تاريخ اليمن

نجم الدين عمارة بن أبي الحسن علي الحكمي اليمني

تاريخ اليمن

المؤلف:

نجم الدين عمارة بن أبي الحسن علي الحكمي اليمني


المحقق: الدكتور حسن سليمان محمود
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الإرشاد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

بعض غزواته إلى زبيد ، وكان معه زريع بن العباس و (ابن) (١) عمه مسعود (بن مسمع) (٢) بن الكرم (٣) وهما يومئذ صاحبا عدن ، فقتلا جميعا على باب زبيد ثم (قام ب) (٤) الأمر بعدهما : أبو السعود بن زريع ، وأبو الغارات بن مسعود. ثم ولي الأمر من بعدهما بعدن الداعي سبأ بن أبي السعود ، ومحمد بن أبي الغارات ، ثم ولد سبأ واسمه علي الأعز (٥) المرتض ، ثم علي بن أبي الغارات (٦) ، ثم الداعي محمد بن [٥٩] سبأ (٧) ، وعلي بن أبي الغارات آخر بني مسعود .. ثم ولي بعد الداعي محمد بن سبأ ، ولده عمران ، ثم توفي (٨). وصفت البلاد بعده لآل زريع إلى أن أخرجهم منها السلطان المعظم شمس الدولة توران شاه بن أيوب (٩) ، في ذي القعدة (سنة ٥٦٩) (١٠). وكانت بين محمد ، وأبي السعود ابني عمران بن محمد بن سبأ.

وقد كان لابن (١١) حرابة في عدن نصيب ، لا أقوم على حفظه ، ولا على تاريخ وقته. وليس في آل الكرم (١٢) أكرم من عمران بن حرابة (١٣) ، ومن مفضل بن زريع ، ودون كرمهما ينقطع الوصف. وبنو الكرم (١٤) يعرفون بآل الذيب ، وهم بعد آل الصليحي بقية العرب باليمن.

__________________

(١) في الأصل : وعمه والتصحيح من الصليحيين ٣٤٥.

(٢) في الأصل : وعمه والتصحيح من الصليحيين ٣٤٥.

(٣) في الأصل : الكزم.

(٤) في الأصل : ثم الأمر.

(٥) في خ : الأغر ؛ في سلوك وفي عبر : الأعز.

(٦) في الأصل : البركات.

(٧) جاء بعده في النص : «وهو آخر بني زريع» (انظر حاشية : ٩ كاي).

(٨) في الأصل : نفي.

(٩) في الأصل : ابن أبي أيوب.

(١٠) زيادة من (كاي).

(١١) في الأصل : ابن.

(١٢) في الأصل : الكزم.

(١٣) لم نهتد إلى صلتهم ببني الكرم.

(١٤) في الأصل : الكزم.

١٠١

ولما مات محمد بن أبي الغارات بن مسعود بن [مسمع](١) بن الكرم ، ولي الأمر من بعده أخوه ، علي بن أبي الغارات ، وهو صاحب حصن الخضراء المستولي على البحر ، وعلى المراكب والمدينة.

والداعي الأوحد المظفر ، مجد الملك ، شرف الخلافة ، عضد الدولة ، سيف الإمام ، تاج العرب ، ومقدمها داعي أمير المؤمنين ، سبأ بن أبي السعود بن زريع بن العباس بن الكرم (٢) اليامي ، شريك السلطان علي بن أبي الغارات في عدن ، وهو مالك لبابها وما (٣) يدخل من البر ، وله معقل الدملوة ، والرما ، وسامع ، ومطران ، وذبحان ، وبعض المعافر ، وبعض الجند ، وأعماله في الجبال واسعة [٦٠] وله من الأولاد : الأعز علي ، ومحمد ، والمفضل ، وزياد (٤) ، وروح.

ذكر السبب في زوال علي بن أبي الغارات من عدن

وحصولها للداعي سبأ :

حدثني الداعي محمد بن سبأ ، وجماعة من مشايخ عدن ، قالوا : كنا نعرف ابن الجزري أبا القاسم نائبا لعلي بن أبي الغارات ، في نصف عدن ، والشيخ أحمد بن عتاب الهذلي ، نائبا لسبأ بن أبي السعود ، في نصف عدن ، فانبسط ابن الخزري في قسمة الارتفاع على أحمد بن عتاب ، وامتدت أيدي أصحاب علي بن أبي الغارات إلى ظلم الناس ، وعاثوا في البلد وأفسدوا ، وأطلقوا الأقوال بمذمة الداعي سبأ. وقالوا من ذلك مما يوجب الغيظ ، ويثير الحفيظة. والداعي في [أثناء](٥) ذلك مهتم بجمع الأموال والغلات سرا (٦)

__________________

(١) راجع الجدول : ص ٣٤٥ من كتاب «الصليحيون».

(٢) في الأصل : الكزم.

(٣) في الأصل : ولما.

(٤) في الأصل : زيادة.

(٥) الزيادة من خ.

(٦) في الأصل : شرا.

١٠٢

[فكان](١) من يلوذ بالداعي في ذلك ، يضام ويهتضم. والصولة لأصحاب علي ، والداعي في ذلك يحتمل.

وحين كاد احتماله ، أن يخرج الأمر من يده ، عزم على مناجزة القوم ، وقدم قائده ، الشيخ السعيد الموفق ، بلال بن جرير ، فولاه عدن. وأمره أن يهايج القوم ، ويحرك القتال بعدن ، ففعل بلال ذلك ، وكان شهما [ولم يلبث سبأ](٢) أن جمع جموعا من همدان ، وجنب بن سعد (٣) ، وعنس (٤) ، وخولان ، وحمير ومذحج وغيرهم. وهبط من الجبال ، [من دملوة](٥) ، فنازل (٦) القوم بوادي لحج. وللداعي (٧) سبأ قرية في هذا الوادي ، مسورة ، يقال لها : بني أبه [٦١]. فنزلها ببني عمه آل الزريع ، ولبني عمه مسعود بهذا الوادي مدينة أخرى كبيرة ، يقال لها : الزعازع ، مسورة أيضا ، فخيم كل منهم بمدينته (٨) ، ثم اقتتلوا أشد القتال.

وظلم ذوي (٩) القربى أشد مضاضة

على المرء من وقع الحسام (١٠)

المهند [٦٢] وحدثني الداعي محمد بن سبأ قال : كنت في طلائع الداعي (١١) ، فظهر لنا علي بن أبي الغارات ، وعمه منيع بن مسعود ، ولم تحمل الخيل أفرس من الاثنين ، ولا أشجع ، فانهزمنا ، فأدركنا منيع بن مسعود. فقال لي : يا صبي ، قل لأبيك يثبت فلا بد اليوم عشية من تقبيل

__________________

(١) الزيادة من خ.

(٢) الزيادة من خ.

(٣) لعلها ابن حرب (كاي).

(٤) في الأصل : عنبس.

(٥) زيادة من خ ؛ وفي سلوكه : فلم يقع الداعي في الدملوة حتى نزل إلى لحج.

(٦) في الأصل : في نازل.

(٧) في الأصل : الداعي.

(٨) في الأصل : بمدينة.

(٩) في الأصل : ذي. (راجع حاشية : ٦٢) (كاي).

(١٠) في الأصل : السهام.

(١١) أي الداعي سبأ.

١٠٣

الجشميات (١) اللاتي (٢) في (٣) مضاربه [٦٣]. فلما أخبرت والدي بذلك ، ركب بنفسه ، وقال لمن حضر من آل الذيب ، وهم بنو عمه الأدنون : إن العرب المستأجرة لا تقدر على حر الطعان ، ولا يمسك النار إلا موقدها (٤) ، فالقوا بني عمكم ، فاصطلوها بأنفسكم ، وإلا فهي الهزيمة والعار. فالتقى القوم. فحمل منا فارس ، على منيع بن مسعود فطعنه طعنة شرم بها شفته العليا ، وأرنبة أنفه.

وكثر الطعن بين الفريقين ، والجلاد بالسيوف ، وعقر الخيل. والعرب المحشودة نظارة ، ثم حملت همدان ، ففرقت بين الناس ، وتحاجز القوم ، لأن وادي لحج أقبل دافعا بالسيل ، فوقفوا (٥) على عدوتي (٦) الوادي يتحدثون. فقال الداعي سبأ ، أو غيره لمنيع بن مسعود : كيف رأيت تقبيل الجشميات يا أبا مرافع في هذه العشية؟ فقال لمنيع : وجدته كما قال المتنبي :

والطعن عند مجيهن (٧) كالقبل (٨) [٦٤]

فلم يزل الناس يستحسنون هذا الجواب لمنيع ، لأن الشاهد وافق الحال. وحدثني الداعي محمد بن سبأ قال : أقامت فتنة الرعارع سنين ، وكان علي أخو محمد بن أبي الغارات ، في أول الأمر ، ينفق الأموال جزافا ؛ والداعي يمسك ، فكاد (٩) الناس أن يميلوا علنا. فلما تضعضعت حال علي بذل الداعي ما لم يخطر بالبال أن يبذله.

__________________

(١) في خ : الجشيمات : وبنو جشم من قبيلة بني يام ، وبنو يام فرع من السبط الكبير في همدان.

(٢) في الأصل : التي.

(٣) انظر حاشية : ٦٣ (كاي) والتعليق عليها.

(٤) انظر حاشية : ٦٣ (كاي) والتعليق عليها.

(٥) في الأصل : فأوقفوا.

(٦) يعني ثنيتي.

(٧) في الأصل : محيهن.

(٨) انظر حاشية : ٦٤ (كاي) والتعليق عليها.

(٩) في الأصل : فكان.

١٠٤

ولقد أذكر يوما أن رجلا من همدان ، دخل على الداعي سبأ ، وهو مخيم في الخيمة فقال : أجللني (١) يا أبا حمير ، فلم يبق عندهما غيري ، فقال : إنك تعلم أن الحرب نار ، حطبها الرجال والخيل ، وأنا أريد منك أن تدفع لي ديتي ، وهي ألف دينار. ففعل الداعي ذلك. ثم قال : ودية ولدي فلان ، وأخيه ، فأخذ عنهما ألفي دينار. ثم قال : دفع الله عنك يا أبا حمير ، وبقي على الخيل إن عقرت. فقال له الداعي : حتى تعقر الخيل. قال الهمداني : قدم لنا ثمنها ، كما قدمت لنا الدية. فدفع له الداعي كيسا فيه خمس مئة دينار. فلما قبض المال قال : وبقيت خصلة ما أظن كرمك يا أبا حمير يردني فيها. قال : وما هي؟ قال : إني عزمت على أن أتزوج فلانة بنت فلان ، وأنت تعرف شرف قومها ، وليس لي من المال ما يليق أن أقابلهم به ، فدفع له الداعي مئة دينار. ثم قال : أنعمت وتفضلت. ولم يبق شيء إلا أنه قبيح بمثلي أن أتزوج وولدي بلا زواج ، فدفع له مائتي دينار ، لكل واحد [منهما](٢) مئة.

ثم قام الهمداني ، فلما بلغ باب الخيمة ، رجع فقال الداعي سبأ : والله لا سألتك حاجة بعد الحاجة التي رجعت لها وهي أن لي بنتا لا زوج لها ، وقبيح بنا أن (٣) أتزوج أنا وإخوتها ، وتبقى أرملة. قال له : فماذا يكون؟ قال : تدفع لي مالا أزوجها. فدفع مئة دينار أخرى. ثم تمثل الداعي بقول الراجز : استنتفت (٤) لحية زيد فانتتفت.

وحدثني الداعي محمد بن سبأ ، وبلال بن جرير المحمدي قالا : أنفق الداعي سبأ بن أبي السعود ، علي بن أبي الغارات ثلاثة مئة ألف دينار ثم أفلس. واقترض من تجار عدن الذين ينالونه مثل الشريف الحسين علي بن محمد بن أبي العمري. من ولد عمر بن الخطاب ، والشيخ أبي الحسن

__________________

(١) في الأصل : أجلني والمعنى : أكرمني.

(٢) زيادة من خ.

(٣) في الأصل : أن أنا وأخوتها.

(٤) في الأصل : استنمت لحية زيد فانتف والتصحيح من (كاي).

١٠٥

علي بن محمد وابن أعين ، وظافر بن فراح وغيرهم ، مالا (١). ثم مات الداعي سبأ (٢) ، بعد فتحه الزعازع (٣) ، بعدن لسبعة أشهر. وبقي من المال القرض ثلاثون ألف دينار ، وقضاها عنه ، الأعز ولده ، علي بن سبأ.

وحدثني الشيخ السعيد بلال بن جرير المحمدي قال : لما ملكت حصن الخضراء وأخذت الحرة بهجة ، أم السلطان علي بن أبي الغارات ، وجدت عندها من الذخائر ، ما لم أقدر على مثله. وعدن كلها بيدي ، في مدة متطاولة. قال بلال وبين عدن ولحج مسير ليلة. فأذكر أني كتبت من عدن بخبر الفتح ، وأخذي الخضراء ، وسيرت رسولا بالبشرى إلى مولانا الداعي سبأ بن أبي السعود. وفي اليوم الذي كان فيه فتحي للخضراء ، فتح مولانا مدينة الزعازع ، فالتقى رسولي ورسوله بالبشرى ، وذلك من أعجب التاريخ. والتجأ علي بن أبي الغارات إلى حصنين يقال لهما : منيف والجبلة (٤) ، وهما لسبأ صهيب (٥) ، وأعالي لحج [٦٥] وقتله محمد بن سبأ في لحج ، هو ومحمد بن منيع بن مسعود ، ورعية بن أبي الغارات في سنة خمس وأربعين (٦).

وأما الداعي سبأ فدخل مدينة عدن ، ولم يقم بها إلا سبعة أشهر ، كما قدمناه ، ودفن بها في سفح التعكر ، من داخل البلد ، وأوحى بالأمر لولده علي الأعز. وكان موت الداعي سبأ سنة ثلاث وثلاثين [وخمس مئة](٧) ، بعد موت الحرة الملكة (٨) بسنة. وكان الأمير الأعز المرتضى ، علي بن سبأ

__________________

(١) أي اقترض مالا من هؤلاء التجار.

(٢) سنة خمس مئة وثلاث وثلاثين.

(٣) تفر عدن : ٢ / ٨٨.

(٤) في الأصل : غير معجمة.

(٥) في الأصل : صمر ؛ في السلوك : سبأ صهيب ؛ في صفة (٧٤) : الصهيب سكنه جماعة من سلالة سبأ ، فسمي سبأ صهيب.

(٦) وخمس مئة.

(٧) زيادة اقتضاها السياق.

(٨) يقصد بذلك الملكة السيدة أروى بنت أحمد الصليحية المتوفية سنة ٥٣٢ ه‍ ..

١٠٦

مقيما بالدملوة ، وهم أن يقتل بلال بعدن ، فمات مسلولا. وأوصى الأعز بالأمر لأولاده ، وهم : حاتم وعباس ومنصور ومفضل ، وكانوا صغارا. فجعل كفالتهم إلى الأنيس الأعزي وإلى يحيى بن علي العامل ، وكان وزيره وكاتبه.

وكان محمد بن سبأ قد هرب من أخيه ، فاستجار بالأمير منصور بن المفضل بن أبي البركات بتعز وصبر فأجاره. وحين مات علي بالدملوة سير بلال من عدن رجالا من همدان ، فأخذوا محمد بن سبأ من جوار المنصور بن المفضل ، ونزلوا به إلى عدن ، فملكه بلال ، واستحلف له الناس والديوان ، وزوجه بلال بابنته ، وجهزه بأحسن جهاز. فحاصر أنيسا ، ويحيى بن علي العامل على الدملوة ثم ملكها وأطاعته البلاد كافة.

وقال أنيس وقد لمته في التسليم للدملوة والدملوة حصينة : لو لم استأمن قتلي ، قتلني الجواري والنساء بالقباقيب. لأني في أثناء الحصار أسمعتهن يقلن : لعن الله هذا العبد ، الذي يحتاج ما نحتاجه ، كيف يمنع من هو خير لنا منه ، يعنين أخا مولاهن محمد بن سبأ.

وكان القاضي (١١) الرشيد (١) أحمد بن الزبير ، قد خرج من الأبواب المقدسة بتقليد الدعوة المجيدية (٢) ، الأعز المرتضى علي بن سبأ ، سنة أربع وثلاثين وخمس مئة ، فوجد عليا قد مات ، فقلد الدعوة [أخاه](٣) محمد بن سبأ ، ونعته (٤) المعظم المتوج المكين ، ونعت وزيره بلال بن جرير. الشيخ السعيد ، الموفق السديد.

وكان الداعي محمد بن سبأ كريما ممدحا ، يثيب على المدح ، ويفرح

__________________

(١) قلادة : ٢ / ٢ / ٧١٢.

(٢) نسبة للأمير عبد المجيد بن محمد بن المستنصر بالله الفاطمي ، الذي كان وصيا على الطفل الصغير الطيب بن الآمر ، وقد تولى عبد المجيد الخلافة وتسمى بالحافظ وحكم بين سنتي (٥٢٤ ـ ٥٤٤ ه‍.).

(٣) الزيادة من خ.

(٤) في خ. ووصفة بالمتوج.

١٠٧

به ، ويقترحه ، ويكرم أهل الأدب والفضل. وربما قال البيت من الشعر والأبيات.

ورأيته في يوم عيد وقد أحرقته الشمس في المصلى [٦٦]. بظاهر مدينة الجوة والشعراء يتسابقون بالنشيد. فقال لي : قل لهم وارفع صوتك لا يتزاحمون فلست أقوم حتى يفرغوا ، وكانوا ثلاثين شاعرا ، ثم أثابهم جميعا.

وأذكر ليلة وأنا عنده ، في قصر بالجوة ، أريد النزول إلى عدن ، وعنده القاضيان : أبو بكر بن محمد اليافعي الجندي ، وأبو الفتح بن سهل ، وجماعة من خواصه الأعيان مثل ابني قاسم : سبأ ومحمد ؛ وهما وزيران (١) ، وأحدهما طبيب ومنجم وهو محمد ، وكان قد اجتمع على بابه أصحاب هذه المدائح ، وهم عشرة ثم أخرج القصائد ، وقال : ما ذا ترون في ثوابهم؟ وقدر الجماعة ، فلم يزيدوا على مئة دينار ، فقال : اجعلوها ثلاث مئة دينار ؛ وهي قليل ، ثم نهض وتولينا قسمتها بينهم.

وحضرنا يوما عنده بقصر الحجر ، في موضع يعرف بالجنان ، وعنده من الشعراء صفي الدولة أحمد بن علي الحقلي ، والقاضي أبو بكر بن محمد اليافعي الجندي ، قاضي القضاء ، وهو مجيد وله بديهة ، لا فضل في الرواية (٢) عليها ، والقاضي يحيى بن أحمد بن أحمد بن أبي يحيى (٣) ، قاضي صنعاء ، وهو في الشعراء عند أهل اليمن ، في طبقة ابن القم (٤). فاقترح الداعي بيتي شعر على وزن قام على خاطره ، وشرط لمن سبق مالا وثيابا كانت عليه ، فنشأ الجماعة ، فسبقهم القاضي أبو بكر محمد اليافعي ، وكان قريبا مني ، فسرقت الورقة من يده ، فجعلتها في كمي (٥) ، وانتحلت

__________________

(١) في الأصل : وهما ونيران.

(٢) في الأصل : الروية.

(٣) النكت : ٦٠٤.

(٤) سبق ذكره.

(٥) في الأصل : فمي.

١٠٨

بيته ، وقمت فأنشدتها الداعي ، وأخذت خضله وسلبته نصله ، وفزت بالمال والثياب ، ثم فاضت ينابيع كرمه على الجماعة ، فما منهم إلا من خلع عليه ، وأجزل صلته.

ولما كان في شهور سنة سبع وأربعين (١) ، ابتاع الداعي محمد بن سبأ ، من الأمير منصور بن المفضل (٢) ، جميع المعاقل التي كانت لبني الصليحي ، وهي ثمانية وعشرون حصنا ، ومدائن منها : مدينة ذي جبلة ، وذي أشرق ، وأب فأخذها (١٢) منه بمئة ألف دينار. ونزل منصور إلى حصني صبر ، وتعز ، وطلق زوجته الصليحية [٦٧]. وهي أروى بنت علي بن عبد الله الصليحي (٣) ، وصعد الداعي إلى المخلاف ، فسكن بذي جبلة ، وتزوج امرأة الأمير منصور بن المفضل ، وتزوج أيضا بنت السلطان أسعد بن وائل بن عيسى ، الحرة الوحاظية ، وأسكنها بدار ابن سباع بعد الصريحين ، وأكثر الشعراء تهنئته ، وتمدحه (٤) بالمعاقل والعقائل ، الزوجات المذكورين وطاش فرحا لما صار إليه ، وبسط يده بالعطايا ، حتى أذكر يوما وقد طلعت صبيحة أنا ، والشيخ أبو الحسن بن علي بن محمد الصليحي ، والشيخ المرجي الحراني ، إلى ذي جبلة ، ومن ذي جبلة إلى حصن حب. وكل من رفع إليه رقعة وقع له فيها بما مثاله : العزة لله وحده.

فلما انتهينا إلى الحصن أحصينا الرقاع التي بأيدي الناس ، وكان خازن ماله الشيخان : أحمد بن موسى بن أبي الزر العامل ، والشيخ ريحان المحمدي ، فجاء مبلغ الرقاع خمسة آلاف دينار. فاستكثرها الشيخ أحمد بن موسى ، فقال : نشاوره على ذلك. وقال الشيخ ريحان : أما أنا ، فما أكره

__________________

(١) في الأصل : تسع وأربعين والتصحيح من خطط : ٢ / ١٧٤ وهذا هو الصحيح لأن الداعي سبأ توفي سنة ٥٤٨ كما حكاه عمارة : ٥٧.

(٢) وكان قد تولى على ملك بني المظفر في أشيح بعد وفاة أبيهم سنة ٥٠٤ وملك حصون الصليحيين بعد وفاة الملكة أروى سنة ٥٣٢.

(٣) راجع التعليق على الحاشية : ١٠٨ (كاي).

(٤) في الأصل : ومدحه.

١٠٩

الحياة. فو الله لئن شاورته على ذلك لا سلمت منه ، فدفع لهم (١) المال في ذلك اليوم بأسره.

ومدحه في ذي جبلة القاضي يحيى بن أحمد بن أبي يحيى بقصيدة فأثابه عليها بخمس مئة دينار ، وخلعة. وقدمت من تهامة ، وله بيدي مال ، كان قد دفعه إليّ في بعض أغراضه ، وجاءني كتابه إلى زبيد من ذي جبلة يستدعيني إليه ، فوصلته فعند مثولي بين يديه ، قال : ما أهديت لي؟ قلت : كذا وكذا من أشياء كنت قد أعددتها له قال : ما أريد إلا الشعر. قلت : والله ما عملت (٢) كلمة ، ولا أقدر أعملها (٣) ، خوفا من أهل زبيد ، لأنهم ينقمون علي في عمله. فلم يزل يسألني والله حتى أخجلني. واقترحت (٤) على الوزن الذي عمل القاضي يحي بن محمد بن أبي يحيى عليه ، فلما أنشدته قال : قد كنت أثبت القاضي بخمس مئة دينار وخلعة ، وأنا أثيبك مما تحت يدك بمثل ذلك ، وأميزك عنه في الخلعة ، بثيابي التي علي. فقبضت المال والثياب ، وكان ذلك أحد الأسباب التي نقمها على الحبشة ، وهموا بقتلي (٥) بما وقى الله عز وجل. [٦٨].

ومكارم الداعي محمد بن سبأ أكثر من أن تحصى. ومات في سنة ثمان وأربعين وخمس مئة ، وملك بعده ابنه عمران بن محمد بن سبأ ، فمنعني أهل زبيد من السفر إليه ، وقضى الله بتوجهي إلى ديار مصر. رسولا لأمير الحرمين المعظمين سنة إحدى وخمسين وخمس مئة. فأخذت كتابا من الملك الصالح إلى الداعي عمران بن محمد ، أسأله عن تقسيط المال ، الذي مات أبوه محمد الداعي وهو عندي له. وهو ثلاثة آلاف دينار.

فقال لي الداعي عمران بن محمد : ما مضمون كتاب الملك الصالح

__________________

(١) في الأصل : له.

(٢) في الأصل : علمت.

(٣) في الأصل : أعلمها.

(٤) في الأصل : واقترح.

(٥) في الأصل : من قتلي.

١١٠

في المال؟ قال له القاضي الرشيد : تقسيط. قال الداعي : بل يقدم بيتين يقسط على القافية (١) فيه فيسقط (٢). ثم تناول ورقة وكتب فيها ما مثاله : «بسم الله الرحمن الرحيم ، أقول وأنا عمران بن الداعي الأجل ، سبأ بن أبي السعود بن زريع بن العباس اليامي ، أن الفقيه عمارة بن الحسن (٣) الحكمي ، برىء الذمة من المال الذي درج من يده لمولانا الداعي محمد بن سبأ ، وهو ألفان وسبع مئة دينار ملكية».

ثم فارقت البلاد سنة اثنين وخمسين وخمس مئة ، والمسافرون من اليمن إلى الديار المصرية يحكون مكارمه وشدة عزائمه ، ما يخجل الدهر إذا كاد (٤) ، والغيث إذا جاد. ثم مات في سنة ستين وخمس مئة عن أولاد هم : (٥) محمد وأبو السعود ، ومنصور ، وما منهم (٦) من أدرك الحلم ، إلى هذا (٧) التاريخ المذكور وهو المحرم سنة أربع وستين وخمس مئة من الهجرية. صلوات الله وسلامه على صاحبها [٦٩].

وهذه نبذة حقيرة وفقرة (٨) ، إلى التفصيل فقيرة ، في أخبار الشيخ السعيد ، الموفق السديد ، أبى الندى بلال بن جرير المحمدي. وقد قدمنا أنه ولي عدن (٩) لمولاه سبأ ، ثم أبقاه على الأعز بها ، وبقيت [٧٠] في يده من سنة أربع وثلاثين إلى عام ست أو سبع وأربعين (١٠). ثم مات والملك عقيم (١١). حدثني الشيخ معمر بن أحمد بن عتاب ، والأديب الفاضل أبو

__________________

(١) في الأصل : القاف فيه.

(٢) في الأصل : فيقسط.

(٣) ابن أبي الحسن علي (كاي).

(٤) معناها : الكيد.

(٥) في الأصل : هما.

(٦) في الأصل : وما منهم إلا من أدرك الحلم.

(٧) في الأصل : هذه.

(٨) في الأصل : غير معجمة.

(٩) في الأصل : إنه ولي عهده لمولاه.

(١٠) وخمس مئة ، راجع حاشية : ٧٠ (كاي).

(١١) في الأصل : ثم ملك عظيم.

١١١

بكر بن محمد العيدي ، وكانا خصيصين بحاله ، قالا : مات بلال عن مال من العين الملكي (١) ، ست مئة ألف ، وخمسين ألفا ، ومن العين المصري عن ثلاث مئة ألف ونيف ، وعن أبهرة [٧١](٢) من الفضة المصاغ حلي ، ومراكب خيل وبغال وسيوف ورماح ، وأدوات كتابة ، وطشوت ، وأباريق ، وشمعدانات (٣) ، ومعاش (٤) ، ومناخل (٥) ، وسطول ، وطاسات ، وحرابيات (٦) ، وقصب من الفضة ، وآلات مرصعة (٧) بالذهب ، وسكاكين صليحية ، وكيزان فضة ، وبعليات (٨) ، ما مقداره خمسة أبهرة ومائتا رطل ، وأما الملبوس والبضائع فخزائن ومخازن ، وكذلك الطيب وأصنافه ، والعدد والسلاح ، وتحف الهند ، وألطاف الصين والمغرب والعراق. ودنانير مصر ، وأرض عمان وكرمان. ما لا يدخل تحت حصر.

وانتقل الجميع بوصية إلى مولاه محمد بن سبأ. ففرق ذلك في مدة سنتين في سبيل المروءة والمعروف. وقام بكفالة الأميرين (٩) الطفلين. ولدى عمران بن محمد ، وأخيهما منصور (١٠) ، الوزير أبو الفرج (١١) ياسر بن بلال

__________________

(١) في الأصل : المكي.

(٢) بهار وجمعها أبهرة ، وهو عبارة عن وزن يوصف بأن يحتوي على ٣٠٠ أو ٤٠٠ أو ٦٠٠ أو ١٠٠٠ رطل ، ويقول عمارة / كاي : ٩ إنه يساوي ثلاثة قناطير (حاشية : ٧١) (كاي).

(٣) في الأصل : شمعديات. والشمعدان منارة يركز عليها السراج ، والجمع شمعدانات.

(٤) هكذا في الأصل ولم نهتد إلى وجه الصواب فيها.

(٥) هكذا في الأصل ولم نهتد إلى وجه الصواب فيها.

(٦) معناها : عباءات.

(٧) في الأصل : مرسة.

(٨) هكذا في الأصل ولم نهتد إلى وجه الصواب فيها.

(٩) في الأصل : وأقام بكفالة الأمر الأميرين.

(١٠) هذا هو الأقرب لمعنى العبارة الواردة التي تعرضت لكثير من الحذف في مخطوطنا ، وليس هنا مجال للشك بأن الرواية تزعم بأن ياسر كان وصيا على أبناء عمران هي رواية غير صحيحة [انظر حاشية : ٦٩ (كاي)].

(١١) في الأصل : وأخيهما منصور والوزير ولها أبو الفرج ؛ وفي خ : أبي الفتوح بدلا من أبي الفرج.

١١٢

المحمدي. وليس دون أبيه في حزم ، ولا عزم ، ولا إقدام ، فأما الكرم فهو مشهور عنه ، مذكور به ، منسوب إليه.

هذه أخبار (آل) (١) نجاح ملوك زبيد من الحبشة

لم يزل المؤيد نصير الدين نجاح مالكا لتهامة ، من أعمال ابن طرف إلى عدن ، وملوك الجبال تعظم دولته ، وتتقي صولته ، إلى أن قتله الداعي علي بن محمد الصليحي [على يد](٢) جارية أهداها إليه سنة اثنتين وخمسين وأربع مئة ، وتماسك بنو نجاح بتهامة بعد أبيهم سنتين ، والأمر لمولى لهم يقال له كهلان وهم في حد عزم الكمال ، وبعضهم دون البلوغ. ولم يلبث الداعي علي بن محمد الصليحي أن أزالهم (٣) ، وافترق آل نجاح بعد حصولهم في جزيرة دهلك. فأما معارك الأكبر فقتل نفسه غبنا ، وأما الذخيرة فكانت حالفة (٤) ، وأما سعيد الأحول ـ وهو قاتل الصليحي ـ و (جياش) (٥) ، فكانا رجلي البيت ، ما منهما إلا من تأدب ، وعاش وكاثر. ولكن أباهما نجاحا كان يرشح أخاهما الأكبر للأمر ، وهو معارك. وأما جياش فإنه تنكر ، ودخل إلى زبيد فاستخرج وديعة كانت له عند عبد الرحمن بن طاهر القيبي وعاد إلى دهلك مدة أيام الصليحي ، عاكفا على العلم حتى برع. وأما سعيد الأحول وهو أكبر من جياش ـ وهما شقيقان ـ فكان أمره أعجب ما ذكر وذلك أنه خرج من دهلك إلى زبيد مغاضبا لأخيه جياش ، حين نهاه جياش عن الغدر

__________________

(١) زيادة اقتضاها السياق.

(٢) في الأصل : مع.

(٣) أي في سنة ٤٥٥ ه‍. (كاي).

(٤) يقال هذا غلام محلف أي مشكوك في احتلامه لأن ذلك ربما دعاه إلى الحلف.

والمعنى أن الذخيرة بنت نجاح لم تبلغ سن الاحتلام.

(٥) لم يذكر اسم جياش في الأصل.

١١٣

بصاحب دهلك ، واستتر سعيد بزبيد ، عند الرئيس ملاعب الخولاني ، وهو سوقة ، إلا أنه كان أكثر الناس حبا لآل نجاح. واحتفر سعيد بن نجاح نفقا بين دور ملاعب ، كان يسكنها (١) أكثر الأوقات.

ثم كتب سعيد من زبيد إلى أخيه جياش بدهلك يأمره بالقدوم إلى زبيد ، ويبشره بانقضاء دولة الصليحي ، وإقبال دولتهم. فلما قدم جياش إلى سعيد ، ظهر سعيد من زبيد في سبعين رجلا ، لا فرس مع واحد منهم (٢) ، ولا سلاح إلا مسامير الحديد مركبة في الجريد.

وحدثني أحمد بن فلاح ، صاحب ديوان التحقيق بزبيد قال : لما خرج سعيد الأحول (٣) بن نجاح من زبيد. قتل جنديا (على) فرس كان تحته (٤) ، فركبه. وكان خروج سعيد من زبيد ، يريد الصليحي ، في آخر اليوم التاسع من ذي القعدة سنة تسع وخمسين وأربع مئة (٥). قال جياش بن نجاح فخرجنا في طريق الساحل ، وتركنا الجادة السلطانية ، مخافة العساكر أن تلقانا. وبيننا وبين المهجم مسيرة ثلاثة أيام للمجد. وكانت الأخبار قد سبقتنا إلى الصليحي بخروجنا ، والأسماع يومئذ قد امتلأت في الجبال والتهايم (ب) (٦) أن هذا وقت ظهور الأحول سعيد بن نجاح ، حتى لا تكاد المساجد والمدارس والأسواق والطرقات ، تخلو من الخوض في ذكر ذلك. وكنا نكتم هذا الأمر مخافة على نفوسنا. وسعيد يقسم بالله تعالى : إني قاتله ، وإني صاحب الوقت ، ويتحدث بذلك مع أكثر الناس. فلما سمع الصليحي بخروجنا ، سير من ركابه خمسة آلاف حربة من الحبشة ، وأكثرهم مماليكنا وبنو عمنا

__________________

(١) في الأصل : يسكنه.

(٢) راجع التعليق على الحاشية : ٧٢ (كاي).

(٣) في الأصل : ابن نجاح الأحول.

(٤) في الأصل : قتل جدي فرسا كان تحته فركبه ؛ وفي خ : فوجدوا جنديا.

(٥) في الأصل : ثلاث وسبعين (سبق ذلك).

(٦) في الأصل : ثم وحرف العطف ثم يشير إلى وجود سقط في المخطوطة (كاي) ، فأبدلناه بالباء ليستقيم المعنى.

١١٤

وقال : خذوا رأس هذا الأحول ، ورأس أخيه ، ومن معه. وكنا قد سلكنا (طريق) (١) البحر فخالفناهم. ولقد أذكر أن أظلم علينا الليل ونحن بالمراوعة (٢) من أعمال الكدراء ، فخرج علينا رجل من تلال (٣) الوادي وقال : أظنكم عريتم (٤) الطريق. فقلنا نعم. فقال : أتبعوني. فما زال بين أيدينا حتى طلع الفجر ، ففقدناه ، ونالنا التعب ، ومسنا ضر من تعب الجوع (٥) ، بين مسير النهار والليل ، رجالة حفاة ، وسعيد بن نجاح راجل بيننا ، والفرس يجنب وهو يقول : يا صباح الخير والظفر والسرور. ويقول (٦) : بادروا (٧) الإنسان قبل أن يموت بغير أيدينا في غد ، فو الله لا طلعت شمس غد وهو في الدنيا. ولم يزل يغذ (٨) السير ، على الرجا واليأس من الرجال إلى أن دخلنا طريق (٩) المخيم ، والناس يعتقدون أنا في جملة عبيد الصليحي وحواشيه. ولم يشعر بأمرنا إلا عبد الله بن محمد ، أخو الصليحي ، فإنه ركب وقال لأخيه : يا مولانا اركب ، فهذا والله هو الأحول بن نجاح ، والعدو الذي جاءنا به كتاب أسعد بن شهاب (١٠) من زبيد. فقال الصليحي لأخيه عبد الله : إني لا أموت إلا بالدهيم ، وبئر أم معبد ، معتقدا أنها بئر أم معبد التي نزل بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ، حين هاجر ومعه أبو بكر.

قال مشعل بن فلان العكي : قاتل عن نفسك ، فهذه والله بئر الدهيم بن عبس ، وهذا المسجد موضع خيمة أم معبد بن الحرث العبسي.

__________________

(١) في الأصل : يد.

(٢) هي قرية باليمن (تاج العروس).

(٣) في الأصل : أتلال.

(٤) معناها : ضللتم.

(٥) في الأصل : الجع ؛ وفي وفيات : من التعب والحفاء.

(٦) في الأصل : وهو يقول.

(٧) في الأصل : باردوا.

(٨) في الأصل : بعد.

(٩) في وفيات : طرف.

(١٠) لقد توفي أسعد سنة ٤٥٦ ولا بد أن يكون أسعد بن عراف.

١١٥

قال جياش : فأركه (١) اليأس من الحياة ، فأراق الماء في قباء درقته (٢) ، ولم يبرح (٣) من مكانه حتى قطعنا رأسه بسيفه. وكنت أول من طعنه ، وشركني (٤) فيه عبد لنجاح ، هو الذي يطعنه ، وأنا الذي جززت رأسه بيدي ، ونصبته على عود المظلة ، وأمرت بضرب الطبول والأبواق ، وركبت فرسه الحضرمي المسمى بالدبال. وأما عبد عبد الله بن محمد الصليحي ـ وكان فارس العرب ـ فحمل فينا ، وقتل منا رجالا ، ثم اعتنقه رجل منا ، وسقطا إلى الأرض ، ونادى صاحبنا : اقتلوني أنا والرجل ، فإن عز (٥) قومي رخيص بقتلي. قال : فشكهما سعيد بحربة واحدة ، وجز رأس عبد الله بن محمد ، وهو يعتقده الصليحي. ثم ركب سعيد فرس عبد الله بن محمد ، والرأسان منصوبان أمامه ، على باب المسجد الذي فيه السيدة أسماء بنت شهاب زوجة الصليحي ، فقال لها : اخرجي فصيحي [وصبحي](٦) على السلطانين. فقالت : لا صبحك الله يا أحول بخير. ثم أنشدت ووجهها مكشوفة قال ، امرىء القيس الكندي :

فإنك لم تفخر علينا كفاخر

ضعيف ، ولم يغلبك مثل (٧) مغلب [٧٢]

ثم إن سعيدا أرسل رسولا إلى الخمسة آلاف ، التي قد كان الصليحي قد بعثها من الليل ، تقتل سعيد ، يقول لهم : إن الصليحي قد قتل ، وأنا رجل منكم والعز عزكم. ولم يبرح سعيد على باب المسجد. والرأسان منصوبان معه ، والطبول تضرب ، حتى قدمت العبيد عليهم ، فسلمت عليه ، وبهم استطار على عسكر الصليحي قتلا وأسرا ونهبا.

__________________

(١) أركه اليأس أي غلبه.

(٢) في الأصل : فأراق المساء في قب درقته.

(٣) في الأصل : ولم يرم.

(٤) في الأصل : وشركه ، وفي خ : وشركني فيه عبد الملك بن نجاح بطعنة أخرى ، وجززت رأسه.

(٥) في الأصل : فإن أعز قومي رخيص بقتلي.

(٦) زيادة من خ.

(٧) راجع التعليق على الحاشية : ٧٢ (كاي).

١١٦

قال جياش : وعزت نفس أخي سعيد من ذلك المقام ، وشمخ بنفسه حتى عليّ ، وإني لأخوه ابن أمه وأبيه وذلك أني أشرت إليه أن يحسن إلى السيدة أسماء ، ويعفو عمن معها من بني الصليحي ، وهم مئة وسبعون سلطانا ، كان الصليحي يخاف منهم (١) ، أن ينافقوا [من] بعده (٢) ويعفو عمن معها من ملوك قحطان ، وهم خمسة وثلاثون سلطانا ، وأن يكتب على يديها إلى ولدها المكرم بن علي الصليحي : إنا أدركنا ثأرنا ، واسترجعنا ملكنا وقد أحسنا إليك ، وحملنا إليك أمك بصيانة ، والعفو عن بني عمك. وقلت له : والله يا مولانا ، لئن فعلت ذلك ، لا نازعتك قحطان في ملك تهامة ، ولئن كرهت ذلك ليهيجن حفائظها ولتطلبن دخولها. فأجابني سعيد بقول الأول من الشعراء :

لا تقطعن ذنب الأفعى وتتركها

إن كنت شهما فأتبع رأسها الذنبا (٣)

ثم أمر بالصليحيين فقتلوا عن آخرهم ، رحمة الله عليهم أجمعين. ولقد رأيت شيخا منهم ، التقى الحربة بولده ، فنفذت منهما جميعا ، نعوذ بالله من جهد البلاء.

قال جياش : لا أنسى رأس الصليحي في عود المظلة ، وقراءة المقرىء : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٦) (٤) ، ولا أنسى قول الشاعر (١٣) العثماني (٥) من قصيدة ارتجلها (٦) في ذلك المقام يصف المظلة :

ما كان أقبح وجهه في ظلها

ما كان أحسن رأسه في عودها

__________________

(١) في الأصل : معهم.

(٢) في الأصل : أن ينافقوا بعد.

(٣) راجع التعليق على الحاشية : ٧٢ (كاي).

(٤) سورة آل عمران ؛ آية : ٢٦.

(٥) عيون : ٧ / ١٢٠ ـ ١٢١ ؛ حاشية : «١٣» (جديد).

(٦) في الأصل : وارتجلها.

١١٧

ثم ارتحل سعيد إلى زبيد والرأسان معه ، بعد ثلاثة أيام من الموقعة ، وقد حاز من الغنائم ملكا عظيما (١) ، ومغنما جسيما. ومما غنم : ألفي فرس بعددها ، وثلاثة آلاف جمل بعددها. ودخل زبيد يوم السادس عشر من ذي القعدة سنة تسع وخمسين (٢) وأربع مئة ، ورأس الصليحي ، وأخيه أمام هودج الحرة أسماء بنت شهاب ، حتى أنزلها بدار شحار ، ونصب الرأسين قبالة طاقها. وهرب أسعد بن شهاب (٣) من زبيد إلى المكرم بصنعاء. وامتلأت (٤) صدور الناس هيبة من سعيد بن نجاح بعد مقتل الصليحي. وتغلب ولاة الحصون على ما في أيدهم (٥) من المعاقل ، وكاد أمر المكرم أن يتضعضع واستوثق الأمر بتهامة لسعيد ، وبعث بالأموال إلى بلاد الحبشة [ل](٦) من يشتري له عشرين [ألف](٧) حربة (٨). وانقطعت الأخبار بين المكرم ، وبين والدته الحرة أسماء بنت شهاب ، حتى كان من نزوله وأخذها من زبيد ما قدمنا ذكره. ثم عاد سعيد إلى زبيد فملكها (٩) ، وأخرج منها ولاة المكرم ، ولم يزل مالكا لها حتى كان ما قدمنا ذكره ، من قتله في وقعة حصن الشعر (١٠) ، بتدبير الحرة الملكة السيدة بنت أحمد ، زوجة الملك المكرم سنة إحدى وستين وأربع مئة (١١).

__________________

(١) في وفيات : عقيما.

(٢) في الأصل : ثلاث وسبعين.

(٣) سبق التعليق على ذلك.

(٤) في الأصل : امتلأ صور الناس ؛ في خ : بدل الناس العرب.

(٥) في الأصل : ما في أيديها.

(٦) زيادة لفهم المعنى.

(٧) زيادة لفهم المعنى.

(٨) في خ : عبد ، المقصود شراء العبيد الذين يحملون الحراب.

(٩) في خ : كانت عودته من دهلك سنة ٤٧٩ والأصح سنة ٤٦٠.

(١٠) في الأصل : الشعير.

(١١) في الأصل : إحدى وثمانين.

١١٨

ذكر دخول جياش بن نجاح

إلى الهند ومعه

الوزير قسيم الملك أبو سعيد خلف بن أبي الطاهر

من ولد سليمان بن هشام بن عبد الملك

فقال جياش : ثم تنكرت ودخلت إلى عدن ، ومعي الوزير خلف (١) بن أبي طاهر. ودخلنا الهند سنة إحدى وستين (٢). فأقمنا بها ستة أشهر ، ثم رجعنا إلى اليمن في تلك السنة بعينها ، قال : ومن أعجب ما رأيت في الهند ، أن إنسانا قدم من سرنديب ، ولم يبق أحد إلا فرح به ، وزعموا أنه عارف بأخبار المستقبلات فسألناه عن حالنا ، فبشرنا بأمور لم يخرم من قوله منها شيء (٣). واشتريت جارية هندية فعلقت مني بالهند ، دخلت بها اليمن ، وهي في خمسة أشهر. وحين وصلنا إلى عدن ، قدمت الوزير خلف إلى زبيد على (٤) طريق الساحل ، وأمرته أن يشيع موتي في الهند ، وأن يستأمن لنفسه ، ويكشف لي عن حقيقة أحوالنا ، ومن بقي من قومنا بالحبشة. وصعدت إلى ذي جبلة ، فكشفت أحوال المكرم بن علي ، وما هو عليه من العكوف على لذاته ، واضطراب جسمه ، وتفويض الأمر إلى زوجته الحرة الملكة السيدة بنت أحمد ، ثم انحدرت من الجبال إلى زبيد ، فاجتمعت بالوزير خلف (٥). وأخبرني عن أحوال طابت بها نفسي ، عن أوليائنا وبني عمنا وعبيدنا ، وأنهم في البلاد كثيرون ، وإنما يعدمون رأسا يثورون معه ، قال جياش : وجريت على عادة الهند ، فأخرجت شعر وجهي ، وطولت أظفاري وشعري ، وسترت عيني الواحدة بخرقة سوداء ، وكنت قريبا من الدار السلطانية. وإذا افترقت الناس من الصباح ، قصدت مصطبة علي بن القم ،

__________________

(١) راجع التعليق على الحاشية : ٣٩ (كاي).

(٢) في الأصل : وثمانين.

(٣) في الأصل : شيئا.

(٤) في الأصل : إلى.

(٥) في الأصل : ابن خلف.

١١٩

وهو وزير الوالي من قبل الملك المكرم بن علي ، فسمعته يقول يوما : والله لو وجدت كلبا من بني نجاح لملكته (١) زبيد ، وذلك لشر حدث بينه وبين الوالي أسعد بن عراف (٢)

قال جياش : وخرج الحسين بن علي القمي الشاعر (٣) ، وهو يومئذ رأس طبقة أهل زبيد في الشطرنج. فقال لي : يا هندي ، تحسن تلعب بالشطرنج؟ فقلت : نعم ، فتلاعبنا ، فغلبته ، فكاد أن يسطو علي. ثم دخل على أبيه فقال له : غلبت في الشطرنج ، فقال له والده : ما هنا من يغلبك إلا جياش بن نجاح ، وقد مات في الهند. ثم خرج عليّ والد الحسين ، وهو طبقة عالية ، فلعبت معه ، فكرهت غلبه (٤) ، فخرج الدست مائعا ، فاغتبط بي. وخلطني بنفسه. وهو (كان) (٥) في كل يوم وليلة يقول : عجل الله علينا بكم يا آل نجاح (٦). فإذا كان الليل ، اجتمعت أنا والوزير خلف ، نفترق في النهار ، وأنا في أثناء ذلك أكاتب الحبشة المتفرقين في الأعمال ، وآمرهم بالاستعداد.

قال جياش : وحين حصلت حول المدينة خمسة آلاف حربة متفرقة في الحارات وداخل البلد ، قلت للوزير خلف : إن لي عند عمر بن سحيم مالا ، فخذ منه عشرة آلاف دينار وأنفقها في الرجال الذين اجتمعوا ، ففعل ذلك ، ثم لقيت الوزير ليلة ، فقلت له : يا مولاي القائد ، أتاني (مولاي القائد) (٧) حسين بن سلامة في النوم ، وقال لي : يعود إليك الأمر الذي تحاوله ليلة ولادة هذه الجارية الهندية ، ثم التفت الحسين إلى جانبه الأيمن فقال لرجل معه : أليس كذلك يا أمير المؤمنين؟

__________________

(١) في الأصل : لأملكته.

(٢) في الأصل : ابن شهاب.

(٣) راجع التعليق على الحاشية : ٣٨ (كاي).

(٤) في خ : فكرهت أن أغلبه.

(٥) زيادة من خ.

(٦) في قرة ورقة : ٤٠ : عجل الله لنا بكم آل نجاح.

(٧) زيادة من (كاي).

١٢٠