إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٩

محيي الدين الدرويش

إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٩

المؤلف:

محيي الدين الدرويش


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٨١

إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦))

اللغة :

(الأحقاف) قال في القاموس : «الحقف بالكسر المعوج من الرمل والجمع أحقاف وحقاف وحقوف وجمع الجمع حقائف وحقفة أو الرمل العظيم المستدير أو المستطيل المشف أو هي رمال مستطيلة بناحية الشحر» وقال شارحه في التاج : «وبه فسر قوله تعالى «واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف» قال الجوهري : وهي ديار عاد وقال ابن عرفة قوم عاد كانت منازلهم بالرمال وهي الأحقاف وفي المعجم : وروي عن ابن عباس أنها واد بين عمان وأرض مهرة وقال ابن إسحق : الأحقاف رمل فيما بين عمان إلى حضرموت وقال قتادة : الأحقاف رمال مشرفة على

١٨١

هجر بالشحر من أرض اليمن ، قال ياقوت : فهذه ثلاثة أقوال غير مختلفة في المعنى» وفي القاموس أيضا : «الشجر كالمنع فتح الفم وساحل البحر بين عمان وعدن ويكسر» وقال أبو حيان : «الحقف رمل مستطيل مرتفع فيه اعوجاج وانحناء ومنه احقوقف الشيء اعوج قال امرؤ القيس :

فلما أجزنا ساحة الحيّ وانتحى

بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل

قال شارحه الزوزني : «والحقف رمل مشرف معوج والجمع أحقاف وحقاف» وعبارة الكشاف : «الأحقاف جمع حقف وهو رمل مستطيل مرتفع فيه انحناء من احقوقف الشيء إذا اعوجّ وكانت عاد أصحاب عمد يسكنون بين رمال مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشحر من بلاد اليمن وقيل بين عمان ومهرة» وقال ابن زيد : «هي رمال مشرفة على البحر مستطيلة كهيئة الجبال ولم تبلغ أن تكون جبالا» وقال مقاتل : كانت منازل عاد باليمن في حضرموت بموضع يقال له مهرة وإليه تنسب الإبل المهرية وقال أبو الطيب في هجاء كافور :

ويلمّها خطة ويلم قابلها

لمثلها خلق المهرية القود

قال أبو البقاء في شرحه للديوان : المهرية : منسوبة إلى مهرة بن حيدان بطن من قضاعة.

(عارِضاً) العارض : السحاب الذي يعرض في أفق السماء ، وقال أبو حيان : والعارض : المعترض في الجو من السحاب الممطر ومنه قول الشاعر :

يا من رأى عارضا أرقت له

بين ذراعي وجبهة الأسد

وقال الأعشى :

١٨٢

يا من رأى عارضا قد بتّ أرمقه

كأنه البرق في حافاته الشعل

الإعراب :

(أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) أولئك مبتدأ والذين خبره وجملة حق عليهم القول لا محل لها لأنها صلة الموصول وفي أمم حال من المجرور بعلى وجملة قد خلت صفة لأمم ومن قبلهم متعلقان بخلت ومن الجن صفة ثانية لأمم (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) إن واسمها وجملة كانوا خبرها وخاسرين خبر كانوا والجملة لا محل لها لأنها تعليلية (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) الواو استئنافية ولكل خبر مقدم ودرجات مبتدأ مؤخر ومما صفة لدرجات وجملة عملوا صلة ، وليوفّيهم :الواو عاطفة واللام للتعليل ويوفّيهم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بالمعلل المحذوف كأنه قيل وجازاهم بذلك ليوفّيهم والهاء مفعول به أول وأعمالهم مفعول به ثان والواو للحال وهم مبتدأ وجملة لا يظلمون خبره والجملة نصب على الحال المؤكدة (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها) الواو استئنافية ويوم ظرف زمان متعلق بمحذوف تقديره يقال لهم أذهبتم في يوم عرضهم وجملة يعرض في محل جر بإضافة الظرف إليها ويعرض فعل مضارع مبني للمجهول والذين نائب فاعل وجملة كفروا صلة الموصول وعلى النار متعلقان بيعرض وأذهبتم فعل وفاعل وطيباتكم مفعول به وفي حياتكم متعلقان بأذهبتم والدنيا نعت للحياة ، وسيرد المزيد من بحث هذه الآية في باب البلاغة (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) الفاء الفصيحة واليوم ظرف زمان متعلق بتجزون وتجزون فعل

١٨٣

مضارع مرفوع مبني للمجهول وعذاب الهون مفعول به ثان وبما متعلقان بتجزون وما موصولة ويجوز أن تكون مصدرية وجملة كنتم لا محل لها وجملة تستكبرون خبر كنتم وفي الأرض متعلقان بتستكبرون وبغير الحق حال (وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) عطف على ما تقدم ويجوز أن تجعل ما مصدرية أو موصولة والمصدرية أولى (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق للأمر بذكر قصة عاد لهؤلاء المشركين للاعتبار بها ، واذكر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وأخا عاد مفعول به وإذ ظرف لما مضى وهو بدل اشتمال من أخا عاد لأن أخا عاد وهو هود يلابس وقت إنذاره وما وقع له معهم وجملة أنذر قومه في محل جر بإضافة الظرف إليها وبالأحقاف حال من أخا عاد وليس متعلقا بأنذر كما يبدو لأول وهلة أي حالة كونهم كائنين بالأحقاف وأما صلة أنذر فستأتي فيما بعد (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) الواو اعتراضية والجملة معترضة وقد حرف تحقيق وخلت النذر فعل وفاعل ومن بين يديه حال ومن خلفه عطف على من بين يديه وأن مصدرية أو مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وجملة لا تعبدوا خبرها وهي على كل حال مع مدخولها في محل نصب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بأنذر ولا ناهية وتعبدوا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وإلا أداة حصر ولفظ الجلالة مفعول تعبدوا (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) إن واسمها وجملة أخاف خبرها وعليكم متعلقان بأخاف وعذاب يوم مفعول به وعظيم نعت ليوم والجملة لا محل لها لأنها تعليل للنهي (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا) قالوا فعل وفاعل والهمزة للاستفهام الإنكاري وجئتنا فعل وفاعل ومفعول به واللام للتعليل وتأفكنا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام وعن آلهتنا متعلقان بتأفكنا (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) الفاء الفصيحة وائت فعل أمر مبني على حذف حرف العلة والفاعل مستتر تقديره أنت ونا

١٨٤

مفعول به وبما متعلقان بائت وجملة تعدنا صلة وإن شرطية وكنت فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط وكنت كان واسمها ومن الصادقين خبرها وجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله أي فائتنا بما تعدنا (قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) قال فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو أي هود وإنما كافة ومكفوفة والعلم مبتدأ وعند الله ظرف متعلق بمحذوف خبر والجملة مقول القول (وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) الواو عاطفة أي وأما أنا فإنما مهمتي التبليغ لا الإتيان بالعذاب إذ لست قادرا عليه وإنما القادر عليه هو الله تعالى ، وأبلغكم فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به وما مفعول به وجملة أرسلت صلة وأرسلت فعل ماض مبني للمجهول وبه متعلقان بأرسلت والواو عاطفة ولكن واسمها وجملة أراكم خبرها وقوما مفعول به ثان وجملة تجهلون صفة لقوما (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) الفاء عاطفة على مقدر محذوف تقديره فأصروا على إلحاحهم وطلبهم العذاب فجاءهم فلما رأوه ، ولما ظرفية حينية أو رابطة ورأوه فعل ماض وفاعل ومفعول به وعارضا حال لأن الرؤية بصرية وقيل تمييز ومستقبل أوديتهم نعت وجاز لأن الإضافة غير محضة فلم تفد التعريف فساغ وقوعها نعتا للنكرة أي متوجها وسائرا إليها وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب لما المتضمنة معنى الشرط على كل حال وهذا مبتدأ وعارض خبره وممطرنا نعت لعارض وساغ النعت لما تقدم أي ممطر إيانا. وقال المبرد والزجّاج : الضمير في رأوه يعود إلى غير مذكور وبيّنه قوله : عارضا فالضمير يعود إلى السحاب أي فلما رأوا السحاب عارضا (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) بل حرف عطف وإضراب قال ذلك هود وهو مبتدأ وما خبر وجملة استعجلتم صلة وبه صلة وريح بدل من ما أو خبر لمبتدأ محذوف أي هي ريح وفيها خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وأليم نعت وجملة فيها

١٨٥

عذاب أليم نعت لريح وقيل هو من كلام قول الله تعالى والأول أنسب وأقعد بالفصاحة (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها) الجملة نعت ثان لريح وتدمر فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هي وكل شيء مفعول به وبأمر متعلقان بندمر وربها مضاف إليه (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) الفاء الفصيحة أي قال هود ذلك ثم أدركتهم الريح فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم وإذا كان القول من الله تعالى كانت الفاء لمجرد العطف (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) كذلك نعت لمصدر محذوف ونجزي فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن والقوم مفعول به والمجرمين نعت للقوم (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) الواو واو القسم واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق ومكناهم فعل وفاعل ومفعول به وفيما متعلقان بمكناهم وما اسم موصول بمعنى الذي أو موصوفة وفي إن ثلاثة أوجه الأول شرطية وجوابها محذوف والجملة الشرطية صلة ما والتقدير في الذي إن مكنّاكم فيه طغيتم ، والثاني أنها مزيدة تشبيها للموصولة بما النافية والتوقيتية ، والثالث وهو الأرجح أنها نافية بمعنى ما أي مكناهم في الذي ما مكناكم من القوة والبسطة واتساع الرزق وإنما عدل عن لفظ ما النافية إلى أن تفاديا من اجتماع متماثلين لفظا وسيأتي مزيد بسط لهذا البحث في باب الفوائد ومكناكم فعل وفاعل ومفعول به وفيه متعلقان بمكناكم (وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ) وجعلنا فعل وفاعل ولهم متعلقان بجعلنا لأنها بمعنى خلقنا وسمعا مفعول به وأبصارا وأفئدة عطف على سمعا والفاء حرف عطف وما نافية وأغنى فعل ماض وعنهم متعلقان بأغنى وسمعهم فاعل ولا أبصارهم ولا أفئدتهم عطف على سمعهم ومن حرف جر زائد وشيء مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول مطلق أي شيئا من الإغناء (إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) إذ ظرف ماض يفيد التعليل متعلق بمعنى

١٨٦

النفي لأن المعلل هو النفي أي انتفى نفع هذه الحواس عنهم لأنهم كانوا يجحدون وإلى ذلك أشار صاحب الكشاف قال : «فإن قلت بم ينتصب إذ كانوا يجحدون؟ قلت بقوله تعالى فما أغنى فإن قلت لم جرى مجرى التعليل؟ قلت لاستواء مؤدى التعليل والظرف في قولك ضربته لإساءته وضربته إذا أساء لأنك إذا ضربته في وقت إساءته فإنما ضربته لوجود إساءته فيه إلا أن «إذ وحيث» غلبتا دون سائر الظروف في ذلك» حيث كاد يلحق بمعانيهما الوضعية ، وجملة كانوا في محل جر بإضافة الظرف إليها وكان واسمها وجملة يجحدون خبرها وبآيات الله متعلقان بيجحدون ، وحاق بهم الواو عاطفة وحاق فعل ماض مبني على الفتح وبهم متعلقان بحاق وما فاعل حاق وجملة كانوا صلة الموصول وكان واسمها وجملة يستهزئون خبر وبه متعلقان بيستهزئون.

البلاغة :

في قوله تعالى «ويوم يعرض الذين كفروا على النار» إلى آخر الآية فن القلب وقد تقدم القول فيه على رأي بعضهم وأن الأصل تعرض النار عليهم ، فعلى هذا القول يقال لهم قبل دخولها أي لدى معاينتها ، وممّن ذهب إلى هذا الرأي الزمخشري والجلال ونص عبارة الزمخشري : «وعرضهم على النار تعذيبهم بها من قولهم عرض ببنو فلان على السيف إذا قتلوا به ومنه قوله تعالى : النار يعرضون عليها ويجوز أن يراد عرض النار عليهم من قولهم عرضت الناقة على الحوض يريدون عرض الحوض عليها فقلبوا ويدل عليها تفسير ابن عباس رضي الله عنه ، يجاء بهم إليها فيكشف لهم عنها» وقيل في الرد على الزمخشري أنه لا ملجئ للقلب باعتبار أنه جماد لا إدراك له والناقة هي المدركة فهي التي يعرض عليها الحوض وأما النار فقد وردت النصوص

١٨٧

بأنها حينئذ مدركة إدراك الحيوانات بل إدراك أولي العلم فالأمر في الآية على ظاهره وعبارة زاده في حاشيته على البيضاوي : «العرض يتعدى باللام وبعلى يقال عرضت له أمر كذا وعرضت عليه الشيء أي أظهرته له قال تعالى «وعرضنا جهنم للكافرين عرضا» ، قال الفراء : أي أبرزناها حتى نظر الكفار إليها ، فالمعروض عليه يجب أن يكون من أهل الشعور والنار ليست منه فلا بدّ أن يحمل العرض على التعذيب مجازا بطريق التعبير عن الشيء باسم ما يؤدي إليه كما يقال عرض بنو فلان على السيف فقتلوا به أو يكون باقيا على أصل معناه ويكون الكلام محمولا على القلب والأصل ويوم تعرض النار على الذين كفروا أي تظهر وتبرز عليهم والنكتة في اعتبار القلب المبالغة بادّعاء أن النار ذات تمييز وقهر وغلبة».

أما الشيخ أبو حيان فقد ردّ القلب وقال في معرض الرد على الزمخشري : «ولا ينبغي حمل القرآن على القلب إذ الصحيح في القلب أنه مما يضطر إليه في الشعر وإذا كان المعنى صحيحا واضحا مع عدم القلب فأي ضرورة تدعو إليه وليس في قولهم عرضت الناقة على الحوض ولا في تفسير ابن عباس بما يدل على القلب لأن عرض الناقة على الحوض وعرض الحوض على الناقة كلّ منهما صحيح إذ العرض أمر نسبي يصحّ إسناده لكل واحد من الناقة والحوض».

الفوائد :

قال الزمخشري : «وإن نافية أي فيما مكنّاكم فيه إلا أن إن أحسن في اللفظ لما في مجامعة ما مثلها من التكرير المستبشع ومثله مجتنب ، ألا ترى أن الأصل في مهما ما ما فلبشاعة التكرير قلبوا الألف هاء ، ولقد أغث أبو الطيب في قوله :

١٨٨

لعمرك ما ما بان منك لضارب

بأقتل مما بان منك لغائب

وما ضرّه لو اقتدى بعذوبة لفظ التنزيل فقال لعمرك ما إن بان منك لضارب وقد جعلت إن صلة مثلها فيما أنشده الأخفش :

يرجى المرء ما إن لا يراه

وتعرض دون أذناه الخطوب»

هذا ما قاله الزمخشري والرواية في ديوانه :

يرى أن ما ما بان منك لضارب

بأقتل مما بان منك لعائب

قال ابن جنّي : «ما الأولى زائدة والثانية بمعنى الذي واسم إن مضمر فيها» وقال ابن القطاع : «قال المتنبي ما الأولى بمعنى ليس والثانية بمعنى الذي» والمعنى يريد أنه ما الذي بان منك لضارب بأقتل من الذي بان لعائب يعيبك ، يزيد أن العيب أشدّ من القتل وهذا من قول حبيب بن أوس أبي تمام الطائي :

فمتى لا يرى أن الفريصة مقتل

ولكن يرى أن العيوب مقاتل

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨) وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠)

١٨٩

يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢))

الإعراب :

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) كلام مستأنف مسوق لخطاب أهل مكة على جهة التمثيل واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأهلكنا فعل وفاعل وما مفعول به وحولكم ظرف متعلق بمحذوف لا محل له من الإعراب لأنه صلة الموصول ومن القرى متعلقان بمحذوف حال وصرفنا عطف على أهلكنا والآيات مفعول به ولعل واسمها وجملة يرجعون خبرها (فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً) الفاء عاطفة ولو لا حرف تحضيض بمنزلة هلّا ونصرهم فعل ماض ومفعول به مقدم والذين فاعل مؤخر وجملة اتخذوا صلة ومن دون الله متعلقان باتخذوا والمفعول الأول لاتخذوا محذوف وهو عائد الموصول وقربانا نصب على الحال وآلهة مفعول به ثان ، وذهب ابن عطية والحوفي إلى أن المفعول الأول محذوف أيضا كما تقدم تقريره وقربانا مفعول به ثان وآلهة بدل منه وقد شجب الزمخشري هذا الوجه وقال إن المعنى يفسد عليه ولم يبيّن وجه فساد المعنى ونحن نبيّنه فنقول لو كان قربانا مفعولا ثانيا ومعناه متقربا بهم لصار المعنى إلى أنهم وبّخوا على ترك اتخاذ الله متقربا لأن السيد إذا وبخ عبده وقال : اتخذت سيدا دوني فإنما معناه اللوم على نسبة السيادة إلى غيره وليس هذا المقصد فإن الله تعالى يتقرب إليه ولا

١٩٠

يتقرب به لغيره فإنما وقع التوبيخ على نسبة الإلهية إلى غير الله تعالى فكان حق الكلام أن يكون آلهة هو المفعول الثاني لا غير ، وأجاز أبو حيان وأبو البقاء أن يعرب قربانا مفعولا من أجله وآلهة هو المفعول الثاني والمفعول الأول محذوف كما تقدم (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) بل حرف إضراب وعطف للانتقال عن نفي النصرة لما هو أخص منه إذ نفيها يصدق بحضورها عندهم بدون النصرة فأفاد بالإضراب أنهم لم يحضروا بالكلية فضلا عن أن ينصروهم. وضلّوا فعل وفاعل وعنهم متعلقان بضلوا والواو حرف عطف وذلك مبتدأ وإفكهم خبر وما الواو حرف عطف وما مصدرية أو موصولة والمعنى وافتراؤهم أو والذي يفترونه ، وكان واسمها وجملة يفترون خبر كان (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) الواو عاطفة وإذ ظرف معمول لاذكر محذوفا وجملة صرفنا في محل جر بإضافة الظرف إليها وصرفنا فعل وفاعل وإليك متعلقان بصرفنا ونفرا مفعول به ومن الجن صفة لنفر وجملة يستمعون القرآن صفة ثانية لنفرا أو حال لتخصصه بالصفة (فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا : أَنْصِتُوا) الفاء عاطفة ولما ظرفية حينية أو رابطة وحضروه فعل وفاعل ومفعول به وجملة قالوا : لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وجملة أنصتوا مقول القول والضمير في حضروه للقرآن (فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) عطف على ما تقدم وقضي فعل ماض مبني للمجهول وجملة ولّوا لا محل لها وإلى قومهم متعلقان بولّوا ومنذرين حال (قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) قالوا فعل وفاعل وإن واسمها وجملة سمعنا خبرها وكتابا مفعول به وجملة أنزل صفة لكتابا وهو مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو ومن بعد متعلقان بأنزل وموسى مضاف إليه ومصدقا نعت لكتابا ولما متعلقان بمصدقا وبين ظرف متعلق بمحذوف وهو صلة الموصول ويديه مضاف إليه (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ

١٩١

مُسْتَقِيمٍ) جملة يهدي نعت ثان لكتابا أو حال منه لأنه وصف وقد تقدمت القاعدة وإلى الحق متعلقان بيهدي وإلى صراط مستقيم عطف على إلى الحق (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) يا أداة نداء وقومنا منادى مضاف وأجيبوا فعل أمر وفاعل وداعي الله مفعول به وآمنوا عطف على أجيبوا وبه متعلقان بآمنوا ويغفر فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب ولكم متعلقان بيغفر ومن ذنوبكم متعلقان بيغفر أيضا أي بعضها فمن للتبعيض وسيأتي سر التبعيض في باب البلاغة ، ويجركم من عذاب أليم عطف على ما تقدم (وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ) الواو عاطفة ومن شرطية في محل رفع مبتدأ ولا نافية ويجب فعل الشرط مجزوم وداعي الله مفعوله والفاء رابطة لجواب الشرط لأن الجواب وقع فعلا جامدا ، وليس فعل ماض ناقص والباء حرف زائد ومعجز مجرور لفظا منصوب محلا لأنه خبر ليس واسمها مستتر يعود على من وفي الأرض متعلقان بمعجز (وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الواو حرف عطف وليس فعل ماض ناقص وله خبر ليس المقدم ومن دونه حال وأولياء اسم ليس المؤخر وأولئك مبتدأ وفي ضلال خبر أولئك ومبين صفة.

البلاغة :

في قوله «يغفر لكم من ذنوبكم» فن التنكيت ، فقد عبّر بمن التبعيضية إشارة إلى أن الغفران يقع على الذنوب الخاصة أما حقوق العباد فلا يمكن غفرانها إلا بعد أن يرضى أصحابها فإن الله تعالى لا يغفر بالإيمان ذنوب المظالم.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ

١٩٢

بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥))

الإعراب :

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) الهمزة للاستفهام الإنكاري والواو عاطفة على مقدّر ولم حرف نفي وقلب وجزم ويروا فعل مضارع مجزوم بلم وأن وما بعدها سدّت مسدّ مفعولي يروا وأن واسمها والذي صفة لله وجملة خلق السموات والأرض صلة الذي والواو حرف عطف ولم حرف نفي وقلب وجزم ويعي فعل مضارع مجزوم بلم وبخلقهنّ متعلقان بيعي والباء حرف جر زائد وقادر مجرور لفظا مرفوع محلا لأنه خبر أن وإنما دخلت الباء الزائدة لاشتمال النفي الذي في أول الآية على أن وما في حيزها ، وسيأتي المزيد من هذا البحث في باب الفوائد وعلى أن يحيي الموتى متعلق بقادر (بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) بلى حرف جواب لإبطال النفي فهي تبطل النفي وتقرر نقيضه وتقدم بحث الفرق بينها وبين نعم ، وإن واسمها وقدير خبرها وعلى كل شيء متعلقان بقدير (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ) الواو استئنافية ويوم ظرف متعلق بمحذوف تقديره يقال لهم والجملة مستأنفة وجملة

١٩٣

يعرض في محل جر بإضافة الظرف إليها ويعرض فعل مضارع مبني للمجهول والذين نائب فاعل وجملة كفروا صلة وعلى النار متعلقان بيعرض وجملة أليس هذا بالحق مقول للقول الناصب للظرف والهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي وليس فعل ماض ناقص وهذا اسمها والباء حرف جر زائد والحق مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ليس (قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) قالوا فعل وفاعل وبلى حرف جواب والواو للقسم وربنا مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل مقدر تقديره أقسم وقال فعل ماض والفاء الفصيحة وذوقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والعذاب مفعول وبما متعلقان بذوقوا والباء للسببية وما مصدرية أي بسبب كفركم وكان واسمها وجملة تكفرون خبرها (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) الفاء الفصيحة لأنها جواب شرط مقدّر أي إذا كانت عاقبة الكفّار ما ذكر فاصبر على أذاهم ، واصبر فعل أمر مبني على السكون وفاعله مستتر تقديره أنت وكما صبر في محل نصب مفعول مطلق أو حال وأولو العزم فاعل صبر ومن الرسل حال (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) الواو حرف عطف ولا ناهية وتستعجل فعل مضارع مجزوم بلا والفاعل مستتر تقديره أنت ولهم متعلقان بتستعجل ومفعول تستعجل محذوف تقديره نزول العذاب وكأن واسمها ويوم ظرف متعلق بالنفي المفاد بلم وجملة يرون في محل جر بإضافة الظرف إليها ويرون فعل مضارع وفاعل وما مفعول به وجملة يوعدون صلة وجملة لم يلبثوا خبر كأن وإلا أداة حصر وساعة ظرف متعلق بيلبثوا ومن نهار صفة لساعة (بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) بلاغ خبر لمبتدأ محذوف أي هذا الذي وعظتم به بلاغ وقيل تقديره هذا القرآن ، فجعل الفاء عاطفة وهل حرف استفهام معناه النفي

١٩٤

ويهلك فعل مضارع مبني للمجهول وإلا أداة حصر والقوم نائب فاعل والفاسقون صفة.

البلاغة :

في قوله تعالى «ولم يعي بخلقهن» مجاز مرسل علاقته السببية لأن العيّ أي التعب مستحيل عليه تعالى وهو سبب للانقطاع عن العمل أو النقص فيه والتأخر في إنجازه فهو العلاقة في هذا المجاز.

الفوائد :

قال الزجّاج : «لو قلت ما ظننت أن زيدا بقائم جاز كأنه قيل أليس الله بقادر ألا ترى إلى وقوع بلى مقررة للقدرة على كل شيء من البعث وغيره لا لرؤيتهم» وقال أبو حيان في التعقيب عليه : «والصحيح قصر ذلك على السماع».

وقال ابن هشام : قد يعطى الشيء حكم ما أشبهه في معناه أو لفظه أو فيهما ، فأما الأول فله صور كثيرة إحداها دخول الباء في خبر إن في قوله تعالى : أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهنّ بقادر ، لأنه في معنى أو ليس الله بقادر والذي سهل ذلك التقدير تباعد ما بينهما ، ولهذا لم تدخل في : أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم ، ومثله إدخال الباء في كفى بالله شهيدا لما دخله من معنى اكتف بالله شهيدا بخلاف قوله : قليل منك يكفيني ، وفي قوله سود المحاجر لا يقرأن بالسور لما دخله من معنى لا يتقربن بقراءة السور ، ولهذا قال السهيلي : لا يجوز أن تقول : وصل إليّ كتابك فقرأت به على حدّ قوله لا يقرأن بالسور لأنه عار عن معنى التقريب.

١٩٥

سورة محمد

مدنيّة وآياتها ثمان وثلاثون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦))

١٩٦

اللغة :

(مُحَمَّدٍ) اسم عربي وهو مفعل من الحمد والتكرير فيه للتكثير كما تقول كرّمته فهو مكرّم وعظمته فهو معظّم إذا فعلت ذلك مرة بعد مرة وهو منقول من الصفة على سبيل التفاؤل أنه سيكثر حمده وكان كذلك صلى الله عليه وسلم ، روى بعض نقلة العلم فيما حكاه ابن دريد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ولد أمر عبد المطلب بجزور فنحرت ودعا رجال قريش وكانت سنّتهم في المولود إذا ولد في استقبال الليل كفئوا عليه قدرا حتى يصبح ففعلوا ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم فأصبحوا وقد انشقّت عنه القدر وهو شاخص إلى السماء فلما حضرت رجال قريش وطعموا قالوا لعبد المطلب ما سمّيت ابنك هذا؟قال : سمّيته محمدا قالوا : ما هذا من أسماء آبائك قال : أردت أن يحمد في السموات والأرض. يقال : رجل محمود ومحمد قال الأعشى :

إليك أبيت اللعن كان كلالها

إلى الواحد الفرد الجواد المحمّد

فمحمود لا يدل على الكثرة ومحمد يدل على ذلك والذي يدل على الفرق بينهما قول الشاعر :

فلست بمحمود ولا بمحمد

ولكنما أنت الحبط الحباتر

وقد سمّت العرب في الجاهلية رجالا من أبنائها بذلك منهم محمد بن حمران الجعفي الشاعر وكان في عصر امرئ القيس وسمّاه شويعرا ومحمد بن خولي الهمداني ومحمد بن بلال بن أحيحة وكان زوج سلمى بنت عمرو جدّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أم جدّه ومحمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم ومحمد بن مسلمة الأنصاري وأبو محمد بن أوس بن زيد شهد بدرا.

١٩٧

(بالَهُمْ) البال : القلب يقال : ما خطر الأمر ببالي والحال والعيش يقال فلان رخي البال والخاطر يقال فلان كاسف البال وما يهتم به يقال : ليس هذا من بالي أي مما أباليه وأمر ذو بال أي يهتم به وما بالك أي ما شأنك وقال الجوهري : «والبال أيضا رفاء العيش يقال فلان رخي البال أي رخي العيش وعبارة البيضاوي «وأصلح بالهم أي حالهم في الدين والدنيا بالتوفيق والتأييد» وعبارة أبي حيان : «البال الفكر تقول خطر في بالي كذا ولا يثني ولا يجمع وشذ قولهم بآلات في جمعه» وعبارة القاموس : «والبال : الحال والخاطر والقلب والحوت العظيم وبهاء : القارورة والجراب ووعاء الطيب».

(أَثْخَنْتُمُوهُمْ) أكثرتم فيهم القتل وفي المصباح «أثخن في الأرض إثخانا سار إلى العدو وأوسعهم قتلا وأثخنته أوهنته بالجراح وأضعفته».

(الْوَثاقَ) بالفتح والكسر اسم ما يوثق به وفي المصباح : «الوثاق القيد والحبل ونحوه بفتح الواو وكسرها والجمع وثق مثل. وربط وعناق وعنق».

(أَوْزارَها) آلاتها وأثقالها التي لا تقوم إلا بها كالسلاح والكراع قال الأعشى :

وأعددت للحرب أوزارها

رماحا طوالا وخيلا ذكورا

وعبارة الكشاف : «وسمّيت أوزارها لأنه لما لم يكن لها بدّ من جرّها فكأنها تحملها وتستقل بها فإذا انقضت فكأنها وضعتها وقيل أوزارها آثامها يعني حتى يترك أهل الحرب وهم المشركون شركهم ومعاصيهم بأن يسلموا».

١٩٨

الإعراب :

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) الذين مبتدأ وجملة كفروا صلة وصدّوا عطف على كفروا وعن سبيل الله متعلقان بصدّوا وأضلّ أعمالهم فعل وفاعل مستتر يعود على الله تعالى ومفعول به والجملة خبر الذين وأجاز أبو البقاء أن ينتصب الذين بفعل دلّ عليه المذكور أي أضلّ الذين كفروا (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) والذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة وعملوا الصالحات عطف على آمنوا ، وآمنوا بما نزل على محمد عطف أيضا والواو اعتراضية وهو مبتدأ والحق خبره ومن ربهم حال (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) جملة كفّر عنهم خبر الذين آمنوا وسيئاتهم مفعول به وأصلح بالهم عطف على كفّر عنهم سيئاتهم (ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ) ذلك مبتدأ وبأن الذين كفروا خبره وجملة اتبعوا الباطل خبر أن (وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ) عطف على ما تقدم وقد تقدم إعرابه (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) كذلك نعت لمصدر محذوف أي مثل ذلك الضرب يضرب الله للناس أمثالهم وسيأتي معنى ضرب المثل هنا في باب البلاغة (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ) الفاء عاطفة لترتيب ما في حيزها من الأمر على ما قبلها وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط والعامل فيه فعل مقدّر هو العامل في ضرب الرقاب تقديره فاضربوا الرقاب وقت ملاقاتكم العدو ولا يعمل فيه نفس المصدر لأنه مؤكد وجملة لقيتم في محل جر بإضافة الظرف إليها والذين مفعول لقيتم وجملة كفروا صلة والفاء رابطة لجواب الشرط وضرب مفعول مطلق لفعل محذوف والرقاب مضاف إليه (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) حتى حرف ابتداء أي تبدأ بعده الجمل وجعلها أبو حيان حرف غاية وجر قال «وهذه

١٩٩

غاية للضرب» وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة أثخنتموهم في محل جر بإضافة الظرف إليها والفاء رابطة لجواب إذا وشدّوا الوثاق فعل أمر وفاعل ومفعول به والفاء للتفريع وإما حرف شرط وتفصيل ومنّا وفداء مصدران منصوبان بفعل لا يجوز إظهاره لأن المصدر متى سيق تفصيلا لعاقبة جملة وجب نصبه بإضمار فعل والتقدير فإما أن تمنّوا منّا وإما أن تفادوا فداء ، وأجاز أبو البقاء أن يكونا مفعولين بهما لعامل مقدّر تقديرهم أولوهم منّا واقبلوا منهم فداء ، وليس بالوجه ، وبعد ظرف مبني على الضم لانقطاعه عن الإضافة لفظا لا معنى أي بعد أسرهم وشدّ وثاقهم (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) حتى حرف غاية وجر وهي مع مدخولها إما أن تتعلق بالضرب والشدّ أو بالمنّ والفداء لأنها غاية لذلك كله على تفصيل تجده مبسوطا في كتب الفقهاء وليس هذا موضعه وسيأتي مزيد بيان في باب البلاغة ، وتضع فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والحرب فاعل وأوزارها مفعول به (ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) ذلك خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر فيهم ما ذكر من القتل والأسر وما بعده من المنّ والفداء ولك أن تنصبه بفعل محذوف أي افعلوا ذلك ، والواو استئنافية ولو شرطية ويشاء الله فعل مضارع وفاعل واللام واقعة في جواب لو وانتصر فعل ماض وفاعل مستتر تقديره هو أي الله تعالى ولكن الواو عاطفة أو حالية ولكن حرف استدراك مهمل لأنه خفف واللام للتعليل ويبلو فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل واللام ومدخولها متعلقة بفعل محذوف تقديره أمركم بالقتال وبعضكم مفعول به وببعض متعلقان بيبلو (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) الواو عاطفة والذين مبتدأ وجملة قتلوا صلة وفي سبيل الله متعلقان بقتلوا والفاء رابطة لما في الموصول من معنى الشرط ولن حرف نفي ونصب واستقبال ويضل فعل مضارع منصوب بلن وفاعله ضمير مستتر تقديره هو وأعمالهم مفعول به

٢٠٠