إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف

إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

المؤلف:

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار المنهاج للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١١١٠

وقد ذكر شيخنا المسألة في «البغية» ، ولكنّه لم يشر إلى ما كان واقعا من القصّة ، وامتحنت شاعريّته في حضرة الشّريف عبد الله (١) بمكّة المشرّفة ، فخرج كما يخرج الذّهب التبر من كير الصّائغ ؛ إذ أنشأ في المجلس من لسان القلم أكثر ممّا اقترحوه عليه.

وفي «ديوانه» عدّة قصائد بهيئة الأرتقيّات (٢) في مديح خديوي مصر الجليل توفيق باشا (٣) ، وزعم جامعو «ديوانه» أنّه لم يقدّمها إليه ، وأنا لا أصدّق ذلك ؛ لخروجه عن الطّبيعة الغالبة ؛ إذ قلّما ينجز الشّاعر قصيدته إلّا كانت في صدره ولولة لا تهدأ إلّا بإظهارها ، فالظّاهر أنّه قدّمها ولكنّها لم تحظ بالقبول ، وقد قيل لأرسطو : إنّ أهل أنطاكيّة لم يقبلوا كلامك .. قال : لا يهمّني قبولهم ، وإنّما يهمّني أن يكون صوابا.

وللعلّامة ابن شهاب أسوة بسابقيه من الفحول ، فقد اقشعرّ بطن مصر بأراكين القريض ؛ كحبيب وأبي عبادة ، ولم ينج المتنبّي إلّا بجريعة الذّقن حسبما قرّرته في «النّجم المضي».

__________________

وكون صحاب الشافعي يذكرونه

فذلك للاستظهار منهم بلا نكر

نظير الذي قالوه في صاع فطرة

ووسق زكاة للبراءة من خسر

فقد ذكروا الميزان لكن مدارهم

على الكيل فاطلب ما هنالك واستقر

ومما يقوّي ما ذكرناه : نصّهم

على الوزن بالتقريب خليك عن ذكر

وما جاوز التحديد في قدر أذرع

وهذا دليل الاعتبار لها فادر

وحاصله : أن التّخالف إن يكن

فيرضى بتحكيم المساحة في الطّهر

هذا ما كتبه الشيخ عبد الله الناخبي ، في كراس له ، كتبه سنة (١٣٤٧ ه‍) ، أي قبل (٧٥) سنة من اليوم ، أطال الله عمره ، وأمتع به في خير وعافية.

(١) يعني به : الشريف عبد الله بن الحسين بن علي الحسني الهاشمي (١٢٩٩ ـ ١٣٧٠ ه‍) ، ولد بمكة ، وصار نائبا عن أبيه سنة (١٣٢٦ ه‍) ، وفي عام (١٣٦٥ ه‍) أقيم ملكا على الأردن ، ومات سنة (١٣٧٠ ه‍). «الأعلام» (٤ / ٨٢).

(٢) جمع أرتقيّة ؛ وهي القصائد التي تبتدىء أبياتها وتنتهي بحرف واحد ، وأول من ابتكرها صفي الدين الحلي عبد العزيز بن سرايا (ت ٧٥٠ ه‍) في مدح ملوك الدولة الأرتقية بالشام.

(٣) هو خديوي مصر محمد توفيق باشا ابن الخديوي إسماعيل بن إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا ، سادس ملوك مصر ، ولد سنة (١٢٦٩ ه‍) ، ومات في (٦) جمادى الثانية (١٣٠٩ ه‍) في حلوان.

«الأعلام الشرقية» (١ / ٣٩).

٨٦١

وأخبار العلّامة ابن شهاب أكثر من أن يتّسع لها المجال ، وهو الّذي مهّد له الصّواب ، وأطلق الخطاب ، وألين القول ، وأطيل الجول.

كأنّ كلام النّاس جمّع حوله

فأطلق في إحسانه يتخيّر (١)

لقد أخذ قصب السّبق ، ولم تنجب حضرموت مثله من الخلق.

أمّا في الفقه .. فكثير من يفوقه من السّابقين ، بل لا يصل فيه إلى درجة سادتي : علويّ بن عبد الرّحمن السّقّاف وعبد الرّحمن بن محمّد المشهور ، وشيخان بن محمّد الحبشيّ ، ومحمّد بن عثمان بن عبد الله بن يحيى من اللّاحقين.

وأمّا في التّفسير والحديث .. فلا أدري.

وأمّا في الأصلين ، وعلم المعقول ، وعلوم الأدب والعربيّة ، وقرض الشّعر ونقده .. فهو نقطة بيكارها ، وله فيها الرّتبة الّتي لا سبيل إلى إنكارها.

وقد رأينا أشعار إمام الإباضيّة ، والشّيخ سالم بافضل ، وابن عقبة ، وعبد المعطي ، وعبد الصّمد ، ومطالع القطب الحدّاد الرّائعة ، ومنقّحات العلّامة ابن مصطفى الشّاعرة ، فضلا عمّن دونهم .. فلم نر أحدا يفري فريه (٢) ، ولا يمتح بغربه (٣) ، ولا يسعى بقدمه ، والآثار شاهدة والمؤلّفات والأشعار ناطقة.

مجد تلوح حجوله وفضيلة

لك سافر والحقّ لا يتلثّم (٤)

أما إنّ كلامه ليسوق القلوب النّافرة أحسن مساق ، ويستصرف الأبصار (٥) الجامحة كما تستصرف الألحاظ العشّاق.

ينسى لها الرّاكب العجلان حاجته

ويصبح الحاسد الغضبان يرويها (٦)

__________________

(١) البيت من الطّويل.

(٢) يفري فريه : يعمل عملا متقنا كعمله.

(٣) يمتح : يستقى. بغربه : دلوه العظيمة.

(٤) البيت من الكامل ، وهو لأبي تمّام في «ديوانه» (٢ / ١٠٤).

(٥) يستصرف الأبصار : يردّها عن وجهتها.

(٦) البيت من البسيط ، وهو من قصيدة لابن نباتة السعدي.

٨٦٢

ولطالما وردت القصيدة بعد القصيدة من أشعاره إلى حضرة سيّدي الوالد في حفلة فلا تسل عمّا يقع من الاستحسان والثّناء من كلّ لسان ، والإجماع على فضل ذلك الإنسان ، غير أنّ والدي كثيرا ما يخشى عليّ الافتتان بتلك الرّوائع فيغيّر مجرى الحديث ، ولكنّه لا يقدر أن ينقذ الموقف متى حضر سيّدي الوالد علويّ بن عبد الرّحمن ، لأنّه من المولعين بابن شهاب وبأدبه ، فلا يزال يكرّر إنشادها ، ويطنب فيمن شادها ، وكلّما أراد أبي أن ينقذ الموقف .. قال له : دعنا يا عبيد الله نتمتّع بهذا الكلام ، لن يفوتك ما أنت فيه.

ونحن نجد من اللّذة بذلك الشّعر العذب ، واللّؤلؤ الرّطب ، ما يكاد ينطبق عليه قول المتنبّي [في «العكبريّ» ٤ / ٨٦ من الطّويل] :

ألذّ من الصّهباء بالماء ذكره

وأحسن من يسر تلقّاه معدم (١)

وكلّ من القوم ضارب بذقنه ، أو باسط ذراعيه بالوصيد ، ويزيد أهل الشّعر منهم بتمنّي أن لو كان لأحدهم بيت منها بجملة من القصيد.

وكما لقّحت البلاد بفنونه عن حيال .. فلا أكذب الله : كلّ من بعده عليه عيال ، وأنا معترف بأنّ ما يوجد على شعري من مسحة الإجادة .. إنّما هو بفضله ؛ لأنّني أطيل النّظر في شعره ، وأتمنّى أن أصل إلى مثله.

وكأنّنا لمّا انتحينا نهجه

نقفو ضياء الكوكب الوقّاد (٢)

وكان يحسد حسدا شديدا ، لا من النّاحية العلميّة والأدبيّة اللّتين سقطت دونهما همم العدا ونفاسة الحسّاد ؛ لأنّ الأمر من هذه النّاحية كما قال البحتريّ [في «ديوانه» ١ / ١٤ من الكامل] :

فنيت أحاديث النّفوس بذكرها

وأفاق كلّ منافس وحسود

__________________

(١) الصّهباء : اسم من أسماء الخمر. المعدم : الفقير.

(٢) البيت من الكامل ، وهو للبحتريّ في «ديوانه» (١ / ١٨٦) بتغيير بسيط.

٨٦٣

ولكن من قوّة نفسه ومغالاته بها ، وما يصحبه من التّوفيق في الإصلاح ؛ فإنّه لا يهيب بمشكل إلّا انحلّ ، ولا ينبري لمعضل إلّا اضمحلّ.

فأرى الأمور المشكلات تمزّقت

ظلماتها عن رأيه المستوقد (١)

ومع تألّب الأعداء عليه من كلّ صوب .. تخلّص منهم قائبة من قوب (٢) ، ووقي شرّهم وقيّا ، وما زادوه إلّا رقيّا ، فانطبق عليهم قول حبيب [في «ديوانه» ٢ / ١٠٣ من الكامل] :

ولقد أردتم أن تزيلوا عزّه

فإذا (أبان) قد رسى و (يلملم) (٣)

وهو محبوب بعد لدى فحول الرّجال وأئمة أهل الكمال ، كسيّدي الجدّ ، والأستاذ الأبرّ ، والحبيب أحمد بن محمّد المحضار ، والحبيب عليّ بن حسن الحدّاد ، والحبيب عمر بن حسن الحدّاد ، والحبيب محمّد بن إبراهيم ، وأمثالهم. وقد قال الأوّل [من الطّويل] :

إذا رضيت عنّي كرام عشيرتي

فلا زال غضبانا عليّ لئامها

وله رحلات كثيرة ، أولاها سنة (١٢٨٦ ه‍) إلى الحجاز ، ثمّ عاد إلى تريم ، وفي سنة (١٢٨٨ ه‍) ركب إلى عدن واتّصل بأمراء لحج ومدحهم ، وزعم بعض النّاس أنّه كان يعنيهم بقصيدته المستهلّة بقوله [في «ديوانه» (٩٣ ـ ٩٥) من الوافر] :

ذهبت من الغريب بكلّ مذهب

وملت إلى النّسيب وكان أنسب

وأنا في شكّ من ذلك ؛ لأنّ له فيهم بعدها غرر القصائد ، ومنها قوله [من الطّويل]

هو الحيّ إن بلّغته فانزل الحانا

وحيّ الألى تلقاهم فيه سكّانا

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو للبحتريّ في «ديوانه» (١ / ٦٦).

(٢) يقال في المثل : تخلصت قائبة من قوب ؛ أي بيضة من فرخ ، يضرب لمن انفصل من صاحبه.

(٣) أبان ويلملم : اسما جبلين.

٨٦٤

على أنّ للإنسان لسانا في الغضب غير لسانه في الرّضا،وقد قال الأوّل[من الطّويل]

هجوت زهيرا ثمّ إنّي مدحته

وما زالت الأشراف تهجى وتمدح

ثمّ إنّ المترجم ركب من عدن إلى جاوة وأقام بها نحوا من أربع سنين ، ثمّ عاد إلى الغنّاء في سنة (١٢٩٢ ه‍) ، وثمّ نجمت فتنة النّويدرة وكان له أفضل السّعي في إخمادها ونجح ، ثمّ اشتدّ عليه الأذى فهجر حضرموت سنة (١٣٠٢ ه‍) ، وهي الرّحلة الّتي يقول عند رجوعه منها [من الطّويل] :

ثلاثون عاما بالبعاد طويتها

وكم أمل في طيّ أيّامها انطوى

وها عودتي لمّا أتيحت نويتها

عسى وعسى أن ليس من بعدها نوى

ولمّا قدم إلى تريم في سنة (١٣٣١ ه‍) .. هنّأته بقصيدة نكر منها بعض أهل العلم بتريم أبياتا ، فقال لي السّيّد عبد الرّحمن بن عبد الله الكاف : أتحبّ أن يبحث معك إخوانك في أبيات أنكروها من قصيدتك؟ فقلت له : نعم ، بكلّ مسرّة وفرح.

فأقبل العلّامة السّيّد حسن بن علويّ بن شهاب ـ لأنّهم نصّبوه إذ ذاك للرّياسة العلميّة بتريم لينافس الوالد أبا بكر ابن شهاب في عشرين من علية طلّاب العلم ، فيهم العلّامة عليّ بن زين الهادي (١) ، ولم أكره حضور أحد سواه ؛ لما اشتهر به من الحدّة ، فخشيت أن يخرج بنا الجدال عن اللّياقة ، وما فرغنا من المناقشة .. إلّا وقد رجعوا إلى كلامي ، وأوّل من انحاز إلى جانبي هو السّيّد عليّ بن زين الهادي مصداق أنّ الحدّة تعتري الأخيار .. فكان من خيار المنصفين ، فهابه من رام المغالطة.

وما أنا في هذا بمجازف ولا كاذب ، ولا أستشهد على طول الزّمان بميت ولا غائب ؛ فقد بقي السّيّد يوسف بن عبد الله المشهور ممّن حضر ذلك البحث فليسأله من أحبّ.

وموضوع المناقشة أنّني عرّضت ـ في تلك القصيدة ـ ببعض من يعزّ عليهم ممّن غيّر

__________________

(١) كان السيد علي فقيها عالما مفتيا ، تولى التدريس بزاوية الشيخ علي بتريم ، وتوفي بها في (٧) ذي الحجة (١٣٤٦ ه‍).

٨٦٥

منار سيرة السّلف بإعزاز الأغنياء وإذلال الفقراء والعلماء ، ولمّا صدقتهم وذكرت لهم من أعمال أولئك ما يخالف هديه صلّى الله عليه وآله وسلّم .. لم يسعهم إلّا الإذعان ، ووعدوا بالتّوسّط لإصلاح الأمور ، وكأنّهم لم يجدوا قبولا من ذلك الجانب فانثنوا ، والقصيدة بموضعها من «الدّيوان».

وأشهد لقد طلعت عليه فجأة إلى سطح قصره بعد المغرب .. فإذا به يدور على غاية من الاستغراق والحضور ، ويكرّر قول أبي فراس [في «ديوانه» ٤٥ من الطّويل] :

فليتك تحلو والحياة مريرة

وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الّذي بيني وبينك عامر

وبيني وبين العالمين خراب

فجمعت يدي منه على دين ثابت ، ويقين فرعه في السّماء وأصله في التّخوم نابت.

ولطالما ترنّحت طربا لهذين البيتين ، واستجهرني جمالهما ، وترنّمت بهما في مناجاة الباري عزّ وجلّ ، لا سيّما وقد تمثّل بهما جلّة العلماء ، ومنهم سلطانهم عزّ الدّين ابن عبد السّلام ، غير أنّي لمّا أنعمت النّظر ، وأفقت من دهشة الإعجاب به .. ألفيته مصادما لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : «لا تمنّوا لقاء العدوّ ، واسألوا الله العافية» (١) ؛ إذ لم يترك شيئا من البلاء إلّا تمنّاه.

وربّما يكون ما وقع فيه ابن عبد السّلام من السّجن والامتحان مسبّبا عن ذلك ، وقد ذكرت في «العود» [٢ / ٢٥٩] جماعة ممّن أصيبوا بالعاهات من جهة تمنّيهم ذلك في طريق الوصال ، وقد أخذ الله بصر المؤمّل ابن أميل من صباح اللّيلة الّتي قال فيها [من البسيط] :

شفّ المؤمّل يوم الحيرة النّظر

ليت المؤمّل لم يخلق له بصر

وبرص المجنون لقوله [في «ديوانه» ٢٢٦ من الطّويل] :

قضاها لغيري وابتلاني بحبّها

فهلّا بشيء غير هذا ابتلانيا

__________________

(١) أخرجه البخاري (٢٨٠٤) ، ومسلم (١٧٤٢).

٨٦٦

وقال عمر بن أبي ربيعة لكثيّر : أخبرني عن قولك لنفسك ولحبيبتك [في «ديوان كثير» ٤٧ ـ ٤٨ من الطّويل] :

ألا ليتنا يا عزّ من غير ريبة

بعيرين نرعى في الخلاء ونعزب

كلانا به عرّ فمن يرنا يقل

على حسنها جرباء تعدي وأجرب (١)

إذا ما وردنا منهلا صاح أهله

علينا فما ننفكّ نرمى ونضرب

وددت وبيت الله أنّك بكرة

هجان وأنّي مصعب ثمّ نهرب (٢)

نكون بعيري ذي غنى فيضيعنا

فلا هوّ يرعانا ولا نحن نطلب

ويلك! تمنّيت لها الزّفّ والجرب والرّمي والطّرد والمسخ!! فأيّ مكروه لم تتمنّه لكما؟ أما والله لقد أصابها منك قول الأوّل : (مودّة الأحمق .. شرّ من معاداة العاقل).

وعاتبته عزّة على ذلك ، ومعاذ الله أن يسلموا من سوء العاقبة.

وما وقع فيه أبو فراس لا ينقص ـ إن لم يزد ـ على ما تمنّاه كثيّر ، وسبق في ذي أصبح أنّ جدّي المحسن كان يقول : ما نعني بالأسماع والأبصار عند ما ندعو بحفظها إلّا حسن بن صالح وأحمد بن عمر وعبد الله بن حسين ، ولكنّه أضرّ بالآخرة ، ومثله المترجم .. فلا بعد أن يكون من تلك البابة.

كما تبت عن الدّعاء بقول سيّدنا عمر بن الخطّاب : (بل أغناني الله عنهم) ، لما قيل له : (نفعك بنوك) ، وكنت أستحسنه وأدعو بمقتضاه ، حتّى تفطّنت لما فيه ، ورأيت أنّ أبناء ابن الخطّاب لم يكونوا هناك ، وليس هو بأفضل من العبد الصّالح إذ عوقب على قوله : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ) كما جاء في الحديث.

بعد هذا كلّه ذهبت النّشوة ، وانجابت الغفوة ، وظهر ما تحته من الهفوة.

وفي رواية عن الشّافعيّ : أنّه لا يحبّ أن يقال في التّعزية : أعظم الله أجرك ؛ لما

__________________

(١) العرّ : الجرب.

(٢) البكرة : الفتية من الإبل ، المصعب : فحل الإبل.

٨٦٧

في طيّه من الاستكثار من المصائب ، فسحبت عندئذ ما كان منّي من استحسان ذلك ، وتبت عنه توبة صادقة أرجو الله قبولها.

وما أشدّ ما يسيء هؤلاء الشّعراء الأدب ويقلّون الحياء ؛ فمثل كلام أبي فراس لا يليق بخطاب المخلوق ، ومن ثمّ صرفه المفتونون بجماله إلى خطاب الخالق غفلة عمّا فيه من التّعرّض للبلاء المنهيّ عن مثله ، وكمثله قول البحتريّ للفتح بن خاقان [من الطّويل] :

ويعجبني فقري إليك ولم يكن

ليعجبني لو لا محبّتك الفقر

وقد صرفته إلى الباري عزّ وجلّ في قصيدة إلهيّة جرى لي فيها حديث لا أملّ به ، فأرجو أن لا يلحقني بأس بعد ؛ إذ لا يحسن غير المأثور ، وقد فتن الرّضيّ بهذا البيت ، وأغار عليه فلم يحسن الاتّباع حيث يقول [في «ديوانه» ١ / ٥٤١ من الطّويل] :

فما كان لولاكم يمرّ لي الغنى

ويحلو إلى قلبي الخصاصة والفقر

ومن الغلوّ الممقوت قول ابن هانىء الأندلسّي [من البسيط] :

أتبعته فكرتي حتّى إذا بلغت

غاياتها بين تصويب وتصعيد

أبصرت موضع برهان يلوح وما

أبصرت موضع تكييف وتحديد

ولقد احترست حين تمثّلت في ذي أصبح ببيت من شعر المتنبّي لا يخلو عن الغلوّ ، على أنّ الرّوح لا تنفد فلا ينفد وصفها.

ومن التّرّهات الممقوتة أيضا : قول أبي عبد الله الخليع ، يخاطب أحمد بن طولون المتوفّى سنة (٢٧٠ ه‍) [من الكامل] :

أنا حامد أنا شاكر أنا ذاكر

أنا جائع أنا راجل أنا عاري

هي ستّة وأنا الضّمين لنصفها

فكن الضّمين لنصفها بعيار

ولذا نقلهما كسابقيهما أهل الحقّ إلى خطاب الباري عزّ وجلّ ، وأبدلوا قافية الثّاني ب «ياباري» فكانت أعذب وأطيب.

وكنت معجبا بمختارات حافظ ، ومع ذلك .. فإنّي أفضّل عليه الأستاذ ، حتّى قلت

٨٦٨

له مرّة : ألست أشعر منه؟ قال : أينك عن قوله [في «ديوانه» ٢ / ١٦١ من البسيط] :

إنّي أرى وفؤادي ليس يكذبني

روحا يحفّ بها الإجلال والعظم

أرى جلالا أرى نورا أرى ملكا

أرى محيّا يحيّيني ويبتسم

الله أكبر هذا الوجه نعرفه

هذا فتى النّيل هذا المفرد العلم

وقوله [في «ديوانه» ١ / ٢٨٩ من البسيط] :

كم غادة في ظلام اللّيل باكية

على أليف لها يهوي به الطّلب

لو لا طلاب العلا لم يبتغوا بدلا

من طيب ريّاك لكنّ العلا تعب

ولهذا حديث مبسوط في «العود الهنديّ» [٢ / ٤٠].

أمّا شوقي : فلم أقرأ شعره إلّا بعد ذلك ، فلم يكن عندي شيئا في جانب جيّد حافظ ، وما أرى إغراق بعضهم فيه وتأميره وتفضيله إلّا من جنس تفضيل جرير على الفرزدق ، بدون حقّ ، حسبما فصّلته بدلائله في «العود الهنديّ».

وبقي عليّ أن أشير إلى ما اجتمع للأستاذ من الشّدّة واللّين ، والشّمم والإباء ، ودماثة الأخلاق ، وطوع الجانب ، وحلاوة الغريزة.

قسا فالأسد تهرب من قواه

ورقّ فنحن نخشى أن يذوبا (١)

وما أظنّ العلّامة ابن شهاب إلّا على رأيي فيه ، وإلّا .. لذكره لي وأثنى عليه ، ولا أنكر أنّ له محاسن ، لكنّهم رفعوه عن مستواها إلى مالا يستحقّ ، وكان ابن شهاب يتشيّع ، لكن بدون غلوّ ، بل لقد اعتدل اعتدالا حسنا جميلا بعقب زيارته لحضرموت واطّلاعه على «الرّوض الباسم» ، ورسائل الإمام يحيى بن حمزة ، وكان قلمه أقوى من لسانه ، أمّا لسانه مع فرط تواضعه ولطف ديدنه .. فإنّك لا تكاد تعرف أنّه هو الّذي ملأ سمع الأرض وبصرها إلّا إذا سئل فتفتّح عن ثبج بحر جيّاش الغوارب (٢).

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو للمتنبّي في «العكبريّ» (١ / ١٤٣).

(٢) يقال : جاش البحر ؛ إذا هاج موجه وتلاطم. والغوارب : الموج العالي ، وبهذا يتضح معنى العبارة.

٨٦٩

إذا قال .. لم يترك مقالا لقائل

بمبتدعات لا ترى بينها فصلا (١)

كفى وشفى ما في النّفوس فلم يدع

لذي إربة في القول جدّا ولا هزلا

والأدلّة حاضرة ، وما بين العينين لا يوصف ، ولهو الأحقّ من القزّاز القيروانيّ بقول يعلى بن إبراهيم فيه [من الكامل] :

أبدا على طرف اللّسان جوابه

فكأنّما هو دفعة من صيّب

وقد عرفت من قوله في حافظ .. أنّه من سادات المنصفين ، ولي معه من ذلك ما يؤكّده ، وقد ذكرت بعضه في خطبة الجزء الثّاني من «الديوان».

وفي سنة (١٣٣٤ ه‍) توجّه من حضرموت إلى الهند ليقطع علائقه منها ويبيع دارا له بها ، وبينا هو يجمع متاعه للسّفر النّهائيّ إلى مسقط رأسه ، ومربع أناسه الّذي لا يزال يحنّ إليه بما يذيب الجماد ، ويفتّت الأكباد ؛ كقوله [في «ديوانه» ١٨٧ من البسيط] :

بالهند ناء أخي وجد يحنّ إلى

أوطانه وسهام البين ترشقه

إلى العرانين من أقرانه وإلى

حديثهم عبرات الشّوق تخنقه

 .. إذ وافانا نعيه في جمادى الآخرة من سنة (١٣٤١ ه‍) (٢).

فضاقت بنا الأرض الفضاء كأنّما

تصعّدنا أركانها وتجول (٣)

فاشتدّ الأسى ، ولم تنفع عسى ، وكادت الأرض تميد ، لموت ذلك العميد ، وطفق النّاس زمانا.

يعزّون عن ثاو تعزّى به العلا

ويبكي عليه الجود والعلم والشّعر (٤)

__________________

(١) البيتان من الطّويل ، وهما لسيّدنا حسّان بن ثابت رضي الله عنه في «ديوانه» (٤١٢).

(٢) كانت الوفاة بحيدرآباد الدكن ليلة الجمعة (١٠) جمادى الأولى .. وسبب تأخره وطول المدة بين سفره من تريم سنة (١٣٣٤ ه‍) مع عزمه على الرجوع ومن ثم موته بالهند .. إنما هو نشوب الحرب العالمية الأولى وصعوبة السفر آنذاك وخطورته ، لا سيما عبر المحيط الهندي.

(٣) البيت من الطّويل.

(٤) البيت من الطّويل ، وهو لأبي تمّام في «ديوانه» (٢ / ٣٠٤).

٨٧٠

تريم (١)

هي قاعدة حضرموت ، وقد أطال الخطيب في «جوهره» والشّليّ في «مشرعه» وغيرهما بما يغني ويقني في وصفها وشرح أحوالها (٢) ، فأنا في تعاطي شيء من ذلك بعدهم .. كواصف النّجم السّاطع والبدر الطّالع ، وإنّما نحرص على شاردة نتلقّفها ، أو نادرة نتخطّفها.

قال الهمدانيّ : (وتريم مدينة عظيمة) (٣). وقال ياقوت : (تريم اسم لإحدى مدينتي حضرموت ؛ لأنّ حضرموت اسم للنّاحية بجملتها ، ومدينتاها تريم وشبام ـ وهما قبيلتان ـ سمّيت باسمهما المدينتان ، وقال الأعشى [في «ديوانه» ٢٤٦ من مجزوء الكامل] :

طال الثّواء على تري

م وقد نأت بكر بن وائل) اه (٤)

وقال كثيّر [في «ديوانه» ١٣٧ من الوافر] :

كأنّ حمولها بملا تريم

سفين بالشّعيبة ما تسير

وقد مرّ آخر الكلام على تريس قول الهمدانيّ في موضع من «صفة جزيرة العرب» : (تريم ديار تميم ، وتريس بحضرموت) اه

وتفرّسنا أنّ قوله : (وتريس) محرّف عن تريم كما يفهم من السّياق.

وقال في الجزء الثّامن [ص ١٩٠] من «الإكليل» : (حصون حضرموت : دمّون لحمير ، والنّجير لبني معدي كرب من كندة ، وحضرموت وحوره فيها كندة اليوم ،

__________________

(١) هي أشهر بلدان وادي حضرموت ، الفائقة على غيرها من البلدان بالعلم والعلماء ، وكثرة الصالحين والأولياء ، وهي مسقط رأس السادة بني علوي ، ومنها تفرقوا وهاجروا إلى سائر البلدان والأودية والأقطار ، تقع في الشمال الشرقي من سيئون ، وتبعد عنها نحو (٣٢ كم).

(٢) في «المشرع» (١ / ٢٥١). وصف لها جميل .. فلينظر هناك.

(٣) صفة جزيرة العرب (ص ١٧٠).

(٤) معجم البلدان (٢ / ٢٨).

٨٧١

وتريم موضع الملوك من بني عمرو بن معاوية ؛ منهم : أبو الخير بن عمرو الوافد على كسرى ليستمدّ منه على ابن الحارث بن معاوية) اه (١)

وما ذكره عن دمّون مخالف لما ذكرناه عنه فيها ، ما لم يرد دمّون الشّرقيّة الآتي ذكرها ؛ فإنّه ممكن.

وجاء ذكر حورة فيه بالزّاي المعجمة ، وهو غلط من النّاسخ لم يهتد إليه مصحّحه حين الطّبع.

وممّا استدركه «التّاج» على «أصله» قوله : (وتريم ـ كأمير ـ مدينة بحضرموت ، سمّيت باسم بانيها تريم بن حضرموت. قال شيخنا (٢) : هي عشّ الأولياء ومنبتهم ، وفيها جماعة ممّن شهد بدرا ، وهي مسكن السّادة آل باعلويّ ، ومنها تفرّقوا في البلاد) اه

وهذا كلّه صحيح ، ولا وهم فيه ، وبمجرّد ما وصل كتابه صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى تريم .. أسلم أهلها ، وانتشر الإسلام بحضرموت ، وكان سليم بن عمرو الأنصاريّ داعية الإسلام بحضرموت ، فنجح نجاحا باهرا. ولمّا توفّي النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وارتدّ من ارتدّ بحضرموت .. ورد كتاب أبي بكر الصّدّيق على لبيد بن زياد (٣) وهو بمدينة تريم ، فقرأه على أهلها فبايعوه ، ثمّ بايعه أكثر أهل حضرموت ،

__________________

(١) يفهم من كلام الهمداني هذا : أن تريم كانت محكومة من قبل الملوك بني معاوية الأكرمين من كندة ، وقد صحح العلامة علوي بن طاهر الحداد هذه المعلومة .. فقال بعد أن عدد قبائلهم وفخائذهم التي كان فيها الملك : ولم تكن تريم ولا أسافل وادي حضرموت بمنزل لهم ، وإنما كانت منازل حضرموت القبيلة الأصلية الحضرمية والسّكون من كندة ، ومن هؤلاء : بنو قتيرة سكان تريم إذ ذاك.

وإنما كانت منازل كندة الملوك في أعالي وادي حضرموت ، وقد أصابتهم الحرب بحدها لما ارتدوا ، فضعفوا وتفرقوا أيادي سبأ ، وسلمت السكون والسكاسك من ذلك.

(٢) هو السيد عبد الرحمن بن مصطفى العيدروس ، شيخ الزبيدي صاحب «التاج».

(٣) اسمه في معاجم الصحابة وكتب التاريخ : زياد بن لبيد ، ممن شهد العقبة وبدرا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولما كانت الردة .. قام بالقبض على الأشعث بن قيس ، وبعث به أسيرا إلى أبي بكر رضي الله عنه.

٨٧٢

فطالع أبا بكر بالخبر ، فدعا لأهل تريم (١) بما بعض أثر إجابته محسوس إلى اليوم من البركة ، ثمّ ظهرت الإباضيّة ، وكان من تقلّب الأحوال والدّول ما لخّصناه في شبام.

أمّا جامع تريم : فأوّل ما انتهى إلينا من عمارته كونها في سنة (٢١٥ ه‍) ، ثمّ جدّد عمارته الحسين بن سلامة ، والعجب من الشّلّيّ أنّه لم يذكر إلّا عمارته سنة (٥٨١ ه‍) ، قال : (ثمّ جدّدت عمارته سنة «٥٨٥ ه‍» ، ثمّ في سنة «٩٠٣ ه‍» ، كتب الشّيخ عبد الله بن عبد الرّحمن بافضل بلحاج إلى السّلطان عامر بن عبد الوهّاب يطلب منه توسيع المسجد ؛ لأنّه ضاق بالنّاس ، فأرسل بمال جزيل مع السّيّد الجليل محمّد بن أحمد باساكوته ، فعمّره عمارة أكيدة هي الموجودة إلى الآن) اه (٢)

وبعيد جدّا أن تبقى تريم بدون جامع إلى سنة (٢١٥ ه‍) وبها من الصّحابة وأهل العلم من لا يحصى ؛ ففي «الجوهر» عن الشّيخ عليّ بن محمّد الخطيب قال : (كنّا جلوسا في مقبرة تريم ومعنا الشّيخ عبد الله باعلويّ ، فقال رجل من أهل تريم : في مقبرة تريم سبعون بدريّا. فقلت له : ما كفاكم يا أهل تريم ما فيكم من الصّالحين حتّى تريدون قريبا من ربع أهل بدر؟! فقال لي الشّيخ عبد الله : ما لك وللاعتراض يا ولدي؟ هذا كلام نقله الخلف عن السّلف) اه

ومعاذ الله أن يكون غير صحيح ما يقول فيه الثّقة الإمام : أنّه مرويّ من الخلف عن السّلف ، ومع هذا فهل يمكن بقاؤهم بدون جامع؟

وقد قال بعضهم بوجوب بناء المساجد مستدلّا بما أخرجه التّرمذيّ [٥٩٤] وأبو داود

__________________

(١) المسموع أنه دعا لهم بثلاث دعوات : أن ينبت الصالحون والأولياء فيها كما ينبت البقل ، وأن يعذب ماؤها ، وأن لا تخبو فيها نار حتى قيام الساعة. بمعنى بقاء عمارتها ودوامها. والله أعلم. ينظر : «المشرع» (١ / ٢٥٢) ، «أدوار التاريخ» (٩١).

(٢) «المشرع» (١ / ٢٦٩) ، السلطان عامر هذا .. تقدم ذكره في قيدون ، ولم نعرّف به حينها .. فنقول : هو الملك الظافر عامر بن عبد الوهاب بن داود بن طاهر بن معوضة القرشي الأموي ، آخر سلاطين اليمن من بني طاهر ، تولى بعد أبيه سنة (٨٩٤ ه‍) ، ومات سنة (٩٢٣ ه‍) ، كان شديد الشكيمة ، أقام في زبيد ، واستولى على صنعاء ، وله مآثر كثيرة ، وأقام مساجد ومدارس عديدة باليمن ، قتل بجبل نقم قرب صنعاء. «الأعلام» (٣ / ٢٥٣).

٨٧٣

[٤٥٥] وابن ماجه [٧٥٨] بسند صحيح من حديث عائشة : أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ببناء المساجد في الدّور ، وأن تطيّب وتنظّف ، وأمر عمر أهل الأمصار ببناء مساجدهم ، وأمرهم أن لا يبنوا مسجدين يضارّ أحدهما الآخر ، رواه البغوي.

والأصل في الأمر : الوجوب ، ورجّح ابن حجر الهيتميّ ـ كما في «المرعى الأخضر» ـ النّدب.

ومهما كان الأمر .. فالمؤكّد أنّ جامع تريم كان مبنيّا من الصّدر الأوّل ، وإنّما جدّد أو وسّع ـ كجامع شبام ـ في سنة (٢١٥ ه‍) ، ثمّ تكرّرت عليه العمارة والتّرميم ، ومتى أغفل الشّلّيّ العمارات السّابقة عن سنة (٥٨١ ه‍) .. فأولى أن يغفل العمارة القديمة (١).

أمّا العلويّون : فقد تفرّسنا في غير موضع من هذا ومن «الأصل» أنّ امتناعهم عن سكنى مدينتي حضرموت لم يكن في البدء إلّا لأجل التّنافس المذهبيّ ، ورأيت في غير موضع من مجموع كلام الحبيب عمر بن حسن الحدّاد ما يصرّح بوجود أصل التّنافس.

ثمّ إنّ المؤرّخين يكثرون من علم المهاجر ومن بعده إلى عليّ بن علويّ خالع قسم ، ويذهبون به إلى غايات بعيدة ، وللشّكّ في مثل ذلك منافذ كثيرة أشرنا إلى شيء منها في المبحث الثّالث من الحسيّسة ، لا سيّما وقد جاء في الحكاية التّاسعة من «الجوهر» [١ / ٦٣ (خ)] للشّيخ عبد الرّحمن الخطيب (٢) ـ وهو غرّيد مديح العلويّين وصنّاجة ثنائهم ـ : (أنّ الشّيخ الإمام سالم بن فضل كان من كبار الزّاهدين الورعين العاملين ، وكأنّ العلم أراد أن يندرس في حضرموت فأحياه ؛ وذلك أنّه سافر في طلبه ومكث أربعين سنة في العراق وغيره يطلب العلم ، وأهله يظنّون أنّه قد مات ، ثمّ عاد ومعه أحمال من كتب العلم ، حديثا وفقها وغيرها ، ثمّ درّس في بلده ، وأقبل عليه

__________________

(١) وقد وسّع جامع تريم مؤخرا توسعة كبيرة في عام (١٣٩٢ ه‍) ، وللشيخ علي بن سالم بكيّر رسالة ألفها بهذه المناسبة سمّاها : «الجامع في تاريخ الجامع» ، طبعت.

(٢) توفي الشيخ عبد الرحمن بن محمد الخطيب سنة (٨٥٥ ه‍) بتريم ، كما في «شنبل» ، و «تاريخ الشعراء» (١ / ٧٧) ، و «الحامد» (١ / ٣٠٠).

٨٧٤

طلبة العلم من كلّ مكان ، وحصّل العلم على يديه خلق كثير ، حتّى إنّه ربّما بلغ في تريم ثلاث مئة مفت في عصر واحد ، ومصنّفون كثير ؛ كالإمام عليّ بن أحمد بامروان ، المتوفّى سنة «٦٢٤ ه‍» ، والإمام عبد الله بن عبد الرّحمن بن أبي عبيد ، المتوفّى بتريم سنة «٦١٣ ه‍» ، والإمام محمّد بن أحمد بن أبي الحبّ ، المتوفّى سنة ٦١١ ه‍) اه

ومن الأجلّاء كما يروى عن سيّدنا الأستاذ الأبرّ عيدروس بن عمر من يلحق منّته بنشر العلم بما كان من هجرة الإمام أحمد بن عيسى ووضع الفقيه المقدّم للسّلاح ، وتحرير الشّيخ عليّ بن أبي بكر للشّجرة.

ومن علماء تريم لذلك العهد : الشّيخ عليّ بن محمّد بن عليّ بن حاتم ، المتوفّى ـ كما في «تاريخ باشراحيل» ـ بتريم في شعبان سنة (٦٠٣ ه‍) (١).

ومنهم : الفقيه الصّالح عليّ بن يحيى بن ميمون ، المتوفّى بتريم سنة (٦٠٤ ه‍) (٢).

أمّا الشّيخ سالم بن فضل بن محمّد بن عبد الكريم بن محمّد بافضل هذا صاحب الرّحلة إلى العراق .. فقد توفّي شهيدا بتريم سنة (٥٨١ ه‍) (٣) ، صرّح بذلك العلّامة الجليل عبد الله بن أبي بكر بن قدري باشعيب ، ولم يذكر ذلك صاحب «الجوهر» ، مع أنّ مثل ذلك لا يخفى عليه ، لكن ليس بغريب منهم إغفاله ، فقد أغفلوا ذكر قتل السّيّد سالم بن بصريّ (٤) ، والظّاهر أنّ شهادة الشّيخ سالم بافضل حصلت لا على يد

__________________

(١) «شنبل» (ص ٦٥) ، وكان مولده بها سنة (٥٤٠ ه‍) ، كان عالما فقيها محققا ، تلقى علومه عن المشايخ آل أكدر.

(٢) ذكره المؤرخ شنبل (ص ٦٦) ، وسماه : علي بن يحيى باميمون.

(٣) ترجمته مفصلة في : «صلة الأهل» (٤٠ ـ ٦٧) ، و «أدوار التاريخ» (١٩٣ ـ ١٩٩) ، و «الحامد» (٢ / ٤٧٢ ـ ٤٧٥).

(٤) ذكر المؤلف خبر مقتل الإمام ابن بصري المتوفى سنة (٦٠٤ ه‍) اعتمد فيه على ما في بعض نسخ «تاريخ شنبل» ، ولكن العلامة الشاطري رحمه الله قال : (التحقيق : أنه توفي ولم يقتل ، كما أجمع على ذلك المؤرخون الذين هم أقرب إلى عصره ومن يليهم ، باستثناء بعض نسخ «تاريخ شنبل» فقط) اه «الأدوار» (١ / ٢٠٢) ، و «تاريخ شنبل» (٦٦) ، ولكن الذي في النسخة المطبوعة منه أنه توفي ولم يذكر القتل.

٨٧٥

الغزّ أمراء الأيوبيّين ؛ لأنّها لو كانت على يدهم .. لم يكن مانع من ذكرهم ، كما ذكروا قتلهم لآل أكدر وغيرهم وما لم أنبّه عليه في هذا الكلام .. فمن «الجوهر الشّفّاف».

وههنا فوائد :

الأولى : إنّ في الكلام ما يدلّ على أنّ البلاد كانت ملأى بالعلم ، ثمّ اندرس حتّى أحياه الشّيخ سالم بافضل ، ولئن لم يصرّح الخطيب بتلاشي العلم في البدء ، بل جاء بفعل المقاربة .. فإنّه صرّح به قوله في الأخرة : (فأحياه) ، وأمّا امتلاء الدّيار الحضرميّة بالعلم في الزّمان الأوّل .. فشاهده ما نقرّره في كثير من المواضع ـ بهذا و «أصله» ـ من كثرة رجال الحديث فيها إذ ذاك ؛ فمعاجم الرّجال ك «تهذيب التّهذيب» و «لسان الميزان» مشحونة بأسمائهم وتراجمهم ، وقد مرّ نحو هذا في الحسيّسة.

وقد جاء في (ص ١٢٨ ج ١) من «المشرع الرّويّ» : (أنّ السّادة في مدّة إقامتهم ببيت جبير يكثرون الدّخول إلى مدينة تريم ، ووجدوا بها من أرباب العلوم والآداب وأصحاب الفهوم والألباب ما شغلهم عن الأهل والوطن ، وأذهلهم عن كلّ خلّ صفيّ وسكن) اه

ولئن أشكل وجود أرباب العلوم لذلك العهد مع قول الخطيب : أنّ العلم كاد أن يتلاشى حتّى أحياه الشّيخ بافضل المقتول بتريم سنة (٥٨١ ه‍) .. فإنّ المدّة ليست بالقصيرة ، بل صالحة لوجود العلماء ، ثمّ اندراس العلم بموتهم.

وكانت وفاة السّيّد علويّ بن محمّد بالصّومعة من بيت جبير ، سنة (٥١٢ ه‍) ، ووفاة أبيه من قبله .. فلا مدفع للنّصّ ، ولا إشكال ؛ فقد جرى بأعيننا ما يشبهه من التّقلّبات في الأزمنة المتقاربة ، ولئن حاول بعضهم أن يغبّر على ما ندلّل به لعلم الحضارمة من كثرة رواتهم بزعمه أنّ أكثرهم منسوبون إلى القبيلة .. فجوابه : أنّ مثرى القبيلة ودولتها ببلاد حضرموت كما بيّناه ب «الأصل» وأشرنا إليه في شبام ، حتّى لقد اختلفوا ـ كما في «التّاج» ـ في سبب التّسمية ، فقيل : إنّ البلد سمّيت باسم القبيلة ،

٨٧٦

وقيل العكس ، وهذا أبلغ ما يكون في التّلازم ، فشرف العلم حاصل على كلّ حال.

وفي «تاريخ ابن خلّكان» [٣ / ٣٨] : أنّ عبد الله بن لهيعة ـ أوّل قاض بمصر من جهة الخليفة ـ حضرميّ ؛ نسبة إلى البلد.

والثّانية : أترى الخطيب يهمل ذكر العلويّين في مثل هذا الموضع ـ وقد وقف نفسه على خدمتهم وبثّ فضائلهم والتّغنّي بمناقبهم ـ لو كان أحد منهم يوازي أولئك؟ لا والله! نعم ؛ كان السّيّد سالم بن بصريّ من أراكين العلوم لذلك العهد ، فما له لم يذكره؟ فإمّا أن يكون مع غزارة علمه أنزل عن درجة أولئك فيه ، وإمّا أنّه لا تأليف له وأولئك مؤلّفون.

والثّالثة : ذكر صاحب «المشرع» ونقل عنه شارح «العينيّة» : أنّ الشّيخ سالم بافضل صاحب الرّحلة إلى العراق ، وعليّ بن أحمد بامروان ، والقاضي أحمد بن محمّد باعيسى المتوفّى سنة (٦١٨ ه‍) ، والشّيخ عليّ بن محمّد الخطيب المتوفّى سنة (٦٤٢ ه‍) .. أخذوا عن السّيّد الإمام محمّد بن علي صاحب مرباط ، المتوفّى سنة (٥٥١ ه‍) ، أو سنة (٥٥٦ ه‍) على اختلاف الرّواية ، وفي أخذهم عنه شيء من البعد :

أمّا الشّيخ سالم .. فلغيبته لطلب العلم ، ثمّ لم يعد إلى تريم إلّا وصاحب مرباط بعيد عنها ، ومع ذلك فالاحتمال فيه من جهة السّنّ أقرب ممّن سواه (١) ، ويقرب منه ابن أبي الحبّ المتوفّى سنة (٦١١ ه‍) ؛ إذ لم يتأخّر موته عن صاحب مرباط إلّا خمسا وخمسين عاما ، ثمّ ابن أبي عبيد ؛ إذ لم يزد ما بين وفاتيهما على سبع وخمسين عاما.

أمّا بامروان .. فالفرق بين وفاته ووفاة صاحب مرباط تسع وستّون عاما ، وبينهما وبين وفاة باعيسى اثنتان وسبعون سنة ؛ لأنّ وفاته سنة (٦٢٨ ه‍) وأبعد ما يكون بينه وبين الخطيب ؛ إذ البون شاسع جدّا يقرب من ستّة وثمانين سنة مع تباعد الدّيار.

__________________

(١) لأن بين وفاتيهما نحو (٣٠) عاما.

٨٧٧

أمّا سيّدي عليّ بن أبي بكر .. فإنّه لم يذكر في «البرقة» إلّا أخذ الشّيخ سعيد الظّفاريّ وابن أخيه الشّيخ عليّ بن عبد الله بن عليّ ، وهذا هو القريب ؛ لقوّة المناصرة ، وكثرة المعاصرة ، وقرب المجاورة ، وليراجع جميع ذلك فإنّي لم أطل فيه التّحديق ، ولم أمرّ على «البرقة» بأسرها .. فلا مؤاخذة إن وجد غير ما ذكرته في موضع منها لم أستحضره ، ومع ما استقربناه من أخذ الشّيخ سالم بافضل عن صاحب مرباط يبعده أنّه عاصر القطب الجيلانيّ وجاوره في طلبه بالعراق ، ولم يذكر المؤرّخون له أخذا عنه ، ولو كان .. لتلقّى عنه تلاميذه بأخذه عنه ، وانتشرت بينهم طريقه ، ولكنّه لم يكن شيء من ذلك ، وإلّا .. لتواتر ، ومن المعلوم أنّ الخبر الّذي تتوفّر الدّواعي على تواتره كهذا لا يثبت برواية الآحاد وإن كانوا عدولا ، فكيف ولم يروه أحد قطّ؟

مع أنّ القطب الجيلانيّ أشهر وأذكر من أبي مدين ، وقد اشتهر أخذ الفقيه المقدّم عنه اشتهار الشّمس الضّاحية ، مع أنّه لم يكن إلّا بالواسطة ، وقد أمكن الشّيخ سالم أن يأخذ عن الجيلانيّ بدونها ، وكلّ ما تحيّل كتمانه .. لا يقبل برواية الآحاد.

قال الغزاليّ : فإن قيل قد تفرّد الآحاد بنقل ما تتوفّر الدّواعي عليه ، حتّى وقع الخلاف فيه ، وذكر عدّة أمور ؛ أقواها في الإشكال : انشقاق القمر ، فلم ينقله إلّا ابن مسعود وعدد يسير معه ، وكان ينبغي أن يراه كلّ مؤمن وكافر وباد وحاضر ، وقد أجاب بأنّه آية ليليّة ، وإنّما وقع لحظة والنّاس نائمون ، فلم يره إلّا من ناصر النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من قريش ونبّهه على النّظر له.

وكم من زلزلة وانقضاض كوكب وأمور هائلة من ريح وصواعق باللّيل لا ينتبه لها إلّا الآحاد ، على أنّ مثل هذا لا يعلمه إلّا من قيل له : انظر إليه.

وقد انشقّ القمر عقيب التّحدّي ، ثمّ التأم من ساعته. اه بمعناه وأكثر لفظه.

فلا شكّ في أنّ عدم أخذ الشّيخ سالم عن القطب الجيلانيّ خبيئا يتفسّر بما في «الأصل».

٨٧٨

وغير بعيد من الفقيه القحّ أن تنفر نفسه من أهل الطّرائق ومن على شاكلتهم ، فالحرب عوان بين الطّائفتين ، حتّى لقد كان الإمام أحمد ابن حنبل يكره الحارث المحاسبيّ ؛ قيل : لنظره في علم الكلام ، ثمّ إنّه هجره فاستخفى الحارث من العامّة ، ولمّا مات .. لم يصلّ عليه إلّا أربعة نفر ، وفي ذلك العهد كانت الصّولة للحديث والفقه ، ثمّ أديلت للتّصوّف ، وكذلك الأيّام تداول بين النّاس.

وفي «الفتاوى الحديثيّة» لابن حجر : أنّهم بالغوا في ردّ إنكار الإمام أحمد على الحارث ، ولعلّ ذلك بعده بزمان ، أمّا في حياته : فلو ردّوه .. لصلّوا عليه.

وما كان بافضل ليدع أخذ الجيلانيّ ويأخذ عن صاحب مرباط.

والرّابعة : أنّ صاحب «الجوهر الشّفّاف» بينما هو يكثّر من إقبال النّاس على العلويّين من حين جاؤوا .. كاد أن يناقض تماما في قوله : (واعلم يا أخي ـ وفّقك الله وإيّانا ـ أنّه لم يزل السّادات من مشايخنا الأجلّاء ، والفقهاء والفضلاء من علمائنا ـ سلفا وخلفا ـ يجلّون آل باعلويّ ، خاصّهم وعامّهم ، ويعظّمونهم ويوقّرونهم ، ويحترمونهم الحرمة الزّائدة الكاملة ، وينزلونهم المنزلة العالية ؛ لأجل شرفهم الظّاهر النّبويّ ، وها نحن نقتصر على ذكر واحد وعشرين (١) من الشّيوخ الكبار منهم :

شيخنا أبو العبّاس فضل بن عبد الله بافضل ، والشّيخ محمّد بن أبي بكر عبّاد ، والشّيخة سلطانة بنت عليّ الزّبيديّ ، والشّيخ معروف باعبّاد ، والشّيخ محمّد بن أحمد بن أبي الحبّ ، والشّيخ عبد الله بن أسعد اليافعيّ ، والشّيخ محمّد بن عبد الله باعبّاد ، والشّيخ أحمد بلعفيف صاحب ظفار ، والشّيخ أحمد بن عبد الرّحيم باوزير ، والشّيخ عبد الله بن إبراهيم باقشير ، والشّيخ عبد الله بن محمّد باحكم باقشير ، والشّيخ محمّد بن حكم باقشير ، والشّيخ إبراهيم بن يحيى بافضل ، والشّيخ عبد الرّحمن بن حسّان ، والشّيخ عبد الله بن محمّد بن أبي عيسى العموديّ ، والفقيه الكبير بامهرة الشّباميّ ، والقاضي محمّد بن سعيد كبّن ، والشّيخ حسن بن عبد الله بن

__________________

(١) سيذكر الشيخ المؤلف رحمه الله تعالى عشرين ، لا واحدا وعشرين ، فلعل اسما سقط سهوا.

٨٧٩

أبي السّرور ، والشّيخ محمّد بن أحمد بايعقوب ، ولعلّ الحادي والعشرين سعيد بن محمّد الكنديّ نزيل الهجرين) اه بمعناه

ووجه المناقضة : أنّ طبقة يكون فيها ثلاث مئة مفت ثمّ لم يجد الخطيب من يذكره منهم مع شدّة حرصه على التّعداد والتّكثّر إلّا واحدا هو ابن أبي الحبّ فقط (١)؟ إنّ هذا الحدّ ظاهر في المناقضة.

أمّا الباقون فليس فيهم من أهل تريم إلّا ثلاثة ، وهم :

إبراهيم بن يحيى بافضل (٢) ، وليس من تلك الطّبقة ، ولكنّه متأخّر ، كانت وفاته في سنة (٦٨٤ ه‍) ، وإنّما كان من تلك الطّبقة أبوه وجدّه ، وهم أولى بالعدّ لو كانوا هناك.

والثّاني : فضل بن عبد الله فضل ، وقد مرّ في الشّحر أنّ وفاته كانت سنة (٨٠٥ ه‍) أيّام السّقّاف.

والثّالث : محمّد بن أحمد بايعقوب ، ولا أذكر تاريخ وفاته ، وربّما كان والد القاضي بتريم أبي بكر بن محمّد بايعقوب ، وكان معاصرا للسّقّاف.

وفي «المشرع» والحكاية (٣٨٧) من «الجوهر» أنّ هذا القاضي تكلّم بكلام خشن قبيح على الشّيخ أبي بكر بن عبد الرّحمن السّقّاف ، فدعا عليه .. فعمي.

وفي الحكاية (٣٣٤) منه : أنّ الشّيخ عبد الله بن محمّد بازغيفان تكلّم وهو على منبر القارة بكلام قبيح على السّقّاف وهو حاضر ، فلم يجبه.

وفي الحكاية (٣٤٣) : أنّ بازغيفان هذا كان من مشايخ حضرموت ، يشهد له بذلك عليّ بن سعيد باصليب ، الملقّب بالرّخيلة.

__________________

(١) هو الفقيه العلامة الشيخ محمد بن أحمد بن يحيى بن أبي الحب الخطيب الأنصاري التريمي ، ولد حوالي (٥٤٥ ه‍) ، وتوفي ليلة الأحد (٢٤) ذي الحجة (٦١١ ه‍) ، ترجمته في «الشعراء» (١ / ٥٩ ـ ٦٢).

(٢) ترجمته في «الصلة» (٧٧ ـ ٨٥).

٨٨٠