السيد علي الحسيني الصدر
الموضوع : الأخلاق
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-654-5
الصفحات: ٢٤٤
فقال : نعم .
فقال : لا يعجبنّك ، فإنّي اُسبّح لله في كلّ ليلةٍ ألف تسبيحة ، يتشعّب لي مع كلّ تسبيحة ثلاثة آلاف تحميدة ، وأنّي لأكون في قعر الماء فيصوّت الطير في الهواء ، فأحسبه جائعاً ، فأطفوا له على الماء ليأكلني وما لي من ذنب(١) .
٣ ـ حديث رسول الله صلىاللهعليهوآله أنّه قال : ـ
تصعد الحفَظَة بعملِ العبد يزهر كالكوكب الدرّيّ في السماء ، له دويٌّ بالتسبيح ، والصوم ، والحجّ ، فيمرّ به إلى ملك السماء الرابعة فيقول له : قِف ، فاضرب بهذا العمل وجهَ صاحِبه وبطنَه ، أنا مَلَك العُجب ، إنّه كان يعجبُ بنفسه ، وأنّه عمل وأدخل نفسه العُجب ، أمرني ربّي أن لا أدع عملَه يتجاوزني إلى غيري ، فاضرب به وجه صاحبه(٢) .
فاستقلال الإنسان الخير من نفسه يفيد الإنسان التحذّر عن هذا العجب المفسد لذلك العمل الخيّر .
• وأمّا استكثار الشرّ من نفسه ، ففائدته عدم التهاون بالمعصية .
والتهاون بالمعصية هو جعلها هيّنةً ، وعدم الاهتمام بها ، وهو يوجب الجرأة على عصيان الله العظيم ، عصيان جبّار السماء والأرض ، وهو مذموم ممقوت كما تلاحظه في الأحاديث الشريفة منها : ـ
١ ـ حديث الإمام الصادق عليهالسلام قال : ـ
إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله نزل بأرضٍ قرعاء ـ أي لا نبات ولا شجر فيها ـ فقال لأصحابه : ائتوا بحطب .
__________________________________
(١) بحار الأنوار / ج ٧١ / ص ٢٣٠ / ح ٧ .
(٢) مستدرك الوسائل / ج ١ / ص ١٤١ / ح ١٧ ، ولاحظ قضيّة ابن الماوردي في كون العجب مقروناً بالجهل ، في سفينة البحار / ج ٦ / ص ١٥٦ .
فقالوا : يا رسول الله ، نحن بأرضٍ قرعاء ، ما بها من حطب .
قال : فليأت كلّ إنسان بما قدر عليه .
فجاؤوا به ، حتّى رَمَوا بين يديه بعضه على بعض .
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : هكذا تجتمع الذنوب .
ثمّ قال : إيّاكم والمحقّرات من الذنوب ...(١) .
٢ ـ حديث أمير المؤمنين عليهالسلام : ـ
( أشدّ الذنوب ما استهان به صاحبه )(٢) .
٣ ـ حديث وصيّة النبيّ صلىاللهعليهوآله لأبي ذرّ الغفاري رضوان الله عليه : ـ
يا أبا ذرّ .. إنّ المؤمن ليرى ذنبه كأنّه تحت صخرة ، يخاف أن يقع عليه ، وإنّ الكافر ليرىٰ ذنبه كأنّه ذبابٌ مرَّ على أنفه .
يا أبا ذرّ ، إنّ الله تعالى إذا أراد بعبدٍ خيراً جعل ذنوبه بين عينيه ممثّلة ، والإثم عليه ثقيلاً وبيلاً ، وإذا أراد بعبدٍ شرّاً أنساه ذنوبه .
يا أبا ذرّ ، إنّ نفس المؤمن ارتكاضاً ـ أي اضطراباً ـ من الخطيئة من العصفور حين يقذف في شَرَكه(٣) .
فإذا استكثر الإنسان الشرّ من نفسه ، لم يتهاون به ، بل اشتدّ اجتنابه عنه .
فاللّازم علينا في مكارم أخلاقنا أن نستقلّ الخير من أنفسنا في أقوالنا وأفعالنا وإن كثرت .
وأن نستكثر الشرّ من أنفسنا في أقوالنا وأفعالنا وإن قلّت .
__________________________________
(١) اُصول الكافي / ج ٢ / ص ٢١٨ / ح ٣ .
(٢) غرر الحكم ودرر الكلم / ج ١ / ص ١٩٢ / ح ٣١٨ .
(٣) بحار الأنوار / ج ٧٧ / ص ٧٩ .
وفي حديث الإمام الكاظم عليهالسلام : ـ
( لا تستكثروا كثير الخير ، ولا تستقلّوا قليل الذنوب ، فإنّ قليل الذنوب يجتمع حتّى يكون كثيراً )(١) .
فالمفروض علينا أن نهذّب أنفسنا ونروّضها على هاتين الخصلتين ، فنفكّر في خيرات وعبادات ومواعظ أولياء الله تعالى ، فتصغر في أعيننا خيرنا وعبادتنا وأقوالنا .
ونفكّر في نزاهة أولياء الله من الشرور والذنوب في قولٍ أو فعلٍ منهم ، فتكثر في أعيينا شرورنا ومعاصينا .
وأهل البيت عليهمالسلام لم يكن لهم شرٌّ في الحياة في آنٍ من الآنات ، وكانت حياتهم مليئة بالخيرات والطيّبات من أقوالهم وأفعالهم ، وبالرغم من ذلك كانوا يستقلّون خير أنفهسم ، كما مرّ عليك في حديث الأعرابي الذي وفدَ على الإمام الحسين عليهالسلام حين أغناه بأربعة آلاف دينار ، ومع ذلك كان يعتذر إليه بقلّة النفقة منه(٢) .
__________________________________
(١) بحار الأنوار / ج ٧٣ / ص ٣٤٦ .
(٢) بحار الأنوار / ج ٤٤ / ص ١٩٠ .
(١٨) وأكمِلْ ذلكَ لي بدوام الطاعة
الطاعة هي : موافقة الأمر ، وامتثاله والانقياد له .
كامتثال أوامر الله تعالى ونواهيه ، فإنّه طاعةٌ لله تعالى .
ودوام الطاعة : استمرارها ، مضافاً إلى إيجادها وتحقّقها .
والسعادة العظمى في الدُّنيا والآخرة هي إطاعة الله تعالى ، وإطاعة من أمرنا الله تعالى بإطاعتهم .
وهم الرسول الأعظم وأهل بيته الكرام عليهمالسلام في قوله عزّ اسمه : ـ
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ )(١) .
وقد تظافرت الأحاديث من الفريقين في تفسير اُولي الأمر بأهل البيت الطيّبين ، الأئمّة المعصومين عليهمالسلام (٢) .
وهذه الإطاعة فوز الدُّنيا والآخرة ، وسعادة الدارين الاُولى والاُخرى ..
__________________________________
(١) سورة النساء : الآية ٥٩ .
(٢) لاحظ تفسير البرهان / ج / ص / ، وإحقاق الحقّ / ج ٣ / ص ٤٢٤ .
قال تعالى : ( يُطِعِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )(١) .
وقال عزّ اسمه : ـ ( وَمَن يُطِعِ اللَّـهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَـٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّـهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقًا )(٢) .
وذكرت الأحاديث الشريفة فضلها وفضيلتها في جملة منها مثل : ـ
١ ـ حديث رسول الله صلىاللهعليهوآله : ـ
( ... إنّ طاعة الله نجاحُ كلّ خيرٍ يُبتغى ، ونجاةٌ من كلّ شرٍّ يُتّقىٰ ، وإنّ الله العظيم يعصم من أطاعه ، ولا يعتصم منه من عصاه )(٣) .
٢ ـ حديث الإمام الرضا عليهالسلام في قوله تعالى : ( يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ )(٤) قال عليهالسلام : ـ ( لقد كان ابنه ، ولكن لمّا عصى الله عزّ وجلّ نفاه الله عن أبيه .
كذا من كان منّا لم يطع الله فليس منّا .
وأنت إذا أطعت الله فأنت منّا أهل البيت )(٥) .
فإطاعة الله تعالى هو الإكسير الأعظم ، والفوز الأتمّ ، بخير الدارين ، وسعادة النشأتين والاستمرار عليها .
وإطاعة الإنسان لربّه ، وللرسول صلىاللهعليهوآله ، ولأهل البيت عليهمالسلام ، عجيبة في النتيجة ، من حيث إنّها توجب أن يكون الإنسان من أولياء الله المقرّبين ، ومن مظاهر قدرة ربّ العالمين ، حتّى أنّها توجب نيل الكرامات وإطاعة المخلوقات للإنسان كما تلاحظه في مثل : ـ
١ ـ الصاحبي الجليل سلمان المحمّدي رضوان الله تعالى عليه ، وقضاياه التي
__________________________________
(١) سورة الأحزاب : الآية ٧١ .
(٢) سورة النساء : الآية ٦٩ .
(٣) بحار الأنوار / ج ٧٧ / ص ٦٩ .
(٤) سورة هود : الآية ٤٦ .
(٥) بحار الأنوار / ج ٤٣ / ص ٢٣٠ .
تلاحظها في مثل حديث القدر المغلي(١) ، وحديث طينته(٢) .
٢ ـ جابر الجُعفي رضوان الله تعالى عليه ، وقضاياه التي تجدها في مثل طيّ الأرض له ، وسفره إلى أرض السواد(٣) .
وهذه الفقرة من الدّعاء الشريف يُطلب فيها من الله تعالى تكميل تلك المكارم الأخلاقيّة المتقدّمة : بسط العدل ، وكظم الغيظ .. إلخ ، بدوام طاعة الله تعالى ، وعدم عصيانه .
فإنّ ترك الطاعة وارتكاب المعصية ، نقضٌ لتلك المكارم الأخلاقيّة ، بل موجبٌ لارتكاب الاُمور المذمومة ، والأفعال المحرّمة .
فيُطلب دوام الطاعة في الأوامر والنواهي الإلهيّة ، وفي الصفات المرغوبة الأخلاقيّة .
وهذا يحتاج إلى الطلب من الله تعالى ؛ لأنّ البقاء على العمل أصعب من نفس إتيان العمل ، ومستلزمٌ للصبر وتحمّل المشقّة .
• والمثل الأعلى في دوام الطاعة ، وعدم الخروج عنها طرفة عين هم أهل البيت عليهمالسلام الذين لم يعصوا ولا يعصون الله تعالى فيما أمرهم ، ولا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون .
لم يخالفوا الله تعالى في صغيرةٍ ولا كبيرة ، في شدّةٍ ولا رخاء ، حتّى أنّهم لم يفعلوا ما كان الأولى تركه ، ولم يتركوا ماكان الأولى فعله .
فاتّصفوا بالعصمة الكبرى والطهارة العظمى ، كما تدلّ عليه أدلّة الكتاب والسنّة مثل : آية التطهير ، وأحاديث العصمة المرويّة من طرق الفريقين(٤) .
__________________________________
(١) رجال الكشّي / ص ١٩ .
(٢) الاختصاص / ص ٢٢١ .
(٣) رجال الكشّي / ص ١٧٢ .
(٤) لاحظ تحقيقه ومصادره في كتاب العقائد الحقّة / ص ٣٤٩ / مبحث العصمة .
فيلزم علينا الاقتداء بأهل البيت عليهمالسلام ، وتكميلاً للصفات الحسنة التي هي حلية الصالحين وزينة المتّقين ، وترويض النفس على الصبر عليها ، وعدم إبداء السخط منها ، لكي يحصل لنا الكمال بتلك الصفات ، والأجر بالصبر عليها ، وعدم الندامة من تركها .
فإنّ تركها يوجب الندم ، وإظهار السخط منها يوجب الخجل ، كما في قضيّة ذلك العالم المحقّق الذي أبدى السخط ، ولم يصبر عند تأخير حاجته ، فحصلت له الندامة .
فقد حكى بعض السادة الأجلّاء الثقات عن أحد العلماء المحقّقين الذي كان يؤلّف كتاباً في الدفاع عن أهل البيت عليهمالسلام الذي هو من أهمّ الوظائف الشرعيّة على علماء الدِّين ، وأصحاب القلم من المحقّقين .
فاحتاج هذا العالم في مصادر كتابه إلى كتاب كان نادر الوجود ، وكلّما بحث عنه في النجف الأشرف لم يعثر عليه ، وكان يعلم أنّه موجود في النجف ، لكن لم يعرف أنّه عندَ مَن .
فتوسّل بالإمام أمير المؤمنين عليهالسلام أن يهيّئ له ذلك الكتاب ، بأن يُرشده في المنام أو في اليقظه إلى محلّ وجود ذلك الكتاب ، حتّى يستعيره ويستفيد منه وينقل عنه .
ودام التوسّل بالإمام عليهالسلام ستّة أشهر متواصلة ، لكن لم تحصل له النتيجة .
وبعد هذه المدّة الكثيرة ، وبينما هو أمام الضريح المقدّس ، وملتصقٌ به ، ويتوسّل بالإمام ويطلب منه الكتاب ويقول :
( أنت مولاي ، وتعلم بإذن الله تعالى أين يوجد الكتاب ، وأنا محتاج إليه ، فارشدني إلى موضعه ) .
بينما هو يقول هذا ، إذ سمع من الطرف الآخر
من الضريح المقدّس ، شخصاً
آخر يطلب من الإمام عليهالسلام حاجته ، ويبدو من لسانه أنّه شخصٌ قرويّ ، ويقول بلهجةٍ حادّة للإمام عليهالسلام : ـ
( لو لم تعطني حاجتي لا أزورك بعد هذا أبداً ) .
ومرّت سبعة أيّام على هذه القضيّة ، وبينا أنا أيضاً مقابل للضريح الشريف أطلب حاجتي ، إذ سمعت ذلك القروي يقول للأمير عليهالسلام بلهجته الخاصّة : ـ
( أروح لك فدوه يا علي ، أعطيتني حاجتي ، كفو ، كفو ، كفو ) .
قال ذلك العالم : لمّا رأيت أنا ذلك هاجت نفسي ، وخرجتُ عن الطبيعة ، ونفذ صبري ، وصرتُ أقول للإمام عليهالسلام بخشونة شديدة :
( شنو حاجة هذا المعيدي غير الدُّنيا ، تعطيه سريعاً ، ولا تعطيني حاجتي وهي للدفاع عنكم وكتابة فضائلكم ) .
وخرجت من الحرم الشريف شبه الزعلان ، وبحالة الغضب ـ وهذا هو محلّ الصبر على الطاعة وعلى تلك المكارم الأخلاقيّة ، وامتحان من يدوم له لين العريكة ومن لا يدوم ـ .
ولمّا وصلت إلى داري ندمتُ كثيراً على أنّه لماذا تجاسرت بخدمة الإمام عليهالسلام وهو خلاف الأدب .
وخصوصاً وبيما أنا كذلك ، إذ طرق باب الدار جارٌ لنا ، فذهب ولدي وفتح الباب ، ودخل عَليَّ جارنا ، فرحّبت به ، وجلس عندي ، ودار الكلام عندنا فقال الجار : نحن في حالة انتقال إلى دارٍ جديد ، وقد نظّفنا دارنا الفعلي لنحوّله إلى المشتري ، وفي أثناء تنظيف رفوف الدار عثرتُ في الرفّ الأعلى على كتابٍ أنا لا أستفيد منه لأنّي لا أعرف القراءة والكتابة ..
فقلتُ لابني : ـ إذهب بهذا الكتاب ، واجعله في المسجد .
فقال ابني : ـ لا يا أبه ، لا تجعله في
المسجد ، بل أعطه لجارنا العالم حتّى
يستفيد منه ، وهو هذا الكتاب ، جئت به إليك هديّة لك .
قال ذلك العالم : فأخذتُ منه الكتاب ، فإذا هو نفس الكتاب الذي طلبته من أمير المؤمنين عليهالسلام ، طلبتُ منه أن يرشدني إليه لأستعيره ، لكن ذلك الكريم صلوات الله عليه أهداه لي ، وملّكه بدل الاستعارة .
فذهبت واعتذرت من أمير المؤمنين عليهالسلام على سوء أدبي ، وعدم صبري ، وتشكّرت منه على لطفه وإحسانه .
وعليه فالمطلوب تكميل مكارم الأخلاق بدوام الطاعة واستمرارها ، وعدم النقض بالمعاصي والمحرّمات ، أو بما يخالف الأخلاقيّات .
فيُستدام على الطاعات بصبر ، ويستمرّ على المكارم والأخلاقيّات بتحمّل ، فيحصل بذلك الكمال الكامل ، والفضل الشامل .
(١٩) ولزوم الجماعة
اللّزوم هو : الملازمة ، وعدم المفارقة .
والجماعة هي : جماعة الناس ..
والمراد بها جماعة المؤمنين المتّفقين على المذهب الحقّ ، لا كلّ جماعةٍ وإن كانت باطلة .
و « أل » فيها عهديّة ، والمعهود في الدّعاء جماعة أهل الحقّ ..
نظير « أل » العهديّة في القرآن الكريم في قوله تعالى : ( النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ )(١) حيث إنّ المعهود فيها نبيّ الإسلام صلىاللهعليهوآله .
وقوله عليهالسلام : ( ولزوم الجماعة ) معطوف على قوله : ( بدوام الطاعة ) أي واكمل لي ذلك بلزوم الجماعة .
فتكمل المكارم الأخلاقيّة المتقدّمة بدوام طاعة الله تعالى والاستمرار عليها ، وملازمة جماعة أهل الحقّ وعدم مفارقتهم .
بل عدم مفارقتهم ولو لحظةً واحدة حتّى يصدق التلازم وعدم الافتراق ، كما
__________________________________
(١) سورة الأحزاب : الآية ٦ .
تلاحظه في الملازمة بين طلوع الشمس ووجود النهار ، فإنّهما لا يفترقان أبداً .
حيث إنّ المفارقة عن الحقّ لا يعني إلّا الدخول في الباطل ، فإنّه ليس بعد الحقّ إلّا الضلال .
ويدلّ على كون المراد بالجماعة جماعة أهل الحقّ ، الحديث الصادقي الشريف :
( سُئل رسول الله صلىاللهعليهوآله : ما جماعة اُمّتك ؟
فقال : ـ جماعةُ اُمّتي أهل الحقّ ، وإن قلّوا ) .
وفي حديثٍ آخر : ( فقال : من كان على الحقّ ، وإن كانوا عشرة )(١) .
فمفاد الدعاء الشريف طلب ملازمة جماعة أهل الحقّ التي هي الفضائل المكمّلة لمكارم الأخلاق ، ومعالي الصفات .
فهي التي تكون حلية الصالحين ، وزينة المتّقين ، وإلّا فملازمة أهل الباطل رذيلة ومعيبة ، وليست حلية وزينة .
والجدير بالبيان هو معرفة أنّه :
مَن هم جماعة أهل الحقّ الذين يلزم متابعتهم وملازمتهم ؟
الجواب : هم الذين بيّنهم الرسول الأعظم ، ونصّ عليهم صاحب هذا الدِّين ، النبيّ الأمين صلىاللهعليهوآله ، فقال في الأحاديث المتظافرة المتّفق عليها بين الفريقين : ـ
( عليٌّ مع الحقّ والحقّ معه ، يدور حيثما دار )(٢) .
( أهل بيتي مع الحقّ ، والحقّ معهم ، لا يفارقهم ولا يفارقوه )(٣) .
فمحور الحقّ هم عليٌّ وأهل البيت عليهمالسلام ، فإذا أردنا أن نعرف أنّه هل هذا الشخص على الحقّ أو على الباطل ؟
__________________________________
(١) رياض السالكين / ص ٢٢٤ .
(٢) غاية المرام / ص ٥٣٩ .
(٣) إحقاق الحقّ / ج ٩ / ص ٤٧٩ .
يكون المحك هو عليّ عليهالسلام .. فإن كان الشخص مع عليّ عليهالسلام فهو على حقّ ، وإلّا فهو على باطل .
فأمير المؤمنين عليهالسلام ( هو فارق بين الحقّ والباطل )كما نصّ عليه رسول الله صلىاللهعليهوآله(١) .
ولذلك عبّر عنه الرسول في واقعة الخندق بالإيمان كلّه ، ومنحه أعظم وسام بقوله صلوات الله عليه وآله : ـ ( برز الإيمان كلّه ) .
فكلّه حقّ لأنّ كلّه إيمان ، فمن كان معه كان مع الحقّ ومن أهل الإيمان ، ومن لم يكن معه فهو على باطل وعلى غير إيمان .
فيتّضح جيّداً أنّ المراد بالجماعة في الدعاء الشريف هم جماعة عليّ وأهل البيت عليهمالسلام فهم جماعة أهل الحقّ الذي تكون ملازمتهم فضيلة وحلية .
وقد عقد العلّامة المجلسي أعلى الله مقامه باباً في البحار في لزوم الجماعة بأحاديث شريفة منها : ـ
حديث علي بن جعفر عن أخيه الإمام موسى بن جعفر عن آبائه عليهمالسلام قال : ـ
قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : ـ
من فارق جماعة المسلمين فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه .
قيل : يا رسول الله وما جماعة المسلمين ؟
قال : جماعة أهل الحقّ وإن قلّوا(٢) .
وفائدة ملازمة أهل البيت عليهمالسلام هي سعادة الدُّنيا والآخرة .
ففي حديث رسول الله صلىاللهعليهوآله : ـ
( إلزموا عليّ بن أبي طالب ، فاز من لزمه )(٣) .
__________________________________
(١) إحقاق الحقّ / ج ٤ / ص ٢٦ .
(٢) بحار الأنوار / ج ٢٩ / ص ٦٨ / ب ٣ / ح ١ .
(٣) إحقاق الحقّ / ج ٤ / ص ٢٦ ، وص ١٤٩ .
وفي حديث الإمام الرضا عليهالسلام : ـ
( مَن لزمنا لزمناه ، ومن فارقَنا فارقناه )(١) .
وفي حديث الزيارة الجامعة المباركة : ـ
( فاز مَن تمسّك بكم ، وأمِنَ مَن لجأ إليكم ، وسَلِم مَن صدّقكم ، وهُدي من اعتصم بكم )(٢) .
فنسأل الله تعالى أن يرزقنا ملازمتهم ، ويديم لنا موالاتهم ، ويمنّ علينا بالجنّة معهم كما في بشارة رسول الله صلىاللهعليهوآله : ـ
( من أحبَّ أن يحيىٰ حياتي ، ويموت مماتي ، ويدخل الجنّة التي وعدني ربّي ، فليتولّ عليّاً بعدي ، فإنّه لن يخرجكم من هدىٰ ، ولن يدخلكم في ردىٰ )(٣) .
__________________________________
(١) وسائل الشيعة / ج ١٨ / ص / ب / ح .
(٢) عيون الأخبار / ج ٢ / ص ٢٧٧ .
(٣) أمالي الشيخ الطوسي / ج ٢ / ص ١٠٧ .
(٢٠) ورفضِ أهلِ البِدَع ومستعملي الرأي المخترَع
الرفض هو الترك ، والردّ ، وعدم القبول .
والبدَع : جمع بدعة ، وهي اسمٌ من الابتداع بمعنى الإحداث والإختراع .
قال في المجمع : ـ ( البدعة : بالكسر فالسكون : الحدثُ في الدِّين وما ليس له أصلٌ في كتابٍ ولا سنّة .
وإنّما سمّيت بدعة لأنّ قائلها ابتدعها من نفسه )(١) .
وقال في المرآة : ـ ( البدعة في عرف الشرع ما حدث بعد الرسول صلىاللهعليهوآله ، ولم يَرد فيه نصٌّ على الخصوص ، ولا كيون داخلاً في بعض المعلومات ، أو ورد فيه نهيٌ عنه خصوصاً أو عموماً )(٢) .
ويؤيّده الحديث الشريف : ـ السُنّة ما سنَّ رسول الله صلىاللهعليهوآله ، والبدعة ما اُحدث من بعده )(٣) .
__________________________________
(١) مجمع البحرين / ص ٣٧٠ .
(٢) مرآة الأنوار / ص ٧٨ .
(٣) بحار الأنوار / ج ٢ / ص ٢٦٦ .
وعُرّفت في الاصطلاح الفقهي بأنّها هي : ـ
( إدخال ما ليس من الدِّين في الدِّين ، نظير إدخال التكتّف في الصلاة .
ومثله إخراج ما ثبت في الدِّين من الدِّين ، نظير إسقاط حيَّ على خير العمل من الأذان ) .
وقد حدثت هذه البِدَع المذمومة بعد رسول الله صلىاللهعليهوآله بواسطة الغاصبين والظالمين والمنحرفين .
وقد ذكر السيّد الجليل شرف الدِّين أعلى الله مقامه في كتابه الخاصّ بذلك ( النصّ والاجتهاد ) ٧١ مورداً من بدع الغاصبين ، منها : ـ
١ ـ غصب نحلة الزهراء عليهاالسلام ، وبدعتهم أنّ الرسول لم يورّث ، وهذه بدعة الأوّل والثاني .
٢ ـ قتل مانعي الزكاة بما جناه خالد بن الوليد في مالك بن نويرة ، وهذه بدعة الأوّل .
٣ ـ تحريم متعة الحجّ ، ومتعة النساء ، وهذه كانت من قِبَل الثاني .
٤ ـ إسقاط طواف النساء من الحجّ .
٥ ـ إسقاط ( حيّ على خير العمل ) من الأذان .
٦ ـ إدخال الصلاة خيرٌ من النوم في أذان الصبح .
٧ ـ تشريع الطلاق ثلاثاً مؤبّداً في مجلسٍ واحد .
٨ ـ تشريع صلاة التراويح .
٩ ـ حكم الثاني بسقوط الصلاة عند فقدان الماء .
١٠ ـ تقديم الثالث رأيه على نصوص الكتاب والسنّة ، كإتمامه الصلاة في السفر ، وإعطاءه الخمس لغير بني هاشم ، بل للطريد مروان بن الحكم(١) .
__________________________________
(١) لاحظ للاستقصاء كتاب الغدير / ج ٦ / فصل نوادر الأثر ، خصوصاً الصفحات : ـ ٨٣ ، ١٠٨ ، ١٨٧ ، ٢٨٢ ، ٢٩٤ .
هذه هي البدع المبتدعة التي يأتي بيان فسادها وذمّها في الأحاديث الشريفة .
وفي هذا الدّعاء الشريف يُطلب من الله تعالى التكميل برفض أهل البدع ، وتركهم ، وعدم القبول منهم .
أي واكمل لي ذلك برفض أهل البدع .
• قوله عليهالسلام : ـ ( ومستعملي الرأي المخترع ) عطفٌ على أهل البدَع ، أي واكمل لي ذلك برفض مستعملي الرأي المخترع .
ومستعملي الرأي المخترَع هم الذين اخترعوا رأياً من عند أنفسهم ، وبناقص عقولهم ، ثمّ عملوا به وأفتوا على طبقه ، كاختراع القياس في الدِّين .
والرأي المخترع قسمٌ من البدعة ، لأنّه إدخال ما ليس من الدِّين في الدِّين ، خصّص بالذمّ ، وأكّد بالردع .
ومذموميّة البدعة واختراع الرأي ممّا تظافرت به الأدلّة المعتبرة ، والأحاديث الشريفة .
فتكون صفةً مذمومة منافية للتقوى والصلاح ، فيلزم تركها ، والابتعاد عنها في سبيل تحصيل التقوى ، وتزيين الصالحين .
وممّا ورد في ذمّ البدعة والرأي المخترَع : ـ
١ / حديث الإمام الباقر والإمام الصادق عليهماالسلام قالا : ـ
( كلّ بدعة ضلالة ، وكلّ ضلالة سبيلها إلى النار )(١) .
٢ / حديث الإمام الصادق عليهالسلام أنّه قال : ـ
( لا تصحبوا أهل البدع ، ولا تجالسوهم ، فتصيروا عند الناس كواحدٍ منهم ، قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : المرء علىٰ دين خليله )(٢) .
__________________________________
(١) اُصول الكافي / ج ١ / ص ٤٥ .
(٢) اُصول الكافي / ج ٢ / ص ٢٧٨ .
٣ / حديث أمير المؤمنين عليهالسلام أنّه قال : ـ
( من مشىٰ إلى صاحب بدعةٍ فوقّره ، فقد مشىٰ في هدم الإسلام ) (١) .
٤ / حديث رسول الله صلىاللهعليهوآله أنّه قال : ـ
( من أحدث في الإسلام ، أو آوى مُحدِثاً ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين )(٢) .
٥ / حديث الإمام الصادق عليهالسلام أنّه قال : ـ
( إنّ أصحاب المقاييس طلبوا العلم بالمقاييس ، فلم تزدهم المقاييس من الحقّ إلّا بُعداً ، وإنّ دين الله لا يُصاب بالعقول )(٣) .
وعليه فالبدعة وإحداث الرأي المخترَع من الضلال والباطل ، وقد ارتكب أشنعه أهل الخلاف كما ذكر شيءٌ منها في الفصل الثالث من كتابنا : شيعة أهل البيت عليهمالسلام .
فقد حكى الزمخشري عن يوسف بن أسباط أنّه قال : ردّ أبو حنيفة على النبيّ أربعمائة حديث ...
قيل : مثل ماذا ؟
قال : مثل هذا : ـ
قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : « للفرس سهمان » .
وقال أبو حنيفة : لا أجعل سهم بهيمة أكثر من سهم المؤمن(٤) .
وأشعر رسول الله صلىاللهعليهوآله البُدن .
__________________________________
(١) عقاب الأعمال / ص ٣٠٧ .
(٢) مستدرك الوسائل / ج ١٢ / ص ٣٢٢ .
(٣) اُصول الكافي / ج ١ / ص ٥٦ / ح ٧ ، وفي الحديث ٢٠ ( أوّل من قاس إبليس ) .
(٤) يردّه أنّ سهمي الفرس من غنائم الحرب يكون لنفس الفارس ، لعنائه ، وتكلّفه مؤونة فرسه ، ومأكله واصطبله ، لا لنفس الفرس حتّى يكون سهماً للبهيمة كما توهّم .
وقال أبو حنيفة : الإشعار مُثلَة(١) .
وقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : « البيّعان بالخيار ما لم يفترقا » .
وقال أبو حنيفة : إذا وجب البيع فلا خيار(٢) .
وكان رسول الله صلىاللهعليهوآله يُقرع بين نساءه إذا أراد سفراً .
وقال أبو حنيفة : القرعة قمار(٣) .(٤) .
فتلاحظ أنّ الرأي المخترع ، وهذه البدع كيف تنافي الدِّين وتعارض شريعة سيّد المرسلين ، فرفضها من مقوّمات التقوى ، ومن حلية المتّقين .
هذا تمام الكلام في الصفات العشرين التي هي من حلية أهل الصلاح ، وزينة أهل التقوى ، رزقنا الله تعالى العمل بها والبقاء عليها ، إنّه وليّ التوفيق .
والحمدُ لله ربّ العالمين أوّلاً وآخراً ، وصلواته على رسوله وآله الطاهرين ، ولعنته على أعدائهم إلى يوم الدِّين .
__________________________________
(١) يردّه أنّ الإشعار الذي هو شقّ سنام البعير من جانبه الأيمن ، وتلطيخ صفحته بدمه من حجّ القران الذي يسوق هديه معه ، لمن كان حاضري مكّة ، وكذلك التقليد الذي هو تعليق نعلٍ صلّى فيه في عنقه ، إعلاناً بأنّه هديه الذي يسوقه للنحر ، كلّ ذلك شعيرة من شعائر الحجّ الذي ورد في القرآن الكريم في قوله عزّ اسمه في سورة الحجّ الآية ٣٦ : ( وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّـهِ ) فالردّ على هذه الشعيرة ردٌّ على القرآن الكريم .
(٢) يردّه أنّ هذا خيار المجلس الذي هو أمرٌ ثابت في الشريعة المقدّسة للبائع والمشتري ، وتوسعةً عليها فيما إذا ندم أحدهما .
(٣) يردّه أنّ هذا الكلام منافٍ للبداهة ، فإنّ المقامرة هي المراهنة ، وأين هي من القرعة التي هي تعويل الأمر على اختيار الله تعالى في الأمر المشكل .
(٤) لاحظ تلخيص الرياض / ج ٢ / ص ١١٤ .