أبي عبد الله محمّد بن محمود بن النجّار البغدادي
المحقق: حسين محمّد علي شكري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٨٣
وفي الشرق أربعون أسطوانا ؛ منها اثنتان في الحجرة ، وفي المغرب ستون أسطوانا ؛ وبين كل أسطوان وأسطوان تسعة أذرع.
وأما أبوابه : فكانت بعد زيادة المهدي فيه : في المشرق باب علي رضياللهعنه ، ثم باب النبي صلىاللهعليهوسلم ، ثم باب عثمان رضياللهعنه ، ثم باب مستقبل دار ريطة ، وباب مستقبل دار أسماء بنت الحسن ، ثم باب مستقبل دار خالد بن الوليد ، ثم باب مستقبل زقاق المناصع ، ثم باب مستقبل أبيات الصوافي ، فذلك ثمانية أبواب. منها باق في يومنا هذا : باب عثمان ، والباب المقابل لدار ريطة.
وفي الشام أربعة أبواب : الأول حذاء دار شرحبيل بن حسنة ، والثاني والرابع حذاء بقية دار عبد الله بن مسعود ، وليس منها شيء مفتوح في زماننا هذا.
وفي المغرب سبعة أبواب : الخامس منها باب عاتكة والسادس باب زياد ، والسابع مروان وليس منها شيء مفتوح في يومنا هذا إلا باب عاتكة ، ويعرف الآن بباب الرحمة ، وباب مروان وهو الذي يلي باب الإمارة ، وفي دار مروان باب إلى المسجد باق على حاله إلى الآن (١).
روى إبراهيم بن محمد ، عن ربيعة بن عثمان قال : لم يبق من الأبواب التي كان رسول الله يدخل منها إلا باب عثمان.
واعلم أن حدود مسجد رسول الله صلىاللهعليهوسلم من القبلة الدرابزينات التي بين الأساطين ، ومن الشام الخشبتان المغروزتان في صحن المسجد. فهذا طوله ، وأما عرضه من المشرق إلى المغرب ، فهو من حجرة النبي صلىاللهعليهوسلم إلى الأسطوان الذي بعد المنبر وهو آخر البلاط.
ولم تزل الخلفاء من بني العباس ينفذون الأمراء على المدينة ويمدونهم بالأموال لتجديد ما يتهدم من المسجد ، ولم يزل ذلك متصلا إلى أيام الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين وفقه الله لمنهاج الدين ولإقامة عزة الإسلام والمسلمين ونصره على كافة الأعداء والمخالفين ، فإنه ينفذ في كل
__________________
(١) لمزيد الإيضاح حول ذلك ، انظر : «وفاء الوفا» ١ / ٦٨٦ وما بعدها.
سنة من الذهب العين الإمامي ألف دينار لأجل عمارة المسجد ، وينفذ عدة من النجارين ، والبنائين ، والنقاشين ، والمزوقين ، والجصاصين ، والحراقين ، والحدادين ، والدوزجارية ، والحمالين ، ويكون مادتهم ما يأخذونه من الديوان العزي ببغداد ، من غير هذه الألف المذكورة ، وينفذ من الحديد والرصاص والأصباغ والحبال والآلات شيئا كثيرا ، ولا تزال العمارة متصلة في المسجد ليلا ونهارا حتى إنه ليس به اصبع إلا عامرا ، وينفذ من القناديل والشيرج (١) والشمع عدة أحمال لأجل المسجد ، وينفذ من الند والغالية المركبة والعود لأجل تجمير المسجد شيئا كثيرا.
وأما الرسوم التي تصل من الديوان لغير العمارة : فأربعة آلاف دينار من العين الأمامية للصدقات على أهل المدينة من العلويين وغيرهم ، وينفذ من الثياب القطن ألف وخمسمائة ذراع لأجل أكفان من يموت من الفقراء الغرباء ، هذا غير ما ينفذ للخطيب وإمام الروضة وللمؤذنين وخدام المسجد.
وذكر يوسف بن مسلم : أن زيت قناديل مسجد النبي صلىاللهعليهوسلم كان يحمل من الشام حتى انقطع في ولاية جعفر بن سليمان الأخيرة على المدينة ، فجعله على سوق المدينة.
فلما ولي المدينة داود بن عيسى سنة سبع أو ثمان وتسعين ومائة ، أخرجه من بيت المال.
قلت : وفي يومنا هذا يصل الزيت من مصر من وقف هناك ومقداره سبعة وعشرون قنطارا بالمصري ، والقنطار مائة وثلاثون رطلا ، ويصل معه مائة وستون شمعة بيضاء كبار وصغار ، وعلبة فيها مائة مثقال ند.
__________________
(١) نوع من أنواع الزيت يستخدم للإضاءة به.
الباب الثّالث عشر
في ذكر المساجد
التي بالمدينة وفضلها
اعلم أن المساجد والمواضع التي صلّى بها رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالمدينة كثيرة ، وأساميها في الكتب مذكورة (١) ، إلا أن أكثرها لا يعرف في يومنا هذا ، فذكره لا فائدة فيه هنا.
فأما المساجد التي هي اليوم معروفة فهي :
مسجد قباء
روى البخاري في «الصحيح» أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لبث في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة ، وأسس المسجد الذي على التقوى وصلّى فيه ، وخرج إلى المدينة (٢).
أنبأنا عبد الرحمن بن علي قال : أنبأنا محمد بن أبي منصور ، أخبرنا محمد بن أحمد المقري ، أنبأنا عبد الملك بن محمد الواعظ ، حدّثنا دعلج بن أحمد ، حدّثنا ابن خزيمة ، حدّثنا محمد بن يحيى ، حدّثنا إسماعيل بن أبي أويس ، حدّثني أبي ، عن شرحبيل بن سعد ، عن عويمر بن ساعدة : أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال لأهل قباء : «إن الله قد أحسن الثناء عليكم في الطهور ، قال : (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) إلى آخر الآية ، ما هذا الطهور؟ فقالوا : ما نعلم شيئا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود وكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط ، فغسلنا كما غسلوا» (٣).
__________________
(١) انظر في ذلك : «ابن شبة» ١ / ٥٧ ، «وفاء الوفا» ٢ / ٨١٩.
(٢) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار ، باب هجرة النبي صلىاللهعليهوسلم (٣٩٠٦).
(٣) رواه الإمام أحمد ٤ / ٤٣٦ (١٥٠٥٩) ، والطبراني في «الكبير» ١٧ / ١٤٠ (٣٤٨) ، ابن شبه ص ٤٧.
وفي «الصحيحين» من حديث ابن عمر رضياللهعنهما قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يزور قباء راكبا وماشيا (١).
وفي «صحيح مسلم» أن عبد الله بن عمر كان يأتي قباء في كل سبت ويقول : «رأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يأتيه كل سبت» (٢).
وروى أبو عروبة قال : كان عمر بن الخطاب رضياللهعنه يأتي قباء كل يوم الاثنين ويوم الخميس ، فجاء يوما فلم يجد أحدا من أهله ، فقال : والذي نفسي بيده ، لقد رأيتنا ورسول الله صلىاللهعليهوسلم وأبا بكر في أصحابه ننقل حجارته على بطوننا ، ويؤسسه رسول الله صلىاللهعليهوسلم وجبريل عليهالسلام يؤم به البيت. ومحلوف عمر بالله : لو كان مسجدنا هذا لطرف من الأطراف لضربنا إليه أكباد الإبل.
وروى البخاري في «الصحيح» قال : كان سالم مولى أبي حذيفة يؤم المهاجرين الأولين من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم في مسجد قباء فيهم أبو بكر وعمر رضياللهعنهم أجمعين (٣).
وروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف ، عن أبيه ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «من توضأ فأسبغ الوضوء وجاء مسجد قباء فصلى فيه ركعتين كان له أجر عمرة» (٤).
وروت عائشة بنت سعد بن أبي وقاص عن أبيها قال : والله لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحب إليّ من أن آتي إلى بيت المقدس مرتين ، ولو يعلمون ما فيه لضربوا إليه أكباد الإبل (٥).
وروى نافع ، عن ابن عمر رضياللهعنهما أن النبي صلىاللهعليهوسلم صلّى إلى الأساطين الثلاث في مسجد قباء التي في الرحبة.
__________________
(١) أخرجه البخاري في الصلاة باب «إتيان مسجد قباء ماشيا وراكبا» (١١٩٤) ، ومسلم في الحج باب «فضل مسجد قباء» (٥١٥).
(٢) أخرجه مسلم في الحج ، باب «فضل مسجد قباء» (١٣٩٩ / ٥٢٠).
(٣) أخرجه البخاري في الأذان ، باب إمامة العبد والمولى (٦٩٢).
(٤) «الطبقات الكبرى» لابن سعد ١ / ١٨٨.
(٥) ابن شبة ١ / ٤٢ ، والحاكم في «المستدرك» ٣ / ١٣ (٤٢٨٠) وقال : على شرط الشيخين ، ووافقه الذهبي.
قلت : لما هاجر النبي صلىاللهعليهوسلم إلى المدينة ، نزل في بني عمرو بن عوف بقباء في منزل كلثوم بن الهدم ، وأخذ مربد فأسسه مسجدا وصلّى فيه. ولم يزل ذلك المسجد يزوره رسول الله صلىاللهعليهوسلم مدة حياته ويصلي فيه أهل قباء ، فلما توفي رسول الله صلىاللهعليهوسلم لم تزل الصحابة تزوره وتعظمه.
ولما بنى عمر بن عبد العزيز مسجد النبي صلىاللهعليهوسلم ، بنى مسجد قباء ووسعه ، وبناه بالحجارة والجص ، وأقام فيه الأساطين من الحجارة بينها عواميد الحديد والرصاص ونقشه بالفسيفساء ، وعمل له منارة وسقفه بالساج وجعله أروقة ، وفي وسطه رحبة ، وتهدم على طول الزمان حتى جدد عمارته جمال الدين الأصبهاني وزير بني زنكي ، الملوك ببلاد الموصل.
وذرعت مسجد قباء فكان طوله ثمان وستين ذراعا تشف قليلا ، وعرضه كذلك ، وارتفاعه في السماء عشرون ذراعا ، وطول منارته من سطحه إلى رأسها اثنان وعشرون ذراعا ، وعلى رأسها قبة طولها نحو العشرة أذرع ، وعرض المنارة من جهة القبلة عشرة أذرع شافة ، ومن المغرب ثمانية أذرع ، وفي المسجد تسعة وثلاثون أسطوانا ، بين كل أسطوانين سبعة أذرع شافة ، وفي جدرانه طاقات نافذة إلى خارج ، في كل جانب ثمان طاقات إلى الجانب الذي يلي الشام ، فإن الثامنة فيها المنارة ، فهي مسدودة ، والمنارة عن يمين المصلي وهي مربعة.
مسجد الفتح
أنبأنا حنبل بن عبد الله الرصافي ، قال : أخبرنا أبو القاسم بن الحصين ، أخبرنا أبو علي بن المذهب ، أنبأنا أبو بكر القطيعي ، حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدّثني أبي ، حدّثنا أبو عامر كثير ـ يعني ابن زيد ـ ، حدّثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، قال : حدّثني جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه : «أن النبي صلىاللهعليهوسلم دعا في مسجد الفتح يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ، فاستجيب له يوم الأربعاء بعد الصلاتين فعرف البشر في وجهه» (١).
__________________
(١) «مسند» الإمام أحمد ٢٨٤ (١٤١٥٣) ، و «مجمع الزوائد» ٤ / ١٢.
أنبأنا القاسم بن علي ، أخبرنا هبة الله بن أحمد ، أخبرنا أبو منصور بن شكروي ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله ، حدّثنا أبو عبد الله المحاملي ، حدّثنا علي بن سالم ، حدّثنا إسماعيل بن أبي فديك ، عن معاذ بن سعيد السلمي عن أبيه ، عن جابر رضياللهعنه : «أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم مر بمسجد الفتح الذي على الجبل ، وقد حضرت صلاة العصر ، فرقى فصلى فيه صلاة العصر» (١).
وروى هارون بن كثير ، عن أبيه ، عن جده أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوم الخندق دعا على الأحزاب في موضع الأسطوانة الوسطى من مسجد الفتح الذي على الجبل (٢).
قلت : وهذا المسجد على رأس جبل يصعد إليه بدرج ، وقد عمر عمارة جديدة ، وعن يمينه في الوادي نخل كثير ويعرف ذلك الموضع : بالسيح ، ومساجد حوله وهي ثلاثة : قبلة الأول منها خراب ، قد هدم وأخذت حجارته ، والآخران معموران بالحجارة والجص ، وهما في الوادي عند النخل.
وروى معاذ بن سعد : أن رسول الله عليه الصلاة والسلام صلّى في مسجد الفتح في الجبل ، وفي المساجد التي حوله.
مسجد القبلتين
روى عثمان بن محمد الأخنسي قال : زار رسول الله صلىاللهعليهوسلم امرأة من بني سلمة يقال لها : أم بشير في بني سلمة ، فصنعت له طعاما ، فحانت الظهر فصلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم بأصحابه في مسجد القبلتين الظهر ، فلما صلى ركعتين ، أمر أن يتوجه إلى الكعبة ، فاستدار رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فسمي ذلك المسجد «مسجد القبلتين» ، وكانت الظهر يومئذ أربع ركعات ، منها ثنتان إلى بيت المقدس ، وثنتان إلى الكعبة (٣).
وقال سعيد بن المسيب رضياللهعنه : صرفت القبلة قبل بدر بشهرين ، والثابت عندنا أنها صرفت في الظهر في المسجد.
__________________
(١) ابن شبة ١ / ٥٩.
(٢) ابن شبة ١ / ٦٠.
(٣) «الطبقات الكبرى» لابن سعد ١ / ١٨٦.
قلت : وهذا المسجد بعيد من المدينة قريب من بئر رومة ، وقد انهدم وأخذت حجارته وبقيت آثاره وموضعه يعرف بالقاع (١).
مسجد الفضيخ
روي عن هشام بن عروة ، والحارث بن فضيل أنهما قالا : صلى النبي صلىاللهعليهوسلم في مسجد الفضيخ (٢).
قلت : وهذا المسجد قريب من قباء ويعرف بمسجد الشمس وهو حجارة مبنية على نشز من الأرض.
مسجد بني قريظة
روى علي بن رفاعة عن أشياخ من قومه أن النبي صلىاللهعليهوسلم صلّى في بيت امرأة ، فأدخل ذلك البيت في مسجد بني قريظة ، وهو المكان الذي صلى فيه النبي صلىاللهعليهوسلم ببني قريظة (٣).
قلت : وهذا المسجد اليوم باق بالعوالي ، وهو كبير طوله نحو عشرين ذراعا وعرضه كذلك (٤) ، وفيه ست عشرة أسطوانة قد سقط بعضها ، وهو بلا سقف وحيطانه مهدومة ، وقد كان مبنيا على شكل بناء مسجد قباء وحوله بساتين ومزارع.
ومشربة أم إبراهيم ابن النبي عليه الصلاة والسلام
روى إبراهيم بن محمد بن يحيى بن محمد بن ثابت أن النبي صلىاللهعليهوسلم صلّى في مشربة أم إبراهيم عليهالسلام.
قلت : وهذا الموضع بالعوالي من المدينة بين النخل ، وهو أكمة قد حوّط عليها بلبن ، والمشربة : البستان ، وأظنه قد كان بستانا لمارية القبطية أم إبراهيم ابن النبي صلىاللهعليهوسلم ، والله أعلم.
__________________
(١) عمر المسجد عمارة جديدة ووسع ، ولا زال يعرف بمسجد القبلتين.
(٢) ابن شبة ١ / ٦٩.
(٣) ابن شبة ١ / ٧٠.
(٤) ذكر المطري في «التعريف» (ص ٤٨) أن طول المسجد نحو من خمس وأربعين ذراعا ، وعرضه كذلك ، وذكر السمهودي في : «وفاء الوفا» (٢ / ٨٢٥) أنه ذرعه فكان طوله أربعا وأربعين ذراعا وربعا ، وعرضه ثلاثا وأربعين ذراعا.
واعلم أن بالمدينة عدة مساجد خراب ، فيها المحاريب وبقايا الأساطين ، وتنقض وتؤخذ حجارتها فتعمر بها الدور.
منها : مسجد بقباء قريب من مسجد الضرار فيه أسطوانات قائمة.
ومسجدان قريبان من البقيع ، أحدهما يعرف : بمسجد الإجابة ، وفيه أسطوانات قائمة ومحراب مليح ، وباقيه خراب.
وآخر يعرف بمسجد البغلة ، فيه أسطوانة واحدة وهو خراب ، وحوله يسير من الحجارة ، فيه أثر يقولون : إنه أثر حافري بغلة النبي صلىاللهعليهوسلم ، فتستحب الصلاة في هذه المواضع وإن لم يعرف أساميها ، لأن الوليد بن عبد الملك كتب إلى عمر بن عبد العزيز وهو واليه على المدينة : مهما صح عندك من المواضع التي صلّى فيها النبي صلىاللهعليهوسلم فابن عليه مسجدا ، فهذه الآثار كلها آثار بناء عمر بن عبد العزيز (١).
__________________
(١) لمزيد التعرف على المساجد ، انظر : «تاريخ معالم المدينة قديما وحديثا» للخياري.
الباب الرّابع عشر
في ذكر مسجد الضّرار وهدمه
هذا المسجد بناه المنافقون مضاهاة لمسجد قباء ، فكانوا يجتمعون فيه ويعيبون النبي صلىاللهعليهوسلم ويستهزئون به ، وكان الذين بنوه إثني عشر رجلا : حرام بن خالد ومن داره أخرجه ، وثعلبة بن حاطب ، ومعتّب بن قشير ، وأبو حبيبة بن الأزعر ، وعباد بن حنيف ، وحارثة بن عامر وابناه مجمع وزيد ، ونبتل بن الحارث ، ومحدج وبجاد بن عثمان ، ووديعة بن ثابت.
فلما بنوه أتوا النبي صلىاللهعليهوسلم وهو يتجهز إلى تبوك ، فقالوا : يا رسول الله ، إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة ، والليلة المطيرة والليلة الشاتية ، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه.
فقال صلىاللهعليهوسلم : إني على جناح سفر وحال شغل ، ولو قد قدمنا إن شاء الله ، لأتيناكم فصلينا لكم فيه.
فلما نزل رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «بذي أوان» ، وهو بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار ومرجعه من تبوك ، أتاه خبر المسجد ، فدعا رسول الله عليه الصلاة والسلام مالك بن الدخشم ، ومعن بن عدي ، أو أخاه عاصما ؛ فقال صلىاللهعليهوسلم : «انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه» ، فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف ، فأخذا سعفا من النخل وأشعلا فيه نارا ، ثم خرجا يشتدان حتى دخلا المسجد وفيه أهله ، فحرقاه وهدماه ، وتفرق أهله عنه ، ونزل فيه من القرآن ما نزل (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً) [التوبة : ١٠٧] ، إلى آخر القصة (١).
__________________
(١) «وفاء الوفا» ٢ / ٨١٦ ، «الدر المنثور» للسيوطي ٣ / ٤٩٥.
قلت : وهذا المسجد قريب من مسجد قباء ، وهو كبير وحيطانه عالية وتؤخذ منه الحجارة ، وقد كان بناؤه مليحا (١).
__________________
(١) قال المطري في «التعريف» ص ٤٧ : «وأما مسجد ضرار ، فلا له أثر ، ولا يعرف له مكان فيما حول مسجد قباء (...) ، وما ذكره الشيخ محب الدين بن النجار أنه موجود قريب من مسجد قباء ، وهو كبير وحيطانه عالية وكان بناؤه مليحا. فهذا وهم ولا أصل له ، والله أعلم». انتهى.
الباب الخامس عشر
في ذكر وفاة النبي صلىاللهعليهوسلم
وصاحبيه رضياللهعنهما
روي عن أبي مويهبة مولى رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : بعثني رسول الله صلىاللهعليهوسلم من جوف الليل فقال : يا أبا مويهبة ، إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي ، فانطلقت معه ، فلما وقف بين أظهرهم قال : السلام عليكم يا أهل المقابر ، ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها ، الآخرة شر من الأولى.
ثم أقبل عليّ وقال : يا أبا مويهبة ، إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ، ثم الجنة ، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة؟
قال : فقلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ، ثم الجنة ، قال : لا والله يا أبا مويهبة ، لقد اخترت لقاء ربي والجنة.
ثم استغفر لأهل البقيع ، ثم انصرف. فبدأ برسول الله صلىاللهعليهوسلم وجعه الذي قبضه الله فيه (١).
وروي عن عائشة رضياللهعنها قالت : رجع رسول الله صلىاللهعليهوسلم من البقيع ، فوجدني وأنا أجد صداعا في رأسي ، وأنا أقول : وا رأساه ، فقال : بل والله يا عائشة وا رأساه ، فقال : وما ضرك لو متّ قبلي فقمت عليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك ، قالت : قلت : لكأني بك قد فعلت ذلك ، ثم رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك.
قالت : فتبسم رسول الله صلىاللهعليهوسلم وتتامّ به وجعه (٢) وهو يدور على نسائه ،
__________________
(١) «مسند» الإمام أحمد ٤ / ٥٤٢ (١٥٥٦٧) ، «الطبقات الكبرى» لابن سعد ٢ / ١٥٧.
(٢) «مسند» الإمام أحمد ٧ / ٣٢٥ (٢٥٣٨٠) ، ابن ماجه ١ / ٤٧ (١٤٦٥).
حتى اشتد به وجعه وهو في بيت ميمونة ، فدعا نساءه وكن تسعا : عائشة وحفصة وأم سلمة وأم حبيبة وسودة وزينب وميمونة وجويرية وصفية رضياللهعنهن ، فاستأذنهن على أن يمرّض في بيت عائشة ، فأذنّ له فخرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم يمشي بين العباس وعلي رضياللهعنهما عاصبا رأسه ، تخط قدماه الأرض حتى دخل بيت عائشة ، ثم حمّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم واشتد وجعه فقال : هريقوا عليّ من سبع قرب من آبار شتى حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم ، فأقعدوه صلىاللهعليهوسلم في مخضب وصبوا عليه الماء.
وخرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم عاصبا رأسه حتى جلس على المنبر ، فصلى على أصحاب أحد واستغفر لهم وأكثر الصلاة عليهم ، ثم قال : إن عبدا من عباد الله خيره الله عزوجل بين الدنيا وبين ما عنده ، فاختار ما عنده ، قال : ففهمها أبو بكر ، وعرف أن نفسه يريد وقال : بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا ، ثم قال رسول الله عليه الصلاة والسلام : يا معشر المهاجرين استوصوا بالأنصار خيرا ، فإن الناس يزيدون والأنصار على هيئتها لا تزيد ، وإنهم كانوا عيبتي التي أويت إليها ، فأحسنوا إلى محسنهم ، وتجاوزوا عن مسيئهم ، ثم نزل فدخل بيته وتتامّ به وجعه (١).
وروى البخاري في «الصحيح» من حديث عائشة رضياللهعنها أنها قالت : «ما رأيت أحدا الوجع عليه أشد من رسول الله صلىاللهعليهوسلم» (٢).
وفيه أيضا : من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : «دخلت على رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو يوعك ، فقلت : يا رسول الله إنك توعك وعكا شديدا ، قال : أجل ، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم» (٣).
ولما اشتد به وجعه صلىاللهعليهوسلم ، جاءه بلال يؤذنه بصلاة الفجر من يوم الاثنين قال : «مروا أبا بكر فليصل بالناس» ، فلما تقدم أبو بكر رضياللهعنه يصلي بالناس ، وجد رسول الله صلىاللهعليهوسلم خفة فخرج على الناس.
__________________
(١) أخرجه البخاري برقم (٥٧١٤).
(٢) أخرجه البخاري في المرضى ، باب شدة المرض (٥٦٤٦) ، ومسلم في البر والصلة ، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض (٢٥٧٠).
(٣) أخرجه البخاري في المرضى ، باب أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأول فالأول (٥٦٤٨).
قال أنس : فخرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم على الناس وهم يصلون الصبح ، فرفع الستر وقام على باب عائشة ، فكاد المسلمون يفتتنون في صلاتهم برسول الله صلىاللهعليهوسلم حين رأوه فرحا به وتفرجوا ، فأشار إليهم أن اثبتوا على صلاتكم (١).
قال : وتبسم رسول الله صلىاللهعليهوسلم سرورا لما رأى من هيئتهم في صلاتهم ، وما رأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم أحسن هيئة منه تلك الساعة.
قال أبو بكر بن أبي مليكة : فلما تفرج الناس عرف أبو بكر رضياللهعنه أنهم لم يفعلوا ذلك إلا لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فنكص عن مصلاه ، فدفعه رسول الله صلىاللهعليهوسلم في ظهره وقال : صل بالناس ، وجلس الرسول صلىاللهعليهوسلم إلى جانبه فصلى قاعدا عن يمين أبي بكر.
فلما فرغ من الصلاة ، أقبل على الناس فكلمهم رافعا صوته حتى خرج صوته من باب المسجد يقول : «يأيها الناس ، سعرت النار وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ، وإني والله ما تمسكون عليّ بشيء ، إني لم أحلّ إلا ما أحلّ القرآن ، ولم أحرم إلا ما حرم القرآن».
فلما فرغ صلىاللهعليهوسلم من كلامه ، قال له أبو بكر رضياللهعنه : يا نبي الله إني أراك قد أصبحت بنعمة من الله وفضل كما نحب ، واليوم يوم بنت خارجة ، أفآتيها؟ قال : نعم ، قال : ثم دخل عليه الصلاة والسلام وخرج أبو بكر إلى أهله بالسنح.
وخرج يومئذ علي بن أبي طالب رضياللهعنه على الناس من عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال له الناس : يا أبا الحسن ، كيف أصبح رسول الله؟ فقال : أصبح بحمد الله بارئا ، قال : فأخذ العباس بيده وقال : يا علي ، أحلف بالله لقد رأيت الموت في وجه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، كما كنت أعرفه في وجوه بني عبد المطلب (٢).
وفي «صحيح البخاري» من حديث عائشة رضياللهعنها قالت : «دعا النبيّ صلىاللهعليهوسلم فاطمة في شكواه الذي قبض فيه ، فسارّها بشيء فبكت ، ثم دعاها
__________________
(١) أخرجه مسلم في الصلاة ، باب إستخلاف الإمام إذا عرض له عذر (٤١٩).
(٢) أخرجه البخاري في المغازي ، باب «مرض النبي صلىاللهعليهوسلم» (٤٤٤٧).
فسارّها فضحكت ، فسألتها عن ذلك ، فقالت : سارني أنه يقبض في وجعه فبكيت ، ثم سارني أني أول أهله لحوقا به فضحكت» (١).
و «فيه» (٢) من حديثها أيضا أنها قالت : «إن من نعم الله عليّ أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم توفي في بيتي وفي يومي ، وبين سحري ونحري ، وإن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته ، دخل عليّ عبد الرحمن بن أبي بكر وأنا مسندة النبي صلىاللهعليهوسلم إلى صدري ومعه سواك رطب يستن به ، فرأيته ينظر إليه وعرفت أنه يحب السواك ، فقلت : آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم ، فليّنته وطيبته ، ثم دفعته إليه فاستنّ به ، فما رأيت النبي عليه الصلاة والسلام استن استنانا قط أحسن منه ، وبين يديه ركوة فيها ماء ، فجعل يدخل يده في الماء فيمسح بها وجهه ويقول : لا إله إلا الله إن للموت لسكرات ، ثم نصب يديه فجعل يقول : في الرفيق الأعلى ، حتى قبض ومالت يده».
قالت عائشة رضياللهعنها : «كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو صحيح يقول : إنه لن يقبض نبيّ حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير.
فلما اشتكى وحضره القبض ورأسه على فخذي ، غشي عليه ، فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت ثم قال : اللهم في الرفيق الأعلى. فقلت : إذا لا يختارنا ، فعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وهو صحيح» (٣).
وقالت عائشة رضياللهعنها : سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام وأصغيت إليه قبل أن يموت وهو مسند إليّ ظهره يقول : «اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى» (٤).
ولما تغشاه الموت ، قالت فاطمة رضياللهعنها : واكرب أباه ، قال لها : «ليس على أبيك كرب بعد اليوم».
قالت عائشة رضياللهعنها : وثقل رسول الله صلىاللهعليهوسلم في حجري ،
__________________
(١) المصدر السابق (٤٤٣٣).
(٢) المصدر السابق (٤٤٤٩).
(٣) أخرجه البخاري في المغازي ، باب «مرض النبي صلىاللهعليهوسلم» (٤٤٦٣).
(٤) المصدر السابق (٤٤٤٠).
فنظرت في وجهه فإذا بصره قد شخص ، وهو يقول : «بل الرفيق الأعلى في الجنة» وقبض صلىاللهعليهوسلم.
قالت : فوضعت رأسه على وسادتي ، وقمت التدم مع النساء أضرب وجهي.
وقالت فاطمة رضياللهعنها تندبه صلىاللهعليهوسلم : يا أبتاه ؛ أجاب ربّا دعاه ، يا أبتاه ؛ في جنة الفردوس مأواه ، يا أبتاه ؛ إلى جبريل ننعاه (١).
وقال جبريل عليهالسلام للنبي صلىاللهعليهوسلم عند موته : يا أحمد هذا آخر وطئي في الأرض ولا أنزل إليها أبدا بعد ، إنما كنت حاجتي من الدنيا (٢).
وكانت وفاته صلىاللهعليهوسلم حين اشتد الضحى من يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول ، سنة إحدى عشرة مضت من الهجرة عن ثلاث وستين سنة من عمره ، وكمل بالمدينة من يوم دخلها إلى يوم مات عشر سنين كوامل مبلغا لرسالات الله مجاهدا لأعدائه.
ولما توفي رسول الله صلىاللهعليهوسلم قام عمر بن الخطاب رضياللهعنه فقال : إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله قد توفي ، وإن رسول الله ما مات ، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى ، فإنه غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات ، وو الله ليرجعن رسول الله صلىاللهعليهوسلم فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه قد مات!
قالوا : وأقبل أبو بكر على فرس من مسكنه بالسنح ، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة رضياللهعنها ، فيمم رسول الله وهو مسجّى بثوب حبرة ، فكشف عن وجهه ، ثم أكب عليه فقبله وبكى ، ثم قال : بأبي وأمي أنت ، والله لا يجمع الله عليك موتتين : أما الموتة التي كتبت عليك فقد متّها (٣) ثم لن يصيبك بعدها موتة أبدا. ثم رد البرد على وجهه ، وخرج وعمر بن الخطاب رضياللهعنه يكلم الناس ، فقال : على رسلك يا عمر أنصت ، فأبى إلا أن يتكلم ، فلما رآه أبو بكر
__________________
(١) المصدر السابق (٤٤٦٢) ، وابن ماجه ١ / ٥٢٢ (١٦٣٠).
(٢) رواه السهمي في «تاريخ جرجان».
(٣) أخرجه البخاري في «المغازي» ، باب مرض النبي صلىاللهعليهوسلم (٤٤٥٢).
رضياللهعنه لا ينصت أقبل على الناس ، فلما سمع الناس كلامه ، أقبلوا عليه وتركوا عمر.
فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس! إنه من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حىّ لا يموت قال : ثم تلا هذه الآية : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران : ١٤٤].
قال : فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ ، قال : وأخذها الناس عن أبي بكر رضياللهعنه فهي في أفواههم.
قال عمر : فو الله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى وقعت إلى الأرض ، ما تحملني رجلاي ، وعرفت أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد مات (١).
ولما مات رسول الله صلىاللهعليهوسلم قالوا : والله لا يدفن وما مات ، وإنه ليوحى إليه ، فأخروه حتى أصبحوا من يوم الثلاثاء ، وقال العباس رضياللهعنه : إنه قد مات وإني لأعرف منه موت بني عبد المطلب.
وقال القاسم بن محمد : ما دفن رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى عرف الموت في أظفاره.
قالت عائشة رضياللهعنها : لما أرادوا غسل رسول الله اختلفوا فقالوا : والله ما ندري أنجرّد رسول الله صلىاللهعليهوسلم كما نجرّد موتانا؟ أو نغسله وعليه ثياب؟!
قالت : فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا ذقنه في صدره ، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو : أن اغسلوا النبي صلىاللهعليهوسلم وعليه ثيابه.
قالت : فقاموا إلى رسول الله فغسلوه وعليه قميصه ، يصبون الماء فوق
__________________
(١) المصدر السابق (٤٤٥٤).
القميص دون أيديهم ، وغسله علي رضياللهعنه ، أسنده إلى صدره وعليه قميصه يدلكه به من ورائه ، لا يفضي بيده إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، والعباس وابناه الفضل وقثم يقلبونه معه ، وأسامة بن زيد وشقران مولى النبي صلىاللهعليهوسلم يصبان الماء عليه وعلي يقول : بأبي أنت وأمي ما أطيبك حيا وميتا ، ولم ير من رسول الله صلىاللهعليهوسلم شيء مما يرى من الميت ، فلما فرغوا من غسله كفن (١).
روى البخاري في «الصحيح» من حديث عائشة رضياللهعنها أنها قالت : «كفن رسول الله في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة» (٢).
فلما فرغ من جهاز رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوم الثلاثاء وضع على سريره في بيته ، ثم دخل الناس يصلون عليه أرسالا ، الرجال ثم النساء ثم الصيبان ، ولم يؤم الناس على رسول الله صلىاللهعليهوسلم أحد (٣).
واختلفوا في دفنه؟
فأنبأنا عبد الرحمن بن علي ، أخبرنا أبو الحسن الفقيه ، أخبرنا علي بن أحمد البندار ، أنبأنا عبيد الله بن محمد العكبري ، حدّثنا أبو عبد الله بن مخلد ، حدّثنا علي بن سعد بن المغيرة ، حدّثنا محمد بن عمر ، حدّثنا عبد الحميد بن جعفر ، عن عثمان بن محمد الأخنسي ، عن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع ، قال : لما توفي رسول الله صلىاللهعليهوسلم اختلفوا في موضع قبره ، فقال قائل : بالبقيع ، فإنه كان يكثر الاستغفار لهم ، وقال قائل منهم : عند منبره ، وقال قائل منهم : في مصلاه.
فجاء أبو بكر رضياللهعنه فقال : إن عندي من هذا خبرا وعلما ، سمعت رسول الله يقول : «ما قبض نبي إلا دفن حيث توفي» (٤).
__________________
(١) «صحيح» ابن حبان ، باب «ذكر البيان بأن المصطفى صلىاللهعليهوسلم لم ير منه في غسله» ١٤ / ٥٩٦ (٦٦٢٨) ، «السيرة النبوية» لابن هشام ٢ / ٦٦٢.
(٢) أخرجه البخاري في الجنائز ، باب الثياب البيض للكفن (١٢٦٤) ، ومسلم في الجنائز ، باب في كفن الميت (٩٤١).
(٣) ابن ماجه باب «ذكر وفاته ودفنه صلىاللهعليهوسلم» ١ / ٥٢٠ (١٦٢٨).
(٤) أخرجه الترمذي «باب» ٣ / ٣٣٨ (١٠١٨) ، وابن ماجه باب «ذكر وفاته ودفنه صلىاللهعليهوسلم» ١ / ٢٥٠ (١٦٢٨).
أخبرنا لاحق بن علي الصوفي ، أخبرنا هبة الله بن محمد الكاتب ، أخبرنا الحسن بن محمد الواعظ ، أنبأنا أحمد بن جعفر القطيعي ، حدّثنا عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل ، حدّثني أبي ، حدّثنا عبد الرزاق ، أخبرنا ابن جريج قال : أخبرني أبي أن أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم لم يدروا أين يقبرون رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى قال أبو بكر رضياللهعنه ، فأخروا فراشه وحفروا له تحت فراشه.
وروى عكرمة عن ابن عباس رضياللهعنهما قال : لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله عليه الصلاة والسلام وكان أبو عبيدة يضرح حفر أهل مكة ، وكان أبو طلحة يلحد لأهل المدينة ، فدعا العباس رجلين فقال لأحدهما : اذهب إلى أبي عبيدة ، وللآخر : اذهب إلى أبي طلحة ، اللهم خر لرسولك صلىاللهعليهوسلم ، فوجد صاحب أبي طلحة أبا طلحة ، فجاء به فلحد لرسول الله (١).
ثم دفن رسول الله من وسط الليل ليلة الأربعاء ، وكان الذين نزلوا قبره : علي بن أبي طالب ، والفضل وقثم ابنا العباس ، وشقران مولى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وبني على لحده تسع لبنات نصبن نصبا (٢).
وروى جعفر بن محمد الصادق ، عن أبيه أن النبي صلىاللهعليهوسلم رش على قبره وجعل عليه حصباء حمراء من حصباء العرصة ، ورفع (٣) قدر شبرين من الأرض.
وروى البخاري في «الصحيح» من حديث أبي بكر بن عياش عن سفيان التمار : أنه حدّثه أنه رأى قبر النبي صلىاللهعليهوسلم مسنما (٤).
وفي «صحيح البخاري» من حديث أنس بن مالك أنه قال : «لما دفن النبي صلىاللهعليهوسلم قالت فاطمة رضياللهعنها : يا أنس! أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم التراب؟» (٥).
__________________
(١) «الموطأ» : ٨٢ (٥٤٣).
(٢) ابن هشام ٢ / ٦٦٤.
(٣) «المستدرك» للحاكم ٥٢٤ (١٣٦٨) ، سنن أبي داود ٣ / ٥٤٩ (٣٢٢٠).
(٤) أخرجه البخاري في الجنائز ، باب ما جاء في قبر النبي صلىاللهعليهوسلم (١٣٩٠).
(٥) المصدر السابق في «المغازي» ، باب مرض النبي صلىاللهعليهوسلم (٤٤٦٢).
أنبأنا أبو جعفر الواسطي ، عن أبي طالب بن يوسف ، أخبرنا أبو الحسين بن الأبنوسي ، عن عمر بن شاهين ، أخبرنا محمد بن موسى ، حدّثنا أحمد بن محمد الكاتب ، حدّثني طاهر بن يحيى ، حدّثني أبي ، عن جدي ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي بن أبي طالب رضياللهعنه قال : لما رمس رسول الله صلىاللهعليهوسلم جاءت فاطمة رضياللهعنها فوقفت على قبره وأخذت قبضة من تراب القبر ، فوضعته على عينها وبكت وأنشأت تقول :
ماذا على من شمّ تربة أحمد |
|
أن لا يشم مدى الزمان غواليا |
صبّت عليّ مصائب لو أنها |
|
صبت على الأيام عدن لياليا |
روي عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال : ما رأيت فاطمة رضياللهعنها بعد أبيها ضاحكة ، ومكثت بعده ستة أشهر.
وروى حجاج بن عثمان عن أبيه قال : رأيتهم اجتمعوا يوم مات النبي صلىاللهعليهوسلم على أكمة ، فجعلوا يبكون عليه.
وروى البخاري في «الصحيح» من حديث أبي بردة قال : «أخرجت إلينا عائشة رضياللهعنها كساء وإزارا غليظا فقالت : قبض روح رسول الله صلىاللهعليهوسلم في هذين» (١).
وروى أنس من حديث عائشة رضياللهعنها قالت : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم في مرضه الذي لم يقم منه : «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ، ولو لا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا (٢).
أنبأنا يحيى بن أسعد بن بوش ، عن أبي علي الحداد ، عن أبي نعيم الحافظ ، عن جعفر الخلدي ، أنبأنا أبو يزيد المخزومي ، حدّثنا الزبير بن بكار ، حدّثنا محمد بن الحسن قال : حدّثني غير واحد ، منهم عبد العزيز بن أبي حازم ، ونوفل بن عمارة قالوا : إن عائشة رضياللهعنها كانت تسمع صوت الوتد والمسمار يضرب في بعض الدور المطنبة بمسجد
__________________
(١) في اللباس ، باب «الأكسية والخمائص» (٥٨١٨).
(٢) أخرجه البخاري في الجنائز ، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور (١٣٣٠) ، ومسلم في المساجد ، باب النهي عن بناء المساجد على القبور (٥٢٩).
النبي صلىاللهعليهوسلم ، فترسل إليهم : أن لا تؤذوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وما عمل علي بن أبي طالب رضياللهعنه مصراعي داره إلا بالمناصع توقّيا لذلك.
وروي أن بعض نساء النبي صلىاللهعليهوسلم دعت نجارا يغلق ضبة لها ، وأن النجار ضرب المسمار في الضبة ضربا شديدا ، فصاحت عائشة رضياللهعنها بالنجار وكلمته كلاما شديدا ، وقالت : ألم تعلم أن حرمة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ميتا كحرمته إذا كان حيّا ، قالت الأخرى : وماذا سمع من هذا؟ ، قالت عائشة رضياللهعنها : إنه ليؤذي رسول الله صلىاللهعليهوسلم صوت هذا الضرب كما لو كان يؤذيه حيا ، صلىاللهعليهوسلم تسليما كثيرا.
ذكر وفاة أبي بكر رضياللهعنه
ذكر محمد بن جرير الطبري بإسناد له : أن اليهود سمّت أبا بكر رضياللهعنه في أرزة ، ويقال : في خزيرة ، وتناول معه الحارث بن كلدة منها ، ثم كف وقال لأبي بكر : أكلت طعاما مسموما ، فسمّ لسنته ، فمات بعد سنة ، ومرض خمسة عشر يوما فقيل له : لو أرسلت إلى الطبيب ، فقال : قد رآني ، قالوا : فماذا قال لك؟ قال : قال : إني أفعل ما أشاء (١).
وقالت عائشة رضياللهعنها : كان أول ما بدأ أبو بكر رضياللهعنه أنه اغتسل يوم الاثنين لسبع خلون من جمادى الآخرة ، وكان يوما باردا فحمّ خمسة عشر يوما لا يخرج إلى الصلاة ، وكان يأمر عمر بن الخطاب رضياللهعنه يصلي بالناس ، ويدخل عليه الناس يعودونه وهو يثقل كل يوم ، وهو يومئذ نازل في داره التي قطعها له رسول الله صلىاللهعليهوسلم وجاه دار عثمان بن عفان رضياللهعنه (٢).
قال أهل السير : كان ينزل أبو بكر بالسنح عند زوجته بنت خارجة بن زيد ، وأقام بالسنح بعد ما بويع له بالخلافة ستة أشهر يغدو على رجليه إلى المدينة ، وربما ركب على فرس له وعليه إزار ورداء ، فيوافي المدينة فيصلي الصلاة بالناس ، فإذا صلّى العشاء رجع إلى أهله بالسنح ، فكان إذا حضر صلّى وإن لم يحضر صلّى بهم عمر بن الخطاب.
__________________
(١) «تاريخ الطبري» ٢ / ٣٤٧.
(٢) المصدر السابق ٢ / ٣٤٨.