كثيرة من العلماء والأعيان ، وكان يوم دخولهم في سامرّاء يوما مشهودا ، وألقيت الخطب والقصائد في فضائل أهل البيت ومدح السلطان المزبور ، وهو إلى يومنا هذا باق في غاية الإتقان ، واسم السلطان شاه حسين الصفوي مكتوب على جبهة باب الضريح جليّا ، وإلى ذلك أشار العلّامة الخبير الشيخ محمّد السماومي في وشايح السرّاء (١) بقوله :

ثمّ أتى الشاه حسين الصفوي

فدعّم البناء في ركن قوي

وزيّن الربع بأسمى ساج

فكان للروضة كالسياج

وعمل الشباك من فولاذ

حذرا على المرقد من محاذ

ورخّم الأرض ودور البقعه

بحيث لم تعلق صفاها شمعه

وذاك يوم احترقت أخشابها

بشمعة زاد بها التهابها

وأخبر الشاه حسين فيها

فصبّ كفّة الذي يكفيها

وكان حين أرسل القناطرا

كالغيث يرفض في غدوّ ماطرا

فتمّ ما أراده في الوقت

للألف ثمّ مئت وستّ

وظهر الجود الذي قد أظهرا

به البناء فأرّخوا (ظهرا) (٢)

__________________

(١) وشايح السرّاء : ٣٢.

(٢) مطابقة لسنة ١١٠٦.

٣٨٠