الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-435-3
الصفحات: ٥٣٤
فإذا قُسّم ماله وقصر عن الديون أو لم يكن له مالٌ البتّة ، لم يؤمر بالتكسّب ولا بأن يؤاجر نفسه ليصرف الأُجرة والكسب في الديون أو في نفقتها ـ وبه قال الشافعي ومالك وأحمد في إحدى الروايتين (١) ـ لقوله تعالى : ( وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ) (٢).
ولما رواه العامّة عن أبي سعيد الخدري : أنّ رجلاً أُصيب في ثمار ابتاعها فكثر دَيْنه ، فقال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : « تصدّقوا عليه » فتصدّقوا عليه فلم يبلغ وفاء دينه ، فقال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : « خُذُوا ما وجدتم [ و ] (٣) ليس لكم إلاّ ذلك » (٤).
ولأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لمّا حجر على معاذ لم يزد على بيع ماله (٥).
ومن طريق الخاصّة : ما رواه غياث بن إبراهيم عن الصادق عن الباقر عليهماالسلام : « أنّ عليّاً عليهالسلام كان يحبس في الدَّيْن ، فإذا تبيّن له إفلاس وحاجة خلّى سبيله حتى يستفيد مالاً » (٦).
واستعدت امرأة على زوجها عند أمير المؤمنين عليهالسلام أنّه لا ينفق عليها وكان زوجها معسراً ، فأبى أن يحبسه وقال : « إنّ مع العسر يسراً » (٧) ولو كان التكسّب واجباً لأمر به.
ولأنّ هذا تكسّب للمال ، فلا يُجبر عليه ، كما لا يُجبر على قبول الهبة
__________________
(١) الحاوي الكبير ٦ : ٣٢٥ ، حلية العلماء ٤ : ٤٨٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٨٢ ، الكافي في فقه أهل المدينة : ٤٢٢ ، المعونة ٢ : ١١٨٣ ، المغني ٤ : ٥٣٩ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٤٧.
(٢) البقرة : ٢٨٠.
(٣) ما بين المعقوفين من المصدر.
(٤) تقدّم تخريجه في ص ٥٧ ، الهامش (٤).
(٥) راجع : الهامش (٤) من ص (٧).
(٦) التهذيب ٦ : ٢٩٩ / ٨٣٤ ، الاستبصار ٣ : ٤٧ / ١٥٦.
(٧) التهذيب ٦ : ٢٩٩ ـ ٣٠٠ / ٨٣٧.
والصدقة ولا تُجبر المرأة على التزويج لتأخذ المهر ، كذا هنا.
وعن مالك رواية أُخرى : أنّه إن كان ممّن يعتاد إجارة نفسه ، لزمه (١).
وقال أحمد ـ في الرواية الشهيرة عنه ـ وإسحاق : يؤاجر ، فإن امتنع أجبره القاضي ـ وبه قال عمر بن عبد العزيز وعبيد الله بن الحسن العنبري وسوار القاضي ـ لأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم باع سرقاً في دَيْنه ، وكان سرق رجلاً دخل المدينة وذكر أنّ وراءه مالاً ، فداينه الناس ، فركبته الديون ولم يكن وراءه مال ، فأُتي به النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فسمّاه [ سرقاً ] (٢) وباعه بخمسة أبعرة. قالوا : والحُرّ لا يجوز بيعه ، فثبت أنّه باع منافعه. رواه العامّة (٣).
ومن طريق الخاصّة : ما رواه السكوني عن الصادق عن الباقر عليهماالسلام : « أنّ عليّاً عليهالسلام كان يحبس في الدَّيْن ثمّ ينظر فإن كان له مالٌ أعطى الغرماء ، وإن لم يكن له مالٌ دَفَعَه إلى الغرماء ، فيقول لهم : اصنعوا به ما شئتم ، إن شئتم آجروه ، وإن شئتم استعملوه » (٤) وذكر الحديث.
ولأنّ المنافع تجري مجرى الأعيان في صحّة العقد عليها وتحريم أخذ الزكاة ، كالأعيان (٥).
والحديث الذي رووه من طريق العامّة منسوخ بالإجماع ؛ لأنّ البيع وقع على رقبته ، ولهذا روي في الحديث أنّ غرماءه قالوا للّذي يشتريه :
__________________
(١) الوسيط ٤ : ١٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٣.
(٢) ما بين المعقوفين من المصدر.
(٣) المغني ٤ : ٥٤٠ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٤٨.
(٤) التهذيب ٦ : ٣٠٠ / ٨٣٨ ، الاستبصار ٣ : ٤٧ / ١٥٥.
(٥) المغني ٤ : ٥٤٠ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٤٨ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٢٥ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١٠٧ ، الوسيط ٤ : ١٥ ، حلية العلماء ٤ : ٤٨٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٣ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٩٣.
ما تصنع به؟ فقال : أعتقه ، فقالوا : لسنا بأزهد منك في إعتاقه ، فأعتقوه (١).
وحديث الخاصّة ضعيف السند ؛ لأنّه رواية السكوني ، وهو عامّيّ المذهب.
والمنافع لا تجري مجرى المال في جميع الأحكام ، فإنّه لا يجب عليه الحجّ لأجل المنافع ، ولا الزكاة.
مسألة ٣١٠ : لو كانت له أُمّ ولدٍ أو ضيعةٌ موقوفة عليه ، ففي وجوب مؤاجرتهما نظر : من حيث إنّ المنافع وإن لم تكن مالاً فإنّها تجري مجراها ، فيجعل بدلها للدَّيْن ، ومن حيث إنّ المنافع لا تُعدّ أموالاً حاضرة حاصلة ، ولو كانت تُعدّ من الأموال ، لوجب إجارة المفلس نفسه ، ولوجب بها الحجّ والزكاة. والثاني أقرب.
وللشافعيّة وجهان (٢) كهذين.
فعلى الأوّل يؤاجره مرّةً بعد أُخرى إلى أن يفنى الدَّيْن ، فإنّ المنافع لا نهاية لها ، وقضيّته إدامة الحجر إلى قضاء الدَّيْن. لكنّه كالمستبعد.
وفي جواز بيع أُمّ الولد نظرٌ ، أقربه ذلك إن كانت قد رُهنت قبل الاستيلاد ، فإنّها تُباع في الرهن ، أو كان ثمنها دَيْناً على مولاها ولا وجه له سواها.
مسألة ٣١١ : إذا قسّم الحاكمُ مالَ المفلس بين الغرماء ، انفكّ حجره ، ولا حاجة إلى حكم الحاكم بذلك ؛ لأنّ الحجر لحفظ المال على الغرماء وقد حصل الغرض ، فيزول الحجر ، وهو أحد قولي الشافعي.
__________________
(١) المغني ٤ : ٥٤٠ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٤٩.
(٢) التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١٠٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٨٢ ، منهاج الطالبين : ١٢١.
والأظهر عنده : أنّه لا بُدَّ من فكّ القاضي ؛ لأنّه حَجْرٌ لا يثبت إلاّ بإثبات القاضي ، فلا يرفع إلاّ برفعه ، كالسفيه. ولأنّه حجر يحتاج إلى نظر واجتهاد كحجر السفيه (١).
ونمنع الملازمة الأُولى ؛ فإنّ الحجر هنا لمعنىً وقد زال ، بخلاف السفيه ، فإنّه لا يُعلم زواله إلاّ بعد الاختيار المستند إلى الحاكم. ولأنّ هذا الحجر لتفريق ماله وقد حصل ، وذلك لحفظ ماله ، فتركه محجوراً عليه يزيد في الغرض. ولأنّه حجر للغرماء وقد اعترفوا بسقوطه.
هذا إذا اعترف الغرماء بأن لا مال له سواه ، ولو ادّعوا مالاً ، فسيأتي.
مسألة ٣١٢ : لو اتّفق الغرماء على رفع الحجر عنه ، فالأقوى رفعه ؛ لأنّ الحجر لهم ، وهو حقّهم ، وهُمْ في أموالهم كالمرتهن في حقّ المرهون ، وهو أحد قولي الشافعي.
والآخَر : أنّه لا يرتفع ؛ لاحتمال أن يكون هناك غريمٌ آخَر ـ سواهم ـ غائب ، فلا بُدَّ من نظر الحاكم واجتهاده (٢).
وإدامة العقوبة بالتجويز غير جائز ، ولهذا إذا قسّم المال ، لم يزل تجويز ورود غريمٍ.
ولو باع المفلس مالَه من غريمٍ بدَيْنه ولا يُعرف له غريمٌ سواه ، فالأقرب : صحّة البيع ؛ لأنّ الحجر عليه لدَيْن ذلك الغريم ، فإذا رضي وبرئت ذمّته ، وجب أن يصحّ ، وهو أحد قولي الشافعي (٣).
__________________
(١) حلية العلماء ٤ : ٥١٩ ، الوسيط ٤ : ١٥ ، الوجيز ١ : ١٧٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٨٢.
(٢) الوسيط ٤ : ١٥ ، الوجيز ١ : ١٧٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٤ ـ ٢٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٨٣.
(٣) الوجيز ١ : ١٧٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٨٣.
والأظهر عنده (١) : أنّه لا يصحّ من غير مراجعة القاضي ؛ لأنّ الحجر على المفلس لا يقتصر على الغريم الملتمس ، بل يثبت على العموم ، ومن الجائز أن يكون له غريمٌ آخَر (٢).
والوجهان مفرَّعان على أنّ بيع المفلس من الأجنبيّ لا يصحّ ، فإن صحّ ، فهذا أولى (٣).
ولو حجر لديون جماعة وباع أمواله منهم بديونهم ، فعلى الخلاف (٤).
ولو باع ماله من غريمه الواحد بعين أو ببعض دَيْنه ، فهو كما لو باع من الأجنبيّ ؛ لأنّ ذلك لا يتضمّن ارتفاع الحجر ، بخلاف ما إذا باع [ بكلّ الدَّيْن ، فإنّه يسقط الدَّين ، فإذا سقط الدَّيْن ارتفع الحجر.
ولو باع ] (٥) من أجنبيّ بإذن الغرماء ، لم يصح (٦).
والوجه : الصحّة ـ وهو أحد قولي الشافعي (٧) ـ كما يصحّ بيع المرهون بإذن المرتهن.
وإذا قلنا : إنّه إذا فُرّقت أمواله وقُضيت الديون ارتفع الحجر عنه ، صحّ البيع من الغريم بالدَّيْن ؛ لتضمّنه البراءة من الدَّيْن.
ويمكن أن يقال : لا نجزم بصحّة البيع.
وإن قلنا : إنّ سقوط الدَّيْن يُسقط الحجر ؛ لأنّ صحّة البيع إمّا أن تفتقر إلى ارتفاع الحجر أو لا ، فإن افتقرت ، وجب الجزم بعدم الصحّة ، وإلاّ لزم
__________________
(١) في « ج ، ر » : « عندهم ».
(٢) الوجيز ١ : ١٧٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٥.
(٣ و ٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٥.
(٥) ما بين المعقوفين أثبتناه من « العزيز شرح الوجيز » و« روضة الطالبين ».
(٦ و ٧) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٨٣.
الدور ؛ لأنّه لا يصحّ البيع ما لم يرتفع الحجر ، ولا يرتفع الحجر ما لم يسقط الدَّيْن ، ولا يسقط الدَّيْن ما لم يصحّ البيع.
وإن لم تفتقر ، فغاية الممكن اقتران صحّة البيع وارتفاع الحجر ، فلتخرج الصحّة على الخلاف فيما إذا قال : كلّما ولدت ولداً فأنت طالق ، فولدت ولداً بعد ولد هل تطلّق بالثاني؟ وفيما إذا قال العبد لزوجته : إن مات سيّدي فأنتِ طالق طلقتين ، وقال السيّد لعبده : إذا متُّ فأنت حُرٌّ ، فمات السيّد ، هل له نكاحها قبل زوج وإصابة؟ (١).
وهذا عندنا لا يتأتّى.
البحث الثالث : في حبسه.
مسألة ٣١٣ : مَنْ وجب عليه دَيْنٌ حالّ فطُولب به ولم يؤدّه ، نظر الحاكم فإن كان في يده مالٌ ظاهر ، أمره الحاكم بالقضاء ، فإن ذكر أنّه لغيره ، حكم عليه بإقراره إن صدّقه المُقرّ له أو لم يُعلم منه تصديق ولا تكذيب. فإن كذّبه ، لم يقبل منه إقراره ، وألزمه بالخروج من الديون ، فإن امتنع مع قدرته على القضاء ، حبسه الحاكم.
ويحلّ لصاحب الدَّيْن الإغلاظ له في القول بأن يقول : يا ظالم ، يا معتدي ، ونحو ذلك ؛ لقوله عليهالسلام : « ليّ الواجد يُحلّ عقوبتَه وعِرْضَه » (٢).
والليّ : المطل. والعقوبة : حبسه. والعرض : الإغلاظ له في القول.
وقال عليهالسلام : « إنّ لصاحب الحقّ مقالاً » (٣).
ولو ظهر عناده بإخفاء ماله وعلم يساره وتمكّنه ، كان للحاكم ضربه.
__________________
(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٥.
(٢) صحيح البخاري ٣ : ١٥٥.
(٣) صحيح البخاري ٣ : ١٥٥ ، صحيح مسلم ٣ : ١٢٢٥ / ١٦٠١.
ولو لم يكن في يده مالٌ ظاهر ، فإن كان أصل الدعوى مالاً أو كان قد عُرف له أصلُ مالٍ ثمّ خفي أمره ، طُولب بالبيّنة على الإعسار. وإن كانت الدعوى غرامةً عن إتلافٍ أو جناية ولم يُعرف له قبل ذلك أصلُ مالٍ ، حكم بقوله مع اليمين.
مسألة ٣١٤ : إذا ثبت إعسار المديون عند الحاكم بالبيّنة أو بإقرار الغريم ، لم يجز حبسه ولا ملازمته ، ووجب إنظاره ؛ لقوله تعالى : ( وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ) (١).
ولما رواه العامّة عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال لغرماء الذي كثر دَيْنه : « خُذُوا ما وجدتم ، وليس لكم إلاّ ذلك » (٢).
ومن طريق الخاصّة : قول الباقر عليهالسلام : « إنّ عليّاً عليهالسلام كان يحبس في الدَّيْن ، فإذا تبيّن له إفلاس وحاجة خلّى سبيله حتى يستفيد مالاً » (٣).
ولأنّ الحبس إمّا لإثبات الإعسار أو لقضاء الدَّيْن ، والأوّل ثابت ، والقضاء متعذّر ، فلا فائدة في الحبس.
وقال أبو حنيفة : للغريم ملازمته ، لكن لا يمنعه من التكسّب (٤).
مسألة ٣١٥ : إذا كان للمديون مالٌ ، أمره الحاكم ببيعه وإيفاء الدَّيْن من ثمنه مع مطالبة أربابها ، فإن امتنع ، باع الحاكم متاعه عليه ، وقضى منه الدَّيْن ، وبه قال الشافعي وأحمد (٥)
__________________
(١) البقرة : ٢٨٠.
(٢) تقدّم تخريجه في ص ٥٧ ، الهامش (٤).
(٣) تقدّم تخريجه في ص ٦١ ، الهامش (٦).
(٤) الهداية ـ للمرغيناني ـ ٣ : ٢٨٦ ، بدائع الصنائع ٧ : ١٧٣ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٣٥ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١١٦ ، حلية العلماء ٤ : ٤٨٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٦ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٩٣ ، المغني ٤ : ٥٤٣ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٠٠.
(٥) تقدّم تخريجه في ص ٤٥ ، الهامش (١).
وقال أبو حنيفة : لا يبيع الحاكم ، بل يحبس الغريم إلى أن يبيع هو بنفسه (١).
وقد تقدّم (٢) البحث في ذلك.
وهل للحاكم أن يحجر عليه؟ الأقرب عندنا : المنع ؛ لأنّ التقدير أنّه متمكّن من الإيفاء ، فلا معنى للحجر ، بل يُحبس أو يُباع عليه ، وهو أحد وجهي الشافعي.
والثاني : أنّه يحجر عليه إذا التمسه الغرماء ؛ لئلاّ يتلف ماله (٣).
ولو أخفى ماله ، حبسه القاضي حتى يُظهره.
روي أنّه عليهالسلام قال : [ « ليّ الواجد يُحلّ عِرْضَه وعقوبته » (٤).
قال المفسّرون : أراد بالعقوبة الحبس و ] (٥) الملازمة ، فإن لم ينزجر [ بالحبس ] (٦) زاد في تعزيره بما يراه من ضرب وغيره.
ولو كان له مالٌ ظاهر ، فهل يحبسه لامتناعه؟ الأولى ذلك ؛ لأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم حبس رجلاً أعتق شقصاً له من عبد في قيمة الباقي (٧).
فإن ادّعى أنّه قد تلف ماله وصار معسراً ، فعليه البيّنة ، فإن شهدوا على التلف ، قُبلت شهادتهم ولم يُعتبر فيهم الخِبْرة الباطنة. وإن شهدت على إعساره ، قُبلت إن كانوا من أهل الخِبْرة الباطنة.
__________________
(١) تقدّم تخريجه في ص ٤٦ ، الهامش (٥).
(٢) في ص ٤٥ ، المسألة ٢٩١.
(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧٢.
(٤) صحيح البخاري ٣ : ١٥٥.
(٥ و ٦) ما بين المعقوفين أضفناه من العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٦ ، وروضة الطالبين ٣ : ٣٧٢.
(٧) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٦ ، وراجع سنن البيهقي ٦ : ٤٩.
ويُحمل قولهم : « إنّه (١) معسر » على أنّهم وقفوا على تلف المال.
فإن ادّعى المديون أنّه معسر لا شيء له ، أو قُسّم مال المحجور على الغرماء وبقي بعض الدَّيْن فزعم أنّه لا يملك شيئاً آخَر وأنكر صاحب الدَّيْن أو الغرماء إعسارَه ، فإن كان الدَّيْن لزمه في مقابلة مالٍ ـ كما إذا ابتاع أو استقرض ، أو باع سَلَماً ـ فهو كما لو ادّعى هلاك المال ، فعليه البيّنة. وإن لزم لا في مقابلة مالٍ ، قُبل قوله مع اليمين ؛ لأنّ الأصل العدم ، وهو أصحّ وجوه الشافعيّة.
والثاني : أنّه لا يُقبل ، ويحتاج إلى البيّنة ؛ لأنّ الظاهر من حال الحُرّ أنّه يملك شيئاً ، قلّ أم كثر.
والثالث : أنّه إن لزمه باختياره ـ كالصداق والضمان ـ لم يُقبل قوله ، وعليه البيّنة. وإن لزمه لا باختياره ـ كأرش الجناية وغرامة المتلف ـ قُبل قوله مع اليمين ؛ لأنّ الظاهر أنّه لا يشغل ذمّته اختياراً ، ولا يلتزم بما لا يقدر عليه (٢).
مسألة ٣١٦ : إذا ادّعى المديون الإعسار وكان أصل الدعوى مالاً ، أو كان له مالٌ فادّعى تلفه ، افتقر إلى البيّنة ؛ لأنّ الأصل بقاء المال في يده ، فإذا ادّعى خلاف الأصل ، كان عليه البيّنة. فإن لم تكن بيّنة ، حلف الغرماء على عدم التلف. فإذا حلفوا ، حُبس.
قال ابن المنذر : أكثر مَنْ يُحفظ عنه العلم من علماء الأمصار وقُضاتهم يرون الحبس في الدَّيْن ، منهم : مالك والشافعي وأبو عبيد
__________________
(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « ويُحمل على قولهم : إنّهم ». والصحيح ما أثبتناه.
(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧٣.
والنعمان وسوار وعبيد الله بن الحسن وشريح والشعبي (١).
وقال عمر بن عبد العزيز : يُقسّم ماله بين الغرماء ، ولا يُحبس. وبه قال [ عبيد الله بن أبي ] (٢) جعفر والليث بن سعد (٣).
وإن شهدت البيّنة بتلف ماله ، سُمعت. فإن طلب الغرماء يمينه على ذلك مع البيّنة ، لم يُجابوا ؛ لأنّ ذلك تكذيب للشهود.
وإن شهدت البيّنة بالإعسار وقد كان له مالٌ ، لم تُسمع إلاّ أن تكون البيّنة من أهل الخِبْرة الباطنة ؛ لأنّ الإعسار أمر خفيّ ، فافتقرت الشهادة به إلى العِشرة الطويلة والاختبار في أكثر الأوقات.
فإن شهدت بذلك وكانت من أهل الخِبْرة الباطنة ، سُمعت الشهادة ، وثبت الإعسار عندنا ـ وبه قال الشافعي وأحمد (٤) ـ لأنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال لقبيصة بن المخارق : « يا قبيصة إنّ المسألة لا تحلّ إلاّ لأحد ثلاثة : رجل تحمّل حمالةً فحلّت له المسألة حتى يؤدّيها ثمّ يمسك ، ورجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله فحلّت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش ـ أو
__________________
(١) الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ١٤٥ ـ ١٤٦ ، المغني ٤ : ٥٤٥ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٩٧ ، المدوّنة الكبرى ٥ : ٢٠٤ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٩٣ ، التفريع ٢ : ٢٤٧ ، التلقين ٢ : ٤٢٩ ، الذخيرة ٨ : ٢٠٤ ، المعونة ٢ : ١١٨٢ ، النوادر والزيادات ١٠ : ١٥ ، التنبيه : ١٠١ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٢٧ ، الوسيط ٤ : ١٧ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١٠٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٦ ـ ٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧٢ ، الهداية ـ للمرغيناني ـ ٣ : ١٠٤ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ١٤١.
(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « عبد الله بن ». وما أثبتناه كما في الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ١٤٦ ، وتاريخ مدينة دمشق ٣٧ : ٤٠٨.
(٣) الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ١٤٦ ، المغني ٤ : ٥٤٥ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٩٧.
(٤) المغني ٤ : ٥٤٥ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٩٧.
قال : سداداً من عيش ـ ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه : لقد أصاب فلاناً فاقة ، فحلّت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش ـ أو قال : سداداً من عيش ـ » (١).
وقال مالك : لا تُسمع البيّنة على الإعسار ؛ لأنّها شهادة على النفي ، فلا تُسمع ، كما لو شهدت أنّه لا حقّ لزيد على عمرو (٢).
وهو غلط ؛ لأنّ هذه الشهادة وإن تضمّنت النفي إلاّ أنّها تشهد بثبوت حال تظهر ويوقف عليها ، كما لو شهد أن لا وارث غير هذا ، فإنّه تُسمع شهادته ، بخلاف الشهادة بأنّه لا حقّ عليه ؛ لأنّ ذلك ممّا لا يوقف عليه ولا يشهد به حال يتوصّل بها إلى معرفته ، بخلاف صورة النزاع.
مسألة ٣١٧ : تُسمع بيّنة الإعسار في الحال ـ وبه قال الشافعي وأحمد (٣) ـ لأنّ كلّ بيّنةٍ جاز سماعها بعد مدّة جاز سماعها في الحال ، كسائر البيّنات.
وقال أبو حنيفة : لا تُسمع في الحال ، ويُحبس المفلس. واختلف أصحابه في الضابط لمدّة الحبس. فقال بعضهم : يُحبس المفلس شهرين ثمّ تُسمع البيّنة. وقال الطحاوي : يُحبس شهراً. وروي ثلاثة أشهر. وروي أربعة أشهر حتى يغلب على ظنّ الحاكم أنّه لو كان له مال لأظهره (٤).
__________________
(١) صحيح مسلم ٢ : ٧٢٢ / ١٠٤٤ ، سنن أبي داوُد ٢ : ١٢٠ / ١٦٤٠ ، سنن النسائي ٥ : ٨٩ ، ولا يخفى أنّ الحديث ورد في النسخ الخطّيّة والحجريّة بتفاوت وتقديمٍ وتأخيرٍ في بعض الكلمات والجملات. والمثبت قريب لما في المصادر.
(٢) النوادر والزيادات ١٠ : ١٥ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١١٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧ ، المغني ٤ : ٥٤٥ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٩٨.
(٣) حلية العلماء ٤ : ٤٨٦ ، الوسيط ٤ : ١٧ ، الوجيز ١ : ١٧٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧٣ ، المغني ٤ : ٥٤٦ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٩٨.
(٤) فتاوى قاضيخان ـ بهامش الفتاوى الهنديّة ـ ٥ : ٢٢٦ ، حلية العلماء ٤ : ٤٨٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧ ، المغني ٤ : ٥٤٦ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٩٨.
وليس بصحيح ، وإلاّ لاستُغني بذلك عن البيّنة.
مسألة ٣١٨ : إذا أقام مدّعي الإعسار البيّنةَ ، شرط فيها أن يكونوا من أهل الخِبْرة الباطنة والعشرة المتقادمة وكثرة الملابسة سرّاً وجهراً وكثرة المجالسة وطول الجوار ، فإنّ الأموال قد تخفى ولا يُعرف تفصيلها إلاّ بأمثال ذلك. فإن عرف القاضي أنّهم من أهل الخِبْرة ، فذاك ، وإلاّ جاز له أن يعتمد على قولهم إذا كانوا بهذه الصفة.
ويكفي شاهدان على ذلك ، كما في سائر الأموال.
وقال بعض الشافعيّة : لا تُقبل هذه الشهادة إلاّ من ثلاثة (١) ؛ لأنّ رجلاً ذكر لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّ جائحة أصابت مالَه ، وسأله أن يُعطيه من الصدقة ، فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : « حتى يشهد ثلاثة من ذوي الحجى من قومه » (٢).
وهو محمول على الاحتياط والاستظهار.
وإذا لم يُعرف له أصل مالٍ ولم يكن أصل الدعوى مالاً ، قُدّم قوله فيحلف وتسقط عنه المطالبة.
وإن أقام بيّنةً بالإعسار ، قُبلت.
فإن طلب غريمه يمينه مع البيّنة ، لم يُجب إليه ؛ لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « البيّنة على المدّعي واليمين على المنكر » (٣).
وقال الشافعي : يحلف (٤).
__________________
(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧٣.
(٢) كما في العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧ ، وراجع المصادر في الهامش (١) من ص ٧١.
(٣) سنن البيهقي ١٠ : ٢٥٢ ، وفيه : « ... على مَنْ أنكر ».
(٤) المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٢٧ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٣٣ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١١٦ ، حلية العلماء ٤ : ٤٨٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧٤ ، المغني ٤ : ٥٤٦ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٩٩.
وهل الإحلاف واجب أو مستحبّ؟ قال في حرملة : إنّه واجب ؛ لجواز أن يكون له مال لم تقف عليه البيّنة ، فإذا ادّعى ذلك ، حلف له (١).
وقال في الأُمّ : إنّه مستحبّ ؛ لأنّ ذلك قدح في الشهادة فلم يُسمع ، كما إذا شهد شاهدان على رجل أنّه أقرّ لزيد بكذا ، فقال المُقرّ له : احلفوا لي المُقرّ أنّني أقررت له ، لم يلزم ؛ لأنّه قدح في الشهادة ، كذا هنا (٢).
مسألة ٣١٩ : صورة الشهادة بالإعسار يجب أن تكون على الإثبات المتضمّن للنفي ، ولا يجعل الشهادة على النفي صرفة خالصةً عن الإثبات ، فيقول الشهود : إنّه معسر لا يملك إلاّ قوت يومه وثياب بدنه. وإن قالوا مع ذلك : « إنّه ممّن تحلّ له الصدقة » كان جيّداً ، وليس شرطاً.
ولا يقتصرون على قولهم : لا شيء له ، لئلاّ تتمحّض شهادتهم نفياً لفظاً ومعنى. فإن طلب الغرماء إحلافه مع البيّنة ، لم يلزم ، خلافاً للشافعي في أحد قوليه. وفي الثاني : أنّه مستحبّ (٣).
نعم ، لو ادّعى أنّ له مالاً لا يعرفه الشاهد ، فالأقوى عندي أنّ له إحلافه على ذلك ؛ لإمكان صدقه في دعواه ، وحينئذٍ تتوقّف اليمين على استدعاء الخصم ؛ لأنّها حقّه :
ويجوز أن يعفو عنها ، فلا يتبرّع الحاكم بإحلافه.
والشافعي لمّا أثبت اليمين مطلقاً إمّا على سبيل الوجوب أو على سبيل الاستحباب ـ على اختلاف قوليه ـ تردّد في أنّه هل يتوقّف الحلف
__________________
(١) لاحظ : التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١١٦ ، والعزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨ ، وروضة الطالبين ٣ : ٣٧٤.
(٢) لاحظ الأُمّ ٣ : ٢١٢ ، والتهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١١٦ ، والعزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨ ، وروضة الطالبين ٣ : ٣٧٤.
(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧٤.
على استدعاء الخصم؟ على وجهين :
أحدهما : لا ، كما لو كانت الدعوى على ميّت أو غائب ، وعلى هذا فهو من آداب القضاء.
وأظهرهما : نعم ، كيمين المدّعى عليه (١).
مسألة ٣٢٠ : قد بيّنّا أنّه يُقبل قوله في الإعسار إذا لم يُعرف له سابقة مال ، مع يمينه ، فحينئذٍ نقول : إنّه يُقبل في الحال ، كما لو أقام البيّنة تُسمع في الحال ، وهو قول أكثر الشافعيّة (٢).
وقال بعضهم : يتأنّى القاضي ويبحث عن باطن حاله ، ولا يقنع بقوله ، بخلاف ما إذا أقام البيّنة (٣).
وحيث قلنا : إنّه لا يُقبل قوله إلاّ بالبيّنة لو ادّعى أنّ الغرماء يعرفون إعساره ، كان له إحلافهم على نفي المعرفة ، فإن نكلوا ، حلف ، وثبت إعساره. وإن حلفوا ، حُبس. وكلّما ادّعى ثانياً وثالثاً وهلُمّ جرّاً أنّه قد ظهر لهم إعساره ، كان له تحليفهم ، إلاّ أن يعرف القاضي أنّه يقصد الإيذاء واللجاج. فإذا حبسه فلا يغفل عنه بالكلّيّة.
ولو كان غريباً لا يتمكّن من إقامة البيّنة ، وكّل به القاضي مَنْ يبحث عن منشئه ومنتقله ويفحص عن أحواله بقدر الطاقة ، فإذا غلب على ظنّه إفلاسه ، شهد به عند القاضي ؛ لئلاّ تتخلّد عليه عقوبة السجن.
مسألة ٣٢١ : إذا ادّعى الإعسار وأقام البيّنة عليه ، لم يكن للغرماء مطالبته باليمين مع البيّنة على ما تقدّم (٤) ، سواء شهدت البيّنة بالإعسار أو
__________________
(١ ـ ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧٤.
(٤) في ص ٧٢ ، ضمن المسألة ٣١٨.
بتلف المال الذي كان في يده ، وهو أحد قولي الشافعي ، وظاهر كلام أحمد (١).
ولهما قولٌ آخَر : إنّه يستحلف ؛ لاحتمال أن يكون له مالٌ لا يعرفه الشهود (٢).
ويُحتمل قويّاً إلزامه باليمين على الإعسار إن شهدت البيّنة بتلف المال ، وسقوطها عنه إن شهدت بالإعسار ؛ لأنّها إذا شهدت بالتلف ، صار كمن ثبت له أصل مالٍ واعترف الغريم بتلفه وادّعى مالاً غيره ، فإنّه يلزمه اليمين ، كذا هنا إذا قامت البيّنة بالتلف ، فإنّها لا تزيد على الإقرار.
مسألة ٣٢٢ : لو ثبت الإعسار ، خلاّه الحاكم على ما تقدّم (٣) ، فإن عاد الغرماء بعد أوقات وادّعوا أنّه استفاد مالاً ، وأنكر ، قُدّم قوله مع اليمين وعدم البيّنة ، وعليهم إقامة البيّنة ، فإن جاءوا بشاهدَيْن شهدا بأنّهما رأيا في يده مالاً يتصرّف فيه ، أخذه الغرماء.
فإن قال : أخذته من فلان وديعةً أو مضاربةً ، وصدّقه المُقرّ له ، حُكم عليه بذلك ، وليس للغرماء فيه حقٌّ.
وهل للغرماء إحلافه على عدم المواطأة مع المُقرّ له وأنّه أقرّ عن تحقيقٍ؟ الأقرب : المنع ؛ لأنّه لو رجع عن إقراره لم يُقبل ، فلا معنى لتحليفه.
ويُحتمل إحلافه ؛ لجواز المواطأة ، فإذا امتنع من اليمين ، حُبس حتى يسلّم المال ، أو يحلف. ولأنّه لو أقرّ بالمواطأة ، حُبس على المال مع تصديق الغير.
__________________
(١ و ٢) المغني ٤ : ٥٤٦ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٩٨ ـ ٤٩٩.
(٣) في ص ٦٧ ، المسألة ٣١٤.
ولو طلب الغرماء يمين المُقرّ له ، فالأقرب : أنّ لهم إحلافَه ؛ لأنّه لو كذّب المُقرّ ثبت المال لهم ، فإذا صدّقه ، حلف.
وللشافعي الوجهان (١).
وإن كذّبه المُقرّ له ، صرف إليهم ، ولم يُفدْ إقراره شيئاً.
ولو أقرّ به ثانياً لغير الأوّل ، لم يلتفت إليه.
ولو أقرّ به لغائبٍ ، وقف حتى يحضر الغائب ، فإن صدّقه ، أخذه ، ولا حقّ فيه للغرماء. وإن كذّبه ، أخذه الغرماء ، أو يحلف بأنّه للغائب ، وتسقط المطالبة عنه ؛ لأصالة العسرة ، وإمكان صدقه.
مسألة ٣٢٣ : لو ادّعى الغرماء بعد فكّ الحجر أنّه قد استفاد مالاً ، كان القولُ قولَه مع اليمين وعدم البيّنة ؛ لأنّ الأصل بقاء العسرة.
وإن أقرّ بالمال أنّه استفاده وطلب الغرماء الحَجْرَ عليه ، نظر الحاكم فإن كان ما حصل له يفي بالديون ، لم يحجر عليه. وإن كان أقلّ ، حجر عليه ، وقسّم ماله بين الغرماء.
وإن كان قد تجدّد له غرماء قبل الحجر الثاني ، قسّم بينهم وبين الأوائل ـ وبه قال الشافعي (٢) ـ لاستواء حقوقهم في الثبوت في الذمّة حال الحجر ، فأشبه غرماء الحجر الأوّل.
وقال مالك : يختصّ به الغرماء المتأخّرون ؛ لأنّه استفاده من جهتهم (٣).
وهو غلط ؛ لأنّا لا نعلم ذلك. ولأنّا نقسّم مال المفلس بين غرمائه
__________________
(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧٥.
(٢) الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ١٥٢.
(٣) الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ١٥١.
وزوجته وإن كان حقّها ثبت لا بمعاوضةٍ.
مسألة ٣٢٤ : لو ثبت للولد على والده مالٌ وكان الأب معسراً ، لم تحلّ مطالبته. وإن كان موسراً ، كان له مطالبته إجماعاً.
فإن امتنع من الأداء ، فالأقرب عندي : أنّه لا يُحبس لأجل ولده ؛ لأنّ الحبس نوع عقوبةٍ ، ولا يعاقب الوالد بالولد.
ولأنّ الله تعالى قد بالغ في الوصيّة في الأبوين حتى أنّهما لو أمراه بالكفر لم يُطعهما ومع ذلك يقول لهما قولاً حسناً (١).
ولقوله عليهالسلام : « أنت ومالك لأبيك » (٢) أي في حكم مال الأب ، فكما أنّه لا يُحبس في ماله ، كذا في مال ولده الذي هو في حكم ماله.
ولما رواه الحسين بن أبي العلاء عن الصادق عليهالسلام ، قال : قلت له : ما يحلّ للرجل من مال ولده؟ قال : « قوته بغير سرف إذا اضطرّ إليه » قال : فقلت له : فقول رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم للرجل الذي أتاه فقدّم أباه فقال : « أنت ومالك لأبيك » فقال : « إنّما جاء بأبيه إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال له : يا رسول الله هذا أبي قد ظلمني ميراثي من أُمّي ، فأخبره الأب أنّه قد أنفقه عليه وعلى نفسه ، فقال : أنت ومالك لأبيك ، ولم يكن عند الرجل شيء ، أفكان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يحبس الأب للابن؟ » (٣) وهذا استفهام في معرض الإنكار ، وهو يدلّ على المراد.
__________________
(١) العنكبوت : ٨.
(٢) سنن ابن ماجة ٢ : ٧٦٩ / ٢٢٩١ و ٢٢٩٢ ، سنن سعيد بن منصور ٢ : ١١٥ / ٢٢٩١ و ٢٢٩٢ ، سنن البيهقي ٧ : ٤٨١ ، المصنّف ـ لابن أبي شيبة ـ ٧ : ١٥٨ / ٢٧٣٦ و ٢٧٤٢ و ٢٧٥٠.
(٣) الكافي ٥ : ١٣٦ / ٦ ، الفقيه ٣ : ١٠٩ / ٤٥٦ ، التهذيب ٦ : ٣٤٤ / ٩٦٦ ، الاستبصار ٣ : ٤٩ / ١٦٢.
وهو أحد قولي الشافعي (١).
وله قولٌ آخَر : إنّه يُحبس ، وإلاّ لعجز الابن عن الاستيفاء ، ويضيع حقّه (٢).
وهو ممنوع ، بل إذا أثبت الابن الدَّيْنَ عند القاضي ، أخذه القاضي منه قهراً من غير حبس ، وصرفه إلى دَيْنه. ولأنّه قد يتمكّن من أخذه غيلةً ، فلا يكون عاجزاً.
ولا فرق بين دَيْن النفقة وغيرها ، ولا بين أن يكون الولد صغيراً أو كبيراً ، وبه قال الشافعي (٣).
وقال أبو حنيفة : إنّه لا يُحبس ، إلاّ في نفقة الولد إذا كان صغيراً أو زَمِناً (٤).
مسألة ٣٢٥ : لو استؤجر المديون إجارة متعلّقة بعينه ووجب حبسه ، ففي منع الإجارة المتعلّقة بعينه نظر ينشأ : من جواز الحبس مطلقاً ؛ عملاً بإطلاق الأمر ، ومن كون عينه مستحقّةَ المنافع للغير ، فلا يجوز حبسه ؛ لئلاّ يتعطّل شغل الغير.
والأقرب : الأوّل.
هذا فيما إذا لم يمكن الجمع بين الحبس واستيفاء المنافع ، أمّا لو لم يمتنع الجمع ، فإنّه يجوز حبسه قطعاً.
__________________
(١ و ٢) التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١١٧ ، الوسيط ٤ : ١٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧٥.
(٣) التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١١٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧٥.
(٤) التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١١٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠.
البحث الرابع : في الاختصاص.
مسألة ٣٢٦ : مَنْ أفلس وحجر عليه الحاكم وكان من جملة ماله عينٌ اشتراها من غيره ولم يُقبضه الثمن فوجدها بائعها ، كان بالخيار بين أن يفسخ البيع ويأخذ عينه بالشرائط الآتية ، وبين الضرب مع الغرماء بالثمن ـ وبه قال في الصحابة : عليّ عليهالسلام وعثمان وأبو هريرة ، وفي التابعين : عروة ابن الزبير ، ومن الفقهاء : مالك والأوزاعي والشافعي والعنبري وأحمد وإسحاق (١) ـ لما رواه العامّة عن أبي هريرة عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال : « إذا أفلس الرجل ووجد البائع سلعته بعينها فهو أحقّ بها من الغرماء » (٢).
وعن ابن خلدة الزرقي (٣) قاضي المدينة قال : أتينا أبا هريرة في صاحبٍ لنا أفلس ، فقال أبو هريرة : هذا الذي قضى فيه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « أيّما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحقّ بمتاعه إذا وجده بعينه » (٤).
ومن طريق الخاصّة : ما رواه عمر بن يزيد ـ في الصحيح ـ عن أبي الحسن عليهالسلام ، قال : سألته عن رجل يركبه الدَّيْن فيوجد متاع رجل عنده
__________________
(١) المغني ٤ : ٤٩٣ ـ ٤٩٤ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٠٣ ، الحاوي الكبير ٦ : ٢٦٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٨٣.
(٢) صحيح مسلم ٣ : ١١٩٤ / ٢٥ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٧٩٠ / ٢٣٥٨ ، سنن البيهقي ٦ : ٤٦ بتفاوت.
(٣) في الطبعة الحجريّة : « أبي حلوة الفروفي ». وفي « ث ، ج » : « ... البروقي ». وفي « ر » : « حلوة البروقي ». وكلّها خطأ ، والصحيح ما أثبتناه كما في المصادر. واسمه : عمر بن خلدة ، كما في المستدرك ـ للحاكم ـ ٢ : ٥٠ ، وتهذيب التهذيب ٧ : ٣٨٨ / ٧٢٩.
(٤) سنن ابن ماجة ٢ : ٧٩٠ / ٢٣٦٠ ، سنن الدار قطني ٣ : ٢٩ / ١٠٧ ، المستدرك ـ للحاكم ـ ٢ : ٥٠ ـ ٥١.
بعينه ، قال : « لا يحاصّه الغرماء » (١).
ولأنّ هذا العقد يلحقه الفسخ بتعذّر العوض ، فكان له الفسخ ، كما لو تعذّر المُسْلَم فيه. ولأنّه لو شرط في البيع رهناً فعجز عن تسليمه ، استحقّ البائع الفسخ وهو وثيقة بالثمن ، فالعجز عن تسليم الثمن إذا تعذّر أولى.
وقال أبو حنيفة : ليس للحاكم أن يحجر عليه ، وليس للبائع الرجوع في عينه ، بل يكون أُسوة الغرماء ؛ لتساويهم في سبب الاستحقاق ، فيتساوون في الاستحقاق. ولأنّ البائع كان له حقُّ الإمساك لقبض الثمن فلمّا سلّمه قبل قبضه فقد أسقط حقّه من الإمساك ، فلم يكن له أن يرجع في ذلك بالإفلاس ، كالمرتهن (٢).
والبائع وإن ساوى الغرماء في السبب لكن اختلفوا في الشرط ، فإنّ بقاء العين شرط لملك (٣) الفسخ ، وهو موجود في حقّ مَنْ وجد متاعه دون مَنْ لم يجده.
والفرقُ : أنّ الرهن مجرّد الإمساك على سبيل الوثيقة وليس ببدلٍ ، وهنا (٤) هو (٥) بدل عنها (٦) ، فإذا تعذّر استيفاؤه ، رجع إلى المُبدل (٧).
قال أحمد : لو أنّ حاكماً حكم أنّه (٨) أُسوة الغرماء ثمّ رفع (٩) إلى
__________________
(١) التهذيب ٦ : ١٩٣ / ٤٢٠ ، الاستبصار ٣ : ٨ / ١٩.
(٢) الهداية ـ للمرغيناني ـ ٣ : ٢٨٥ و ٢٨٧ ، المغني ٤ : ٤٩٤ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٠٣.
(٣) في « ث ، ر » والطبعة الحجريّة : « تملّك » بدل « لملك ».
(٤) في « ث ، ج » والطبعة الحجريّة : « رهنا ». والصحيح ما أثبتناه.
(٥) هو ، أي الثمن.
(٦) أي : عن العين.
(٧) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « في البدل » بدل « إلى المبدل ». والظاهر ما أثبتناه.
(٨) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « له » بدل « أنّه ». والصحيح ما أثبتناه كما في المصدر.
(٩) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « رجع » بدل « رفع ». وما أثبتناه كما في المصدر.