تاريخ المدينة المنوّرة

أبي محمّد عبد الله بن محمّد بن فرحون المالكي [ ابن فرحون ]

تاريخ المدينة المنوّرة

المؤلف:

أبي محمّد عبد الله بن محمّد بن فرحون المالكي [ ابن فرحون ]


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٦٣

وفي أيامهم كثرت الروافض واستحكم أمرهم ، وكثرت المكوس على الناس ، فاقتدى بهم غيرهم ، وأفسدت عقائد طوائف من أهل الجبال بثغور الشام وغيرها ، وظهرت النصيرية وغيرهم من طوائف المعتزلة ، وهم إلى الآن.

وكانوا أربعة عشر مستخلفا (١) ثلاثة منهم بأفريقية ، وهم الملقبون : بالمهدي ، والقائم ، والمنصور .. وأحد عشر بمصر وهم الملقبون : بالمعز وهو أولهم ، وإليه نسبت المعزية ، والعزيز ، والحاكم ، والظاهر ، والمستنصر ، والمستعلي ، والآمر ، والحافظ ، والظاهر ، والفائز ، والعاضد.

يدّعون الشرف ونسبتهم على الحقيقة إلى يهودي أو مجوسي كما تقدم ، واشتهر ذلك عند العوام ، فصاروا يقولون الدولة الفاطمية ، وكانوا يأمرون الخطباء بذلك على المنابر ويكتبون على جدران المساجد ، ومثالبهم كثيرة ، ومخازيهم عديدة.

ولكن لا بد من ذكر نبذة يسيرة ها هنا من أزال دولتهم ، وأمات بدعتهم ، وأباد أمتهم ، وأطفى جمرتهم.

كان المهدي يرسل إلى الفقهاء والعلماء من يتسور عليهم ويذبحهم في فرشهم ، وأرسل دعاتهم إلى الروم وسلطهم على الناس فمن وجدوه يفهم شيئا. قالوا له : هو المهدي ابن رسول الله ، وحجة الله. ويقولون لطائفة أجهل من هؤلاء : هو الله الخالق الرازق ـ تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ـ ولما هلك قام ابنه المسمّى بالقائم وزاد شره على شر أبيه ، وجاهر بشتم الأنبياء ، فكان ينادي في أسواق المهدية : العنوا عائشة وبعلها ، العنوا الغار ومن حوى.

وبعث إلى أبي طاهر القرمطي أمير البحرين وحضّه على قتل المسلمين وإحراق المساجد والمصاحف ، فقدم إلى مكة وقتل الحجيج ، وحمل الحجر الأسود ، وأقام عندهم في البحرين نحو ثمانية عشر سنة وأزيد ، ثم ردّوه بعد قصص كثيرة يتعذر شرحها هنا.

__________________

(١) ذكر السيوطي في : «تاريخ الخلفاء» ص ٤٨٢ ، أخبار هذه الدولة الخبيثة ، فقال : فصل في الدولة الخبيثة العبيدية. وختم هذا الفصل بقول الذهبي : فكانوا أربعة عشر متخلفا ولا مستخلفا ، انتهى.

٢٢١

وأما المعزّ فكان يسرّه ما ينزل بالمسلمين من الفرنج ، واحتجب عن الناس بمصر ، ثم ظهر وأوهم الناس أن الله تعالى رفعه إلى السماء ، وأخبرهم بما كان يصدر منهم في أيام تحجبه بما يخبره به الجواسيس ، فامتلأت قلوب العامة والجهلة منه ، واستدعى فقيه الشام أبا بكر بن محمد الرملي ويعرف بابن النابلسي ، فحمل إليه في قفص خشب فأمر بسلخه فسلخ حيا ، وحشا جلده تبنا وصلب رحمه‌الله ، وكان يقول وهو يسلخ : (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) [الإسراء : ٥٨].

وأما المسمى بالحاكم فأمر بكتب سبّ الصحابة على حيطان الجوامع والقياسر والشوارع ، وكتب السجلات إلى سائر الأعمال بالسبّ ، وفي أيامه طوف برجل مغربي ونودي عليه : هذا جزاء من يحب أبا بكر وعمر ثم ضربت عنقه ، وأمر بقطع لسان أبي القاسم الواسطي أحد الصالحين بسبب أنه أذّن في بيت المقدس وقال في أذانه : «حيّ على الفلاح» ، وكانت ولايتهم على الناس محنة من الله تعالى.

وكان ضرر هؤلاء على الإسلام أشد من ضرر الكفار ، وفي أيامهم استعاد النصارى القدس الشريف من المسلمين وبقي بأيديهم نحو ثلاث وتسعين سنة ، حتى فتحه الله تعالى على يد السلطان صلاح الدين رحمه‌الله ، وكان ظهوره منّة من الله تعالى على العباد والبلاد ، محا الله به هذه الدولة الخبيثة.

وكان قد دخل مصر مع عمّه أسد الدين شير كوه ، وكان عمّه أسد الدين قد بعثه الملك العادل نور الدين المتقدم ذكره ، فلما رأى أسد الدين مصر وأهلها طمع في استمالتهم وعلم أنهم ليس لهم صحبة ، ولا للعاضد منهم نجدة ، فلما رجع إلى نور الدين أخبره بذلك فجهزه بالجيوش والأموال ، فبلغ ذلك العاضد وزيره المسمى شاور ، فاتفقا على منعه من الدخول إلى مصر ، وعلما أنه لا طاقة لهم به ، فاستنجدوا بمن قرب منهم من النصارى ، وكانت السواحل كلها للنصارى ، فأنجدوهم ومنعوا أسد الدين وصلاح الدين من الدخول ، ولهم في ذلك قصص عجيبة لا يسع ذكره هنا.

٢٢٢

فلما أدخلوا النصارى إلى مصر ورأوها ، طمعوا فيها كما طمع فيها أسد الدين ، فلما انصرفوا إلى بلادهم تجهزوا لذلك وحملوا عليه ، فلما تحقق العاضد ما عرضوا عليه ، بعث إلى نور الدين يستنجده عليهم ، فسيّروا إليه أسد الدين وصلاح الدين ، ومعهما الجيوش ، فسبقوا النصارى إلى مصر ، وحموها منهم فرجعوا خائبين ، وأقام أسد الدين في مصر ومعه صلاح الدين ، وصارت لهما يد على العاضد يدلان بها عليه ، وعلما أنهما لن يصلا إلى مقصودهما مع وجود الوزير.

وصار أسد الدين يأمر في البلد وينهي مدلا عليهم بما فعله معهم ، ويظهر لهم نصحا وصداقة ، ويريد أن يصل إلى مقصوده بالاستدراج ، وكان رأي صلاح الدين غير ذلك ، فلم يزل صلاح الدين يتوقع قتله لوزير العاضد حتى ظفر به في الطريق في خلوة ، فقبض عليه ولم يكن ذلك بأمر عمه أسد الدين وقيّده ، ثم قتله بأمر العاضد ، وتوزر أسد الدين للعاضد أشهرا يسيرة ، ثم توفي إلى رحمة الله.

فقام صلاح الدين مقامه واستمال قلوب الناس بالسخاء والبذل حتى قويت شوكته ، ونفذت كلمته ، وتمكن من الخزائن والذخائر ، فصار ينفقها في الأمراء والجند ووجوه الناس ، فلم ينتبه العاضد لنفسه حتى وجد نفسه وحيدا فريدا ، فكتب الملك العادل إلى الملك الناصر يحضه على قطع اسمهم من الخطبة ، وأن يخطب للخلفاء العباسيّين ، فحاول هذه القضية أياما حتى وجد عليها مساعدا ، وأمر أن يخطب للخليفة المستضيء بأمر الله فخشي الخطيب من ذلك ، ولم يمكنه المخالفة ، فخطب ودعا للخلفاء المهديين ، فبلغ ذلك العاضد.

فقال : هل سموا في الخطبة أحدا؟ قيل له : لا. قال : سيسمون في الجمعة الآتية. ولم يمكنه مقاومة صلاح الدين فسكت ، وانقطع في بيته وتمرض ، فخطب في الجمعة الآتية للإمام المستضيء بأمر الله.

فقيل : إنه كان عنده خاتم تحته سم فامتصه ، وبقي أياما ثم هلك ، وذلك في سنة سبع وستين وخمسمائة.

فقبض السلطان صلاح الدين على أولاد العاضد وملك القصر وما

٢٢٣

فيه ، وأباد تلك الدولة وأهلها ، وأزال الله تعالى عن المسلمين الذلة ، وأعقبهم بعد خوفهم أمنا ، فلله الحمد وله المنة.

وهذا الذي ذكرته قطرة من بحر ، فإن قصص صلاح الدين أمر عجيب ، واستيلاؤه على هذه أمر غريب ، ومن يومئذ ملك صلاح الدين مصر وأعمالها وأظهر العدل فيها ، وكثر من الأوقاف والمدارس وأنواع القربات ، ولم يزل بها حاكما حتى توفي الملك العادل ، فملك دمشق وكثيرا من أعمالها ، وهو الذي افتتح اليمن للملك العادل ، بعث أخاه إلى اليمن فملكها ، وكان أخوه فيها نائبا من جهة الملك العادل.

ثم في آخر الأمر ملك السلطان صلاح الدين جميع ما كان يملكه الملك العادل ، وخطب له في مصر والشام وحلب ، وجميع تلك الأعمال ، وكذلك في مكة والمدينة واليمن. ومع اتساع هذا الملك لم يخلف في خزانة ملكه بعد وفاته غير دينار واحد ، وستة وثلاثين درهما.

ولم يخلف ملكا ولا دارا ولا بستانا ولا مزرعة ، فإنه كان مغرما بالجهاد والنفقة فيه ، وبذل المكرمات على أمر الجيوش ، وكان يجلس في كل يوم وليلة مرة لبثّ المكارم ، وكشف المظالم ، ويجود قبل حصوله ، ويقطعه الناس قبل وصوله.

وكان يهب الأقاليم ، ولما فتح «آمد» طلبها منه ابن قر أرسلان فأعطاه إياها ، ولما فتح القدس جميع ما حصل له من الأموال فرقها على الأمراء وحبا بها الفقهاء ، والعلماء والزهاد ، ولم يرحل من القدس ومعه شيء لنفسه ، وكان الذي أنفقه يقارب مائتي ألف دينار وعشرين ألف دينار ، ثم جاءه وفود ولم يبق معه درهم واحد ، فباع فرسه من بيت المال وفرق ثمنها عليهم ، وكرمه أظهر من أن يسطر ، ومع ذلك فما سمع يقول : أعطينا فلان كذا ، وما منعه من الحج إلا اشتغاله بالجهاد ، وضيق ما في يده مع المملكة الواسعة ، لكنه كان قد أسقط جميع المكوس والأعشار من البلدان.

وكان ـ رحمه‌الله ـ حسن العقيدة ، قد أخذ عقيدته عن الدليل بواسطة البحث مع المشايخ أهل العلم ، وكان يقرئ تلك العقيدة أولاده الصغار ويقرؤنها عليه من حفظهم ، وكان شديد المواظبة على الجماعة ، وإذا مرض

٢٢٤

طلب الإمام إلى عنده حتى تحصل له فضيلة صلاة الجماعة ، وكان يتكلف الصلاة قائما في مرض موته ، رحمه‌الله.

وكان شديد الرغبة في سماع الحديث ، وسماع القراءات ممن له صوت حسن ، وكان كثير التعظيم لشعائر الدين مبغضا لجميع طوائف المبتدعة ، وكان حسن الظن بالله كثير الاعتماد عليه ، وكان معظما للشرع منقادا لأوامره ، وقد جرى من المحاكمة نحو ما جرى للملك العادل ، رحمهما‌الله تعالى.

وكان من أعظم الشجعان قوي النفس شديد البأس على الكفار ، عظيم الثبات لا يهوله أمرهم ، ولا تهمه كثرتهم أصلا ، وكان منصورا عليهم في الغالب.

وكان شديد المواظبة على الجهاد عظيم الاهتمام به ، ولو حلف حالف أنه ما أنفق بعد تبتله للجهاد دينارا ولا درهما إلا في الجهاد أو في الإرفاد ترغيبا في الجهاد ، لصدق وبر في يمينه ، والذي وهب من الخيل في مرج عكا عشرة آلاف رأس.

وكان المسلمون في تلك الوقعة بالنسبة إلى النصارى مثل الشامة فيهم ، ولقد وصل إلى النصارى على كثرتهم نجدة جاءتهم في البحر فعدّ ما وصل إليهم في ليلة واحدة فكان نيّفا وسبعين مركبا. وهو لا يزداد إلا قوة نفس ، وثبات قلب ، ولقد انهزم المسلمون في ذلك اليوم الميمنة والميسرة والقلب ، ووقع الكوس والعلم ، وهو ثابت في نفر يسير من المسلمين قد انحاز بهم إلى الجبل ، وهو يريد الناس ويخجلهم ، ولم يزل يجمع الناس حتى ردوا على العدوّ وقتلوا منهم سبعة آلاف ما بين راجل وفارس ، ولم يزل مصابرا لهم حتى ظهر له ضعف المسلمين ، فصالح النصارى ففرحوا منه بذلك ، وكان هذا دأبه إذا رأى الغلبة له استأصلهم ، وإذا رأى الغلبة عليه صالحهم ، كل ذلك ليتوفر جيش الإسلام ويقوى.

وكان ـ رحمه‌الله ـ سلطانا عادلا رفيعا حليما ناصرا للضعيف على القوي ، وكان حسن الأخلاق لطيف العشرة حافظا لأنساب العرب ووقائعهم ، عالما بعجائب الدنيا ونوادرها ، وكان طاهر المجلس لا يذكر بين

٢٢٥

يديه أحد إلا بخير ، طاهر اللسان من السب والشتم ، لم يكتب بقلمه أذى لمسلم قط.

ومناقبه قد صنفت فيها مصنفات عديدة ، ولا شك أن سيرته وسيرة الملك العادل حجة الله تعالى على من بعدهما من الملوك والأمراء وغيرهم ، ولهذا ذكرت هذه النبذة اليسيرة ليتنبه بها من يقف عليها ، والله الموفق.

وفي أيامه رحمه‌الله ركب الفرنج من الأمر العظيم فكرا ، وافتضّوا من البحر طريقا بكرا ، وذلك أنهم عمروا مراكب حربية وشحنوها بالمقاتلة والأسلحة والأزواد ووجهوها إلى سواحل الحجاز ، فبعضهم توجه إلى عيذاب ، وأذاقوا أهلها العذاب ، وأسروا تجار اليمن ونهبوا ما معهم ، وبعضهم توجه إلى أرض الحجاز.

وكان الذي فعل ذلك الإبرنس (١) صاحب الكرك ، وذلك أنه لما صعب عليه ما يواليه من ممالك السلطان صلاح الدين ، أعمل الحيلة فبنى سفنا وأتقنها ، ثم نقل أخشابا إلى الساحل ثم ركب المراكب هناك وعمرها.

فلما توجهوا إلى أرض الحجاز ، أشرف أهل المدينة على الخطر ، ووصل إلى مصر الخبر ، وبها الملك العادل أخو صلاح الدين نائبا عنه. فاشتد حزن المسلمين لفناء بيت الله الحرام ، ومقام خليله الأكرم ، وضريح نبيه الأعظم ، فجهز الملك العادل مراكب في البحر وشحنها بالمقاتلة أهل النخوة للدين والحمية ، البائعين لله تعالى أنفسهم ، فقصدوهم ، وكانوا قد افترقوا فرقتين كما تقدم ، فألفوا المراكب التي توجهت إلى الحجاز في أرض رابغ ، ومن جهة ينبع في أرض الحوراء ، والآخرين في عيذاب ، فواقعوهم وأوقعوا بهم فظفرهم الله بجميعهم ، وتبعهم في الجبال والشعاب وحصروهم حتى أمكنهم الله منهم ولم يقهم منهم أحد ، وعادوا إلى القاهرة بالأسارى ، فأمر السلطان صلاح الدين بضرب رقابهم حتى لا تبقى منهم عين تطرف ، ولا أحد يخبر عن طريق ذلك البحر ولا به يعرّف.

وكان الذي دل الإفرنج على ذلك الطريق وأخبرهم بعورات الساحل

__________________

(١) في (أ): «الأبرش».

٢٢٦

ناس من العرب أشبهوهم في الكفر ، ثم أن السلطان صلاح الدين توجه بهمته إلى جهادهم ، ففتح الله تعالى عليه الكرك وأعمالها ، وطهر الله تعالى الناحية منهم ، (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً) [الأحزاب : ٢٥].

وكانت وفاة السلطان صلاح الدين رحمه‌الله في سنة تسع وثمانين وخمسمائة. ومولده في اثنتين وثلاثين وخمسمائة.

واتّفق في سنة سبع عشرة وسبعمائة أن خرجت طائفة من النصيرية القائلين بقول العبيديين ، القائلين بقولهم في بلاد الشام ، وكان أكثر أتباع العبيديين القائلين بقولهم ظاهرا وباطنا في ثغور الشام ، فخرجت هذه الجماعة النصيرية عن الطاعة وأقاموا شخصا ادعوا أنه المهدي ، وقاتلوا الناس ، وادعوا أن المسلمين كفرة وأنّ دين النصيرية هو الحق ، ورفعوا أصواتهم بقول : لا إله إلا علي ، ولا حجاب إلا محمد. وبسب أبي بكر وعمر ، وخربوا المساجد ، وجعلوها خّمارات ، فخرج عليهم عسكر المسلمين فكسروهم ، وقتلوا منهم جماعة واضمحل أمرهم ، ومزقهم الله كل ممزق.

٢٢٧

انعطاف على ما تقدّم من ذكر الأمير قاسم بن مهنا وذريته وكان الأمير قاسم بن مهنا منفردا بولاية المدينة المشرفة من غير مشارك ولا منازع ، فلما توفي تولى موضعه أكبر أولاده ، وهو جماز جدّ الجمامزة ، واستمر فيها إلى أن توفي ، ثم استقر في موضعه ولده قاسم بن جماز بن قاسم بن مهنا ، واستقر فيها إلى أن قتله بنو لأم.

وكان الأمير شيحة نازلا في عربه قريبا منه ، فلما بلغه قتل قاسم توجه إلى المدينة مسرعا حتى دخلها وملكها ، وذلك في سنة أربع وعشرين وستمائة فاستقر فيها ، ولم يتمكن الجمامزة من نزعها منه ولا من ذريته ، وأقام شيحة في الولاية مدة طويلة ، وكان يستنيب في الولاية على المدينة إذا غاب ولده عيسى ، فقدر أن الأمير شيحة توجه إلى العراق فظفر به بنو لأم فقتلوه ، وكان ولده عيسى في المدينة ، فطمع الجمامزة في المدينة فجاء منهم جماعة على غفلة قاصدين الاستيلاء على المدينة ، ففطن بهم الأمير عيسى فقبض عليهم ، وقيل : إنه قتلهم ، والله أعلم.

واستقر الأمير عيسى على الولاية مدة ، ثم إنه أظهر لأخويه منيف وجماز الكراهية لإقامتهما معه في المدينة فأخرجهما ، ومنعهما من الدخول.

فاتفق رأيهما على خلعه من الولاية ، وإعمال الحيلة في ذلك ، فكاتبا وزيره في ذلك ، وكان من العنانيين فأمرهما بالقدوم عليه ، واحتال لهما إلى أن أدخلهما الحصن العتيق بالليل ، ولم يكن يومئذ للإمارة حصن غيره ، فقبضا على عيسى وقيداه ، وأصبح حاكم المدينة الأمير أبو الحسين منيف بن شيحة ، وذلك في سنة تسع وأربعين وستمائة ، ولم يزل حاكما بالمدينة وأخوه جماز يوازره ويساعده إلى أن توفي في سنة سبع وخمسين وستمائة ،

٢٢٨

فوليها من ذلك التاريخ الأمير عز الدين جماز بن شيحة ، ولم ينازعه أخوه الأمير عيسى بن شيحة.

ثم إن ابن أخيه مالك بن منيف انتزعها منه في سنة ست وستين وستمائة ، فاستنجد عليه الأمير جماز بأمير مكة وبغيره من العربان ، وسار إلى المدينة ، فلم يقدروا على إخراجه منها ، فلما أيسوا رحل صاحب مكة وغيره من العربان ، وبقي الأمير جماز مع جماعته. فأرسل إليه الأمير مالك بن منيف يقول له ما معناه : أراك حريصا على إمارة المدينة وأنت عمي وصنو أبي ، وقد كنت له معاضدا ومساعدا ويجب علينا أن نحترمك ونرعى لك حقوقك ، وقد استخرت الله تعالى ونزلت لك عن إمارة المدينة طوعا لا كرها ، فسرّ بذلك الأمير جماز وحمد الله تعالى على حقن الدماء وبلوغ المقصود ، واستقل بالإمارة من يومئذ ، فلم تخرج عن يده إلى أن مات ، واستقرت بيد ذريته إلى الآن.

وكان الأمير جماز ذا رأي مصيب وكرم عظيم على إخوته وبنيهم يؤلفهم بالعطاء الجزيل ، حتى استمال قلوبهم ، وقوي أمره بينهم وعضده أولاده ، وكان إخوته ثمانية ، منهم : منيف وعيسى ومحمد جد الفواطم ، وأبو رديني جدّ الردنة ، وكان أولاد جماز أحد عشر ولدا ، وعاش الأمير عيسى إلى أن توفي في سنة ثلاث وثمانين وستمائة. وأقام جماز في الولاية مستقلا بها من غير منازع من يوم سلّمها له مالك بن منيف إلى سنة سبعمائة.

فلما كان عام سبعمائة خلع الأمير جماز نفسه من الولاية ونزل عنها لولده الأمير منصور ، وأمر أن يخطب له على المنبر ، وحالف الناس على طاعته ونصرته وذلك لأنه كان قد أضر في آخر عمره وشاخ وضعف ، وكان ولده منصور أبرّ أولاده به ، فحسده إخوته ، وتقدم أنهم كانوا أحد عشر ، منهم : منصور وسند ومقبل وودي وقاسم ومسعود وراجح ومبارك وثابت وآخرون.

وكان للأمير منصور أيضا أحد عشر ولدا ، وهم : كبيش وكبش وطفيل وجماز وريان وعطية وكوير وحقان ونعير ونجاد ، وشخص آخر لعله نمي ،

٢٢٩

فوقع الحسد والتباغض والتدابر بين الأمير منصور وإخوته إلا القليل ، وطلع الأمير منصور إلى القلعة الموجودة اليوم ، وكان الأمير جماز قد بناها لنفسه ليتحصن فيها ويكشف منها ضواحي المدينة ، فلما خلع نفسه عن الولاية نزل إلى داره التي في عرضة السوق المعروف بدار حرثمة ، واستقر فيها إلى أن مات في سنة أربع وسبعمائة.

ثم إن أولاد الأمير جماز انفردوا وأمّروا عليهم أخاهم مقبلا ، وصاروا يحاصرون المدينة ولا يقدرون عليها ، ثم إنه اتفق في سنة تسع وسبعمائة أن سافر الأمير مقبل إلى الشام لبعض مصالحه ، فلما عزم على السفر إلى إخوته استعمل سلما طويلا مفصلا يتركب بعضه في بعض ، وهو اليوم موجود في الحرم الشريف.

فلما حاذى المدينة ساروا إليها مع جماعة يسيرة من أصحابه ونصب السلم على الحصن ودخله على غفلة ، وذلك في ليلة السبت ثامن عشرين شهر كذا من السنة المذكورة وكمن في الحصن إلى الصباح ، ولم يكن بالمدينة غير كبش بن منصور ، فظن مقبل أن أهل المدينة لا يواجهونه بالمقاتلة نهارا ، وأن كبشا ينجو بنفسه من الذبح هاربا ، فلما علم بهم كبش استصرخ بأهل المدينة فأصرخوه وقاتلوا معه ، فقتل الأمير مقبل وقتل أيضا أبناء أخيه جوشن وقاسم أبناء قاسم بن جماز ، فعظمت الواقعة على أولاد مقبل وإخوته ، فقدموا عليهم الأمير ودي بن جماز وقاموا في طلب الثأر ، واستحكم بينهم الفساد ، وكثرت بينهم الحروب ، وعظمت على منصور النفقات للجيوش.

فلما كان في سنة ست عشرة وسبعمائة حصل له ضيق وشدة ، فطلب من الخدام المخبزين ألف درهم من كل واحد ، فامتنعوا وقالوا : لا نفعلها سنّة أبدا ، فأنزل منهم جماعة في الجبّ ، فجاءه بعض المجاورين وقالوا : نحن نتقدمهم في النزول ، ووقع في ذلك كلام كثير ، ثم فرج الله عنهم.

فبلغ ذلك السلطان ، فأمر أمير الحاج المصري بمسك منصور ، فلما قدم أمير الحاج مسك الأمير منصور وولده كبش وسار بهما معتقلين إلى مصر ، فلما دخل الركب إلى القاهرة رسم عليهما في دار الضيافة نحو شهر ،

٢٣٠

ثم استدعاهما السلطان الملك الناصر ، وتهددهما على ما فعل منصور ، وشرط عليه شروطا أنه لا يؤذي المجاورين والخدام ، وأنّ ولده كبش يحمل عياله إلى مصر ويقيم عند السلطان ، ثم أخلع عليهما وخلّا سبيلهما.

واتفق في أول يوم من المحرم بعد مسك منصور ورحيل الحاج من المدينة ، أن الأمير ودي وأولاد مقبل أغاروا على المدينة ، فخرج إليهم جماز بن منصور فقاتلهم ، فقتل من أهل المدينة نحو سبعة أنفس ، ورجع جماز إلى المدينة ، ثم بعد ذلك بأيام أغاروا مرة ثانية ، فملكوها وخرج جماز بن منصور منها ، فوصل الخبر إلى السلطان ومنصور عنده ، فسير معه عسكرا عدتهم تسعون فارسا تركا وعربا ، فوصلوا إلى المدينة في شهر ربيع الأول من سنة سبع عشرة وسبعمائة ، فامتنع أولاد مقبل من الخروج ساعة ، ثم رأوا أن لا طاقة لهم بالحاضرين فخرجوا على خيولهم هاربين ، فأرسل منصور خلفهم فمسك مبارك بن مقبل ، ثم منّ عليه وخلا سبيله ، وبقي العسكر في المدينة يومين أو ثلاثة ثم رحلوا منها ، فجمع ودي وأولاد مقبل عربا كثيرة وساعدهم قتادة صاحب ينبع فحاصروا المدينة ، فخرج منها منصور هو وولده كبش وتوجها إلى السلطان ، فوجدوا في طريقهم عسكرا ، وجهه السلطان إلى مكة ومقدمهم سيف الدين أيدمش ، فسألهم المساعدة على ودي ، وأن يمكنوه من المدينة. فاستمهلوه وكتبوا إلى السلطان بذلك ، وساروا إلى مكة ، فبعث إليهم السلطان يأمرهم بنصرته ، فقدموا معه إلى المدينة ، فخرج إليهم ودي وأولاد مقبل وجرى بينهم قتال ، وقتل ماجد بن مقبل ، وكانت الواقعة في شهر جمادى الأولى من السنة المذكورة ، وانكسر ودي وجماعته ، وتسلم منصور المدينة ، ودخلها العسكر فنهبوها حتى القلعة وبيوت الشرائف ، وأقاموا نحو ثلاثة أيام ، ثم رحلوا ، واستمر ودي وأصحابه يغيرون على المدينة إغارة بعد إغارة.

ولما استقر الأمير منصور في المدينة نزل من الحصن وجلس في وسط الحرم ، وقال : اجمعوا كل من في المدينة من المجاورين والخدام فجمعوا.

وكأنه تخيل أنّ ما جرى عليه من المسك والاعتقال كان عن مكاتبة من الخدام والمجاورين.

٢٣١

ثم قال لكل من الحاضرين : ما اسمك؟ فإذا عرفه قال له : ما بلدك؟

فإذا أخبره قال له : دونك بلدك ، فإن تخلفت حل مالك ودمك. وتبعهم بهذا الكلام واحدا واحدا ، ثم قام فحصل للناس هم وغم ، وبقوا في شدة عظيمة خصوصا من له عيال.

فقال لهم شيخ الخدام الحريري : لا يهمنكم ما وقع ، من كان معه شيء فليكتر لنفسه ، ومن كان فقيرا فأنا أحمله وأحمل عياله حتى تبلغوا مأمنكم ، وبعث لبني سالم وغيرهم من العربان يأتونه بالجمال ، وكان للأمير منصور زوجة صالحة.

فقالت له : يا منصور هب أنك تسلم من الملك الناصر ، ألا تخاف من يسمع بذلك من العربان كآل فضل وخالد وبني لأم ، فإنهم يرون هذا منا كفرا. ولم تزل به حتى أرسل إلى الجماعة بأنهم يستقرون على أنهم لا يكتبون فيه ، ولا يشهدون عليه. وكان بعض الشياطين أشار عليه بأن يأخذ الخمس من الناس ، فوكل بذلك شخصا من أهل الشر يزعم أنه من كبار المجاورين الناصحين لهم ، فكان يأتي الرجل الصالح في رباطه والمرأة الصالحة في رباطها فيقول : كم جاءك يا فلان في هذه السنة من الصدقة؟

فيقول له : كذا وكذا. فيكتب ما قيل له ويزيد عليه ، ويتتبع الوظائف كلها فيأخذ منها الخمس من كل خمسة دراهم درهم ، وضاق الناس من ذلك واستمر ذلك ثلاث سنين ، ثم قطعه الله تعالى.

واتفق أن طلع عليه والدي ـ رحمه‌الله ـ لما طلب منه ذلك ، فلما رآه الأمير منصور قال له : ما اسمك؟ فقال له : فلان. فقال له : كم لك في المدينة؟ فقال له : نحو عشرين سنة. فقال له : أنت عندنا هذه المدة ولا نعلم بك ما أظنك إلا رجلا جيدا.

ثم قال له : أشهدك الله هل تعلم أن الذي أطلبه منك حق عليك أم لا؟

فقال : اللهم لا. فقال الأمير لغلمانه : لا تتعرضوا له.

وكان له اعتقاد حسن وفيه شفقة ورحمة ، كان رحمه‌الله يحضر ميعاد

٢٣٢

محمد بن إبراهيم المؤذن بعد العصر فيستدنيه فيقرأ قريبا منه ، فلا يزال يبكي حتى تبلّ دموعه ثيابه ، رحمة الله عليه.

ولما كان في سنة خمس وعشرين وسبعمائة في شهر رمضان ، كان الأمير منصور نازلا في عربه في أعز ما يكون ، وآمن ما يكون ، وكان حرّيثه بن قاسم بن جماز أخو فضل بن قاسم نازلا معه ، وكان آمنا من جهته ، فخلا به يوما فضربه بالرمح فقتله ، وظن أنه ينجو على فرس كانت هناك ، فأدركه بعض أصحاب الأمير فمسكوه وقتلوه في تلك الساعة. وكان مولد الأمير منصور رحمه‌الله في سنة خمس وخمسين وستمائة.

ثم تولى إمارة المدينة كبيش بن منصور وكانت ولايته نحو سنة وخمسة أشهر ، ولم تصف له تلك الأيام.

ولما كان في سنة سبع وعشرين في صفر جاء ودي وولده عسكر وجماعة من أصحابه ، فدخلوا المدينة على غفلة في وقت السحر من ناحية ذروان ، وكان في المدينة طفيل نائبا عن كبيش ، فالتقاهم في ذروان (١) ، فقتل هاشم بن علي وسنان ، وانكسر طفيل وجماعته ، فخرج من درب البلاط ونجى بنفسه وأصحابه ، واستقر ودي في المدينة وتوجه طفيل إلى السلطان فأخبره الخبر وأقام في مصر ، فطمع ودي في مرسوم السلطان ، فجهّز خيلا وهدية وتوجّه إلى السلطان في شهر رمضان من السنة المذكورة ، فلما دخل على السلطان قبل الخيل والهدية ، واستمهله حتى انسلخ شهر رمضان.

فلما كان ليلة العيد مسكه وقيده وحبسه ، ورجع طفيل إلى كبيش عند العرب فجهز كبيش خيلا هدية وبعثها مع طفيل إلى السلطان ، فوصل بها في الثاني عشر من شهر شعبان سنة ثمان وعشرين ، فقبلها السلطان.

فلما كان في الحادي والعشرين من الشهر المذكور ، وصل الخبر إلى مصر أن أولاد مقبل بن جماز قتلوا الأمير كبيش في يوم الجمعة سلخ شهر رجب من السنة المذكورة ، فأعطى السلطان إمارة المدينة للأمير

__________________

(١) تحرف هذا الاسم وأصبح يعرف ب «ضروان» ، وهو موضع البئر التي ألقي فيها سحر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢٣٣

طفيل بن منصور وأخلع عليه وكتب تقليده ، وتوجه إلى المدينة ، فوصلها في الحادي عشر من شهر شوال من السنة المذكورة ، وخرج منها عسكر ودي وأصحابه.

واستمر طفيل ـ رحمه‌الله ـ في المدينة حاكما مدة ثمان سنين وثلاثة عشر يوما ، واستمر عسكر بن ودي وأولاد مقبل يشنون الغارات على المدينة ، ويرعون زروعها ويحرقون نخيلها ويجدون ثمرها ، وفي تلك الغارات قتل علي بن ودي ، وعجاجة وغيرهما ، وذلك في سنة تسع وعشرين. ثم خرج إليهم القاضي شرف الدين والخدام وصالحوهم على خمسة عشر ألف درهم ، وعلى ثمرة أملاكهم ، وأملاك من يلوذ بهم.

فلما تم الصلح بينهم وبين الأمير طفيل ، استنجد طفيل بصالح بن حريث من آل فضل ، وبعمرو بن وهيبة من آل مرّا ، وبعسّاف بن متروك الرزاق ، فجاؤوه في جموع عظيمة ، وكانوا ألفي فارس وخمسمائة راحلة ، وباقيهم رجال ، وجمع طفيل من بني حسين ما أمكنه ، وخرج بالترك الذين كانوا معه في المدينة وساروا جيشا عظيما ، وأغاروا على عسكر بن ودي وأولاد مقبل ، وكانوا ثمانية عشر فارسا وقيل خمسة عشر ، وقيل ستة عشر ، فكسروا هذا الجمع العظيم ، وخلصوا منه سالمين بقدرة الله تعالى ، وذلك بسبب الغدر بهم عقيب المصالحة.

وأما ودي فاستمر محبوسا من التاريخ المتقدم إلى خامس شهر رمضان من سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة ، فكانت مدة حبسه نحو أربع سنين ، ثم فرج الله تعالى عنه.

ولما كان في سنة ست وثلاثين وسبعمائة ، توجه طفيل إلى مصر واستخلف في المدينة ولده المسمى عجمي ، وكان وزير طفيل يومئذ علي بن مبارك الحسامي ، فلما كان في شهر رجب جاء ودي وجماعته إلى المدينة وحاصروها ، فلما كان في بعض الليالي دخلوا المدينة على غفلة في وقت السحر من الحديقة التي في زقاق قريش ، وكان في المدينة الأمير عطية والأمير زيان أبناء منصور وغيرهم ، فأدركوهم في الحديقة المذكورة ، ووقع بينهم قتال شديد ، ثم رجعوا من حيث دخلوا من السور وأقاموا محاصرين المدينة.

٢٣٤

ثم اتفق أن جاء كتاب من عند السلطان إلى الأمير ودي بأن لا يتعرض للمدينة ، ولا يقربها فرحل عنها ، ووقع من القاضي شرف الدين الأميوطي ما تقدم ذكره في ترجمة الشريف يعقوب ، وأمر الوصية التي بعث بها الشريف يعقوب من العرب ، فغضب السلطان على طفيل.

فلما كان في شهر شوال من السنة المذكورة وصل جحيدب بن منيف بن قاسم بن جماز ، وسعد بن ثابت بن جماز من مصر ومعهما كتاب من السلطان إلى القاضي شرف الدين ، مضمونه أن نحن قد سلمنا إمارة المدينة إلى الأمير بن مزروع ودي بن جماز ، وقد كتبنا له بذلك تقليدا ، فيمكن نوابه من المدينة ، ويمنع آل منصور أن يتعرضوا لأذيّة الناس ، وأن يمسكوا شيئا من جمال السواني فيرتحلوا عليها.

فخرج آل منصور من المدينة ، ولم يتعرضوا لجمال السواني. وتحمل الوزير المذكور بأهله وأولاده وماله على البقر. ثم وصل الأمير ودي إلى المدينة في شهر ذي القعدة ، وقرأ منشوره على دكة المؤذنين العليا ، وحبس الأمير طفيل نحو أربعين يوما ، ثم أخرج من الحبس ، وأنعم عليه بأخباز يستعين بها ، ورسم لهم بأملاكهم التي بالمدينة ، واستمر الأمير ودي حاكما في المدينة.

فلما توفي الملك الناصر في شهر ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وسبعمائة توجه ودي إلى مصر فقرر على ولايته ، ورجع إلى المدينة واستمر حاكما إلى سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة.

فلما كان في شهر ذي القعدة من السنة المذكورة ، توجه طفيل إلى المدينة ومعه جميع آل منصور بأهلهم وأموالهم ، ونزلوا تحت جبل سلع مما يلي المدينة ، وكان نائب المدينة عن ودي جحيدب ومعه قلاوون بن حسن بن مقبل ، فلما كان في السحر تلك الليلة التي قدموا فيها ، نصبوا سلما على السور ودخل المدينة من آل منصور فلم يقاتلهم أحد ، ثم داروا على الدروب فكسروا أقفالها ، وفتحوا أبوابها ، ودخلوا المدينة جميعهم ونهبت في تلك الليلة بعض الدور ، وكسرت العرب جميع دكاكين السوق ونهبوا ما فيها ، فلما طلع النهار نادى الأمير طفيل بالأمان ، فأمن الناس

٢٣٥

وخرجوا إلى الأمير طفيل وهنوه بالنصر والولاية ، وقبض طفيل على جحيدب وقلاوون وقيدهما في بعض دور المدينة ، فأقاما نحو ثمانية أيام ، ثم قتلا خنقا ، والعياذ بالله.

واستقر الأمير طفيل في المدينة ، فكانت مدة ولاية الأمير ودي سبع سنين وشهرا وأربعة أيام ، ثم إن الأمير طفيلا بعث إلى مصر أخاه جمازا مع الركب المصري ، فأنعم عليه السلطان وقرر طفيلا على إمارة المدينة ، وكتب له بعد تقليدا ، وبعث إليه بالخلعة والتقليد ، وكان السلطان يومئذ الملك الصالح إسماعيل بن محمد ، ثم توجه طفيل إلى مصر فأكرمه السلطان وقرره على ولايته ، ومكث الأمير ودي عند أهله وأقاربه إلى أن توفي رحمه‌الله في سنة خمس وأربعين وسبعمائة.

وكان أميرا رئيسا محتشما مهيبا معظما ، ذا عقل ورأي ، ودهاء وشجاعة. وكان ولده عسكر أعظم منه في هذه الأوصاف كلها. توفي رحمه‌الله في حياة والده بالمدينة المشرفة في سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة ، ومولده سنة تسع وتسعين وستمائة.

ولما توفي الأمير ودي قدّم آل جماز عليهم فضل بن قاسم ، فلما كان في شهر المحرم سنة تسع وأربعين ، جاء الأمير فضل مع جماعة من أصحابه إلى المدينة وتسور السور ودخلوا المدينة ، وجاؤوا إلى الساحة وكسروا قفل درب الغنم ، ودخلوا بخيلهم ورجلهم ولم يشعر بهم أحد ، ثم قصدوا القلعة ودقوا بابها ، فلما علم بهم من كان بالقلعة ، صاحوا واستيقظ أهل المدينة وفزعوا إلى القلعة ، فالتقوا مع آل جماز ، وجرى بينهم قتال ، ثم انتصر أهل المدينة عليهم ، وأخرجوهم من الدرب فرجعوا إلى أهلهم ولم يحاصروا المدينة ، واستمر الأمير طفيل رحمه‌الله حاكما على طريقة حسنة ، ومآثر مستحسنة ، إلى سنة خمسين وسبعمائة ، فصدرت منه أشياء عن تدبير بعض الوزراء لا تليق بمثله ، فكتب فيه القاضي شرف الدين الأميوطي ، وقد ذكرنا ذلك.

في أثناء تلك السنة جاء الخبر أن السلطان قد ولى سعد بن ثابت بن جماز إمارة المدينة. فلما كان في شهر ذي القعدة جمع الأمير طفيل جميع

٢٣٦

آل منصور وخلقا كثيرا من العرب ، وعزم على منع سعد بن ثابت من دخول المدينة. فقدم سعد مع الركب الشامي ، فبلغه ما عزم عليه الأمير طفيل ، فطلب المساعدة من أمراء الركب الشامي ، فامتنعوا. وقالوا : لا بدّ من إذن السلطان لنا في ذلك ، فرحل سعد من البركة ، وبعث إلى السلطان يستأذنه في ذلك ، ودخلت الحواج جميعها دفعة واحدة ، وهم خائفون مما يحدث عند تغير الدول ـ والعياذ بالله ـ وأقاموا في المدينة يومين ، ورحلوا جميعهم دفعة واحدة في صبيحة اليوم الثالث ، وأودعوا في المدينة ما جرت عادتهم في ذلك.

فلما كان في اليوم السادس عشر من ذي الحجة جاء قاصد الأمير طفيل من مكة ، وأخبر آل منصور بما أزعجهم وهو مرسوم السلطان لجميع أمراء الحواج أن يمكنوا سعدا في المدينة.

فلما كان في ليلة الجمعة ثامن عشر الشهر المذكور ، اتفق رأي آل منصور على نهب المدينة ، وكان الأمير طفيل لذلك كارها ثم غلب على رأيه ، ونهب آل منصور وأتباعهم ، ومن معهم من بني حسين ، ومن حضر المدينة من الخيابرة وغيرهم ، جميع الوضيع الذي للحاج الشامي ، ولم يسلم لهم إلا النادر في بيوت معدودة كما تقدم ، ونهبوا دور الخدام والمدارس ، واستمر النهب من عشية الخميس إلى آخر نهار الجمعة ، وخرج آل منصور جميعهم من المدينة في ليلة السبت.

وجلست هيمان بنت مبارك بن مقبل في القلعة في شباك الإمارة يوم السبت ، وتسلمت مفاتيح الدرب وحكمت في المدينة يوم السبت ويوم الأحد إلى الظهر. ثم وصل محمد بن مقبل بن جماز وغيره ، ودخل الأمير سعد بن ثابت يوم الثلاثاء مع الركب المصري ، وقرئ منشوره يوم الجمعة الخامس والعشرين من ذي الحجة سنة خمس وأربعين وسبعمائة.

وفي سنة إحدى وخمسين ابتدأ الأمير سعد في عمل الخندق الذي حول السور ، ومات ولم يكمله ، وأكمله الأمير فضل في ولايته ، ولما كان في شهر شوال من السنة المذكورة جاء آل منصور على غفلة ، ودخل المدينة منهم ثلاثة أمراء من سور باب البقيع ، وحاولوا كسر قفل الدرب ، فأعجلهم

٢٣٧

بعض الترك من المدينة ، فرجعوا من حيث دخلوا وأصبحوا محاصرين المدينة ، ورعوا الزرع وقطعوا الأشجار.

ولما كان في أول سنة اثنتين وخمسين ، توجه الأمير طفيل إلى مصر فغضب عليه السلطان وحبسه في القلعة ، وكتب السلطان إلى الأمير سعد يأمره يحضر ما أخذ طفيل للحاج ، ولأهل المدينة ، فحضر بعض ذلك ، وكتب به محضرا وسير به إلى السلطان وكثرت شكاوى التجار على طفيل ، فغرم للبعض وصالح البعض ، وندم على ما وقع ، واستمر محبوسا إلى أن توفي في الحبس في شهر شوال من السنة المذكورة.

وكان ـ رحمه‌الله ـ خليقا للملك ، سلطانا مهيبا معظما محببا إلى الرعية ، عالي الهمة ، كامل السؤدد ، جم المناقب ، يوالي المجاورين ، ويحسن إليهم ويقبل شفاعتهم ، ووالانا بأحسن الموالاة ، ونصرنا في مواطن عديدة ، وكان بينه وبين أخي علي صحبة أكيدة قلّ أن يرد شفاعته ، تغمده الله برحمته.

وفي هذه السنة توجه الأمير سعد لقتال آل منصور ، فانهزم عنه أصحابه ، وجرح ورجع إلى المدينة في شهر ربيع الآخر وهو مريض ، فتوفي من ذلك الجرح في ثامن عشر ، فكانت ولايته سنة وثلاثة أشهر وستة وعشرين يوما.

وكان في دولته من أحسن الأمراء سيرة ، شجاعا وافر الحشمة ، ناصرا للسنّة قامعا للبدعة ، متخلقا بذلك مستجلبا به رضى السلطنة.

ولما توفي الأمير سعد رحمه‌الله اجتمع آل جماز وأجمعوا على تقديم الأمير فضل بن قاسم بن قاسم بن جماز ، وحالفوه على الطاعة والنصرة ، وخطب له على المنبر ، وتوجه مانع بن علي إلى السلطان يستنجز له مرسوما ، فأجابهم السلطان إلى ذلك ، وبعث إليه بالتقليد والخلعة ، ووصل بهما مانع بن علي في شهر جمادى الآخرة ، وقرئ منشوره على دكة المؤذنين ، واستمر في الولاية إلى آخر السنة سنة أربع وخمسين وسبعمائة ، فمرض مرضا شديدا وتوفي في السادس والعشرين من ذي القعدة ، ودفن في

٢٣٨

قبة الحسن والعباس ، كان رحمه‌الله شهما شجاعا ، مقدما مهيبا ، سايسا ذا رأي صليب ، وغور ودهاء ومعرفة بالأمور.

ولما توفي الأمير فضل ، أجمع رأي آل جماز على تقديم الأمير مانع بن علي بن مسعود بن جماز ، وحالفوه على الطاعة ، وتوجه إلى مصر محمد بن مقبل بن جماز يسعى لمانع في تقرير الولاية ، وسافر معه محمد بن مبارك بن جماز ، وقيل : إنه قصد السعي لنفسه في الولاية ، فولى السلطان الأمير مانع وبعث له بالتقليد والخلعة مع محمد بن مقبل.

وكان الأمير مانع قبل ولايته متعبدا متدينا ، سليم الباطن ، فلما تولى إمارة المدينة ضعف رأيه عن تدبيرها ، وكثرت الفتن في أيامه ، وتتابعت الغارات على المدينة من آل منصور وضعف عن دفعهم ، فكان يستعين عليهم ببني لأم ، ويجزل لهم العطايا ، فنفد ما بيده وطلب المساعدة من أهل المدينة ، فساعدوه مرارا ، ثم طلب المساعدة من الخدام والمجاورين ، فساعدوه وتكلفوا ذلك مرارا ، ثم حصل منه جور على المجاورين وأهل المدينة ، فبلغ السلطان ذلك ، فبعثوا إلى الأمير جماز بن منصور ، وكان مقدما على جماعته من بعد وفاة الأمير طفيل ، وولوه إمارة المدينة ، ووصل إلى المدينة مستصحبا للتقليد والخلعة في الحادي عشر من شهر ربيع الأول من سنة تسع وخمسين وسبعمائة ، ولم يكن الأمير مانع يومئذ بالمدينة ، وكان فيها نائبه محمد بن مقبل. وقد تقدم ما جرى للأمير جماز معهم في ذكر ولاية القاضي تقي الدين الهوريني.

ولما استقر الأمير جماز في المدينة جرى في أحكامه على الشدة ، حتى خرج عن الحد ، ودانت له البادية والحاضرة ، وكان خليقا للملك ، شهما شجاعا وافر الحرمة ، عظيم الهيبة ظاهر الجبروت ، هذا وغالب أيامه كان مريضا ، وكانت ولايته ثمانية أشهر وعشرة أيام ، وقتل شهيدا في اليوم الحادي والعشرين من شهر ذي القعدة من السنة المذكورة ، قتله فداويان قدما مع الركب الشامي لذلك ، وقتل وهو في أعز ما يكون وأنصاره بين يديه رافعون.

وذلك لما قدم الركب الشامي ، خرج لتلقي المحمل السلطاني على

٢٣٩

عادة من تقدمه من الأمراء ، فلما وصل إلى المحمل ، ترجل عن فرسه وأظهر الطاعة للسلطان ، وفرش له بساط ، وأخرجت الخلعة السلطانية ، فلبسها وأعطي العمامة ، فاشتغل بلفها ، فخرج عليه رجلان أشقران خبيثان فضرباه بخنجرين ، فأنفذا مقاتله واختفيا من حينهما ، فلم يعلم لهما خبر.

وظن آل منصور أن الأمر أشد من ذلك ، وأن الأمر غير قاصر ، فلم يتعرض له أحد غير أن نهبت جميلات يسيرات من أطراف الحاج ، فلما تراجع آل منصور هموا بإقامة فتنة ، وسفك دماء وما لا خير فيه ، فعصم الله الناس من ذلك بالأمير هبة بن جماز بن منصور ، فظهر منه يومئذ من الاحتساب في مصيبته ، والصبر على رزيته ، ما يعجز عنه الأئمة الأعلام ، فأمّن الناس وطيّب قلوبهم ، ونادى فيهم بالأمان ، فاطمأن الحاج وجرى على عادته في البيع والشراء ، جزاه الله خيرا ، وساعده على ذلك عمه الأمير زيان بن منصور ، المتحلي بحسن الأخلاق والشيم ، والصيانة والشجاعة والكرم.

ولما وقع بالأمير جماز ما وقع اجتمع الناس على الأمير هبة بن جماز ، وسألوه أن يقبل الولاية ، فامتنع.

وقال : أنا أجلس في القلعة لحفظ المدينة وأهلها ، وحفظ الأحواج ، فانظروا لهذا الأمر غيري ، فسألوا الأمير زيان في ذلك ، فامتنع.

وقال : لا أتقدم على أخي عطية ، وهو خيرنا وأديننا.

فاتفق رأي الناس على تقدمته ، وكان غائبا عند العرب ، فكتب إلى السلطان شفاعة في أن يولي عليهم الأمير زين الدين عطية بن منصور ، وذكروا أن آل منصور قابلوا ما وقع للأمير بالصبر والاحتساب ، وحفظ الحاج والطاعة للسلطان ، وتوجه الأمير نعير بن منصور إلى مصر ساعيا للأمير عطية في الولاية ، واستمر هبة بن جماز حاكما إلى رحيل الركب المصري من المدينة ، ثم خرج من المدينة وتوجه إلى عربه ، وطلع الأمير زيان إلى القلعة وحكم في المدينة.

ولما وصل نعير إلى مصر حبسه السلطان أياما ، ثم طلب وأخلع عليه ، وكتب للأمير عطية تقليدا بإمارة المدينة ، وبعث بالتقليد والخلعة مع الأمير

٢٤٠