آية الله ناصر مكارم الشيرازي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-51-3
ISBN الدورة:
الصفحات: ٥١٠
(بعد) إمّا أن تعني (بعد) الزمانية ، أي لا نتّخذ زوجة بعد هذا الزمان ، أو أنّ المراد أنّك بعد أن خيّرت أزواجك بين البقاء معك والحياة حياة بسيطة في بيتك ، وبين فراقهنّ ، وقد رجّحن البقاء معك عن رغبة منهنّ ، فلا ينبغي أن تتزوّج بعدهنّ بامرأة اخرى.
وكذلك لا يمكنك أن تطلّق بعضهنّ وتختار مكانهنّ زوجات أخر. وبتعبير آخر : لا تزد في عددهنّ ، ولا تبدّل الموجود منهنّ.
* * *
مسائل مهمّة :
١ ـ فلسفة هذا الحكم :
إنّ هذا التحديد للنبي صلىاللهعليهوآله لا يعتبر نقصا ، بل هو حكم له فلسفة دقيقة جدّا ، فطبقا للشواهد التي تستفاد من التأريخ ، أنّ النّبي صلىاللهعليهوآله كان تحت ضغط شديد من قبل مختلف الأفراد والقبائل بأن يتزوّج بنساء أخر منهم ، وكلّ واحدة من القبائل المسلمة كانت تفتخر على قبائل العرب بأنّ النّبي قد صاهرهم وحتّى أنّ بعض النساء كنّ على استعداد أن يهبن أنفسهنّ للنبي بدون مهر ـ كما مرّ ذلك ـ ويتزوّجنه بدون أيّ قيد أو شرط.
كانت هذه العلاقة الزوجية مع تلك القبائل والأقوام حلّا لمشاكل النّبي صلىاللهعليهوآله ومحقّقة لأهدافه الاجتماعية والسياسية ، غير أنّها إذا تجاوزت الحدّ ، فمن الطبيعي أن تخلق له المشاكل بنفسها ، وبما أنّ كلّ قبيلة كانت تأمل أن يتزوّج النّبي منها ، فلو أراد النّبي صلىاللهعليهوآله أن يحقّق آمال الجميع ، ويختار منهم أزواجا ، حتّى وإن كانت بمجرّد العقد ولا يدخل بها ، فإنّ ذلك سيوجد له مصاعب جمّة. ولذلك فإنّ الله الحكيم قد منع هذا الأمر ووقف دونه بإصدار قانون محكم ، فنهاه عن الزواج الجديد ، وعن تبديل أزواجه.
لقد كان هناك أفراد في هذا الوسط يتوسّلون للوصول إلى هدفهم بحجّة أنّ أغلب أزواجك أيامى ، ومن بينهنّ من لاحظ لها من الجمال ، فاللائق بك أن تتزوّج بامرأة ذات جمال ، ولذلك فإنّ القرآن أكّد على هذه المسألة بأنّه لا يحقّ لك أن تتزوّج النساء فيما بعد وإن أعجبك حسنهنّ وكنّ ذوات جمال.
إضافة إلى أنّ أداء الجميل ورعايته كان يوجب أن يسنّ الله تعالى مثل هذا القانون ، ويأمر به نبيّه لحفظ مقام أزواجه بعد أن أبدين وفاءهن ، ورجّحن الحياة البسيطة المعنوية مع النّبي صلىاللهعليهوآله على أي شيء آخر.
وأمّا فيما يتعلّق بالجواري والمملوكات باليمين حيث أبيح الزواج منهنّ ، فإنّما هو من أجل أنّ مشكلة النّبي كانت من ناحية الحرائر ، ولذلك لم تكن هناك ضرورة تدعو إلى تحديد هذا الحكم في طرف الجواري ، مع أنّ النّبي صلىاللهعليهوآله لم يستفد من هذا الاستثناء طبق الشواهد التأريخية.
هذا هو الشيء الذي يبدو من ظاهر الآية.
٢ ـ الروايات المخالفة :
اعتبرت جملة : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) في روايات عديدة ـ بعضها ضعيفة من ناحية السند ، وبعضها يستحقّ الملاحظة ـ إشارة إلى النساء اللواتي بيّن تحريمهم في الآيتين (٢٣ و٢٤) من سورة النساء ـ وهنّ الامّ والبنت والاخت والعمّة والخالة و.. ، وصرّح في ذيل بعض هذه الأخبار بأنّه : كيف يمكن أن تكون النساء حلال على الآخرين وحرام على النّبي؟ فلم تكن أيّة امرأة محرّمة عليه سوى ما حرّم على الجميع (١).
طبعا ، يبدو بعيدا جدّا أن تكون الآية تشير إلى الآيات الواردة في سورة
__________________
(١) تفسير نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، صفحة ٢٩٤ ـ ٢٩٥.
النساء ، إلّا أنّ المشكلة هنا أنّ بعض الروايات قد صرّحت بأنّ المراد من (مِنْ بَعْدُ) : بعد المحرّمات في آية سورة النساء.
بناء على هذا ، فإنّ الأفضل هو أن نغضّ النظر عن تفسير روايات الآحاد هذه ، أو كما يقال : ندع علم ذلك إلى أهله ، أي المعصومون عليهمالسلام ، لأنّها لا تنسجم مع ظاهر الآية ، ونحن مكلّفون بظاهر الآية ، والأخبار المذكورة أخبار ظنيّة.
والمطلب الآخر هو أنّ جماعة كثيرة تعتقد بأنّ الآية مورد البحث قد حرّمت كلّ زواج جديد على النّبي صلىاللهعليهوآله إلّا أنّ هذا الحكم قد نسخ فيما بعد ، واذن له بالزواج ، وإن كان النّبي صلىاللهعليهوآله لم يتزوّج بعد ذلك. حتّى الآية (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ) .. والتي نزلت قبل الآية مورد البحث ، فإنّهم يعتبرونها ناسخة لهذه الآية. ويعتقدون بأنّ هذه الآية وإن كانت قد كتبت في القرآن بعد آية (إِنَّا أَحْلَلْنا ..) إلّا أنّ الأخيرة قد نزلت قبلها! بل وينقل «الفاضل المقداد» في كنز العرفان بأنّ هذه هي الفتوى المشهورة بين الأصحاب (١).
وهذا الرأي يتعارض مع الروايات أعلاه بوضوح ، وكذلك لا ينسجم مع ظاهر الآيات أيضا ، لأنّ ظاهر الآيات يوحي بأنّ آية (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ) قد نزلت قبل الآية مورد البحث ، ومسألة النسخ تحتاج إلى دليل قطعي.
وعلى كلّ حال ، فليس لدينا شيء أكثر اطمئنانا ووضوحا من ظاهر الآية نفسها ، وطبقا لذلك فإنّ كلّ زواج جديد ، أو تبديل زوجات قد حرّم على النّبي صلىاللهعليهوآله بعد نزول هذه الآية ، وكان لهذا الحكم مصالح ومنافع هامّة أشرنا إليها فيما سبق.
٣ ـ هل يمكن النظر إلى زوجة المستقبل قبل الزواج؟
اعتبر جمع من المفسّرين جملة (وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَ) دليلا على حكم معروف أشير إليه في الروايات الإسلامية أيضا ، وهو : أنّ من أراد من أن يتزوّج
__________________
(١) كنز العرفان ، المجلّد ٢ ، صفحة ٢٤٤.
بامرأة يستطيع النظر إليها من قبل نظرة تبيّن له هيكلها وأوصافها.
وحكمة هذا الحكم أن يختار الإنسان زوجته عن بصيرة تامّة ولا يندم ويأسف في المستقبل وهو ما يهدّد العلاقة الزوجية والكيان العائلي بالخطر ، كما ورد ذلك في حديث عن النّبي الأكرم صلىاللهعليهوآله أنّه قال لأحد أصحابه حينما أراد أن يتزوّج : «انظر إليها ، فإنّه أجدر أن يدوم بينكما» (١).
ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق عليهالسلام أنّه قال في جواب هذا السؤال : هل يستطيع الرجل أن يدقّق النظر إلى المرأة إذا أراد الزواج منها وينظر إلى وجهها وخلفها : «نعم ، لا بأس أن ينظر الرجل إلى المرأة إذا أراد أن يتزوّجها ، ينظر إلى وجهها وخلفها» (٢).
والأحاديث الواردة في هذا الباب كثيرة ، وقد صرّح بعضها بأنّ هذه النظرة يجب أن لا تكون بدافع الشهوة وطلب اللذّة.
وواضح أيضا أنّ هذا الحكم خاصّ بالموارد التي يريد فيها الإنسان أن يتحقّق فعلا من المرأة التي يريد الزواج منها ، بحيث لو كانت الشروط مجتمعة فيها لتزوّجها ، أمّا الذي لم يصمّم على الزواج بعد ، بل يحتمله ، أو أنّه يريد مجرّد البحث ، فلا يجوز له النظر إلى النساء.
واحتمل البعض في هذه الآية أنّها إشارة إلى النظر للنساء صدفة ولا إراديا ، وعلى هذا فإنّ الآية لا تدلّ في هذه الحالة على الحكم المذكور آنفا ، وستكون الروايات هي الدليل الوحيد عليه. إلّا أنّ جملة : (وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَ) لا تنسجم مع نظرة الصدفة السريعة ، وبناء على هذا فإنّ دلالتها على الحكم المذكور تبدو بعيدة.
* * *
__________________
(١) تفسير القرطبي ، المجلّد ٨ ، صفحة ٥٣٠٣.
(٢) وسائل الشيعة ، المجلّد ١٤ ، الباب ٣٦ من أبواب مقدّمات النكاح الحديث ٣.
الآيتان
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً (٥٣) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤))
سبب النّزول
ذكر المفسّرون في سبب نزول هذه الآية : أنّ النّبي صلىاللهعليهوآله لمّا تزوّج «زينب بنت جحش» أولم للناس وليمة فخمة تقريبا. وقلنا سابقا : إنّ هذه الأحكام ربّما كانت من أجل تحطيم سنّة جاهلية في مجال تحريم مطلّقات الأدعياء بحزم تامّ ، وليكون لهذا التحطيم شعاع أوسع ، ولتمحى هذه السنّة الجاهلية التي كانت تعتبر
الزواج بأيامى العبيد المحرّرين عيبا وعارا.
يقول «أنس» ، وكان خادما خاصّا للنبي : أمرني النّبي أن أدعو أصحابه للغداء فدعوتهم ، فكانوا يأتون جماعة يأكلون ويخرجون ، حتّى قلت : يا رسول الله ، لم يبق أحد لم أدعه ، فأمر برفع السماط ، فرفعوا السماط وتفرّق القوم ، إلّا ثلاثة نفر بقوا في بيت النّبي وكانوا مشغولين بالحديث.
فلمّا رأى النّبي صلىاللهعليهوآله حديثهم قد طال ، نهض ونهضت معه لعلّ القوم يلتفتون ويذهبون إلى أعمالهم ، فخرج النّبي حتّى أتى حجرة عائشة ، ثمّ رجع مرّة اخرى وكنت معه ، فرأيت القوم على جلستهم وحالهم ، فنزلت الآية أعلاه وأفهمتهم كيفية التعامل مع هذه المسائل (١).
ويستفاد من بعض الرّوايات أيضا أنّ الجيران وسائر الناس كانوا يأتون إلى بعض نساء النّبي ويستعيرون أشياء حسب المتعارف والمعتاد ، وبالرغم من أنّهم لم يكونوا يرتكبون معصية وذنبا طبقا لبساطة الحياة آنذاك ، إلّا أنّ الآية أعلاه نزلت لحفظ حيثيّة زوجات النّبي وأمرت المؤمنين أنّهم إن أرادوا أن يأخذوا من نساء النّبي شيئا فليأخذوه من وراء حجاب.
وجاء في رواية اخرى أنّ بعض مخالفي النّبي قالوا : كيف تزوّج النّبي بعض نسائنا ، أما والله لئن مات لنتزوجنّ نساءه ، فنزلت الآية أعلاه وحرّمت الزواج بنساء النّبي من بعده مطلقا ، وأنهت هذه المؤامرة (٢).
* * *
التّفسير
مرّة اخرى يوجّه الخطاب إلى المؤمنين ، لتبيّن الآية جانبا آخر من أحكام
__________________
(١) مجمع البيان ، المجلّد ٨ ، صفحة ٣٦٦ ذيل الآية مورد البحث.
(٢) المصدر السابق ، ص ٣٦٦ و٣٦٨.
الإسلام ضمن جمل قصيرة بليغة وصريحة ، وخاصّة ما كان مرتبطا بآداب معاشرة النّبي صلىاللهعليهوآله وبيت النبوّة ، فتقول أوّلا : لا ينبغي لكم دخول بيوت النّبي إلّا إذا دعيتم إلى طعام واذن لكم بالدخول بشرط أن تدخلوا في الوقت المقرّر ، لا أن تأتوا قبل ذلك بفترة وتجلسون في انتظار وقت الغذاء (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) (١).
بهذا تبيّن الآية أحد آداب المعاشرة المهمّة ، والتي كانت قلّما تراعى في تلك البيئة ، ومع أنّ الكلام يدور حول بيت النّبي إلّا أنّ من المسلّم أنّ هذا الحكم لا يختصّ به ، إذ ينبغي أن لا تدخل دار أي إنسان بدون إذنه (كما جاء ذلك في الآية ٢٧ من سورة النور) بل نقرأ في أحوال النّبي صلىاللهعليهوآله أنّه عند ما كان يريد دخول بيت ابنته فاطمة (سلام الله عليها) ، كان يقف خارجا ويستأذن. وكان معه «جابر بن عبد الله» يوما ، فاستأذن له بعد أن استأذن لنفسه (٢).
إضافة إلى أنّهم إذا دعوا إلى طعام فينبغي أن يكونوا عارفين بالوقت ، لئلّا يوقعوا صاحب البيت في جهد وإحراج في غير مكانه.
ثمّ تناولت الحكم الثّاني فقالت : (وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا).
وهذا الحكم مكمّل ومؤكّد للحكم السابق في الواقع ، فلا تدخلوا البيت الذي دعيتم إليه في غير زمان الدعوة ، وفي وقت غير مناسب ، ولا تهملوا إجابة الدعوة أو أن لا تعبؤوا بها ، ولا تتأخّروا بعد تناول الطعام مدّة طويلة.
من البديهي أنّ مخالفة هذه الأمور وعدم اتّباعها سيؤدّي إلى أذى واشمئزاز المضيف ، وهي لا تلائم الأصول الأخلاقية.
وتقول في الحكم الثالث : (وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) فلا تجلسوا حلقا تتحدّثون
__________________
(١) «إناه» من مادّة «أنّى يأني» أي حلول وقت الشيء ، وتعني هنا تهيئة الطعام للتناول.
(٢) الكافي ، المجلّد ٥ ، ص ٥٢٨.
بعد تناول الطعام ، سواء كان ذلك في بيت النّبي ، أم في بيت أي صاحب دعوة.
طبعا ، قد يرغب المضيفون في مثل هذه الحلقات والمجالس ، فهذه الحالة مستثناة ، إنّما الكلام في ما لو كانت الدعوة لتناول الطعام فقط ، لا لتشكيل مجالس الانس ، حيث تجب مغادرته بعد تناول الطعام ، خاصّة إذا كان البيت كبيت رسول الله صلىاللهعليهوآله ، مقرّ أداء أكبر رسالات الله وأعظمها ، فيجب أن لا يهدر وقته بأمور جانبية تعوقه مدّة عن تأدية رسالته.
ثمّ تبيّن الآية علّة هذا الحكم فتقول : (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ).
من المسلّم أنّ النّبي صلىاللهعليهوآله لم يكن يتردّد لحظة ، ولا يخشى شيئا ، أو يستحيي من شيء في بيان الحقّ في الموارد التي لم يكن لها بعد شخصي وخاصّ ، إلّا أنّ بيان الحقّ إذا كان يعود على القائل نفسه ليس بالأمر الجميل الحسن ، أمّا تبيانه من قبل الآخرين فانّه رائع ومستحسن ، ومورد الآية من هذا القبيل أيضا ، فإنّ اصول الأخلاق والأدب كانت توجب على النّبي صلىاللهعليهوآله أن لا يدافع عن نفسه ، بل يدافع الله سبحانه عنه.
ثمّ تبيّن الآية الحكم الرابع في باب الحجاب ، فتقول : (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ).
قلنا : إنّ هذا الأمر كان ولا يزال متعارفا بين العرب وكثير من الناس أنّهم إذا احتاجوا شيئا من لوازم الحياة ووسائلها فإنّهم يستعيرونها من جيرانهم مؤقتا ، ولم يكن بيت النّبي مستثنى من هذا القانون ، بل كانوا يأتون إليه سواء كان الوقت مناسبا أم غير مناسب ، ويستعيرون من نساء النّبي شيئا ، ومن الواضح أن جعل نساء النّبي عرضة لأنظار الناس ـ وإن كن يرتدين الحجاب الإسلامي ـ لم يكن بالأمر الحسن ، ولذلك صدر الأمر إلى الناس أن يأخذوا الأشياء من خلف حجاب أو من خلف الباب.
والمسألة التي ينبغي الانتباه إليها هنا هي أنّه ليس المراد من الحجاب في هذه الآية لباس النساء ، بل هو حكم يضاف إلى ما كان خاصّا بنساء النّبي ، وهو : أنّ الناس مكلّفون إذا أرادوا شيئا من نساء النّبي أن يأخذوه من وراء حجاب لظروف نساء النّبي الخاصّة ، ويجب عليهنّ أن لا يخرجن إلى الناس ويظهرن لهم في مثل هذه الموارد حتّى وإن كن محجّبات ، وهذا الحكم لم يرد طبعا في شأن النساء الاخريات ، بل يكفيهنّ أن يراعين الحجاب الإسلامي.
والشاهد على ذلك أنّ كلمة «الحجاب» ، وإن كانت تستعمل في المحادثات اليومية بمعنى حجاب المرأة ، إلّا أنّها ليس لها مثل هذا المعنى لا في كتب اللغة ، ولا في تعبيرات فقهائنا.
«الحجاب» في اللغة هو الشيء الذي يحول بين شيئين (١) ، ولذلك اطلق على الغشاء الموجود بين الأمعاء والقلب والرئة اسم «الحجاب الحاجز».
وقد استعمل القرآن الكريم هذه الكلمة بمعنى الحائل أو الساتر في عدّة مواضع ، كالآية (٤٥) من سورة الإسراء حيث تقول : (جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً).
ونقرأ في الآية (٣٢) من سورة ص : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ).
وجاء في الآية (٥١) من سورة الشورى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ).
أمّا في كلمات الفقهاء فقد استعملت كلمة «الستر» فيما يتعلّق بلباس النساء منذ قديم الأيّام وإلى يومنا هذا ، وورد أيضا في الرّوايات الإسلامية هذا التعبير أو ما يشبهه ، واستعمال كلمة «الحجاب» في شأن لباس المرأة اصطلاح ظهر في عصرنا على الأكثر ، وإذا وجد في التواريخ والرّوايات فقليل جدّا.
__________________
(١) لسان العرب مادّة حجب.
والشاهد الآخر هو ما نقرؤه في الحديث المروي عن «أنس بن مالك» خادم النّبي الخاص ، حيث يقول : أنا أعلم الناس بهذه الآية ـ آية الحجاب ـ لمّا أهديت زينب إلى رّسول الله كانت معه في البيت ـ صنع طعاما ، ودعا القوم فقعدوا يتحدّثون ، فجعل النّبي يخرج ثمّ يرجع وهم قعود يتحدّثون ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِ) ـ إلى قوله ـ (مِنْ وَراءِ حِجابٍ) فضرب الحجاب وقام القوم (١).
وفي رواية اخرى عن «أنس» أنّه قال : أرخى الستر بيني وبينه ، فلمّا رأى القوم ذلك تفرّقوا (٢).
بناء على هذا فإنّ الإسلام لم يأمر النساء المسلمات بأن يجلسن خلف الستور ، ولا يبرحن دورهن ، وليس لكلمة «المستورات» أو «المحجّبات» وأمثال ذلك من التعبيرات صفة إسلامية أو بعد إسلامي بالنسبة للنساء ، بل إنّ ما يلزم المرأة المسلمة هو محافظتها على الحجاب الإسلامي ، إلّا أنّ نساء النّبي قد أمرن بهذا الأمر الخاص بسبب وجود أعداء كثيرين ، ومتتبعين للعيوب والمغرضين ، وكان من الممكن أن يصبحن عرضة للتهم ، وحربة تقع بيد الانتهازيين.
وبتعبير آخر : إنّ الناس قد أمروا أن يسألوا نساء النّبي ما يبتغونه من وراء حجاب. خاصّة وأنّ التعبير بـ «وراء» يشهد لهذا المعنى.
ولذلك بيّن القرآن فلسفة هذا الحكم فقال : (ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَ).
وبالرغم من أنّ مثل هذا التعليل لا ينافي الحكم الاستحبابي ، إلّا أنّ ظهور الأمر في جملة (فَسْئَلُوهُنَ) لا يتزلزل في دلالته على الوجوب ، لأنّ مثل هذا التعليل قد ورد أحيانا في موارد أحكام واجبة اخرى.
ثمّ تبيّن الآية الحكم الخامس بأنّه (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) فبالرغم
__________________
(١) صحيح البخاري ، ج ٦ ، ص ١٤٩.
(٢) المصدر السابق.
من أنّ هذا العمل قد ذكر في نفس الآية ، وهو الذهاب إلى بيت النّبي صلىاللهعليهوآله في وقت غير مناسب ، والجلوس بعد تناول الطعام ، فقد ورد في روايات سبب النّزول أنّ بعض المنافقين كانوا قد أقسموا على أن يتزوّجوا نساء النّبي من بعده ، وقد آلم ذلك رسول الله صلىاللهعليهوآله. ولكن معنى الآية عام على كلّ حال ، فهو يشمل كلّ نوع من الأذى.
وأخيرا تبيّن الآية الحكم السادس والأخير في مجال حرمة الزواج بنساء النّبي من بعده ، فقالت : (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً).
وهنا يأتي سؤال ، وهو : كيف حرّم الله نساء النّبي من اتّخاذ زوج لهنّ بعد وفاة النّبي صلىاللهعليهوآله ، وقد كان بعضهنّ شابات تقريبا؟
وجواب هذا السؤال يتّضح بملاحظة الغاية من هذا التحريم ، وذلك لأنّه :
أوّلا : كما علمنا من سبب النّزول ، فإنّ البعض صمّم على هذا العمل كانتقام من النّبي صلىاللهعليهوآله وإهانة لقدسيته ، وكانوا يريدون أن ينزلوا ضربة بكيانه صلىاللهعليهوآله عن هذا الطريق.
ثانيا : لو كانت هذه المسألة جائزة ، فإنّ جماعة كانوا سيتّخذون زوجان النّبي أزواجا لهم من بعده ، وكان من الممكن أن يستغلّوا هذا الزواج لتحقيق مآربهم والوصول إلى مكانة اجتماعية مرموقة. أو أنّهم يبدؤون بتحريف الإسلام على أساس أنّهم يمتلكون معلومات خاصّة صادرة من داخل بيت النّبي صلىاللهعليهوآله ، وأهل البيت أدرى بالذي فيه ، أو أن يبثّ المنافقون بين الناس مطالب عن هذا الطريق تخالف مقام النبوّة ـ تأمّلوا ذلك ـ.
ونلمس ذلك بصورة أوضح عند ما نعلم أنّ جماعة هيؤوا أنفسهم للقيام بهذا العمل ، وصرّح بذلك بعضهم ، وكتمه البعض الآخر في قلبه. وكان من جملة من
ذكره بعض مفسّري العامّة هنا هو «طلحة» (١).
إنّ الله المطّلع على الأسرار الخفيّة والمعلنة ، والخبير بها ، قد أصدر حكما قاطعا لإحباط هذه الخطّة الخبيثة ، وليمنع من وقوع هذه الأمور ، ولتحكيم دعائم هذا الحكم فقد أطلق لقب (امّهات المؤمنين) على أزواج النّبي ليعلم أولئك بأنّ الزواج منهنّ كالزواج من امّهاتهم! وبملاحظة ما قيل يتّضح لماذا وجب على نساء النّبي أن يتقبّلن هذا الحرمان بكلّ رحابة صدر؟
قد تطرح أحيانا مسائل مهمّة على مدى حياة الإنسان ، يجب أن يظهر تجاهها التضحية والإيثار ، وأن يغضّ النظر عن بعض الحقوق التي ثبتت له ، خاصّة وأنّ الافتخارات العظيمة تصاحبها مسئوليات خطيرة ، ولا شكّ أنّ أزواج النّبي قد اكتسبن فخرا لا يضاهي وعزّا لا يسامى بزواجهنّ من النّبي صلىاللهعليهوآله ، واكتساب هذا الفخر يحتاج إلى مثل هذه التضحية.
لهذا السبب كانت نساء النّبي يعشن من بعده بكلّ احترام وتقدير بين الامّة الإسلامية ، وكن راضيات جدّا عن حالهنّ ، ويعتبرن ذلك الحرمان مقابل هذه الافتخارات أمرا تافها.
وحذّرت الآية الثّانية الناس بشدّة ، فقالت : (إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) فلا تظنّوا أنّ الله سبحانه لا يعلم ما خططتم له في سبيل إيذاء النّبي صلىاللهعليهوآله سواء ما ذكر تموه ، أو الذي أضمر تموه ، فإنّه تعالى يعلم كلّ ذلك جيدا ، ويعامل كلّ إنسان بما يناسب عمله.
* * *
__________________
(١) تفسير القرطبي ، المجلّد ٨ ، صفحة ٥٣١٠.
بحوث
مناسبة للبحث الذي ورد في الآيات المذكورة في شأن واجبات المسلمين عند ما يدعون إلى ضيافة النّبي صلىاللهعليهوآله ، نورد جانبا من تعليمات الإسلام فيما يتعلّق بأصل مسألة «الضيافة» ، وحقّ الضيف ، وواجبات المضيف :
١ ـ الضيافة :
لقد أولى الإسلام مسألة الضيافة أهميّة خاصّة ، حتّى أنّه ورد في حديث عن النّبي صلىاللهعليهوآله : «الضيف دليل الجنّة» (١).
إنّ أهميّة الضيف ووجوب احترامه وتقديره ، بلغ حدّا اعتبر فيه هدية سماوية ، فإنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : «إذا أراد الله بقوم خيرا أهدى إليهم هدية ، قالوا : وما تلك الهدية؟ قال : الضيف ينزل برزقه ، ويرتحل بذنوب أهل البيت» (٢).
والطريف أنّ رجلا حضر عند النّبي صلىاللهعليهوآله فقال : فداك أبي وامّي ، إنّي أسبغ الوضوء ، وأقيم الصلاة ، وأؤتي الزكاة في حينها ، وارحّب بالضيف واقريه في الله ، فقال صلىاللهعليهوآله : «بخ بخ بخ! ما لجهنّم عليك سبيل! إنّ الله قد برأك من الشحّ إن كنت كذلك».
الكلام في هذا الباب كثير ، ونكتفي بهذا القدر رعاية للاختصار.
٢ ـ مراعاة البساطة في الضيافة :
مع كلّ الأهمية التي يتمتّع بها الضيف ، فإنّ الضيافة إذا اتّسمت بالتكلّف فإنّها غير راجحة من وجهة نظر الإسلام ، بل ونهى عنها ، فإنّ الإسلام يوصي بأن تكون الضيافة بسيطة ، وجعل معيارا عادلا بين الضيف والمضيف ، وهو : أن لا يبخل
__________________
(١) بحار الأنوار ، المجلّد ٧٥ ، صفحة ٤٦٠ باب ٩٣ حديث ١٤.
(٢) المصدر السابق.
المضيف بما عنده ويحضره ، وأن لا يتوقّع الضيف أكثر من ذلك!
يقول الإمام الصادق عليهالسلام : «المؤمن لا يحتشم من أخيه ، وما أدري أيّهما أعجب؟! الذي يكلّف أخاه إذا دخل عليه أن يتكلّف له ، أو المتكلّف لأخيه؟» (١).
ويروي سلمان الفارسي عن النّبي الأكرم صلىاللهعليهوآله أنّه قال : «أن لا نتكلّف للضيف ما ليس عندنا ، وأن نقدّم إليه ما حضرنا» (٢).
٣ ـ حقّ الضيف :
قلنا : إنّ الضيف كالهدية السماوية من وجهة نظر الإسلام ، ويجب أن يرحّب به ويكرم غاية الإكرام ، ويحترم أقصى ما يمكن ، حتّى أنّ أمير المؤمنين عليا عليهالسلاميروي عن النّبي الأكرم صلىاللهعليهوآله أنّه قال : «من حقّ الضيف أن تمشي معه فتخرجه من حريمك إلى البر» (٣).
ويجب تهيئة مستلزمات راحته إلى الحدّ الذي لا يبلغ التكلّف ، حتّى أنّه ورد في حديث أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : «إنّ من حقّ الضيف أن يعد له الخلال» (٤).
وقد يكون الضيوف خجولين أحيانا ، ولذلك فقد صدر أمر بعدم سؤالهم عمّا إذا كانوا قد تناولوا الطعام أم لا ، بل يمدّ لهم السماط فإن شاءوا وأكلوا ، كمايقول الإمام الصادق عليهالسلام : «لا تقل لأخيك إذا دخل عليك أكلت اليوم شيئا؟ ولكن قرّب إليه ما عندك ، فإنّ الجواد كلّ الجواد من بذل ما عنده» (٥).
ومن جملة واجبات المضيف أمام الله سبحانه أن لا يحقّر الطعام الذي أعدّه ، لأنّ نعمة الله سبحانه عزيزة ومحترمة مهما كانت ، إلّا أنّ المتعارف بين المترفين
__________________
(١) بحار الأنوار ، المجلّد ٧٥ ، صفحة ٤٥٣.
(٢) المحجّة البيضاء ، المجلّد ٣ ، صفحة ٢٩ الباب الثالث.
(٣) بحار الأنوار ، المجلّد ٧٥ ، صفحة ٤٥١.
(٤) بحار الأنوار ، المجلّد ٧٥ ، صفحة ٤٥٥.
(٥) المصدر السابق.
وأهل التكلّف أنّهم مهما نوّعوا السماط وملؤوه بأنواع الأطعمة فإنّهم يقولون : هذا شيء بسيط لا يليق بمقامكم!
وفي المقابل يجب أن لا يحتقر الضيف ما قدّم إليه ، ففي حديث عن الإمام الصادق عليهالسلام أنّه قال : «هلك امرؤ احتقر لأخيه ما يحضره ، وهلك امرؤ احتقر من أخيه ما قدّم إليه» (١).
إنّ الإسلام دقيق النظرة في إكرام الضيف ، فهو يقول : استقبل الضيف وأعنه عند ما يدخل إلى بيتك ، أمّا إذا أراد الخروج فلا تعنه لئلّا يتصوّر بأنّك راغب في خروجه (٢).
٤ ـ واجبات الضيف :
إنّ المسؤوليات تكون متقابلة دائما ، فكما أنّ على المضيف واجبات تجاه الضيف ، فكذلك توجد على الضيف واجبات ينبغي أن يراعيها.
فعلاوة على ما ذكر في الأحاديث السابقة ، فإنّ على الضيف أن ينفّذ ما يطلبه منه صاحب البيت ويقترحه عليه في شأن منزله ، فإذا طلب منه أن يجلس في مكان ما مثلا فليفعل ، فإنّ الإمام الصادق عليهالسلام يقول : «إذا دخل أحدكم على أخيه في رحله فليقعد حيث يأمر صاحب الرحل ، فإنّ صاحب الرحل أعرف بعورة بيته من الداخل عليه» (٣).
وملخّص الكلام أنّ مسألة الضيافة وآدابها قد خصّص لها بحث واسع في آداب المعاشرة الإسلامية ، وليراجع لمزيد الإيضاح في هذا الباب «بحار الأنوار» ، الأبواب ٨٨ ـ ٩٤ من أبواب العشرة ، المجلّد ١٧ و «المحجّة البيضاء» ، المجلّد ٣
__________________
(١) المحجّة البيضاء ، المجلّد ٣ ، صفحة ٣٠.
(٢) بحار الأنوار ، المجلّد ٧٥ ، صفحة ٤٥٥ حديث ٢٧.
(٣) بحار الأنوار ، المجلّد ٧٥ ، صفحة ٤٥١.
الباب الرابع فضيلة الضيافة.
إلّا أنّ هذه السنّة الإنسانية القديمة قد تقلّصت وللأسف الشديد في عصرنا الحاضر .. عصر غلبة المادية وطغيانها في العالم ، وهيمنتها عليه ، بل إنّها قد اجتّثت تقريبا في بعض المجتمعات الغربية ، وقد سمعنا أنّ بعض أولئك عند ما يأتون إلى البلاد الإسلامية ويرون انتشار مسألة الضيافة التي لا زالت قائمة في البيوتات الأصيلة ، ومدى العواطف التي تكتنفها ، فإنّهم يتعجّبون كيف يمكن أن يقدّم الناس أفضل الوسائل الموجودة في البيت ، وأنفس الأطعمة وألذّها للضيوف الذين ربّما تربطهم بهم رابطة ضعيفة أحيانا ، وربّما كانوا قد تعارفوا في سفرة قصيرة؟!
إلّا أنّ ملاحظة الأحاديث الإسلامية ـ التي ورد قسم منها قبل قليل ـ تبيّن سبب هذه التضحية والإيثار ، وتوضّح الحسابات المعنوية في هذا المجال .. تلك الحسابات التي لا تعني شيئا لدى عبّاد المادّة والغارقين في بحرها.
* * *
الآية
(لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٥٥))
سبب النّزول
يروي بعض المفسّرين أنّ آباء نساء النّبي وأبناءهنّ وعوائلهنّ سألوا رسول الله صلىاللهعليهوآله بعد نزول آية الحجاب ـ الآية السابقة ـ : يا رسول الله ، ونحن أيضا نحدّثهنّ من وراء حجاب؟ فنزلت هذه الآية بأنّها لا تشملكم.
التّفسير
الموارد المستثناة من قانون الحجاب :
لمّا كان الحكم الذي ورد في الآية السابقة حول حجاب نساء النّبي مطلقا ، ويمكن أن يوهم هذا الإطلاق بأنّ المحارم مكلّفون بتنفيذه أيضا ، وأن يحدّثوهنّ من وراء حجاب كالأجانب ، فقد نزلت هذه الآية وفصلت حكم هذه المسألة.
تقول الآية : (لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ
إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ). وبتعبير آخر : فإنّ محارمهنّ الذين استثنوا في الآية هم هؤلاء الستّة فقط ، وإذا قيل : إنّ هناك أفرادا من المحارم أيضا لم يجر لهم ذكر في الآية كالأعمام والأخوال ، فيجاب على هذا السؤال بأنّه :
لمّا كان القرآن يراعي الفصاحة والبلاغة في أجلى صورها وأسماها ، وأحد اصول الفصاحة هو أن لا تكون في الكلام أي كلمة زائدة ، فقد امتنع عن ذكر الأعمام والأخوال هنا ، وذلك لأنّه حينما ذكر أولاد الأخ وأولاد الاخت ، فسوف يتّضح حكم الأعمام والأخوال من المحارم ، لأنّ لهذه المحرمية جانبان ، فكما أنّ ابن الأخ محرم بالنسبة إلى المرأة ، فإنّها ستكون محرما أيضا بالنسبة إلى ابن أخيها ـ ونحن نعلم أنّ مثل هذه المرأة تعتبر «عمّة» ـ ولأنّ ابن الاخت كما هو محرم عليها فإنّها ستكون محرما بالنسبة إلى ابن الاخت ، ونعلم أنّ مثل هذه المرأة هي «الخالة».
وعند ما تكون العمّة والخالة محرما بالنسبة إلى ابن الأخ وابن الاخت ، فإنّ العمّ والخال سيكونان أيضا محرما بالنسبة إلى ابنة الأخ وابنة الاخت ، حيث لا فرق بين العمّ والعمّة ، والخال والخالة ، وهذه إحدى دقائق القرآن الكريم. (تدبّر ذلك).
وهنا يطرح سؤال آخر ، وهو : إنّ أبا الزوج وابن الزوج بعض محارم المرأة ، فلما ذا لم يذكرا هنا؟ في حين أنّهما ذكرا من جملة المحارم في الآية (٣١) من سورة النور.
والإجابة عن هذا السؤال واضحة ، لأنّ الكلام في هذه الآية منحصر في حكم نساء النّبي صلىاللهعليهوآله ، ونحن نعلم أنّ أبا النّبي صلىاللهعليهوآله لم يكن موجودا حال حياته ، ولا امّه ، ولم يكن له ابن (١). «فتأمّل».
__________________
(١) ذكر المؤرخّون ثلاثة أولاد للنبي صلىاللهعليهوآله : القاسم وعبد الله (الملقّب بالطيّب والطاهر) ، وكانا من خديجة ، وقد ودّعا
إنّ عدم ذكر الإخوة والأخوات من الرضاعة ، وأمثالهم بسبب أنّ هؤلاء في حكم الأخ والاخت وسائر المحارم ، ولا يحتاجون إلى ذكر مستقل.
ويتغيّر أسلوب الآية في نهايتها من الغائب إلى المخاطب ، فتخاطب نساء النّبي وتقول: (وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) فإنّ الحجاب والستر وأمثالهما وسائل للحفظ والإبعاد عن الذنب والمعصية ليس إلّا ، والدعامة الأساسية هي التقوى فحسب ، ولولاها فسوف لا تنفع كلّ هذه الوسائل.
والجدير بالذكر أنّ (نِسائِهِنَ) إشارة إلى النساء المسلمات ، وذلك لأنّ من غير اللائق بالنساء المسلمات ـ وكما قلنا في تفسير سورة النور ـ أن يكنّ بدون حجاب أمام غير المسلمات ، إذ أنّ من الممكن أن تصفهنّ غير المسلمات لأزواجهنّ (١).
وأمّا جملة : (وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) فلها معنى واسع ـ كما قلنا ذلك في تفسير سورة النور أيضا ـ يشمل الجواري والغلمان ، إلّا أنّها تختّص بالجواري طبقا لبعض الرّوايات الإسلامية ، وبناء على هذا فإن ذكرهنّ بعد ذكر «النساء» قد يكون من جهة شمولها للجواري غير المسلمات عموما. (دقّقوا ذلك).
* * *
__________________
الحياة في طفولتهما ، وإبراهيم الذي ولد في السنة الثامنة للهجرة ، ولم يعش أكثر من ١٨ أو ١٦ شهرا ولم يكن أي منهم حيّا عند نزول سورة الأحزاب ، وإبراهيم ولد بعد ذلك ومات في طفولته. يراجع : اسد الغابة ، وسائر كتب التأريخ والرجال.
(١) يراجع التّفسير الأمثل ذيل الآية (٣١) من سورة النور.
الآيات
(إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨))
التّفسير (١)
الصلاة على النّبي والسلام عليه :
بعد البحوث التي مرّت في الآيات السابقة حول وجوب حفظ حرمة النّبي صلىاللهعليهوآله وعدم إيذائه ، فإنّ هذه الآيات تتحدّث أوّلا عن محبّة الله وملائكته للنّبي صلىاللهعليهوآله وتعظيمهم له ، وبعد ذلك تأمر المؤمنين بذلك ، ثمّ تذكر العواقب المشؤومة الأليمة لأولئك الذين يؤذون النّبي صلىاللهعليهوآله ثمّ تبيّن أخيرا عظم ذنب الذين يؤذون المؤمنين باتّهامهم والافتراء عليهم.
__________________
(١) الطريف أنّ البدء بهذه الآيات صادف ليلة ميلاد النّبي صلىاللهعليهوآله في شهر ربيع الأوّل سنة الف وأربعمائة وأربع للهجرة.