الأزهر في ألف عام - ج ٢

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي

الأزهر في ألف عام - ج ٢

المؤلف:

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٢

ومذهب الشيوخ الجامدين ، وكان هذا الصراع نفسه آية حياة وانتعاش وتنبه فكري.

وأنشأ الشيخ عبده في بضع سنين جيلا طموحا للفهم المستقل ، عزوفا عن التقليد يشعر بالكرامة الإنسانية ، ويلتمس المثل العليا في الحياة الدنيا وفي الآخرة. وكان ذكر الشيخ عبده يطير في الآفاق مقرونا بذكر النهضة الإصلاحية التي استرعت الأنظار ، وقد تحركت نوازع الحقد والحسد في أنفس لا ترضى عن الشيخ ولا عن دعوته ، فكادوا له من كل سبيل ، حتى اضطر إلى الاستقالة من منصبه في الأزهر في مارس سنة ١٩٠٥ م ـ المحرم سنة ١٣٢٣ ه‍.

وتوفي الشيخ في الحادي عشر من يوليو عام ١٩٠٥ ـ ٧ جمادى الأولى ١٣٢٣ ه‍ بعد جهاد طويل في سبيل إصلاح الأزهر ، وفي سبيل الاصلاح الديني والإسلامي في كل وطن عربي ولا سيما في مصر قلب الإسلام الخافق.

بين جمال الدين ومحمد عبده

(١)

كان الأفغاني ومحمد عبده أعظم مصلحين ظهرا في القرن التاسع عشر الميلادي ، حملا رسالة الإصلاح الديني والفكري وكونا مدرسة أدبية وسياسية كان لها أعظم الأثر في تاريخ الشرق الإسلامي.

وعن هذه المدرسة انبعثت روح التحرر والرغبة في التقدم ونضال الاستعمار في جميع البلاد الشرقية والعربية.

وترجع صلة محمد عبده بجمال الدين الأفغاني إلى أول المحرم عام ١٢٧٠ ه‍ ، حيث كان الأفغاني في زيارة قصيرة للقاهرة في طريقه إلى الآستانة منفيا بيد الإنجليز من الهند ، وكان محمد عبده إذ ذاك طالبا بالأزهر.

٢١

وتردد محمد عبده على بيت جمال الدين ، وتتلمذ عليه وعلى مائدة علمه وفضله ؛ وبعد أيام قصيرة سافر جمال الدين إلى الآستانة ، وودعه محمد عبده وداعا حارا ، وفي الآستانة نال جمال الدين تقديرا كبيرا ، وعين عضوا في مجلس المعارف هناك ، ولكنه شعر بالدسائس والوشايات تحاك من حوله فعاد إلى القاهرة مرة أخرى في أول المحرم ١٢٨٨ م ، فعاد محمد عبده إلى التلمذة عليه والإفادة من ثقافته.

وعرف محمد عبده من أستاذه جمال الدين أن الاستعمار الغربي وبال على الإسلام والمسلمين ، وأنه يجب محاربة الديكتاتورية الملكية ، والفساد السياسي ؛ وعن طريقه علم أن الأدب يجب أن يكون في خدمة الشعب وتحريره ، وأنه يجب أن يتحرر من قيود الصناعة اللفظية ، وأن المعنى لا اللفظ هو سر كل بلاغة ، وتعود الكتابة الدينية والوطنية في الصحف والمجلات ، وبدأ يهتم بمطالعة مصادر الثقافة الإسلامية والأدبية ، ويطالع الكتب المترجمة ، ويسعى مع إخوانه من تلامذة جمال الدين في إصلاح الأزهر الشريف وفي الإلحاح في طلب الحكم النيابي والديمقراطية السياسية.

وظفر محمد عبده بشهادة العالمية عام ١٢٩٤ ه‍ ١٨٧٧ م وأصبح مدرسا بالأزهر ودار العلوم ومدرسة الألسن ، وبدأ يكون جيلا جديدا من تلامذته ، ينفخ فيهم روح أستاذه جمال الدين.

(٢)

وفي الخامس والعشرين من يونيو عام ١٨٧٩ م عزل إسماعيل وتولى مكانه ابنه توفيق ، وقد بدأ حكمه بنفي جمال الدين من مصر ، وإقالة محمد عبده من وظائفه العلمية ، وتحديد إقامته في قريته «محلة نصر» ، وذلك في الرابع والعشرين من أغسطس عام ١٨٧٩ م ـ أواسط رمضان عام ١٢٩٦ ه‍ ، خوفا من النهضة الوطنية التي يتزعمانها ، ويدعوان إليها ، وقبل

٢٢

أن يغادر الأفغاني أرض مصر قال : «إني تركت في أرض مصر الشيخ محمد عبده يتم ما بدأت به».

وبعد شهور عفا توفيق عن محمد عبده ، وأسند إليه رياض باشا التحرير في الوقائع ، فاختار معه سعد زغلول وجماعة من زملائه من تلامذة جمال الدين ؛ وكون محمد عبده عن طريق الوقائع مدرسة صحفية نزيهة غايتها خدمة الشعب ، وتحريره فكريا وقوميا من قيود الاستعباد والاستبداد والرجعية والجهل والجمود والتأخر.

وقامت الثورة العرابية ، وكان محمد عبده من أبرز زعمائها ، وكان جمال الدين آنذاك في الهند ، فاعتقلته بريطانيا حتى لا يتصل بزعماء الثورة ، وانتهت الحركة العرابية بالفشل والاحتلال البريطاني لمصر ، وقبض على محمد عبده وسجن وحوكم ، وحكم عليه بالنفي ثلاث سنوات ، فاختار سوريا منفى له. وأفرجت بريطانيا عن جمال الدين. وسافر من الهند إلى لندن فباريس. وهناك استدعي جمال الدين محمد عبده من بيروت ليقيم معه في عاصمة فرنسا.

(٣)

وفي باريس أخذ الإمامان يجاهدان من أجل الشرق الإسلامي وتحرره ، ويعملان ليعود للإسلام مجده وألفا جمعية «العروة الوثقى» عام ١٨٨٤ م ، ثم أصدرا صحيفة باسم «العروة الوثقى» للجهاد في سبيل الشرق والإسلام. وخلق الوعي السياسي المستنير في الشعوب الإسلامية «ومناهضة الحكم الديكتاتوري» والعمل على إحياء الأخوة الإسلامية ، وعلى قيام حكم ديمقراطي شورى بين الناس.

وصدر العدد الأول من العروة الوثقى في ٥ جمادى الأولى ١٣٠١ ه‍ ـ ١٣ مارس ١٨٨٤ م ، وكله حرب على الاستعمار الغربي في بلاد المسلمين ، ودعوة إلى حكومة إسلامية موحدة أو حكومات إسلامية

٢٣

متآخية متحدة المناهج والأهداف والأفكار يرتبط بعضها ببعض بروابط الود والإخاء وحب السلام.

وفي يوليو عام ١٨٨٤ م أوفد جمال الدين الأستاذ الإمام محمد عبده إلى لندن لمفاوضة السادة الإنجليز في القضية المصرية ، ودعوة إنجلترا إلى الجلاء عن مصر ، وترك السودان للسودان ، وأدى محمد عبده مهمته خير أداء ، وأعلن في عزم وقوة أن مصر ستحارب الإستعمار الإنجليزي بكل ما أوتيت من قوة.

وعاد الإمام إلى باريس ليشهد توقف مجلة العروة الوثقى التي حاربها الاستعمار والانجليز حربا لا هوادة فيها ، وذلك بعد العدد الثامن عشر الصادر في ٢٦ من ذي الحجة عام ١٣٠١ ه‍ ـ ١٦ أكتوبر عام ١٨٨٤ م.

وعاد جمال الدين فأوفد الإمام إلى السودان لتغذية الثورة المهدية والإفادة منها في تحرير مصر من الاحتلال ، فسافر محمد عبده سرا إلى تونس ومنها إلى مصر ، وأراد السفر إلى السودان ولكنه فوجىء بوفاة المهدي في الحادي والعشرين من يونيو عام ١٨٨٥ ، وتسليم التعايشي ، فسافر سرا إلى بيروت وأقام فيها ، وبقي أستاذه جمال الدين في باريس ، وأخذ كل منهما يجاهد في سبيل منهجه الإصلاحي المرسوم.

وفي بيروت ألف محمد عبده جمعية التأليف والتقريب هو وصديقه تلميذ جمال الدين «ميرزا محمد باقر» للدعوة إلى الإسلام في جميع أنحاء العالم ؛ وتعريف الغرب بحقائق الإسلام والتعاون على إزالة اضطهاد أوروبا للشرق أو المسلمين.

وكان قيام هذه الجمعية تطبيقا رائعا لأفكار جمال الدين ونزعاته وتعاليمه.

(٤)

وفي أواخر عام ١٨٨٨ م عاد محمد عبده إلى وطنه بعد أن ظل في المنفى ست سنوات «وأخذ يكون مدرسة فكرية متحررة لتثقيف الشعب

٢٤

وتربيته وتحريره من الجهل والخوف والجمود ، وإعداده لحياة ديمقراطية صالحة ، وكان من تلاميذه سعد زغلول والمنفلوطي ولطفي السيد والهلباوي ومصطفى عبد الرازق والأحمدي الظواهري ومحمد مصطفى المراغي والزنكلوني ورشيد رضا وسواهم.

وعاد جمال الدين إلى الآستانة يقيم فيها في ظلال السلطان عبد الحميد ، وأخذت دعوة جمال ومحمد عبده إلى التحرر الفكري والإصلاح الديني تنتشر في صفوف الشباب في مصر والعالمين العربي والإسلامي انتشارا كبيرا.

وسعى محمد عبده في إصلاح الأزهر والمحاكم الشرعية والقضاء والمساجد والإفتاء ذائع معروف ، وساح محمد عبده في الأقطار الإسلامية فقام برحلات إلى تونس والجزائر والشام والآستانة وأوروبا والسودان ، وهو أينما نزل ، وحيثما رحل ، ينشر رسالته ، ويدعو إلى الإصلاح والتجديد.

ومات جمال الدين في الآستانة في صباح الثلاثاء الخامس من شوال عام ١٣١٤ ه‍ ـ التاسع من مارس عام ١٨٩٧ م ودفن فيها ، وبعد سنوات ثمان مات محمد عبده في الثامن من جمادى الأولى عام ١٣٢٣ ه‍ ـ ٢١ يوليو عام ١٩٠٥ ، وذهب الإمامان إلى ربهما راضيين مرضيين بعد أن أديا رسالتيهما على خير الوجوه ، وجاهدا في سبيل الإسلام والمسلمين جهاد الأبطال وأسهما في خلق الوعي السياسي وتأجيج الشعور الوطني ، وإحياء العزة القومية في نفوس المسلمين عامة.

وكان نضال الإمامين وكفاحهما مضرب الأمثال ، لأنه كان نضالا صادقا خالصا لوجه الله والإسلام.

مات الإمامان ولكن تلاميذهما كانوا هم محور النهضة السياسية والوطنية في تاريخ العالمين العربي والإسلامي بعد وفاتهما ، وظلت مبادىء جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده حية في النفوس مشتعلة في القلوب ، مسجلة في أنصع صفحات التاريخ الحديث.

٢٥

إن هذين الإمامين الجليلين والحكيمين الرائدين ، والعبقريين المصلحين ، لهما سبب كل تقدم أحرزناه خلال الخمسين سنة الماضية ، ومن أفكارهما وآرائهما ودعوتهما انبعثت شعلة الثورة والتحرر والإصلاح في كل مكان ..

سعد زغلول في الأزهر

جاور سعد في الأزهر عام ١٨٧٥ وهو في سن الخامسة عشرة وحضر الأزهر يصحبه شقيقه الشناوي سعد زغلول الذي تولى أمره بعد وفاة أبيه ، وأوصى به طالبين يكبرانه سنا وهما : الشيخ حسن البليهي والشيخ محمد أبو رأس الذي وصل فيما بعد إلى شيخ معهد دسوق ، وتوطدت الصلة بينه وبين الهلباوي الأزهري الذي كان يسبقه في الدراسة وكان يسكن معه في منزل واحد في غرفة أمام غرفته. حضر سعد دروس محمد عبده وبواسطته اتصل بجمال الدين الأفغاني ، وقضى سعد في الأزهر خمس سنوات نبغ فيها ، ثم عين محررا بالوقائع سنة ١٨٨٠ م.

ويقول زميله الهلباوي عنه : اشتهر سعد بين زملائه طلبة الأزهر باليسر وسعة اليد. فقد كانت عائلته أكبر العائلات في الريف المصري ومن أعظمها جاها وسلطانا في موطنها. وقد كان سعد هو الطالب الوحيد الذي يلبس الجبة والقفطان في (شلتنا) ، فكنا نفتخر به وبجبته وقفطانه ونتباهى بملبسه أمام الطلبة الآخرين .. ولا عجب في ذلك فقد كنت أنا مثلا ألبس (الزعبوط) الذي لازمني طول مدة دراستي حتى تخرجت في الأزهر فتوظفت وأنا ألبس (الزعبوط) ..

وكان سعد يعير دروسه الاهتمام الأول ، ولم يكن له دراية بشئون المنزل ـ شأن طلبة الأزهر ـ فأهمل مأكله وملبسه رغم النقود والملابس لديه ، ولاحظ ذلك شقيقه الشناوي أفندي فخصص له زميلين من زملائه عهد إليهما في إعداد طعامه وقضاء لوازمه. وكان يعطيهما أجرا خاصا نظير هذه المهمة ، فإذا تصادف يوما أن شغلهما شاغل عن القيام بخدمته حار

٢٦

سعد وأسقط في يده .. فكنت أتطوع لخدمته شفقة وعطفا عليه ، إذ كان قاصرا صغير السن.

وقد يعرف أن المغفور له سعد زغلول درس في الأزهر ، ولكن كثيرين منا لا يعرفون إلى أي مدى وصل في دراسته ، ولا كيف تلقى علومه ودروسه.

لقد زامل سعد زغلول في الأزهر فرقة كان في طليعتها ، ولم يبق من زملائه في هذه الفرقة على قيد الحياة إلا فضيلة الشيخ عبد المعطي الشرشيمي العضو السابق في جماعة كبار العلماء ، وهو العضو الوحيد الذي استقال من الجماعة منذ انشائها إلى الآن ، لأن جماعة كبار العلماء لم يكن من قبل يشترط فيها مدة قانونية يحال بعدها العضو إلى المعاش.

وقد تلقى سعد وعبد المعطى وزملاؤهما الفقه على مذهب الإمام الشافعي في أوائل حياتهم الدراسية في زاوية العدوى بالقرب من الجامع الأزهر ، ثم انتقلوا إلى الجامع الأزهر لاستيفاء دراستهم فيه.

وقد أوغل سعد في علوم الأزهر ودراساته ، وضرب فيها بسهم وافر ، ولم يبق بينه وبين أداء امتحان الشهادة العالمية إلا أن يتقدم لهذا الامتحان.

ولكنه لم يتقدم لهذا الامتحان مكتفيا بما أحرز من ثقافة وما حصل من علوم ، وانصرف إلى التحرير في الوقائع المصرية مع أستاذه الإمام محمد عبده ثم إلى ميدان المحاماة بعد ذلك ، وعكف سعد على دراسة اللغة الفرنسية وهو في سن متقدمة وحصل على إجازة الحقوق.

وقد كانت دراسة سعد في الأزهر خير معوان له في حياته ، خصوصا بعد اتصاله بالإمام محمد عبده ، وتوجيهه وجهة أخرى تختلف في ذلك الوقت عما درج عليه الأزهريون في حياتهم الدراسية.

وقد بلغ من شغف الطالب سعد زغلول بعلوم الأزهر أن ألف كتابا في

٢٧

الفقه ، قدره أساتذة الأزهر وأثنوا على كفايته وصفاء ذهنه ، وقد طبع هذا الكتاب ونشر ونفد بعد طبعه.

وكان المغفور له الشيخ المراغى شيخ الأزهر الأسبق يحتفظ في مكتبه بنسخة منه.

وذات يوم كان لطفي السيد باشا يزور صديقه المرحوم الشيخ المراغى في داره بحلوان ، وجرى الحديث في شئون العلم والفلسفة على دأبهما في ذلك.

وتناول الحديث الزعماء والعلم فقال لطفي باشا : إن بين الزعماء السياسيين نوابغ لو تفرغوا بعض الوقت للتأليف والانتاج لأفادوا فائدة عظيمة.

وهنا ابتسم المرحوم الشيخ المراغى وقال لصديقه : هل تعلم أن المرحوم سعد زغلول باشا ألف كتابا في الفقه؟

وشغف لطفي بالاطلاع على هذا الكتاب ، فقام الشيخ المراغى إلى مكتبته وجاء بهذا الكتاب إلى لطفي باشا الذي تناوله كما يتناول المنهوم الطعام ، وقلب صفحاته وقلب الكتاب وهو يقول : عجيبة.

وأزاح لطفي باشا غلاف الكتاب وقرأ اسمه ، وقد كتب الناشر تحت عنوان الكتاب ما يلي : ألفه الفقير إلى الله تعالى الشيخ سعد زغلول الشافعي المذهب من طلاب الأزهر الشريف.

ثم قضى لطفي باشا وصديقه الشيخ المراغى بعض الوقت في دراسة فصول الكتاب ، وفي ذكريات طريفة عن صديقهما المغفور له الشيخ سعد زغلول باشا.

ولسعد في الأزهر ذكريات كثيرة شهد بعضها المنزل رقم ٢٠ في درب الأتراك بحي الأزهر المتداعي للسقوط اليوم.

وفي الدور الأرضي من هذا المنزل وقف سعد زغلول يترافع ذات

٢٨

ليلة .. ولعلها كانت المرافعة الأولى في حياته ، ومن أجل غرامة قدرها مليمان! وقد تحمس في دفاعه ؛ وحمى وطيس المناقشة بينه وبين ممثل الاتهام إبراهيم الهلباوي ، فلم تنته الجلسة إلا في الخامسة صباحا! أما المرافعة فهي أن سعد زغلول كان خامس خمسة يسكنون غرفة واحدة ، ويطلبون العلم في الأزهر ، وكانوا يضيئون غرفتهم بقنديل يشعل بالزيت ويكلفهم طول الشهر عشرة مليمات ، يدفع كل منهم نصيبه فيها. ولكن إبراهيم الهلباوي رأى أن يضايق (سعدا) من باب المداعبة فحرض بقية المشايخ ضده متهما إياه بأنه أكثرهم انتفاعا بالقنديل ، لأنه أكثرهم قراءة بالليل ولذا حق عليه أن يدفع أربعة مليمات!

وفي آخر الشهر فوجىء سعد بالثورة ضده ومطالبته بالغرامة ، وظن الهلباوي أنه ربح المداعبة ، ولكن سعد المحاور المداور ، شرع يدافع عن نفسه ، وضرب لهم مثلا غاية في الطرافة إذ قال : لو أن رجلا علق على باب بيته فانوسا ليضيء له ، فانتفعت بهذا الضوء غازلة أو ناسجة وهي في منزلها ، وزاد انتاجها ، فهل يعني هذا أن للرجل الحق في مقاسمتها انتاجها الذي زاد؟ كلا بالطبع! وهكذا حالكم معي فقنديلكم مشعل طول الليل ، قرأت عليه أم لم أقرأ ... وليس لكم أن تطالبوني بأكثر مما يدفعه أي واحد منكم!.

وأفحم الجميع. ثم جاءت القوانين الحديثة فأيدت مبدأه بحق الارتفاق وهو حق قانوني معروف!.

وفي حارة (القرد) المتفرعة من شارع (المقريزي) خلف الأزهر منزل متهدم تنام تحت أنقاضه قصة طريفة من قصص سعد زغلول والهلباوي وثالث (من بلدياتهم) كان اسمه الشيخ (بسطاويسي) لم يقدر له من الشهرة والمجد ما قدر لزميله ، فقد كان الفرسان الثلاثة ، يسكنون غرفة أجرتها ستة قروش ولكنهم عجزوا في شهر ما لأزمة طارئة عن سدادها ... وفشلت كل المفاوضات التي حالوا أن يقنعوا بها صاحبة المنزل لتأخير الدفع ، فأنذرتهم

٢٩

بأنها سوف تلقي في الصباح بكل متاعهم وكتبهم في عرض الحارة الضيقة!. واجتمع الفرسان تحت القنديل للتداول وخطرت لسعد زغلول فكرة بسطها عليهم ، فصفقوا لها ثم ناموا دون تفكير في كارثة الصباح!.

ودخلت صاحبة المنزل في الصباح تهدد وتتوعد ومدت يدها تنفذ وعيدها ولكنها لم تلبث أن هدأت ثورتها وخفت حدتها واغرورقت عيناها بالدموع. لقد كان (الشيخ بسطاويسي) يتأوه من الحمى في فراشه ... وكانت صاحبة البيت لا تطيق أن ترى غريبا مريضا ، فقد توفي لها ابن في بلاد الغربة!.

ونجحت الحيلة ، لكنها كانت بالنسبة للشيخ (بسطاويسي) مقلبا ... فقد أصرت المرأة على أن تعالجه بنفسها ، وراحت تسقيه ألوانا من الوصفات البلدية ، كالحنظل المنقوع والخل وغيره!

وبعد أيام وصلتهم النقود وحاول (بسطاويسي) أن يغادر الفراش ولكن الفراش رفض أن يتركه فقد مرض بالحمى فعلا!

وقد ظل (الشيخ بسطاويسي) يتندر بهذه القصة حتى توفي سنة ١٩٤٥!.

ويتلخص تاريخ سعد زغلول الأزهري فيما يلي :

ولد سنة ١٨٥٩ ، وفي ٥ أكتوبر سنة ١٨٨٠ عين الشيخ سعد زغلول الطالب بالأزهر الشريف محررا بقلم الوقائع المصرية بمرتب قدره ٨٠٠ قرش في الشهر (وهو حسن السير والسلوك بمقتضى شهادة للمرحوم الشيخ محمد عبده).

وفي أول فبراير سنة ١٨٨٢ منح ١٣٣ قرشا علاوة شهرية فصار راتبه الشهري ٩٣٣ قرشا.

وفي ٣ مايو سنة ١٨٨٢ صدر الأمر بنقل سعد زغلول إلى وظيفة

٣٠

معاون بنظارة الداخلية ، ومنح ٥٦٧ قرشا علاوة لابلاغ ماهيته (١٥) جنيها في الشهر اعتبارا من ٢٦ إبريل سنة ١٨٨٢.

وفي ٦ سبتمبر سنة ١٨٨٢ فصل سعد زغلول من وظيفة التحرير بالوقائع المصرية لأنه عين ناظرا لقلم القضايا بمديرية الجيزة ابتداء من ٧ سبتمبر سنة ١٨٨٢.

وفي ٢٧ يوليو سنة ١٨٩٢ عين نائب قاض بمحكمة استئناف مصر الأهلية براتب قدره ٤٥ جنيها في الشهر.

وفي أول فبراير سنة ١٨٩٤ صدر الأمر بمنحه ١٥ جنيها علاوة شهرية لإبلاغ ماهيته ٦ جنيهات.

وفي أول يناير سنة ١٨٩٧ منح خمسة جنيهات علاوة شهرية.

وفي ٨ ابريل ١٨٩٩ أنعم عليه برتبة (المتمايز).

وفي ١٢ يونيو سنة ١٩٠٤ أنعم عليه بالنيشان المجيدي الثالث.

وفي أول يناير سنة ١٩٠٦ عدلت درجته وجعل راتبه ١٠٠٠ جنيه في السنة.

وفي ٢٨ أكتوبر سنة ١٩٠٦ عين سعد زغلول (بك) المستشار بمحكمة الاستئناف الأهلية ناظرا للمعارف العمومية بدلا من حسين فخري باشا.

وفي ١٢ نوفمبر سنة ١٩٠٦ أنعم عليه برتبة (الميرمران) الرفيعة.

وفي ١٨ يناير سنة ١٩٠٨ أنعم على سعد زغلول باشا وزير المعارف العمومية بالنيشان المجيدي الأول.

وفي ٢٣ فبراير سنة ١٩١٠ عين سعد زغلول باشا ناظرا للحقانية.

وفي ٢٧ يناير سنة ١٩٢٤ عين رئيسا لمجلس الوزراء وأنعم عليه برتبة الرياسة الجليلة.

٣١

وفي ٢٣ مارس سنة ١٩٢٥ انتخب رئيسا لمجلس النواب.

وفي ١٠ يونيو سنة ١٩٢٦ عين رئيسا لمجلس النواب للمرة الثانية.

وفي ٢٣ أغسطس سنة ١٩٢٧ توفي إلى رحمة الله.

أزهريون نابهون

ومن الذين حضروا في الأزهر أو تتلمذوا على شيوخه ، من الجيل الماضي :

الشيخ زين المرصفي الشافعي توفي عام ١٢٠٠ ه‍ وكان من علماء الأزهر وتولى منصب كبير المفتشين بوزارة المعارف (٨٦ ـ ٨٧ أعيان القرن ١٣ لأحمد تيمور).

الشيخ مصطفى السفطي الأزهري عين في وظائف التدريس بالمعارف وتوفي عام ١٣٢٧ ه‍ (٩٨ ـ ١٠٢ المرجع).

أحمد تيمور باشا (١٢٨٨ ـ ١٨٧١ ـ ١٣٤٨ ه‍ ـ ١٩٣٠) ، وكان عالما حجة بحاثة في شتى العلوم. ومن أساتذته الطويل والشنقيطي وسواهم (١).

الشيخ أحمد مفتاح (١٢٧٤ ـ ١٣٢٩ ه‍)

طلب العلم بالأزهر ، ثم التحق بدار العلوم وعين مدرسا فيها. ومرت عليه أحداث كثيرة (٢).

ومن علماء الأزهر الشيخ محمد البسيوني البيباني ، وقد اختير إماما للمعية ، ثم مدرسا للغة العربية بمدرسة الإدارة ـ الحقوق ـ وقد كان أستاذ شوقي في اللغة والأدب ، وتوفي في ١٣ ربيع الآخر ١٣١٠ ه‍ ٣ نوفمبر

__________________

(١) ١٥٧ ـ ١٦٣ تراجم أعيان القرن ١٣ لأحمد تيمور.

(٢) ١٤٥ ـ ١٥٤ أعيان القرن ١٣ لأحمد تيمور.

٣٢

١٨٩٢ ، وله كتاب «حسن الصنيع في المعاني والبيان والبديع ، وكان من تلاميذه كذلك أحمد زكي (باشا).

ومنهم الشيخ حسين المرصفي المتوفى سنة ١٣٠٧ ه‍ ـ ١٨٨٩ م وهو أستاذ البارودي في الأدب والشعر واللغة ، وكذلك تتلمذ عليه عبد الله فكري باشا ... وأشهر مؤلفاته «الوسيلة الأدبية للعلوم العربية ، وقد طبع في جزءين وشهرته ذائعة ، وله كتاب «الكلمات الثماني» ، وكتاب «دليل المسترشد في الإنشاء».

ومن الذين درسوا في الأزهر الشيخ على الليثي شاعر إسماعيل المتوفى ١٣١٣ ه‍ ـ ١٨٩٦ م ، وكان مولده في بولاق مصر سنة ١٢٣٦ ه‍ ، وتعلم بالأزهر.

ومن الذين درسوا في الأزهر كذلك المرحوم مصطفى لطفي المنفلوطي الأديب الكبير (١٨٧٦ ـ ١٩٢٤) صاحب الكتب المشهورة الذائعة بين الأدباء والمتأدبين ومن أشهرها : النظرات ، العبرات ، الشاعر ، ماجدولين ، الانتقام ، في سبيل التاج ، الفضيلة.

ومنهم كذلك عميد المحاماة إبراهيم الهلباوي ، وكان من أشهر الخطباء في العصر الحديث ، وتوفي عام ١٣٥٩ ه‍ ـ ١٩٤٠ م.

ومنهم الشيخ عبد العزيز البشرى نجل الشيخ البشرى شيخ الأزهر السالف ، وكان أدبيا كاتبا ناقدا متذوقا ، وله كتاب «المرآة» ، ومختارات البشرى وغيرهما ، وكان من أعلام القضاء الشرعي. وتوفي نحو عام ١٩٤٠.

ومن الأزهريين في النشأة العلمية ممن يعاصروننا أو كانوا يعاصروننا إلى عهد قريب : الدكتور طه حسين ، وأحمد أمين ، وزكي مبارك ، وعبد الوهاب عزام ، والشيخ محمد أبو زهرة ، وأحمد حسن الزيات ، والدكتور أمين الخولي ، والشيخ عبد الوهاب خلاف ، والشيخ مصطفى خفاجي ، وسواهم من الشخصيات المعاصرة المعروفة في مصر والعالم الإسلامي.

٣٣

الشيخ محمد رشيد رضا

في ٢٣ جمادى الأولى ١٣٥٤ ه‍ ـ ٢٢ أغسطس عام ١٩٣٥ م توفي الشيخ محمد رشيد رضا (١) ، وكان الشيخ قد تجرد رحمه الله لخدمة الإسلام ، ووقف له كل ما وهبه الله من علم وقوة وصبر ومثابرة ، وليس يؤسف الناس من وفاته خفوت صوت من أرفع الأصوات في الدفاع عن الإسلام فحسب ، ولكن من خلو مكان رفيع كان يشغله أيضا بين العاملين على تطهير عقول المسلمين من البدع التي اعتبرها عامتهم من الدين وليست منه في شيء.

نعم إن ثورة المرحوم السيد رشيد على البدع لا يوجد لها نظير إلا في أفراد من السلف الصالح ، فقد صمد لها صمودا أشفق عليه منه حتى الذين كانوا يشاطرونه رأيه من العارفين ، ولكنهم لم يؤتوا الشجاعة التي أوتيها ، فباتوا يتوقعون له الشر المستطير ، وقد لقي منه ما لو لقيه سواه لصده عن السبيل ، ولكنه ثبت للمعارضين ، واستبسل في الكفاح أيما استبسال ، حتى استطاع بفضل إخلاصه وصبره أن يحدث في الصفوف المتراصة حياله ثغرة اقتحمها على مناوئيه وفي أثره جمهور غفير ممن كانوا لا يجرءون على مواجهتهم مجتمعين ، فأصبحنا وللسنة الصحيحة أنصار مجاهرون ، وحيال البدع خصوم مجاهدون.

فلو لم يكن لفقيد العلم السيد رشيد غير هذا الموقف لخلد ذكره في تاريخ المسلمين ، فما ظنك به وقد أسقط دولة التقليد ، تلك الدولة التي قضت على المسلمين بأن ينقسموا شطرين شطرا جمدوا على ما هم عليه من التقاليد المنافية لروح الدين ، وقوما مرقوا من الإسلام واتخذوا لهم طريقا غير طريق المؤمنين ، فلو كان دام سلطان التقليد لقضي على كل مفكر أن يفني في حزب المقلدين ، وهي كارثة جدير بكل من يعرف حقيقة الإسلام ان يذوب قلبه أسفا منها.

__________________

(١) في مقتطف عدد أكتوبر عام ١٩٣٥ كلمة عن رشيد رضا بقلم الشيخ محمد شاكر.

٣٤

فكان السيد رشيد البطل المعلم في هذا الموطن الشريف ، تلقي فيه بصدره كل ما يتلقاه المصلحون من الجامدين ، وكان لجهاده أثر بعيد في تبصير المسلمين بسماحة دينهم ، وببقاء باب الاجتهاد فيه مفتوحا إلى يوم يبعثون.

وكان تلميذ الأستاذ محمد عبده ، وحامل لواء الإصلاح الديني من بعده ، ولا بدع فإن أربعين سنة قضاها الفقيد الكريم في تحرير المنار يفسر كتاب الله على طريقة الإمام ويبسط أحاديث الرسول على نهج السلف ، ويحرر الفتاوى في المسائل الدينية المختلفة ، ويقطع ألسنة المبشرين والملحدين بالأدلة النواهض ، ويجلو عن الشريعة ظلام الشبه بالعقل المنير ، ويزيد في ثروة الأدب الإسلامي بالمصنفات القيمة ، حرية أن تحله من قلوب المؤمنين موضع التجلة ، وتبوئه من صفحات التاريخ مكان الأئمة.

ولد الفقيد في قرية (القلمون) إحدى قرى لبنان القريبة من طرابلس ، فتلقى العلم طفلا ويافعا في هذه المدينة ، ثم هاجر إلى مصر ، فدخل الأزهر واتصل بالإمام محمد عبده اتصالا وثيقا ، فأشار عليه أن يصدر (المنار) فكانت سجلا لآراء الأستاذ الاجتهادية في حياته ، واستمرارا لدعوته الإصلاحية بعد مماته. ثم أسهم في النهضة العربية واتصل بجمعياتها السرية في أطوارها المختلفة من سنة ١٩٠٨ إلى قيام الحرب الكبرى. فلما أعلنت الهدنة عاد إلى سورية فانتخب رئيسا للمؤتمر السوري الذي نادى بالأمير فيصل ملكا ، ثم ظل في خدمة هذه الدولة العربية الجديدة حتى ثل عرشها الفرنسيون سنة ١٩٢٠ ، فارتد إلى القاهرة يحرر المنار ويعالج التأليف ، فأصدر طائفة من الكتب القيمة أشهرها تكملة تفسير الإمام على هديه ووحيه ، ثم الجزء الأول من تاريخ الإمام وكان قد أصدر منه جزءه الثاني فيما قاله ، والثالث فيما قيل فيه ، ثم كتابه «الوحي المحمدي».

وكان علما من أعلام الدين والعلم ، وتلميذ محمد عبده الوفي ،

٣٥

والرجل الذي قضى حياته في خدمة الاسلام وتراثه إلى أن توفي في ٢٢ أغسطس ١٩٣٥ ـ ٢٣ جمادى الأولى عام ١٣٥٤ ه‍.

مات فبكته مصر والعروبة والإسلام والشرق ، وأقيمت بجمعية الشبان المسلمين حفلة تأبين له في أبريل ١٩٣٦ ، خطب فيها جمهور من العلماء والأدباء.

وقال فيه العالم العلامة الشيخ علي سرور الزنكلوني في حفلة تأبينه :

كان لصاحب المنار منذ عرفته مصر وجود قوي ، وشخصية بارزة ، امتد صوتها إلى الأقطار العربية والأقطار الشرقية ، بل كان لهذا الصوت أثر في بعض الأمم التي ليست شرقية ولا إسلامية ، لأن الأبحاث التي تعرض لها صاحب المنار وأن اتصلت بالشرق وبالإسلام اتصالا قويا ، فانها متصلة بالغرب أيضا ، لأن عيون الغرب لا تنام عن المسلمين ولا عن الشرقيين.

اشتغل صاحب المنار طوال حياته بقضية الاسلام وقضية العرب ، وبما يتصل بالاسلام من أمر الخلافة ، وما يتصل بالعرب من هجمات الاستعمار ، ولم تحرم مصر من نزعاته السياسية في ظروفها المختلفة ، فكان بهذا كله لمصر ، وللشرق وللاسلام والمسلمين.

وليس في وسعي أن أوفي صاحب المنار حقه في مثل هذا الموقف ، ولكني أردت ان أساهم مع المساهمين ، وفاء لحق الصداقة ، وتقديرا لتلك الشخصية النادرة.

عرفت المغفور له صاحب المنار منذ ابتداء الأستاذ الإمام ـ رضوان الله عليه ـ دروسه في الأزهر ، ولم يكن صاحب المنار في ذلك العهد يدهشنا وجوده العلمي ، لأن طلاب الشيخ جميعا كانوا يغترفون من بحر واحد ، وإن تفاوتت مراتب جهودهم واستعدادهم. ولم يكن لصاحب المنار ميزة في ذلك الوقت سوى أنه كان يكتب ما يلقنه أستاذنا علينا ، وقد كان مثل هذا العمل في نظر الأزهريين عملا عاديا لا أثرا لموهبة خاصة ، ولا لنبوغ ممتاز ، تآخينا

٣٦

وتآخى معنا السيد رشيد بحكم صلة الدرس العامة ، وبقدرها ، وكان هذا لا يمنع بعضنا من توجيه النفس إلى السيد رشيد ، توجيها خاصا كلما ظهر السيد رشيد بمواهب ممتازة ، قد يطول الحديث عنها ، حتى هوجم الأستاذ الإمام في آرائه الدينية والاصلاحية ، مهاجمة عنيفة ، من كل القوى التي توفرت لها عوامل الكيد والاستبداد ، وإذا بالسيد رشيد يبرز في وجوده القوي لمناصرة الحق ، والوقوف في وجه هذه الجيوش الحاشدة ، فأخذ السيد رشيد يواجه خصوم الشيخ بقلمه ولسانه ، وينشر في مجلة المنار آراء أستاذه واتجاهاته ، وكان يتلقاه من دروس شيخه ، وما كان يعلق عليها بعبارات من عنده تدل على كمال الفهم واستقلال الفكر ، وكذلك كان أمر السيد رشيد في كل ما كان يكتب من مقالات ، وما يدون من أبحاث! لأن أسلوب الأستاذ الإمام خلق ممتاز ، وسيبقى ممتازا. مات الأستاذ الإمام ، وللسيد رشيد في نفوس إخوان الشيخ وابنائه منزلة سامية ، ومع سمو هذه المنزلة لم يخطر ببال أحد أن السيد رشيد سيرث الشيخ فيما كان يدعو إليه ، وأنه سيرتفع صوته في بلاد الإسلام النائية ؛ ولكن أبى الله سبحانه إلا أن يسير السيد رشيد بخطى واسعة الى الامام ، وقدر الله لصوته وهو على منبر منارة ان يدوي في بلاد الاسلام والشرق ، ولم يصب جهاده في سبيل العلم والدين بعد وفاة شيخه مع كثر المخاطر شيء من الوهن والفتور ، ولا جرم ان هذه الميزة هبة الهية لا تمنح الا للقليل من أفذاذ الرجال ، لأن حياة الأستاذ الإمام كانت قوية في مصر وفي غير مصر. لهذا كان بقاء صاحب المنار أكثر من ثلاثين عاما بعد وفاة شيخه في وجوده القوي ، يصد عادية جيوش الباطل التي لم تفتر ولم تنم ، دليلا ملموسا على أنه من الأفذاذ الذين بخل التاريخ بالكثير من أمثالهم ، ولعل أكبر شاهد على ذلك ان مهمة السيد رشيد العلمية لم يستطع إلى الآن أن يقوم بها فرد او جماعة على كثرة العلماء والكاتبين. ان لصاحب المنار ـ رحمة الله عليه ـ من حياته العلمية آثارا كثيرة ، وجوانب قوية لا أستطيع أن أوفيها حقها. وقد أردت أن تكون كلمتي فيه الآن مقصورة على علمه بالقرآن وبأسرار القرآن ، لأن صلتي به

٣٧

لم تتأكد إلا من درس التفسير على الأستاذ الإمام ، ولأن آثاره في تفسير القرآن هي أقوى الآثار وأظهرها في الإقناع والإلزام ، ولأن مفسر القرآن إذا أخلص وصدق! استحق الثناء الخالد ، لأنه بصدقه وإخلاصه يشرف عقله على الوجود ، وعلى ما وراء الوجود ، وقد تحقق ذلك للسيد رشيد رحمة الله عليه ، فالقرآن كتاب الوجود ، وكتاب ما وراء الوجود ، وكل من جهله ، واتجه إلى غيره مهما كان قويا في نظر نفسه ، وفي نظر أمثاله ، فحياته غير صادقة ، وسعادته لا ضمان لها ، ولا استقرار ، بل المسلمون إذا أخلصوا للقرآن فهما وعملا ، وعرضوا جواهره السماوية على عقول البشر ، فقد ملكوا كل شيء ، لأن العقول من مادة السماء ، ومادة السماء إذا تركزت في الأرض محال أن يطغى عليها شهوات النفس الترابية ، والانسان إذا أهمل فهم القرآن والتبصر فيه ، وقد أحاط بما في الأرض علما ، فليس من الله ولا من الوجود الحق في شيء ، فحصر العقل في جزء صغير من الوجود يستخدمه في حياته المادية لا يصور الحقيقة ، ولا يحقق معنى الحياة والسعادة إذ الحياة الانسانية مسبوقة بوجود لانهائي وبعدها وجود لانهائي ، ومن حق العقل ان يفكر طويلا في ذلك لوجود اللانهائي ، وهذا لا يتم إلا بفهم القرآن. ومن أجل ذلك يقول الله تعالى : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) ويقول : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.) إن لأهل القرآن وأنصاره مرتبتين. المرتبة الأولى ـ هي فهم معانيه الصحيحة وامتزاجها بالعقل والروح والنفس ، فيشع منها النور والقوة بحيث يعملان عملهما في الوجود بقدر الطاقة البشرية ، وهذه هي مرتبة النبي صلى الله عليه وسلم ، ومرتبة الصديقين من أصحابه وأمته إلى يوم الدين.

والمرتبة الثانية هي فهم معانيه فهما صحيحا ، وامتزاجها بالعقل ، وبالنفس في أغلب أحوالها ، وهذه هي مرتبة كبار العلماء والصالحين مع ما في كل من المرتبتين من المنازل المتفاوتة بتفاوت الاستعداد ، وصفاء الجوهر. واني أو من إيمانا قويا بأن السيد رشيد قد تمت له المرتبة الثانية في أرقى منازلها ، وأرجو أن يكون له نصيب من المرتبة الأولى. وإذا علمتم

٣٨

أن القرآن هو كلام الله ، وأنه كتاب الوجود. تعلمون مقدار ما بذلته وتبذله العقول في استخراج جواهره منذ أنزل إلى اليوم ، ولا يتم للعقل استقصاء كل ما فيه وتحديده بالدقة ما دام الوجود قائما ، ولكن العقل يأخذ منه ما استكمل به وجوده ، وطمأنينته في الدنيا والآخرة على قدر فهمه. ومن هنا تعددت آراء المفسرين لاختلاف وجوه النظر ، ولذلك كان تفسير القرآن في أكثر العصور فن علم وجدل ، مع أن التفسير يجب ان يكون زبدا مستخلصا بالمقاييس العلمية الصحيحة المستمدة من الفن والبحث ، كما أن التفسير الذي لا يعتمد على مقاييس العلم والعقل ، لا يسمى على الحقيقة تفسيرا للقرآن الكريم. ويجب أن يدخل في مقاييس العلم ما يستظهره العقل من أسرار الوجود بالدلائل القاطعة ، وليس من التفسير مظاهر الحياة التي تعتمد على نزعات النفس في إنسانيتها الضعيفة المضطربة. وهذا هو ما وفق إليه الراحل الكريم في تفسيره للقرآن ، وفي علاجه للأبحاث الدينية ، فقلما كان يتعرض السيد رشيد لبحث ما يتصل بالقرآن اتصالا جوهريا إلا بقدر ما تمس له الحاجة. وكثيرا ما كان يتعرض لأقوال المفسرين ، وما يستدلون به ولكنه لم يترك القرآن في المكان الذي تتجاذبه فيه الآراء كما فعل أكثر المفسرين ، بل كان في تفسيره يستخلص القرآن للعقل مؤيدا باللغة وبالشواهد والأدلة من ظواهر الوجود. وأول من فتح هذا الطريق وعبده الأستاذ الإمام رضي الله عنه ، وقد سار فيه تلميذه صاحب الذكرى شوطا بعيدا انتهى فيه إلى آخر سورة يوسف عليه الصلاة والسلام ، وقد فسر من القرآن على هذا المنوال الحكيم اثني عشر جزءا ، وهي أصعب أجزاء القرآن فهما واستنباطا ، وكان آخر آية فسرها من سورة يوسف ومات على أثر تفسيره لها قوله تعالى : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ.)

وقال في رثائه الشاعر الحاج محمد الهراوي :

أي صرح هوى وحصن حصين

ولواء طوته أيدي المنون

٣٩

وكتاب في الرشد يهدي إلى

الرشد وسيف مهند مسنون

مات رب المنار والأمر لله

وما مات غير داع أمين

عاش لله مخلصا في جهاد

نصف قرن مبارك في القرون

ومضى باليراع يدعو الى الحق

وبالقلب واللسان المبين

لا يطيق السكون في جرح الد

ين ويمضي يرج اهل السكون

لم يدع راحة له أي حين

وهو في حاجة لها كل حين

طاح بالقلب حين أودى به الجه

د وجهد الغيور نار أتون

فقد العلم منه أي كتاب

فقد الدين منه أي معين

شعر الناس باحتياج اليه

بعد ان لم يروا له من قرين

عز عن صاحب المنار حمى الش

ام وعز الأحباب في «قلمون»

بلدة في ذرى طرابلس قرت

من طرابلس غرة في الحبين

بلدة انجبت الى الشرق قوما

هم نجوى الهدي وأسد العرين

غاب عنها منارها فتوارت

من جوى الحزن بالسحاب الجون

بعثتني جماعة الفضل في مصر

٤٠