السيد محمّد الصدر
المحقق: الشيخ كاظم العبادي الناصري
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٦٣
رواةُ واقعة الطف
أعتقدُ أنّ الرواة الأوائل أو المباشرين لحادثة الطف ، منحصرون في الأقسام التالية ، فينبغي أن ننظر إلى وَثاقتهم من ناحية ، وإلى مقدار شرحهم للحوادث ونحو ذلك من الخصائص :
القسمُ الأوّل : الأئمّة المعصومون عليهمالسلام المتأخّرون عن الحسين عليهالسلام ، وخاصّةً الثلاثة الذين كانوا بعده بالمباشرة وهم : الإمام السجّاد ، والإمام الباقر ، والإمام الصادق عليهمالسلام ؛ فإنّ لهؤلاء قسطاً من ذِكر واقعة الطف.
إلاّ أنّني أعتقد أنّنا ـ مع ذلك ـ لا نستطيع أن نأخذ عنهم التفاصيل كما نريدها ؛ لأنّهم عليهمالسلام كانوا يتحدّثون بمقدار ما تقتضي المصلحة في زمانهم ، فكانوا يركّزون على الجانب المعنوي لواقعة الطف والدفاع عن قضيّة الحسين عليهالسلام ، ولا يكون همّهم رواية أو نقل الحوادث ، إلاّ ما جاء عَرَضاً خلال الحديث ، إذاً فلا ينبغي أن نتوقّع سَماع حديثهم عن التفاصيل الكثيرة التي نريدها.
القسمُ الثاني : النساء من ذراري الحسين عليهالسلام وأصحابه بعد عودتهنّ إلى المدينة المنوّرة ، فإنّهن لم يُصَبن بسوء وبقينَ أحياء بعد مقتل رجالهنّ ، ورجعنَ إلى محلّ سكنهنّ ، فمن الممكن لهنّ أن يتحدّثنَ عمّا رأينهُ عن تلك التفاصيل ، وتُعتبر كلّ واحدة منهنّ كشاهد حال حاضر للواقعة.
إلاّ أنّنا لا ينبغي أن نُبالغ في ذلك ؛ لأمرين على الأقل :
الأمرُ الأوّل : حاصل لدى وجود الواقعة نفسها في كربلاء ؛ وذلك لأنّ
النساء كنّ موجودات في الخيام ، ولسنَ مُشرفات على الواقعة ولا مُتابعات للحوادث ، ولا يعرفنَ أشخاص الرجال الأجانب بأسمائهم ، فمن هذه الناحية ستكون فكرتهنّ عن التفاصيل غائمة ومُجملة لا محالة.
الأمرُ الثاني : حاصل لدى وجودهنّ في المدينة المنوّرة ، حيث كانت المصلحة الدينيّة والاجتماعيّة تقتضي إقامة المزيد من المآتم على واقعة الطف ، وإظهار المزيد من الحزن البكاء على مَن قُتل فيها ، إذاً فقد انشغَلت النساء بمهمتهنّ المقدّسة تلك ، ولم تجد إحداهنّ الفرصة الكافية لرواية التفاصيل.
القسمُ الثالث : الأطفال القلائل الذين نجوا من واقعة الطف ، واستطاعوا الهرب منها : كأحمد بن مسلم بن عقيل ، أو عادوا مع النساء : كالحسن المثنّى (١) وغيرهم (٢) ، فإنّهم أصبحوا كباراً بالتدريج ، فمن الممكن لهم عندئذٍ أن يَرووا ما رأوا وما سمعوا.
إلاّ أنّنا مع ذلك لا ينبغي أن نبالغ في إمكان أخذ التفاصيل من هؤلاء تاريخيّاً ؛ لعدّة أمور لعلّها تندرج في أمرين :
الأمرُ الأوّل : حالهم في واقعة الطف نفسها ، فإنّهم :
١ ـ كانوا محجوزين في الخيام مع النساء ولا يشاهِدون التفاصيل.
__________________
(١) الحَسَن المثنّى : ذكرهُ المفيد في الإرشاد وقال : وأمّا الحسن بن الحسن بن علي عليهالسلام ، فكان جليلاً رئيسيّاً فاضلاً ورعاً ، وكان يلي صدقات أمير المؤمنين عليهالسلام في وقته ، ولهُ مع الحجّاج خبر ذكرهُ الزبير بن بكّار ، وكان قد حضرَ مع عمّه الحسين عليهالسلام الطف ، فلمّا قُتل الحسين عليهالسلام وأُسِّر الباقون من أهله ، جاءهُ أسماء بن خارجة فانتزعهُ من بين الأسرى.
وقد تزوّج من بنت عمّه فاطمة بنت الحسين عليهالسلام ، فأولدها عبد الله المحض ، وإبراهيم العمر ، والحسن المثلّث ، ومن غيرها داوود ، وجعفر ، ومحمد ، ورقيّة ، وفاطمة ، وقد توفيَ بالسُم الذي دسّه له سليمان بن عبد الملك فماتَ وعمره (٥٣ سنة) رجال السيّد بحر العلوم : ج ١ ، ص ٢١ بتصرّف ، ط نجف.
(٢) عُمدة الطالب : ص ٧٨ ، مقاتل الطالبيين : ص ١١٩ ، ط دار المعرفة ببيروت.
٢ ـ لا يعرفون أسماء الرجال الموالين والمعادين لكي يرووا تفاصيل أعمالهم.
٣ ـ إنّ فهمهم الطفولي يومئذٍ لم يكن يساعد على الاستيعاب ، وكان عُمر أحدهم يومئذٍ قد لا يزيد عن خمس سنوات بالمعدّل ، ولم يكونوا بمعصومين لكي نقول : إنّ الفهم منهم لا يختلف باختلاف سِني العمر.
الأمرُ الثاني : إنّني لا أعتقدُ أنّهم مذكورون في أسناد الروايات الناقلة للتفاصيل عن واقعة الطف إلاّ نادراً ، ولو كان الرواة المتأخّرون نسبيّاً قد سَمعوا منهم لذَكروهم في السند ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الحذف من السند كان لداعي التقيّة يومئذٍ ؛ فإنّ نقلَ قصّة الحسين عليهالسلام كان مورداً للتقيّة المكثّفة والصعبة في زمن الأمويين الذين قتلوه ورضوا بمقتله ، بل الأمر كذلك في زمن أكثر الخلفاء العبّاسيين أيضاً.
القسمُ الرابع : الأعداء الذين حاربوا الحسين عليهالسلام فعلاً في واقعة كربلاء ، وكانوا حاضرين خلالها ، ولكنّهم نجوا من الموت ورجعوا إلى بلداهم فأمكنهم أن ينقلوا القصّة ويسمع منهم الناس عنها الشيء الكثير. ويُروى : إنّ المختار الثقفي حينَ أعلن الأخذ بثأر الحسين عليهالسلام ، كان يقبض على أعدائه واحداً واحداً ، فيسأله عمّا فعلهُ في واقعة الطف ، فيقتلهُ بالشكل الذي قَتلَ به الشهداء هناك (١) ، فقد حصلَ من ناحية الأعداء روايات تفصيليّة عن حوادث كربلاء ، وهناك أخبار أخرى من غير هذا الأسلوب رويت عن : حميد بن مسلم ، وزيد بن أرقم ، وغيرهما.
فهل نستطيع أن نعتبر هذه الأخبار عنهم هي من أخبار الثقاة ، مع أنّنا نعلم أنّهم أشدّ الناس فسقاً وعناداً ضدّ الإمام المعصوم ، بل ضدّ الله ورسوله أيضاً ، فإذا
__________________
(١) مُروج الذهب : ج ٣ ، ص ٨٦.
لم يكن الخبر خبر ثقة فكيف يمكننا الأخذ به؟
وقد يخطر في البال هنا : إنّ هذا الشخص أو غيره من الأعداء حين يروي شيئاً من الحوادث إنّما يقرّ على نفسه بالجريمة ، وإقرار العقلاء على أنفسهم جائز ، فمن الممكن الأخذ بخبره من هذه الجهة.
إلاّ أنّ هذا غير صحيح لعدّة أسباب أو وجوه :
الوجهُ الأوّل : إنّ قاعدة إقرار العقلاء إنّما تَجعل الخبر معتبراً بالنسبة إلى العقوبة للمتكلّم به ، أو تحميله مسؤوليّته بشكلٍ وآخر ، ولا تَجعل الخبر مُعتبراً بمعنى كونه مشهوداً له بالصحّة بشكل مطلق.
الوجهُ الثاني : إنّ هذا الشخص أو ذاك ممّن كان في معسكر الأعداء ، قد لا يروي الحادثة عن نفسه ، وإن تكلّم عن نفسه أعني عمّا قاله وفعلهُ في كربلاء ، إلاّ أنّه يروي ذلك مدافعاً عن نفسه ، يعني يريد أن يثبت أنّه قد رَحم الآخرين وتعطّف عليهم في الوقت الذي شدّد عليهم غيره ، وهذا شامل لعدد من النقول الواردة ، ومعه لا تكون إقراراً حتّى نُثبت حجيّتها بقاعدة الإقرار.
إذاً ، ينتج أنه ينبغي الحذر كثيراً حين نسمع من أو عن أمثال هؤلاء الأعداء أخبارهم عن واقعة كربلاء ، ومن المؤكّد أن أخبارهم ليست أخبار ثقاة بل هو خبر ضعيف ، باصطلاح أهل الحديث ؛ لأنّها رواية فاسق ومُعاند للحقّ ومَن الذي يقول بحجيّة الخبر الضعيف؟
الرواةُ المتأخّرون
لكنّ الذي يُهوّن الخَطب أنّنا نأخذ التفاصيل من كُتب علمائنا الموثوقين الأجلاّء : كالشيخ المفيد في الإرشاد ، والشيخ الإربلّي في كشف الغمّة ، وأبي مَخنف ، والخوارزمي في مقاتلهم ، والشيخ التُستري في كتابه عن الحسين عليهالسلام
وأضرابهم.
إلاّ أنّنا مع ذلك ينبغي أن نكون حَذرين في النقل لعدّة أمور :
الأمرُ الأوّل : إنّ كثيراً ممّا نَقلوا من الروايات هي ضعيفة السند ومرسلة ، وعلى كلّ تقدير لا يمكن الآخذ بها فقهيّاً.
وقد يخطر في البال : إنّ هؤلاء العلماء هم الذين تكفّلوا صحّتها على عاتقهم ، فهي معتبرة وصحيحة في نظرهم ، وهذا يكفي في النقل وإن كانت مرسلة أو ضعيفة بالنسبة إلينا.
وجوابهُ : بالنفي طبعاً ، يعني لا يكفي ذلك ؛ لأنّ صحّتها التي يعتقدون بها إنّما هي صحّة اجتهاديّة وحدسيّة ، وليست حسيّة لتكون حجّة على الآخرين ، أو قل على الأجيال المتأخّرة ، كما هو مبحوث عنه في علم الأصول.
الأمرُ الثاني : إنّه ينبغي التأكّد من نسبة الكتاب إلى مؤلّفه فقد يكون كلّه مُنتحلاً أو بعضه ، أو يكون مزيداً عليه أو محذوفاً منه وغير ذلك من الاحتمالات ، وإذا وردَ الاحتمال بطل الاستدلال ، ولعلّ أهمّ وأوضح ما هو مشكوك بالنسبة إلى مؤلّفه هو مقتل أبي مخنف ، وهو ممّا يَعتمد عليه الناس كثيراً ، وأبو مَخنف رجل صالح وموثّق ، إلاّ أنّ نسبة كتابه إليه مشكوكة.
الأمرُ الثالث : إنّه ينبغي التأكّد أنّ النقل في الكتاب إنّما هو بنحو الرواية لا بنحو الحدس ؛ فإنّه وجِد خلال التأريخ مَن كَتبَ عن واقعة الطف من زاوية الحَدس والكشف العرفاني لا بنحو الرواية ، وحاولَ فهمها من وجهة نظره تلك ، وهذا هو الذي يبدو من الشيخ التستري في كتابه (الخصائص الحسينيّة) حيث يقول مثلاً : إنّ الحسين عليهالسلام حَصلت له حالة الاحتضار ثلاث مرّات. فإنّ هذا إن صحّ ، فقد أخذهُ بالكشف العرفاني بلا رواية ؛ فإنّه لا توجد أيّة رواية بذلك ، وهكذا كثير من التفاصيل.
ومن المعلوم في الأصول : إنّ هذه الحدوس والكشوف إن كانت حجّة ، فهي حجّة على صاحبها بصفته عالِماً بصحّتها ، ولا يمكن أن تكون حجّة على غيره مع احتماله لتوهّم الآخر وانفعاله ، ومن ثمّ فقد لا يكون ما قاله مطابقاً للواقع ، إلاّ أن يحصل لنا أو لأيّ شخصٍ العلم بالمطابقة ، أو حسن الظنّ بالقائل بحيث يُعلم أنّ كشوفه الوجدانيّة دائمة المطابقة للواقع ، ومن أين لنا ذلك؟
مجوّزات النَقل شرعاً
وما يمكن أن يكون مُجوّزاً للنقل شرعاً عن المعصومين (سلام الله عليهم) من الروايات ، في واقعة كربلاء أو غيرها عدّة أمور :
الأمرُ الأوّل : صحّة السَند ؛ فإنّ السند وهو مجموعة الرواة الناقلون له إن كانوا كلّهم ثقاة جازَ الإخبار به ، وتكفل مسؤوليّته أمامَ الله سبحانه.
الأمرُ الثاني : نسبة القول إلى صاحبه ، بعد العلم بانتساب الكتاب إليه ، فنقول : قال فلان أو روى فلان كذا ، أو نقول : رويَ أو قيل ، أو نقول : قال أرباب المقاتل أو المؤلّفون في واقعة كربلاء ونحو ذلك ......
وبذلك تخرج عن العهدة أمام المعصومين عليهمالسلام ، وتكون صادقاً في قولك ؛ لأنّ هذا الذي نقلتَ عن كتابه قد قال ذلك فعلاً ، لكن هذا مشروط بشرطين :
١ ـ أن يكون الأمر مرويّاً عن كتابٍ ما ، وأمّا إذا لم يكن مرويّاً إطلاقاً وأنت تقول عنه : رويَ كذا ، فهذا غير جائز بل هو الكذب نفسه.
٢ ـ أن يكون الكتاب صحيح النسبة إلى مؤلّفه ، وإلاّ فسيكون نسبة القول إلى مؤلّفه نسبة كاذبة ، فأنتَ تَكذب على المؤلِّف وإن لم تَكذب على المعصومين عليهالسلام.
الأمرُ الثالث : من مجوّزات النقل المشهورة بين الخطباء والشعراء الحسينيّين : النقل بلسان الحال ، فكأنّهم يرون أنّ الحديث يكون صادقاً مع التقيّد بهذا المعنى ، ومن هنا أباحَ الشعراء لأنفسهم إضافة أقوال وأفعال كثيرة
جدّاً إلى واقعة الطف ، بعنوان أنّها بلسان الحال لا بلسان المقال.
وهذا ليس خطأ كلّه ، بل يُحمل جانباً من الصواب من الناحية الفقهيّة ؛ فإنّ النقل بالمعنى عن الروايات جائز إن كانت الرواية بدورها مُحرَزة الصحّة ، كما أنّ النقل بلسان الحال جائز إذا أحرزنا أنّ حال المتكلّم في تلك الساعة على ذلك ، إلاّ أنّنا مع ذلك ينبغي أن نكون على حذرٍ شديد من هذه الناحية ، لعدّة وجوه :
الوجهُ الأوّل : إنّنا لا نستطيع أن نعلم حالهم رضوان الله عليهم ، لا الحسين عليهالسلام ، ولا أصحابه ، ولا نساءه ، ولا أيّ واحدٍ هناك منهم ؛ لأنّهم أعلى وأجلّ من أن نعلم ما يدور في خواطرهم وما تُخفيه سرائرهم ، في حين أنّنا بعيدون عنهم زمناً ومكاناً وثقافة ومستوى ، وغير ذلك ، إذاً فنحن جاهلون بحالهم لا أنّنا عالمون به لنستطيع التعبير عنه بأيّ حالٍ من الأحوال ، وإنّما يجوز الحديث بلسان الحال مع إحراز المطابقة للواقع ، وأنّى لنا ذلك؟
الوجهُ الثاني : إنّ ما يكون بلسان الحال إنّما هو الأقوال لا الأفعال ، فلو تنزّلنا جَدلاً عن الوجه الأوّل أو تمّ لدينا ذلك الوجه ، فإنّما يجوز النقل بلسان الحال في الأقوال وحدها ، أمّا نقل الأفعال والتلفيق فيها بعنوان كونها بلسان الحال ، فهذا لا معنى له ولا بيان له.
الوجهُ الثالث : إنّنا لو تنزّلنا جَدلاً عن الوجه الأوّل أو تمّ لنا ذلك الوجه ، فإنّه يتمّ بمعنى أنّ الحالة العامّة التي كانوا فيها معلومة لنا إجمالاً. وأمّا التفاصيل فمن غير المحتمل أن ننال منها شيئاً ، فمثلاً ما الذي خطرَ في ذهن الحسين عليهالسلام حين أخذَ رضيعه معه ليسقيه الماء ، أو في أيّة حادثة معيّنة أخرى؟ هذا متعذّر فهمه تماماً في حدود البُعد الزمني والثقافي والإيماني عنه عليهالسلام.
وفي صدد النقل بلسان الحال يمكن أن نذكر مَنشأين لجواز النقل بهذا الشكل ، فإن تمّ أخذنا به ، وإن لم يتم أعرَضنا عنه :
المنشأ الأوّل : ما وردنا من الروايات عن واقعة كربلاء ، فإنّها تدلّنا على الحال الذي كانوا فيه ، فنستطيع أن نتحدّث زيادة على ذلك في حدود الحال الذي فهمناه من تلك الروايات.
وجوابهُ : أوّلاً : إنّ الرواية ينبغي أن تكون صحيحة ومعتبرة سنداً ، لكي يمكننا استكشاف الحال من خلالها.
ثانياً : إنّ المفروض أنّنا نتحدّث عن أقوال وأفعال زائدة عمّا هو المروي ؛ لأنّه بلسان الحال ، فلا نستطيع أن نقول : (رويَ ذلك) لنكون صادقين ؛ لأنه لم يُروَ إطلاقاً.
ثالثاً : إنّ المفروض أحياناً أنّنا نروي حوادث وأقوالاً غير متشابهة على الإطلاق عمّا هو مروي ووارد ، لا في الروايات الصحيحة ولا الضعيفة ، فكيف يتمّ لنا ذلك شرعاً وهل هو إلاّ من الكذب الصريح؟
المنشأ الثاني : لجواز النقل بلسان الحال ، العُرف ، فما كان يناسب من الناحية العرفيّة أن يكون حالهم عليه ، جازَ التعبير عنه ، وما لا يناسب ذلك لم يجز التعبير عنه ، واتباع العرف أمر جائز عرفاً وحجّة كما ثبتَ في علم الأصول. إلاّ أنّ هذا غير صحيح لعدّة مناقشات تَرد عليه :
أوّلاً : إنّ العرف إنّما تَثبت حجيّته في علم الأصول في موارد معيّنة لا يمكن تعدّيها ، ولا قياس غيرها عليها ، وهي حجيّة الظواهر المأخوذ بها عرفاً وحجيّة المعاملات المتعارفة في العرف.
وأمّا الكذب والكلام الزائد ، فهو وإن كان عرفاً سائراً ، إلاّ أنّه منهي عنه قطعاً في الشريعة ومُحرّم أكيداً.
ثانياً : إنّ العرف إنّما يكون حجّة في ما يناسب حال العرف ومستواه. وأمّا ما كان خارجاً عن حال العرف كالأمور الرياضيّة والفلسفيّة ، فلا سبيل للعرف إليها ، ونحن نعلم أنّ حال أولئك الأبطال الأفذاذ أعلى من أن يفهمه العرف ، فالتنزّل بمستواهم إلى درجة العرف الشائع ظلمٌ لهم لا محالة.
ثالثاً : إنّ لسان الحال أصبح مبرّراً لدى البعض إلى نقل كثير من التفاصيل الكاذبة ، وهذا أمرٌ خارج عن هذا الدليل لو تمّ ، بعد التنزّل عن الوجهين السابقين جَدلاً ، فإنّه إنّما يُثبت إمكان البكاء والتضجّر واللطم ونحو ذلك ، لا أنّه يُثبت جواز الكذب والدسّ بطبيعة الحال.
الأمرُ الرابع : من مُجوّزات النقل المحتملة عن حوادث كربلاء :
ما وردَ بنحو القاعدة العامّة حيث تقول : «قولوا فينا ما شئتم ونزهّونا عن الربوبيّة» (١).
وتقريبُ الاستدلال بها للنقل : وهو التمسّك بإطلاق قوله (ما شئتم) ؛ فإنّ الفرد قد يشاء أن ينقل الأمور غير المرويّة أو غير المناسبة مع الحال وغير ذلك ، ومقتضى إطلاق القاعدة جواز ذلك كلّه ، إلاّ أنّ هذا غير صحيح بكلّ تأكيد لعدّة وجوه :
الوجهُ الأوّل : إنّ مثل هذه الرواية غير تامّة سنداً ، ومعهُ لا تكون ثابتة أصلاً ، فالاستدلال بها ـ كما هو المشهور بينهم ـ غير جائز.
الوجهُ الثاني : إنّها مخدوشة في الدلالة أو التعبير وهو قوله فيها : (ونزّهونا عن الربوبيّة) ، في حين أنّ الربوبيّة كمال وعَظمة ، والتنزيه إنّما يكون عن النقص والخسّة والرذيلة ، فهذا إنّما يدلّ على ضعف سندها وعدم ورودها إطلاقاً.
__________________
(١) البحار : ج ٢٥ ، ص ٢٦١ بتصرّف.
ويمكن أن يكون المتكلّم بها قد قال : (ونزّلونا عن الربوبيّة) ، فَنقلها الراوي بالهاء وهو قوله : (نزّهونا) ، إلاّ أنّ هذا الاعتذار لا يجعلها تامّة سَنداً.
الوجهُ الثالث : إنّ التمسّك بإطلاقها على سَعته غير مُحتمل فمثلاً : هل يمكن أن يشمل قوله : (قولوا فينا ما شئتم) القول السيئ من القدح والشتم ونحوه ، إنّ هذا غير محتمل طبعاً ، إذاً فالمراد : ما شئتم ممّا هو مناسب مع شأننا ، ومن الواضح أنّ كثيراً ممّا نقول عنهم بلسان الحال ليس مناسباً مع شأنهم.
الوجهُ الرابع : إنّ قوله فيها (ما شئتم) يراد به الأوصاف الإجماليّة : ككونهم علماء ، أو عظماء ، وغير ذلك ، ولا يراد بها التفاصيل من نقل الأقوال والأفعال الكاذبة عنه ، وإن كانت مناسبة لشأنهم ، فضلاً عمّا إذا لم تكن ، والمفروض إلى الحديث عن لسان الحال أنّه يكون بالتفاصيل لا بالإجمال.
الوجهُ الخامس : في المعنى الأصلي الذي أفهمهُ من هذه الرواية : وهو أنّ فهمَنا لا يكون له أيّ ارتباط للنقل بالمعنى من قريب أو بعيد ، والمعنى الذي أفهمهُ كما يلي : قولوا فينا ما شئتم من المدائح ، أو من صفات الكمال والجلال ؛ فإنّكم لا تصلون إلى الواقع الذي اختارهُ الله لنا ، وستكون كلّ من مدائحكم وأوصافكم دون مستوانا الواقعي.
وإذا تصاعدنا نحن في الأوصاف لا نصل إلى صفتهم الحقيقيّة ، فضلاً عن أنّنا يمكن أن نتعدّاهم إلاّ إذا ذَكرنا لهم الربوبيّة ؛ فإنّها غير ثابتة في حقّهم ، فمثلاً نقول : إنّهم مؤمنون ، ثمّ نقول : إنّهم ورعون ، ثمّ نقول : إنّهم متّقون ، ثمّ نقول : إنّهم علماء ، ثمّ نقول : إنّهم راسخون في العلم ، ثمّ نقول : إنّهم أولياء ، ثمّ نقول : إنّهم كأنبياء بني إسرائيل أو أفضل منهم ، كلّ ذلك ونحن لم نصل إلى حقائقهم ومستوياتهم الواقعيّة.
الأمرُ الخامس : من مجوّزات النقل المحتملة عن واقعة كربلاء :
ما ورد بنحو القاعدة العامّة : «مَن بكى على الحسين أو أبكى أو تباكى ، وجَبت له الجنّة» (١).
وتقريبُ الاستدلال بها : هو التمسّك بإطلاقها لكلّ قولٍ أو فعل صار سبباً للبكاء على الحسين عليهالسلام وأصحابه ، فإنّه يكون سَبباً لدخول الجنّة أو وجوبها للفرد سواء كان مطابقاً للواقع أو لم يكن.
وهذا المضمون وإن كان مطابقاً للقاعدة ؛ لأنّ مَن بكى أو أبكى أو تباكى بإخلاصٍ لله سبحانه وتعالى (٢) وللحسين عليهالسلام ، فإنّه يستحقّ الثواب الجزيل بلا إشكال ، إلاّ أنّ التمسّك بإطلاقها المفروض إنّما يتمّ بغضّ النظر عن المناقشات التالية ، وتلك المناقشات تَردّ عليها كرواية منقولة كما هو المشهور ، لا كمضمون مشهود على صحّته.
أوّلاً : ضُعف سَند هذه الرواية ، فلا تكون معتبرة.
ثانياً : إنّ متعلّق البكاء لم يُذكر في هذه العبارة ، ومعه يكون من الواضح
__________________
(١) أمالي الصدوق : ص ١٢٥ ، مجلس ٢٩ ، البحار : ج ٤٤ ، ص ٢٨٨ ، الدمعة الساكبة : م ١ ، ص ٣٠٠.
(٢) وهنا يشير سماحة المؤلِّف إلى أنّ الإخلاص في البكاء ، أو التباكي لله بغضّ النظر عمّا إذا كان على الحسين عليهالسلام أو غيره ، فهو سبب في الدخول إلى الجنّة ، ويؤيّد ذلك : ما ذكرهُ السيّد المقرّم في مقتله نقلاً عن كنز العمّال : ج ١ ، ص ١٤٧ في الحديث عن النبي صلىاللهعليهوآله أنّه قرأ آخر الزُمر (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً) على جماعة من الأنصار ، فبكوا إلاّ شابّاً منهم قال : لم تقطر من عيني قطرة وإنّي تباكيت ، فقال الرسول صلىاللهعليهوآله : (مَن تباكى فلهُ الجنّة).
وفي نفس المصدر عن جرير عن الرسول صلىاللهعليهوآله قال : «إنّي قارئ عليكم (ألهاكم التكاثر) مَن بكى فلهُ الجنّة ، ومَن تباكى فلهُ الجنّة» كنز العمّال : ج ١ ، ص ١٤٨.
وحدث أبو ذر الغفاري رحمهالله عن النبيّ صلىاللهعليهوآله : «مَن استطاعَ أن يبكي فليبكِ ، ومَن لم يستطع فليُشعر قلبه الحزن وليتباكِ ؛ فإنّ القلب القاسي بعيد عن الله» مقتل المقرّم نقلاً عن اللؤلؤ والمرجان للنوري ٤٧ ، ومجموعة شيخ ورام : ص ٢٧٢.
ويجب أن نشير هنا إلى أنّ المقصود ليس كلّ بكاء أو تباكي ، وإنّما يجب أن يكون البكاء خالصاً لله عزّ وجل منبعثاً من تأثير النفس والرهبة منه سبحانه وتعالى ، ويشير إلى ذلك محمّد عبدة في تفسير المنار : ج ٨ ، ص ٣٠١ حيث يقول : التباكي تَكلّف البكاء لا عن رياء.
أنّه ليس كلّ أهداف البكاء مشروعة ، أو لا ثواب عليها على الأقل.
أو قل : لا تجب لهُ الجنّة بكلّ تأكيد ، كمَن بكى للدنيا أو لمصيبة عاطفيّة ونحوها ، إذاً فالأمر مقيّد بالبكاء المرضيّ لله عزّ وجل.
ثالثاً : إنّ متعلّق البكاء لم يُذكر في هذه العبارة ، حتّى الصالح منه يعني لم يقل : إنّ البكاء من أجل الحسين عليهالسلام ـ كما يفهم المشهور ـ أو من خوف الله عزّ وجل ، أو شوقاً إلى الثواب ، أو أيّ شيء آخر ، ومن هنا لا دليل على اختصاصه بالحسين عليهالسلام.
رابعاً : إنّ وجوب الجنّة بل مطلق الثواب ، لا يكون إلاّ بحفظ الشرائط الأخرى الضروريّة في الدين ؛ لوضوح عدم شمولها للكفّار والفَسَقة وأضرابهم ، إذاً فيكون المعنى : مَن أضافَ إلى حسناته البكاء ، وجَبت له الجنّة. ومن الواضح أنّها لم تقل ذلك بوضوح ، إذاً فيبقى إطلاقها غير ثابت.
خامساً : إنّ وجوب دخول الجنّة غير مُحرز لأيّ إنسان غير معصوم ، ما لم يَمت مرضيّاً لله عزّ وجل ، وأمّا لو زالت حسناته بظلمٍ أو سوء ونحوه ، لم يستحقّ الجنّة بكلّ تأكيد ، والشاهد على ذلك قوله تعالى : (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً) (١) ، والسيّئات قد تذهب بالحَسنات ، كما أنّ الحَسنات قد تذهب بالسيّئات.
ومعهُ فيكون المعنى : مَن داومَ على الطاعة طول حياته مع البكاء ، وجَبت لهُ الجنّة ، ومن الواضح أنّه لم يقل ذلك ، كلّ ما في الأمر أنّ التمسك بإطلاقها مُشكل.
سادساً : الإخلاص في العمل لم تنصّ عليه الرواية ، وهو البكاء في سبيل الله من دون عجب ولا رياء ، فلو بكى الفرد على أمواته أو على مصاعب الدنيا ،
__________________
(١) سورة الفرقان : آية ٢٣.
لم يستحقّ الجنّة فضلاً عن أنّها تجب له ، لكنّنا ينبغي أن نُفصّل الحديث في البكاء على الأموات بعنوانٍ مستقل.
البكاءُ على الأموات
وليس المراد البكاء على الأموات حقيقة ، بل البكاء الذي يكون في الظاهر على الحسين عليهالسلام ، وفي القصد الواقعي على الأموات ، فهل يكون الفرد عليه مستحقّاً للثواب أم لا؟ وقد عرفنا قبل قليل عدم استحقاقه للثواب لا محالة ؛ لعدم وجود الإخلاص والقصد القربي لديه ، ولكن وردت في ذلك رواية من حيث إنّ الراوي يسأل الإمام عليهالسلام بما مضمونه : إنّني أبكي على الحسين عليهالسلام فأتذكّر أمواتي فأبكي عليهم ، فأجابهُ بما مضمونه : «نعم ، ابكِ ولو على أمواتك» (١).
وهذه الرواية أيضاً غير معتبرة السند ، ومعهُ يبقى الأمر على القاعدة الأوّليّة وهي عدم وجود الثواب ، إلاّ في بعض الموارد التي نشير إليها فيما بعد.
وإن كانت الرواية معتبرة السند ، فقد تمّ المطلب ، يعني أنّنا نأخذ بمحتواها : وهو وجود الاستحباب حتّى في هذه الصورة ، وهي البكاء على الأموات ، ما دام الظاهر هو البكاء على الحسين عليهالسلام ، والأمر غير خاصّ بواحدٍ معيّن بطبيعة الحال ، فقد يبكي ألف من الموجودين على أمواتهم بهذه الصورة ، وهذا ما يدلّ على أنّ الشارع المقدّس ـ لو صحّت الرواية ـ يريد حفظ الظاهر أو الصورة الظاهريّة لبكاء الناس ، وإن كان قصدهم مختلفاً ، وهذا ليس جزافاً ، بل فيه فوائد وحِكم ومصالح حقيقيّة ، يمكن أن نُدرك منها ما يلي :
أوّلاً : حفظُ تسلسل الشعائر الدينيّة واستمرارها.
__________________
(١) الكافي للكليني : ج ٢ ، ص ٤٨٣ ، بنفس المعنى.
ثانياً : إثبات وجود هذه الشعائر أمام مَن لا يؤمن بها أو لا يُنجزّها.
ثالثاً : الإسعاد في البكاء للآخرين ؛ لأنّهم لا يعلمون أنّي أبكي على أمواتي ، بل يتخيّلون أنّي أبكي على الحسين عليهالسلام بحرارة ؛ لأنّ البكاء فيه إسعاد وهو انتقال أو عدوى العاطفة من فردٍ إلى آخر ، والإسعاد في البكاء معنى لغوي مأخوذ من السعادة ؛ لأنّ الباكي يشعر براحة وسعادة حين يجد نفسه بين الباكين من أجله.
رابعاً : التربية النفسيّة من الناحية الدينيّة للفرد نفسه وللآخرين أيضاً ، فإنّه إذا قصدَ اليوم البكاء على أمواته ، فسوف يقصد غداً البكاء على الحسين عليهالسلام ، بمعنى أنّ الدافع المتدنّي سوف يتقلّص في نفسه حتّى يزول.
ومن هنا نعرف ما أشرنا إليه : من أنّ الفرد يمكن أن يحصل على الثواب ، حتّى لو بكى على أمواته ، إن كان القصد الظاهري هو البكاء على الحسين عليهالسلام ، لكن بشرط أن يقصد هذه الأمور الصحيحة التي ذكرناها الآن ونحوها ، لا أن يكون البكاء متمحّضاً للأموات حقيقة.
نعود الآن إلى ما كنّا فيه من تعداد الوجوه المحتملة المجوّزة للنقل عن حوادث كربلاء المقدّسة ، وقد سبقَ أن ذكرنا منها خمسة أمور :
الأمرُ السادس : من مجوّزات النقل المحتملة :
جواز قول الشِعر في حادثة الطف بلا إشكال ، وهذا ممّا عليه السيرة المتشرّعة في مذهبنا من زمن الأئمّة المعصومين عليهمالسلام وإلى الآن.
فالسيرة قطعيّة الصحّة ، والشِعر عن الحسين عليهالسلام قطعي الجواز ، بل قطعي الاستحباب ، بل لعلّ فيه الوجوب الكفائي إذا شحّ مُعيّنه في مكانٍ أو زمانٍ معيّن.
ومن المعلوم أنّ الشرع يحتوي على : المجاز ، والمبالغة ، والتورية ،
والمعاني العاطفيّة والخياليّة وغير ذلك كثير ، وهذا ما يدلّ على جواز أن ننسب إلى موضوع القصيدة ـ بما فيها حوادث كربلاء ـ ما نشاء من خلال القصيدة نفسها ، سواء كان وارداً في رواية معتبرة أو غير معتبرة ، أو غير وارد على الإطلاق.
إلاّ أنّ هذا الوجه قابل للمناقشة في عدّة أمور :
أوّلاً : إنّه لو تمّ لاختصّ بالشِعر ولا يمكن أن يشمل النثر ؛ لأن النثر خالٍ عرفاً وعادة عن الخيالات المستعملة في الشِعر ، وهذا الوجه لو تمّ فإنّما يجيز تلك الخيالات دون غيرها.
ثانياً : إنّ الخيالات والمبالغات ليست من نوع الكذب عرفاً وعقلائيّاً ، إذاً فالتعميم من جواز ذلك إلى جواز الكذب والدسّ في الشعر غير صحيح تماماً.
ثالثاً : إنّ السيرة كما ثبتَ في علم الأصول دليلٌ لا إطلاق له ولا لسان له ، يؤخذ منه بالقدر المتيقّن ، والقدر المتيقّن هنا : هو الشِعر الخالي من الكذب والدسّ فيكون جائزاً ، ولا يمكن التعميم بدليل السيرة إلى غيره.
وقد يخطر في البال : أنّ السيرة الموروثة عندنا هي على وجود الكذب في الشِعر بهذا الصدد ، وهي سيرة مُمضاة من قِبل الأئمّة المعصومين عليهمالسلام.
فمن ذلك قول دعبل الخزاعي (عليه الرحمة) أمام الإمام الرضا عليهالسلام :
أفاطمُ لو خِلتِ الحسين مُجدّلاً |
|
وقد ماتَ عطشاناً بشطّ فُراتِ |
إذن للَطمتِ الخدّ فاطم عندهُ |
|
وأجرَيتِ دمعَ العين في الوَجناتِ (١) |
فقد أثبتَ اللطمَ والبكاء لفاطمة الزهراء عليهاالسلام ، مع أنّهُ غير متحقّق جَزماً ؛ لأنّ الزهراء عليهاالسلام لم تكن موجودة في الدنيا لدى مقتل
__________________
(١) للشاعر دعبل الخزاعي ، أدب الطف : ج ١ ، ص ٢٩٧.
وَلدها الحسين عليهالسلام ، مع ذلك فقد سَمعها الإمام الرضا عليهالسلام ولم يعترض عليها.
وجواب ذلك يكون على مستويين :
المستوى الأوّل : ما قالهُ علماء المنطق من أنّ القضيّة الشرطيّة تصدق حتّى مع كِذب طرفيها ، وأوضح مثال له : إنّ قولنا : إذا طَلعت الشمس فالنهار موجود ، يصدُق في الليل كما يصدق في النهار ، ولا يتوقّف على طلوع الشمس فعلاً ، أو وجود النهار فعلاً ، بل يكفي في صِدق الشرطيّة صدق الملازمة والتوقّف ما بين فعل الشرط وفعل الجزاء ، وهو في المثال توقّف وجود النهار على طلوع الشمس.
ومن الواضح أنّ هذين البيتين لدعبل الخزاعي إنّما هو قضيّة شرطيّة ، وليست فعليّة أو واقعيّة ، فلا يدلّ على أنّ الزهراء قد بَكت فعلاً أو لطمت ؛ وإنّما قال : (لو خِلتِ الحسين) ، و (لو) حرفٌ من حروف الشرط فتكون قضيّة شرطيّة ، فيمكن أن تصدق مع كِذب طرفيها كما سبق في المثال.
المستوى الثاني : إنّه قد يخطر في البال أنّنا قلنا في المستوى الأوّل الذي انتهينا منهُ ، أنّ القضيّة الشرطيّة تصدق بصدق الملازمة وإن كانت موجودة في مثل قولنا : إذا طَلعت الشمس فالنهار موجود ، إلاّ أنّها غير موجودة في قول دعبل : (أفاطمُ لو خِلتِ الحسين مُجدّلاً) ، ولا أقلّ من الشكّ في ذلك ؛ لأنّنا لا نعلم أنّ الزهراء عليهاالسلام ماذا سيكون ردّ فعلها إذا عَلمت بمقتل ولدها ، وخاصّة بعد أن أشرنا فيما سبقَ من أنّ قضيّة الإمام الحسين عليهالسلام فيها جانبان : الاستبشار ، والحُزن. ولا شكّ أنّ الحُزن أقرب إلى المضمون الدنيوي ، وإن كانت لهُ نتائج دينيّة كما سبق ، كما لا شكّ أنّ الاستبشار أقرب إلى المضمون الأخروي أو الواقعي.
ومن المعلوم أنّ الزهراء (سلام الله عليها) تكون في الآخرة مُطّلعة
على الواقعيّات ، ومع الاطّلاع على الواقعيّات ، فمن الممكن أن يكون ردّ فعلها هو الاستبشار لا الحزن ، فكيف يقول دعبل الخزاعي هذين البيتين؟ نُعيدهما لكي يطّلع القارئ الكريم مجدّداً :
أفاطمُ لو خِلتِ الحسين مُجدّلاً |
|
وقد ماتَ عطشاناً بشطّ فُراتِ |
إذن للَطمتِ الخدّ فاطم عندهُ |
|
وأجرَيتِ دمعَ العين في الوَجناتِ |
فإذا التفتنا والحال هذه إلى أنّ الإمام الرضا عليهالسلام قد أقرّ عمل دعبل وباركهُ ، إذاً فمن الممكن القول : إنّ أمثال ذلك من جِنس الكذب ، وهو عَرض ما هو مُحتمل باعتبار أنّه يقين فيكون جائزاً بإقرار الإمام عليهالسلام.
وجوابُ ذلك من عدّة وجوه نَذكر المهمّ منها : وهو أنّ دِعبل الخزاعي ـ حيث قال هذين البيتين وأضرَابهما ـ إنّما يُعبّر عن مستواه في الإيمان واليقين ، ومقتضى مستواه : هو أن يُفهِم الزهراء (سلام الله عليها) بهذا المقدار لا أكثر ، ومن الصعب عليه أن يلتفت إلى ما ذكرناه من احتمال الاستبشار برحمة الله عزّ وجل ، والإمامُ الرضا عليهالسلام لم يجد مصلحة في تنبيهه على ذلك ، إذ لعلّها من الحقائق التي يصعب عليه تحمّلها ، فمن الأفضل استمرار غفلتهُ عنها ، طبقاً لقانون : «دَعوا الناس على غَفلاتها» (١) ، أو قانون : «كلِّموا الناس على قَدر عقولهم» (٢).
ومن هنا يتّضح : أنّه ليس كلّ إقرار من قِبل الأئمّة سلام الله عليهم حُجّة في إثبات الصحّة ، بل يُشترط في الإقرار إمكان المناقشة فيه والنهي عنه ، فإذا لم يَنهِ وهو يُمكنه النهي ، إذاً يدلّ ذلك على الإقرار ، وأمّا إذا لم يُمكنه النهي على الإطلاق ، إذاً فسوف لن يكون سكوتهُ دالاً على الإقرار.
وموردنا من هذا القبيل ؛ لأنّ دعبل لم يكن يتحمّل إيضاح الفكرة له ،
__________________
(١) أشار إليها سماحة المؤلِّف في المقدّمة الثانية ، فراجع.
(٢) أصول الكافي : ج ١ ، ص ٦٧ ، حديث ١٥ ، البحار للمجلسي : ج ٢ ، ص ٦٩ ـ ٧٠ ، حديث ٢٣ ـ ٢٤.
وخاصّةً أنّ الإمام عليهالسلام لا يجد في ذلك مَفسدة دينيّة ؛ لأنّ الأعمّ الأغلب من الناس إنّما هُم بمنزلة دعبل أو دون مستواه ، فلا يكون من المنافي مع مستواهم أن يسمعوا أبياته.
إذاً ، فليس في هذه الرواية ـ لو تمّت سَنداً ـ أيّ إقرار على قول ما خالفَ الواقع من الحوادث أو الأقوال أو الأفعال ، لا في الشِعر ولا في النَثر.
وهنا ينبغي أن نلتفت إلى أنّ الحُزن الحقيقي ، إنّما هو على أهل الدنيا وأهل الشر وأهل العِناد ، على اعتبار أنّهم اختاروا لأنفسهم الغفلة والشرّ والعناد ، وقد رويَ أنّ الإمام الحسين عليهالسلام بكى على أعدائه في كربلاء (١) ، باعتبار أنّهم اجتمعوا ضدّ إمامهم ومولاهم الحقيقي وعَرّضوا أنفسهم لهذه الجرائم النكراء. وأمّا تصوّره عليهالسلام عن شهادته والبلاء الذي مرّ عليه : فهو الاستبشار والفرح بحُرمة الله ونعمته جلّ جلاله ، كما أنّ الحُزن يكون على أولئك المشمولين لقوله عليهالسلام : «مَن سمعَ واعيتنا ولم ينصُرنا أكبّه الله على مَنخريه في النار» (٢) ، وهذا هو بكاء الأبوّة الواقعيّة حين يحسّ الأب بتمرّد أولاده عليه ، والواقع أنّ تمرّدهم ليس ضدّه بل ضدّ ربّهم من ناحية ، وضدّ أنفسهم من ناحية أخرى ، فتكون المصيبة عليهم منهم أكبر ؛ لأنّه لن يُعاقَب إلاّ فاعل الجريمة.
وقد يخطر في البال : إنّ هذا البلاء في كربلاء أصبحَ ـ بحسب ما شرحناه ـ سبباً للاستبشار وللبكاء في نفس الوقت في نفس الحسين عليهالسلام ، وهذا تناقض غير معقول ، فلابدّ أن يكون للمسألة تفسير آخر.
وجوابُ ذلك : إنّ هذا البلاء بنفسه له جانبان أو نظرتان أو لحاظان :
__________________
(١) الخصائص الحسينيّة للتستري : ص ٧٨.
(٢) البحار للمجلسي : ج ٤٤ ، ص ٣١٥.