من وحي الإسلام - ج ١

الشيخ حسن طراد

من وحي الإسلام - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن طراد


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: دار الزهراء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٨٤
الجزء ١ الجزء ٢

قيد حريته بالنظام التشريعي فلم يسمح له بظلم الآخرين والاعتداء عليهم فإذا التزم بذلك سلم وسلم غيره من الظلم كما اراد الله سبحانه ، وكتب الله له الثواب على التزامه وامتثاله واذا خالف حكم الله تعالى وظلم بذلك نفسه وغيره استحق العقوبة العادلة يوم الحساب وربما عجلت له في الدنيا اذا اقتضت الحكمة الإلهية ذلك

عدالة السماء تقف مع المظلوم في وجه الاعتداء :

واما المظلوم فسوف لا تذهب مظلوميته هدرا بل لا بد ان ينظر اليها بعين العدل التشريعي معجلا وذلك بإعطاء وليه الحق في القصاص اذا كانت الجناية على حياته او اخذ الدية اذا تنازل الولي عن الاخذ بحق القصاص ووافق على اخذ الدية وكذلك اذا كان الاعتداء على احد اعضائه عمدا فالشرع يعطي هذا المظلوم المعتدى عليه الحق بالقصاص او الدية اذا تنازل عن الاول ورضي بها واذا لم يكن الاعتداء جناية على النفس او على احد الاعضاء على وجه توجب القصاص او الدية بل كان مسببا ما هو اقل من ذلك فقد اعطاه الشرع المقدس حق الرد بالمثل لقوله تعالى : ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا بمثل ما اعتدى عليكم ) (١).

واذا كان الاعتداء مسببا لإتلاف المال فالشرع يوجب على هذا المعتدي ضمان ما اتلفه لصاحبه بمثله او بقيمته وهكذا فالله العادل بقضائه وشرعه لا يظلم احدا ولا يسمح لغيره بظلمه واذا اعتدي عليه وقف الى جانبه في هذه الحياة بالتشريع العادل كما يأخذ له بحقه في الآخرة بالقضاء والفصل العادل ايضا حتى لا يذهب حق المظلوم هدراً

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٩٤.

١٢١

وربما ادت مظلومية بعض الاشخاص لان يدخله بها الجنة اذا سببت له استحقاق مقدار من حسنات الظالم مقابل حقه المادي او المعنوي الذي غصب منه في الدنيا.

وادت نقيصة حسنات الظالم لان يدخل بها النار حيث تغلب سيئاته حسناته بسبب هذه النقيصة على تفصيل وتوضيح مذكور في محله وبذلك يظهر ان ظلم شخص لآخر قد يكون رحمة للمظلوم في الآخرة على ضوء النتيجة المذكورة ويكون ظلما حقيقيا لنفس هذا الظالم قال سبحانه :

( من عمل صالحا فلنفسه ومن اساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد ) (١)

فلسفة الابتلاء بالحوادث الطبيعية :

ويبقى النوع الثالث من المصيبة : هو الذي يحتاج الى الإجابة الواضحة المبينة لحقيقة العدل الإلهي فأقول :

ان كل الحوادث التي تجري في الحياة خارج نطاق اختيار الإنسان وارادته انما تحدث لاسباب تكوينية اودعها الله سبحانه في الكون لمصلحة نوعية تخدم نوع البشر واكثر افراده فأصل وجود الريح وهبوبها قوية او خفيفة لمصلحة عامة وخلق الماء سائلا بطبعه لحكمة كما ان خلق النار محرقة لمصلحة وهكذا.

وقد يتفق في بعض الاحيان ان تحمل الريح النار الى زرع شخص وتحرقه كما قد يتفق ان يكون هبوب الريح بدرجة قوية ولمصلحة نوعية لا يعلمها تفصيلا الا الله سبحانه مؤديا لغرق السفينة وهلاك من فيها ففي

__________________

(١) سورة فصلت ، الآية : ٤٦.

١٢٢

هذه الموارد التي تتصادم فيها مصالح نوع المجتمع واكثرية افراده مع مصلحة بعض الاشخاص قد تقتضي المصلحة النوعية والحكمة الإلهية ان تبقي القانون الطبيعي جاريا على مجراه التكويني ليؤدي الخدمة النوعية الكبرى ولو ادى ذلك الى حدوث الضرر لبعض الافراد من باب تقديم الاهم على المهم في عالم المصالح عندما تتزاحم وتتصادم ولا يتنافى ذلك مع العدالة الإلهية لان الاضرار الطارئة على الإنسان في هذه الحياة بالقدر والقضاء اذا رضى بقدر الله سبحانه وصبر عليه تعوض عليه في الآخرة بما يعطيه سبحانه للمؤمن الصابر من الثواب العظيم والاجر الجسيم.

وإبطال مفعول القانون الطبيعي بجعل النار بردا وسلاما مثلا كما حصل مع النبي إبراهيم ـ لا يكون الا على وجه المعجزة ومع النبي او الإمام والقريب منهما من الاولياء الصلحاء كما هو واضح.

فلسفة الابتلاء بالمحن والحوادث الطبيعية :

واما الحوادث الطبيعة التي يقدرها الله سبحانه في بعض الاحيان لتكون عقوبة للمجرمين المتمردين على إرادته تعالى فهذه ايضا لا تنافي العدل الإلهي بالنسبة الى مستحقي العقوبة.

أولاً : لاستحقاقهم لها وثانيا لان العقوبة المعجلة تخفف من المؤجلة ليوم الحشر الموعود.

واما بالنسبة الى المؤمنين الصابرين فالافراد الطارئة عليهم في هذه الحياة تعوض عليهم بالنعيم الخالد والسعادة الابدية جزاء عادلا ومكافأة لهم على تسليمهم لقضاء الله سبحانه وصبرهم عليه حيث يدخلون الجنة

١٢٣

بغير حساب لقوله تعالى : ( إنما يوفى الصابرون اجرهم بغير حساب )(١).

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ايها الإخوان الاعزاء اولا وآخرا ورحمة الله.

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية : ١٠.

١٢٤

الخطبة الثانية عشر (١)

دور الايمان في سعادة الإنسان

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين

الصلاة والسلام على نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتجبين.

والسلام عليكم أيها الإخوان الأعزاء والأبناء الأحباء ورحمة الله وبركاته :

وبعد : قال الله سبحانه في محكم كتابه المجيد : ( والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) (٢).

بين الله سبحانه بهذه السورة المختصرة لفظا والموسعة معنى ان طبيعي الإنسان واقع في الخسر المطلق المادي والمعنوي الفردي

____________

(١) ألقيت هذه الخطبة في مسجد الإمام المهدي ( عج ) يوم الجمعة في ٢٧ ـ ١٢ ـ ١٩٨٢ م.

(٢) سورة العصر ، الآيات : ١ ، ٢ ، ٣.

١٢٥

والاجتماعي الدنيوي والاخروي ولا يسلم من هذا الخسر ويربح السعادة في الدنيا والآخرة الا الاشخاص الذين تتوفر فيهم اربع صفات وهي اولا الايمان الصادق وثانيا العمل الصالح وثالثا التواصي بالحق ورابعا التواصي بالصبر ولا بد من الوقوف بتدبر وتأمل امام آيات هذه السورة المباركة وعباراتها الموحية لنستلهم منها الدروس السامية في العقيدة الراسخة والاعمال الصالحة والاخلاق الفاضلة.

فأقول : المراد بالإيمان الذي يثمر للإنسان ما دلت السورة عليه من العمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر هو العقيدة الراسخة التي يستلهمها الإنسان على ضوء ما اودع الله فيه من الفطرة السليمة والاستعداد لتحصيل الإيمان الجازم بأن لهذا الكون خالقا عظيما متصفا بكل الصفات الكمالية وانه وحده لا شريك له لاستحالة وجود الشريك لذاته المقدسة لمنافاته مع كماله المطلق وقدرته الشاملة وسلطانه الواسع الذي لا يحده معارض ولا يزاحمه طرف مقابل ومن المعلوم ان وجود الشريك المماثل له في ذلك يؤدي الى عكس ما وصفناه به من الكمال المطلق ولوازمه.

هذا كله من ناحية ذاتية ومن ناحية موضوعية خارجية نستفيد وحدانية الخالق لهذا الكون من وحدة النظام والتدبير المسيطر عليه بالارادة التكوينية ليسير على نهج واحد مستمر ومستقر بدون حصول اختلاف ولا اختلال في النظام العام وهذا يوحي على ضوء العقل السليم والوجدان المستقيم بوحدة الخالق المنظم اذ لو كان له شريك مماثل وطرف مقابل لما استقام هذا النظام العام واستمر على نسق واحد كما هو المعلوم بالوجدان الفطري الذي فطر الله الإنسان عليه.

وقد نبه سبحانه على هذه الحقيقة الموضوعية الفطرية بقوله :

١٢٦

( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) (١).

وبذلك يجزم المؤمن بالاصل الاول من اصول الدين وهو التوحيد وكذلك يستوحي العقل ضرورة اتصافه سبحانه بالعدل باعتبار كونه من لوازم اتصافه بالكمال المطلق ومن المعلوم ان العدل من ابرز الصفات الكمالية وهذا هو مصدر الايمان بالاصل.

الثاني من اصول الدين وهو العدل. ومن الصفات الكمالية الحكمة ومعناها ان المتصف بها لا يصدر منه قولا بلا معنى جاد ولا عمل بلا غاية وهدف ـ واقواله كلها نور وحكمة لا يأتيها الباطل من اية جهة كما ان اعماله ومخلوقاته كانت لغاية وحكمة وهي خدمة الإنسان وقد صرح بذلك في الكثير من آيات كتابه الكريم واجمعها الآيتان التاليتان :

الأولى قوله تعالى :

( ألم تروا ان الله سخر لكم ما في السموات وما في الارض ) (٢).

والثانية قوله سبحانه :

( وسخر لكم ما في السموات وما في الارض جميعاً منهُ ) (٣).

كما خلق الإنسان لعبادته وحده لا شريك له وصرح بذلك في قوله تعالى :

( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) (٤).

__________________

(١) سورة الأنبياء ، الآية : ٢٢.

(٢) سورة لقمان ، الآية : ٢٠.

(٣) سورة الجاثية ، الآية : ١٣.

(٤) سورة الذاريات ، الآية : ٥٦.

١٢٧

والمراد بالعبادة التي جعلها الله سبحانه العلة الغائية لخلق الجن والإنس الخضوع المطلق لإرادته تعالى بكل عمل اختياري يصدر عن المكلف بإرادته وفق إرادة الله تعالى سواء كان هذا العمل باطنيا كالتفكر في خلق السماوات والارض واختلاف الليل والنهار والتدبر في الآيات الكونية المنتشرة في صفحات الآفاق والانفس كما اراد تعالى من اجل ان يتوصل المتفكر المتدبر في هذه الآيات البينات ـ الى الإيمان بوجود الله ووحدانيته وعدله وضرورة إرساله الانبياء وتعيينه للأوصياء وحشره للناس غدا يوم الجزاء.

ام كان هذا العمل الاختياري الخاضع لإرادة الله ظاهريا متمثلا بكل الافعال والتصرفات الخارجية التي يمارسها المكلف وفق ارادته تعالى وفي اطار شريعته ويراد بها في المقام ما يشمل التصرفات السلبية المتمثلة بترك المحرمات.

وعلى ضوء ما تقدم يعرف ان العبادة قسمان باطنية وظاهرية كما بينا وحيث ان العبادة الظاهرية تتحقق بامتثال الاحكام الشرعية الثابتة في الشريعة المقدسة وهي تابعة لما يوجد في متعلقاتها من المصالح والمفاسد كما هو مقتضى الحكمة الإلهية ـ وهي تختلف قوة وضعفا باختلاف مواردها وذلك هو سر اختلاف الاحكام التكليفية الناشئة منها وانقسامها الى خمسة اقسام.

وذلك لان المصلحة اذا كانت قوية بحيث لا يرضي المولى بتفويتها اقتضت الوجوب واذا كانت ضعيفة لا تمنع من الترك والتفويت اقتضت الاستحباب ـ وفي المقابل يقال ايضا في المفسدة الداعية للنهي اذا كانت قوية لا يسمح المولى بالوقوع فيها اقتضت التحريم واذا كانت ضعيفة لا تمنع من الفعل اقتضت الكراهة ـ واذا كانت صفحة العمل

١٢٨

خالية من المصلحة والمفسدة في علم الله سبحانه ففي هذا الفرض يحكم المولى بالاباحة بالمعنى الخاص وهي التي يتساوى الطرفان فيها ولا يترجح طرف الفعل على طرف الترك كما لا يترجح الثاني على الاول.

وحيث ان المكلف لا يعرف بعقله القاصر اصل وجود الملاك (١) المقتضي للحكم كما لا يعرف درجته من حيث القوة والضعف فلا يستطيع تشخيص وظيفته الشرعية ليعرف نوع العبادة المطلوبة منه في كل مورد وهل هي الفعل الزاما او مع الترخيص بالترك او هي الترك الزاما او مع الترخيص بالفعل او هي التخيير بين الفعل والترك بدون ترجيح لأحدهما على الآخر.

لذلك : كان المتعين بحكم العقل ـ في حق الله سبحانه ان يبعث لكل امة رسولا ويبعث لهم معه رسالة تشرح لهم الوظيفة العملية المطلوبة من المكلف في كل مورد ليعرف نوع العبادة الثابتة في حقه ويأتي بها على الوجه المطلوب منه.

وهذا هو الدليل العقلي السليم على ضرورة ان يرسل الله الانبياء مبشرين ومنذرين وبذلك يثبت الاصل.

الثالث من اصول الدين وهو النبوة وقد ادى الله سبحانه هذه المهمة الإلهية حيث ارسل اربعة وعشرين الف نبي اولهم آدم وآخرهم افضلهم نبينا محمد بن عبد الله عليه وعليهم افضل التحية والتسليم.

وبنفس الدليل العقلي المذكور يبرهن على ضرورة ان يعين الله الخلفاء لرسوله لانه اعلم حيث يجعل رسالته وبه يثبت الاصل.

الرابع من اصول الدين وهو الإمامة.

__________________

(١) المراد بالملاك سبب تشريع الحكم وهو المصلحة او المفسدة.

١٢٩

واما الخامس وهو المعاد : فالايمان به من لوازم الايمان بعدل الله ( الاصل الثاني ) كما هو واضح وقد شرح مفصلا في محله من كتب العقائد الإسلامية.

فالإنسان اذا حصل الإيمان الصادق المتمثل بالاعتقاد بأصول الدين المذكورة وعمل بمقتضاها بفعل ما أمره الله به وحصل مصلحته مع ترك ما نهاه عنه ليسلم من مفسدته ـ وبذلك الفعل وهذا الترك يتجمل بالفضيلة ويتجنب الرذيلة.

أجل : اذا حصل الإنسان الإيمان الصادق وترجمه على الصعيد الخارجي بالتقوى والعمل الصالح يتوفق بذلك لنيل السعادة والسلامة من الخسارة في الدنيا والآخر.

وقد نص الله سبحانه على ذلك بقوله : ولو ان اهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض.

وقد تقدم شرحها مفصلا في الخطبة الرابعة صفحة ٢٢.

هذا حاصل ما ينبغي ان يذكر في المقام من وحي الصفتين الاوليين (١) من الصفات الاربع المساهمة في سلامة الإنسان المؤمن من الخسارة الشاملة وظفره بربح السعادة الكاملة.

وبقي عليَّ ان اتابع الحديث حول الصفتين الاخريين وهما التواصي بالحق والتواصي بالصبر ليعرف الوجه في ترتب السلامة من الخسر عليهما وربح السعادة بواسطتهما فأقول :

حيث ان الفرد يشكل اللبنة في بناء صرح المجتمع وخصوصا

__________________

(١) وهما صفتا الإيمان الصادق والعمل الصالح.

١٣٠

المجتمع الإسلامي الذي بناه الإسلام على اساس المحبة والتضامن ليصبح بمنزلة الجسد الواحد الذي اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى كما هو مضمون الحديث الشريف لذلك لا يحصل لهذا الفرد ما اراد الله سبحانه حصوله له من السلامة من الخسر الشامل مع الظفر بالربح الكامل الا اذا اشاع بين افراد المجتمع ـ الحق في العقيدة والشريعة والسلوك والممارسة على تفصيل مضى في بعض الخطب السابقة.

وهذا يتوقف على ان يقوم الشخص اولا بوظيفته الفردية الواجبة عليه في حق نفسه بأن ينور عقله بالعلم والعرفان وقلبه بالعقيدة الصادقة ويجمل شخصه ويزكي نفسه بترجمة عقيدته هذه على الصعيد الخارجي بالتقوى والعمل الصالح ثم يقوم بعد ذلك بالوظيفة الاجتماعية المطلوبة منه نحو افراد مجتمعه بأن يوصيهم بالحق في مجالاته الثلاثة المذكورة بعد ان قام بوظيفته في حق نفسه.

وحيث ان إيمانه الصادق هو الذي يدفعه للقيام بوظيفته الاجتماعية المذكورة يعرف بذلك الوجه في ترتب هذه الوظيفة على الإيمان ويأتي الحديث النبوي المشهور القائل لا يؤمن احدكم حتى يحب لاخيه ما يحب لنفسه مؤكداً لذلك وقريب منه الحديث الآخر المشهور القائل :

من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم.

وهناك آيات كثيرة تشير الى هذا المضمون منها قوله تعالى :

( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) (١).

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية : ٧١.

١٣١

وقوله تعالى : ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم أياته لعلكم تهتدون ) (١).

وحيث ان الالتزام بالحق عقيدة ونظاما وسلوكا وعدم الانحراف عن خطه القويم وصراطه المستقيم رغم الصعوبات والضغوطات التي يتعرض لها المؤمن الملتزم ، صعب جدا فلا بد له من التجمل بالصبر والثبات على صعيد المبدأ لينال الغاية المنشودة والسعادة الخالدة المترتبة على الصبر الذي هو مفتاح الفرج واساس النجاح في كل الاهداف الحياتية والاخروية.

وبعد تجمل الفرد بهذه الصفة الجميلة النبيلة يطلب منه ان يوصي غيره بها ليصبح المجتمع بتعاونه وثباته صفا واحدا منطلقا بقوة وصلابة نحو اهدافه وتطلعاته النافعة للمخلوق والمشروعة من قبل الخالق.

ويأتي صبر الرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذين آمنوا معه على ما تعرضوا له من الإيذاء والمعاناة في مطلع فجر الدعوة المباركة في مكة المكرمة مع صبرهم على خوض معارك الشرف والجهاد المقدس من اجل الدفاع عن المبدأ الحق في المدينة المنورة بعد الهجرة المظفرة.

أجل : يأتي هذا الصبر الجميل ليكون شاهدا صادقا على واقعية وفاعلية القيام بالوظيفة الاجتماعية بعد تأدية الوظيفة الفردية حيث كان لتجمل كل فرد من المهاجرين والانصار بالالتزام بالحق عقيدة وشريعة وسلوكا مع تضامنهم وتعاونهم على البر والتقوى وتواصيهم بالحق والصبر ـ أبلغ الاثر في قوة المجتمع الإسلامي وقدرته على التصدي لكل

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٠٣.

١٣٢

الهجمات الظالمة من قبل اعدائهم.

وتأتي قوة الإيمان بالله سبحانه والثقة بنصره لعباده المؤمنين المجاهدين في سبيله والمتوكلين عليه لتعلب دورا بارزا في دعم الصف الإسلامي ونصره على خصومه قال سبحانه :

( وكان حقا علينا نصر المؤمنين ) (١).

وقال تعالى : ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) (٢).

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين والسلام عليكم أيها الاخوان الاعزاء والابناء الاحباء اولاً وآخراً ورحمة الله.

__________________

(١) سورة الروم ، الآية : ٤٧.

(٢) سورة الطلاق ، الآية : ٣.

١٣٣

الخطبة الثالثة عشر (١)

الصبر وأسبابه وأقسامه وفوائده

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين

الصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين.

والسلام عليكم أيها الإخوان الأعزاء والأبناء الأحباء ورحمة الله وبركاته.

وبعد : قال الله سبحانه في محكم كتابه المجيد : ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجُوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أُولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأُولئك هم المهتدون ) (٢).

وقال سبحانه : ( واصبروا إن الله مع الصابرين ) (٣).

__________________

(١) ألقيت هذه الخطبة في مسجد الإمام المهدي ( عج ) يوم الجمعة في ٢٧ ـ ١٢ ـ ١٩٨٢ م.

(٢) سورة البقرة ، الآيات : ١٥٥ ، ١٥٦ ، ١٥٧.

(٣) سورة الأنفال ، الآية : ٤٦.

١٣٤

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : « الصبر نصف الإيمان » وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الصبر كنز من كنوز الجنة » وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ولاجسد لمن لا رأس له ولا إيمان لمن لا صبر له » ونقل عن الإمام علي عليه‌السلام حديث بهذا المضمون.

صدق الله العلي العظيم ورسوله الكريم وأهل بيته الطيبون الطاهرون.

ليس غريبا ان يرد في الإسلام كتابا وسنة ـ مدح للصبر والصابرين بهذا الاسلوب اللافت الى اهميته وسمو درجته لانه ارفع وانفع صفة يتجمل بها الإنسان المسلم في هذه الحياة ويعرف دوره في تربية النفس والسمو بها الى اعلى مراتب الفضل والكمال من تعريفه بأنه عبارة عن الملكة الراسخة والقوة الإرادية الثابتة التي تساعد على ضبط النفس وحفظ توازنها واستقامتها في المنهج الحق عقيدة وشريعة وعملا وعدم الانحراف عنه تحت تأثير أي عامل ذاتي داخلي او موضوعي خارجي.

وذلك لان الحياة ميدان صراع وجهاد في سبيل تحقيق الاهداف والتطلعات المرغوبة ودفع او اتقاء الاضرار المرهوبة كما قال ذلك الشاعر :

قف دون رأيك في الحياة مجاهداً

إن الحياة عقيدة وجهاد


ولذلك كان لا بد للإنسان الرسالي المجاهد فيها من ارتداء ثوب الصبر والتجمل به ليكون السلاح الذي يدافع به ويدفع عنه كل الحوادث التي تعترض سبيل تقدمه ونجاحه في حياته كما يكون الدرع الذي يتلقى به الصدمات الطارئة والضربات المؤلمة ويتابع مسيرته الجهادية بثبات وعزيمة حتى يدرك هدفه المرسوم المشروع او يسقط شهيدا في ساحة

١٣٥

النضال من اجله وهذا ما اعلن عنه سيد المرسلين وقدوة المجاهدين الصابرين نبينا محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما روي عنه من قوله :

« والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على ان اترك هذا الامر لما تركته حتى يظهره الله او اهلك دونه ».

أقسام الصبر ومراتبه :

وقد بين الله سبحانه دور الصبر والتقوى في انتزاع النصر على الاعداء في معركة الجهاد والتحدي بقوله تعالى.

( بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة الآف من الملائكة مسومين ) (١).

كما بين أثره البالغ في الآخرة وان الله سبحانه يضاعف لهم اجرهم هناك حيث قال :

( ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ماكانوا يعملون ) (٢).

وقال تعالى : ( أُولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ) (٣).

وقال أيضاً : ( إنما يُوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) (٤).

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « في الصبر على ما تكره خير كثير ».

وروي ان المسيح قال للحواريين إنكم لا تدركون ما تحبون الا

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٢٥.

(٢) سورة النحل ، الآية : ٩٦.

(٣) سورة القصص ، الآية : ٥٤.

(٤) سورة الزمر ، الآية : ١٠.

١٣٦

بالصبر على ما تكرهون.

هذا وقد قسم الصبر عدة تقسيمات بعدة اعتبارات.

الأول : تقسيمه بلحاظ نفسه الى قسمين :

أ ـ الممدوح وهو الذي ورد مدحه ومدح الصابرين المتجملين به في الكثير من الآيات والروايات وقد مر بعضها.

ب ـ المذموم وهو الصبر على الضيم والرضا بالذل والهوان مع القدرة على رفعه والصبر على المرض والمه مع التمكن من علاجه والصبر على الفقر والاحتياج للآخرين مع التمكن من إزالته بالكد والعمل وقد قال بعضهم في ذم الصابرين على الضيم مع تمكنهم من دفعه :

ولا يقيم على ضيم يراد بــه

إلا الأذلال عيُر الحي والوتدُ

هذا على الخسف مربوط برمته

وذا يشج فلا يرثي له أحـدُ


الثاني : تقسيمه بلحاظ مرتبته ودرجته في الفضل الى ثلاثة اقسام :

أ ـ منها يراد به معنى سلبي وهو عدم اظهار الجزع والضجر من المصيبة.

ب ـ يراد به معنى إيجابي وهو الرضا بما حصل من فقد محبوب او وقوع مكروه وهذا افضل من الاول وارقى درجة كما هو واضح.

جـ ـ الميل النفسي لما حصل من ذلك والرغبة فيه لما يترتب عليه من الاجر العظيم والثواب الجزيل وهذا افضل من الثاني وهو صبر الانبياء والاوصياء والتابعين لهم بإحسان من الاولياء والمؤمنين الاصفياء ويأتي صبر ايوب ونبينا محمد عليهما الصلاة والسلام من بين الانبياء وصبر الحسين عليه‌السلام من بين الاوصياء ليكون المثل الاعلى والنموذج

١٣٧

الامثل للصبر العظيم على الخطب العظيم والبلاء الجسيم وقد اقتدت به اخته بطلة كربلاء زينب الجلد والتحمل ـ في الصبر على الشدائد والثبات في المواقف الصعبة وكلاهما ـ أعني الحسين وشقيقته البطلة سلام الله عليهما ورثا ذلك من ابويهما مع ما ورثاه منهما من انواع الفضائل والكمالات والى ذلك اشار الشاعر بقوله في حقها :

بأبي التي ورثت مصائب أمها

فغدت تقابلها بصبر أبيها

وهناك تقسيم ثالث للصبر بلحاظ ما يتعلق به ـ الى ثلاثة اقسام :

الأول ـ الصبر على الطاعة.

الثاني ـ الصبر عن المعصية.

الثالث ـ الصبر على المكروه وذلك لان الالتزام بفعل الواجب وترك الحرام بالسير في خط التقوى المستقيم رغم تعرض المكلف الملتزم لكثير من الضغوطات والاغراءات التي تقتضي بطبعها الانحراف عن خط الاستقامة اذا تجرد عن ملكة الصبر وقوة الارادة.

أجل : إن الثبات على نهج الاستقامة رغم وجود ما يدعو الى الانحراف عنه من العوامل الضاغطة ، يعتبر من اصعب الامور التي لا يتحملها الا المؤمن المتمسك بعروة الصبر الوثقى ـ وحيث اني عطفت ترك الحرام وهو مورد الصبر عن المعصية على فعل الواجب وهو مورد الصبر على الطاعة يكون الحديث قد شمل كلا القسمين الاولين وبقي القسم الثالث وهو الصبر على المكروه وهو قريب من سابقيه وقد يكون اشد صعوبة في بعض الموارد التي تعظم فيها المصيبة ويشتد المكروه.

١٣٨

مدى ارتباط الصبر بالإيمان :

وبقليل من التأمل ندرك مدى ارتباط الصبر بالايمان وتفرعه عنه وتبعيته له بالقوة والضعف وذلك لان إيمان المؤمن بترتب الثواب العظيم والاجر الجسيم على إتيانه بالواجبات مضافا الى ما يستفيده من فعلها في هذه الحياة يدفعه الى الاتيان بها بقوة صبر ورحابة صدر مهما كانت تكلفه من المشقة والمعاناة كالصوم في ايام الحر الشديد والاتيان بمناسك الحج في الجو الحار ومع الازدحام المجهد وخصوصا وقت الرمي والطواف.

واوضح من ذلك القيام بواجب الجهاد المقدس ومحاربة الاعداء وخصوصا في هذه الايام التي تعاون فيها اعداء الاسلام والمسلمين على الإثم والعدوان لمحاربتهم بشتى الاساليب ومختلف الوسائل الكثيرة والمتطورة ورغم ذلك كله فإن المؤمنين المخلصين يثبتون في ساحة الجهاد الاكبر والاصغر مترقبين ادراك الثواب العظيم على صبرهم وتحملهم الصعوبات الناشئة من التزامهم بواجب الاطاعة وترك المعصية كما يترقبون احدى الحسنيين حال تأديتهم فريضة الجهاد المقدس النصر او الشهاده.

وكذلك : إيمان المؤمن الملتزم بترك المعصية والانحراف عن خط العبودية واعتقاده بما سيناله من الثواب الجزيل يوم الجزاء مضافا الى ما يترتب على ترك المعصية من السلامة والخلاص من أثارها السلبية في هذه الحياة.

أجل : إن إيمان المؤمن بذلك كله يخفف عنه صعوبة الالتزام بترك

١٣٩

المعصية كما ان إيمانه بنيل الاجر العظيم بصبره على البلاء ورضاه بالقدر والقضاء يسهل عليه امر الصبر عليه (١) وتحمل نتائجه الصعبة ـ كما يصبر المريض على تجرع الدواء المر وعلى الم العملية الجراحية لثقته بالطبيب واخلاصه له وانه لم يصف له هذا الدواء او تلك العملية الا لينقله بمرارة الدواء الى حلاوة الشفاء ومن الالم القليل الى الشفاء الطويل

أسباب الصبر المؤدية له :

وبذلك يتضح مدى تأثير الايمان في الصبر بكل اقسامه ولذلك عبر عنه بأنه من الصبر بمنزلة الرأس من الجسد كما تقدم.

وقد ذكروا أمورا اخرى مساعدة على التجمل بفضيلة الصبر وهي كثيرة اهمها ما يلي :

الأول : التفكر في النتائج الايجابية الحميدة المترتبة على الصبر في هذه الحياة مضافا الى ما يناله غدا يوم القيامة من الثواب العظيم والاجر الجسيم.

الثاني : التأمل في الاثار السلبية المترتبة على الجزع في الحاضر مضافا الى ما قد يترتب عليه من الإثم واستحقاق العقوبة اذا كان متضمنا الاعتراض على قضاء الله وعدم الرضا بقدره.

الثالث : ملاحظة ان الابتلاء بالمصائب في هذه الحياة امر عام لا يسلم منه إنسان كما قال الشاعر في شأن الدنيا :

طبعت على كدر وأنت تريدها

صفوا من الاقذاء والاقذار

ومكلف الايـام ضد طـباعها

متطلب في الماء جذوة نار

__________________

(١) أي على البلاء.

١٤٠