تفسير القاسمي - ج ٨

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٨

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

ثم قال السيوطيّ : فسّر الذّبح العظيم في الأحاديث والآثار بكبش. فاستدل به المالكية على أن الغنم في التضحية أفضل من الإبل. انتهى.

الثالث ـ استدل بالآية على أنه تعالى قد يأمر بما لا يريد وقوعه ـ كما ذكره الرازي ـ وذلك في باب الابتلاء. أي ابتلاء المأمور في إخلاصه وصدقه ، فيما يشق على النفس تحمله.

الرابع ـ يذكر كثير الخلاف في الذبيح ، قال الإمام ابن القيم في (زاد المعاد) : وإسماعيل هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وأما القول بأنه إسحاق فباطل بأكثر من عشرين وجها. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول : هذا القول إنما هو متلقى من أهل الكتاب ، مع أنه باطل بنص كتابهم. فإن فيه إن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه (بكره). وفي لفظ (وحيده) ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده. والذي غرّ وأصحاب هذا القول إن في التوراة التي بأيديهم (اذبح ابنك إسحاق) قال : وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم. لأنهم تناقض قوله (بكرك) (وحيدك) ولكن يهود حسدت بني إسماعيل على هذا الشرف ، وأحبوا أن يكون لهم ، وأن يسوقوه إليهم ، ويختارونه دون العرب. ويأبى الله إلا أن يجعل فضله لأهله. وكيف يسوغ أن يقال إن الذبيح إسحاق ، والله تعالى قد بشر أم إسحاق به وبابنه يعقوب ، فقال تعالى عن الملائكة أنهم قالوا لإبراهيم لما أتوه بالبشرى : (لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) [هود : ٧٠ ـ ٧١] ، فمحال أن يبشرها بأنه يكون له ولد ثم يأمر بذبحه. ولا ريب أن يعقوب داخل في البشارة. فتناول البشارة لإسحاق ويعقوب في اللفظ الواحد. وهذا ظاهر الكلام وسياقه. فإن قيل ، لو كان الأمر كما ذكرتموه لكان يعقوب مجرورا عطفا على إسحاق ، فكانت القراءة (وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) أي ويعقوب من وراء إسحاق. قيل لا يمنع الرفع أن يكون يعقوب مبشرا به. لأن البشارة قول مخصوص : وهي أول خبر سارّ صادق. وقوله : (وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) جملة متضمنة بهذه القيود ، فيكون بشارة بل حقيقة البشارة هي الجملة الخبرية. أو لما كانت البشارة قولا ، كان موضع هذه الجملة نصبا على الحكاية بالقول. كأن المعنى : وقلنا لها من وراء إسحاق يعقوب والقائل إذا قال : بشرت فلانا بقدوم أخيه ، وثقله في أثره ، لم يعقل منه إلا بشارة بالأمرين جميعا. هذا مما لا يستريب ذو فهم فيه البتة. ثم يضعف الجر

٢٢١

أمر آخر ، وهو ضعف قولك (مررت بزيد ومن بعده عمرو) لأن العاطف يقوم حرف الجر ، فلا يفصل بينه وبين المجرور : كما لا يفصل بين حرف الجار والمجرور ، ويدل عليه أنه سبحانه لما ذكر قصة إبراهيم وابنه في هذه السورة ، قال : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) [الصافات : ١٠٣ ـ ١١١] ، ثم قال : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) [الصافات : ١١٢] ، فهذا بشارة من الله له ، شكرا على صبره على ما أمر به. وهذا ظاهر جدا في أن المبشر به غير الأول. بل هو كالنص فيه. فإن قيل : فالبشارة الثانية وقعت على نبوته. أي لما صبر الأب على ما أمر به وأسلم الولد لأمر الله ، جازاه الله على ذلك ، بأن أعطاه النبوة. قيل : البشارة وقعت على المجموع ، على ذاته ووجوده وأن يكون نبيّا. ولهذا ينصب (نَبِيًّا) على الحال المقدر أي مقدرا نبوته. فلا يمكن إخراج البشارة أن يقع على الأصل ، ثم يخص بالحال التابعة الجارية مجرى الفضلة. هذا محال من الكلام. بل إذا وقع البشارة على نبوته ، فوقوعها على وجوده أولى وأحرى ، وأيضا فلا ريب أن الذبيح كان بمكة ، ولذلك جعلت القرابين يوم النحر. كما جعل السعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار ، تذكيرا لشأن إسماعيل وأمه ، وإقامة لذكر الله. ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة ، دون إسحاق وأمه. ولهذا اتصل مكان الذبح وزمانه بالبيت الحرام الذي اشترك في بنائه إبراهيم وإسماعيل. وكان النحر بمكة ، من تمام حج البيت الذي كان على يد إبراهيم وابنه إسماعيل زمانا ومكانا. ولو كان الذبح بالشام ، كما يزعم أهل الكتاب ومن تلقى عنهم ، لكانت القرابين والنحر بالشام لا بمكة. وأيضا فإن الله سبحانه سمى الذبيح حليما لأنه لا أحلم ممن أسلم نفسه للذبح طاعة لربه. ولما ذكر إسحاق سماه عليما فقال : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) [الذاريات : ٢٤ ـ ٢٥] إلى أن قال (قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) [الذاريات : ٢٨] ، وهذا إسحاق بلا ريب ، لأنه من امرأته وهي المبشرة به. وأما إسماعيل فمن السرية. وأيضا فإنهما بشّرا به على الكبر واليأس من الولد. وهذا بخلاف إسماعيل فإنه ولد قبل ذلك. وأيضا فإن الله سبحانه أجرى العادة البشرية أن بكر الأولاد أحب إلى الوالدين ممن بعده. وإبراهيم لما سأل ربه الولد ووهبه له ، تعلقت شعبة من قلبه بمحبته ، والله تعالى قد اتخذه خليلا. والخلة منصب يقتضي توحيد المحبوب بالمحبة وأن لا

٢٢٢

يشارك بينه وبين غيره فيها. فلما أخذ الولد شعبة من قلب الوالد ، جاءت غيرة الخلة تنتزعها من قلب الخليل ، فأمره الجليل بذبح المحبوب. فلما أقدم على ذبحه ، وكانت محبة الله أعظم عنده من محبة الولد ، خلصت الخلة حينئذ من شوائب المشاركة ، فلم يبق في الذبح مصلحة. إذ كانت المصلحة إنما هي في العزم وتوطين النفس فيه ، فقد حصل المقصود ، فنسخ الأمر ، وفدي الذبيح ، وصدق الخليل الرؤيا ، وحصل مراد الرب. ومعلوم أن هذا الامتحان والاختيار. إنما حصل عند أول مولود. ولم يكن ليحصل في المولود الآخر دون الأول. بل لم يحصل عند المولود الآخر من مزاحمة الخلة ، ما يقتضي الأمر بذبحه. وهذا في غاية الظهور. وأيضا فإن سارة امرأة الخليل غارت من هاجر وابنها أشد الغيرة. فإنها كانت جارية. فلما ولدت إسماعيل وأحبه أبوه اشتدت غيرة سارة. فأمر الله سبحانه أن يبعد عنها هاجر وابنها ويسكنها في أرض مكة ، ليبرّد عن سارة حرارة الغيرة. وهذا من رحمته ورأفته. فكيف يأمره سبحانه بعد هذا ، أن يذبح ابنها ، ويدع ابن الجارية بحاله هذا مع رحمة الله لها وإبعاد الضرر عنها وخيرته لها. فكيف يأمر بعد هذا بذبح ابنها دون ابن الجارية؟ بل حكمته البالغة اقتضت أن يأمر بذبح ولد السرية ، فحينئذ يرق قلب الست على ولدها. وتتبدل قسوة الغيرة رحمة ، ويظهر لها بركة هذه الجارية وولدها ، وأن الله لا يضيع بيتا ، هذه وابنها منهم ، ويرى عباده جبره بعد الكسر ، ولطفه بعد الشدة. وأن عاقبة صبر هاجر وابنها على البعد والوحدة والغربة والتسليم ، إلى ذبح الولد ، آلت إلى ما آلت إليه ، من جعل آثارهما وموطئ أقدامهما مناسك لعبادة المؤمنين ، ومتعبدات لهم إلى يوم القيامة. وهذا سنته تعالى فيمن يريد رفعته من خلقه ، أن يمن عليه بعد استضعافه وذله وانكساره. قال تعالى : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) [القصص : ٥] ، (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد : ٢١] ، انتهى.

وقال السيوطي في (الإكليل) : واستدل بقوله تعالى بعد (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ) [الصافات : ١١٢] ، من قال إن الذبيح إسماعيل. وهو الذي رجحه جماعة. واحتجوا له بأدلة. منها وصفه بالحلم وذكر البشارة بإسحاق بعده. والبشارة بيعقوب من وراء إسحاق. وغير ذلك ، وهي أمور ظنية لا قطعية ، ثم قال : وتأملت القرآن فوجدت فيه ما يقتضي القطع أو يقرب منه ـ ولم أر من سبقني إلى استنباطه ـ وهو أن البشارة وقعت مرتين. مرة في قوله تعالى : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي

٢٢٣

أَذْبَحُكَ) [الصافات : ٩٩ ـ ١٠٢] ، فهذه الآية قاطعة في أن هذا المبشر به هو الذبيح. ومرة في قوله : (وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) [هود : ٧١] الآية. فقد صرح فيها أن المبشر به إسحاق. ولم يكن بسؤال من إبراهيم. بل قالت امرأته إنها عجوز. وإنه شيخ. وكان ذلك في الشام لما جاءت الملائكة إليه بسبب قوم لوط وهو في آخر أمره. أما البشارة الأولى لما انتقل من العراق إلى الشام ، حين كان سنه لا يستغرب فيه الولد ، ولذلك سأله. فعلمنا بذلك أنهما بشارتان في وقتين ، بغلامين. أحدهما بغير سؤال ، وهو إسحاق صريحا. والثانية قبل ذلك بسؤال وهو غيره. فقطعنا بأنه إسماعيل وهو الذبيح. انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ) (١١٤)

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ) أي بالنبوة والرسالة ، والاصطفاء على عالمي زمانهما.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) (١١٥)

(وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) وهو قهر فرعون لهم ، بذبح الأولاد ونهاية الاستعباد.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) (١١٦)

(وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) أي مع ضعفهم وقوة فرعون وقومه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ) (١١٧)

(وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ) أي البليغ في بيانه للأحكام والتشريعات ، والآداب.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (١١٨)

(وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) أي في باب الاعتقاد والمعاملات الموصل

٢٢٤

رعايته والسلوك عليه ، إلى السعادة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢) وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (١٢٣)

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) وهو من أنبياء بني إسرائيل من بعد زمن سليمان. أرسله الله لما انتشرت الوثنية في الإسرائيليين ، وساعد على انتشارها بينهم ملوكهم ، وبنوا لها المذابح وعبدوها من دون الله تعالى ، ونبذوا أحكام التوراة ظهريا. فقام إلياس عليه‌السلام يوبخهم على ضلالهم ويدعوهم إلى التوحيد ، ويسمى في التوراة (إيليا) وله نبأ فيها كبير.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ) (١٢٤)

(إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ) أي عذاب الله ونقمته.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ) (١٢٥)

(أَتَدْعُونَ بَعْلاً) أي تعبدونه أو تطلبون الخير منه؟ وهو صنم من أصنام الفينيقيين ، أقاموا له ولغيره من الأوثان معابد ومذابح وكهنة ، يعظمون من شأنهم ويقيمون لهم المآدب والأعياد الحافلة. ويقدمون لهم ضحايا بشرية (وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ) أي تتركون عبادته. قال القاضي : وقد أشار فيه إلى المقتضي للإنكار ، المعني بالهمزة. ثم صرح به بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) (١٢٧)

(اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أي في العذاب.

٢٢٥

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) (١٣٠)

(إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) أي الذين آمنوا به واتبعوه (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) بكسر الهمزة وسكون اللام موصولة ب (ياسين). وقرئ آل ياسين بإضافة آل (بمعنى أهل) إليه. وكله من التصرف في العلم الأصلي ، الذي هو (إيليا) على قاعدة العرب في الأعلام العجمية ، إذا أرادت أن تلفظها في الاستعمال ، وتخففها على الألسنة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢) وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ) (١٣٤)

(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي للدعاء إلى الله والنهي عن الفواحش (إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ) أي من عذاب قومه المنذرين.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) (١٣٥)

(إِلَّا عَجُوزاً) وهي امرأته ، فإنها وإن خرجت عن مكان عذابهم ، كانت (فِي الْغابِرِينَ) أي في حكم الباقين في العذاب ، لكونها على دين قومها.

القول في تأويل قوله تعالى :

(ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) (١٣٦)

(ثُمَّ دَمَّرْنَا) أي أهلكنا (الْآخَرِينَ) بجعل قريتهم عاليها سافلها ، وإمطار حجارة من سجيل عليهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (١٣٩)

٢٢٦

(وَإِنَّكُمْ) أي يا أهل مكة (لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ) أي فترون دائما علامات مؤاخذتهم (أَفَلا تَعْقِلُونَ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي إلى أهل نينوى للتوحيد ، والزجر عن ارتكاب المآثم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (١٤٠)

(إِذْ أَبَقَ) أي : بغير إذن ربه عن قومه المرسل إليهم (إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) أي السفينة المملوءة ، ليركب منها إلى بلد آخر. روي أنه نزل من يافا وركب الفلك إلى ترسيس. فهبت ريح شديدة كادت تغرقهم. فاقترعوا ليعلموا بسبب من ، أصابهم هذا البلاء. فوقعت على يونس. فألقوه في البحر. وهو معنى قوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) (١٤١)

(فَساهَمَ) أي قارع (فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) أي المغلوبين بالقرعة. وأصله الزلق عن الظفر.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) (١٤٢)

(فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ) أي ابتلعه (وَهُوَ مُلِيمٌ) أي آت بما يلام عليه من السفر بغير أمر ربه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) (١٤٣)

(فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) أي الذاكرين الله بالتسبيح والإنابة والتوبة ، في بطن الحوت.

القول في تأويل قوله تعالى :

(لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (١٤٤)

(لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي لكان بطنه قبرا له إلى يوم القيامة. أي لكن رحمناه بتسبيحه.

٢٢٧

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ) (١٤٥)

(فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ) أي حملنا الحوت على طرحه باليبس من الشط (وَهُوَ سَقِيمٌ) أي مما ناله من هذا المحبس الذي يأخذ بالخناق.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) (١٤٦)

(وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) أي لتقيه من الذباب والشمس.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) (١٤٧)

(وَأَرْسَلْناهُ) أي بعد ذلك ، بأن أمرناه ثانية بالذهاب (إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) وهم قومه المرسل إليهم ، الذين أبق عن الذهاب إليهم أولا. و (أو) للإضراب. أو بمعنى الواو أو للشك بالنسبة إلى مرأى الناظر. أي إذا رآها الرائي قال : هي مائة ألف أو أكثر. والغرض الوصف بالكثرة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (١٤٨)

(فَآمَنُوا) أي فسار إليهم ودعاهم إلى الله ، وأنذرهم عذابه إن يرجعوا عن الكفر والغي والضلال والفساد والإفساد. فأشفقوا من إنذاره واستكانوا لدعوته وآمنوا معه (فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) أي حين انقضاء آجالهم بالعيش الهني والمقام الأمين ، ببركة الإيمان والعمل الصالح. وإنما لم يختم قصته وقصة لوط بما ختم به سائر القصص من قوله : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ) إلخ اكتفاء بالتسليم الشامل لكل الرسل المذكورين في آخر السورة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ) (١٤٩)

(فَاسْتَفْتِهِمْ) أي قريشا المنذرين بأنباء الرسل وقومهم (أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ)

٢٢٨

أي سلهم عن وجه القسمة الضيزى التي قسموها. جعلوا لله الإناث ولأنفسهم الذكور ، في قولهم (الملائكة بنات الله) مع كراهتهم الشديدة لهنّ ، ووأدهم واستنكافهم من ذكرهن.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ) (١٥٠)

(أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ) أي حاضرون ، حتى فاهوا بتلك العظيمة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (١٥٢)

(أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللهُ) أي صدر منه الولد. مع أن الولادة من خواص الأجسام القابلة للفساد (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أي في مقالتهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ) (١٥٣)

(أَصْطَفَى الْبَناتِ) أي اختار الإناث (عَلَى الْبَنِينَ) أي الذكور.

القول في تأويل قوله تعالى :

(ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (١٥٤)

(ما لَكُمْ) أي : أيّ شيء عرض لعقولكم (كَيْفَ تَحْكُمُونَ) بنسبة الناقص إلى المقام الأعلى ، وتخيّركم الكامل.

لطيفة :

قال الزمخشريّ : قال قلت : (أَصْطَفَى الْبَناتِ) بفتح الهمزة ، استفهام على طريق الإنكار والاستبعاد ، فكيف صحت قراءة أبي جعفر بكسر الهمزة على الإثبات؟ قلت : جعله من كلام الكفرة ، بدلا عن قولهم (وَلَدَ اللهُ) وقد قرأ بها حمزة والأعمش رضي الله عنهما. وهذه القراءة ، وإن كان هذا محملها ، فهي ضعيفة. والذي أضعفها أن الإنكار قد اكتنف هذه الجملة من جانبيها. وذلك قوله (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) و (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) فمن جعلها للإثبات ، فقد أوقعها دخيلة بين نسيبين. انتهى.

٢٢٩

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (١٥٥)

(أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي أنه منزه عن ذلك.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ) (١٥٦)

(أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ) أي حجة واضحة وبرهان قاطع. ثم لا يجوز أن يكون ذلك عقليا ، لاستحالته عند الفعل. فغايته أن يكون مأثورا عن أسفار مقدسة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٥٧)

(فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ) أي المسطور فيه ذلك عن وحي سماوي (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي في دعواكم. وهذا كقوله تعالى : (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) [الروم : ٣٥] ، وفيه إشعار بأن المدار في الدعوى على البرهان البين. وأنها بدونه لا يقام لها وزن.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) (١٥٨)

(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) أي قربا منه. قال مجاهد : قال المشركون : الملائكة بنات الله تعالى. فقال أبو بكر رضي الله عنه : فمن أمهاتهن؟ قالوا : بنات سروات الجن. وكذا قال قتادة وابن زيد. ثم أشار إلى أن لا نسبة تقتضي النسب بوجه ما. عدا عن استحالة ذلك عقلا ، بقوله : (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ) أي المنسوب إليهم هذا النسب (إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أي في النار يوم القيامة. لكون الجنة كالجن ، علما في الأغلب للفرقة الفاسقة عن أمر ربها من عالم الشياطين. أي : فالمنسوب إليهم يتبرؤون من هذه النسبة ، لما يعلمون من أنفسهم أنهم من أهل السعير ، لا من عالم الأرواح الطاهرة ، فما بال هؤلاء المشركين يهرفون بما لا يعرفون؟ وفسر بعضهم (الجنة) بالملائكة المحدّث عنها قبل. والضمير في (إنهم) للكفرة. ولعل ما ذكرناه أولى ، لخلوّه عن تشتيت الضمائر ، ولموافقته للأغلب من استعمال الجن والجنة.

٢٣٠

وذلك فيما عدا الملائكة. وقلنا (الأغلب) لما سمع من إطلاق الجن في الملائكة.

قال الأعشى يذكر سليمان عليه‌السلام :

وسخّر من جنّ الملائك تسعة

قياما لديه يعملون محاربا

وقال الراغب : الجن يقال على وجهين : أحدهما للروحانيين المستترة عن الحواس كلها ، بإزاء الإنس. فعلى هذا تدخل فيه الملائكة. وقيل : بل الجن بعض الروحانيين. وذلك أن الروحانيين ثلاثة : أخيار وهم الملائكة. وأشرار وهم الشياطين. وأوساط فيهم أخيار وأشرار ، وهم الجن ، ويدل على ذلك قوله تعالى : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) [الجن : ١] إلى قوله تعالى : (وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) [الجن : ١٤]. انتهى.

وردّ إطلاق الجن على الملائكة العلامة الفاسي في شرحه على (القاموس) فقال : تفسير الجن بالملائكة مردود. إذ خلق الملائكة من نور لا من نار كالجن. والملائكة معصومون. ولا يتناسلون ولا يتّصفون بذكورة وأنوثة ، بخلاف الجن. ولهذا قال الجماهير : الاستثناء في قوله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ) [البقرة : ٣٤] ، منقطع أو متصل. لكونه كان مغمورا فيهم ، متخلقا بأخلاقهم. انتهى. وهو يؤيد ما ذهبنا إليه. وبيت الأعشى لا يصلح حجة ، لفساد مصداقه. لأن سليمان لم تسخّر الملائكة لتشيد له المباني. وليس ذلك من عملهم عليهم‌السلام. وقد مر الكلام على ذلك في تفسير سورة (سبأ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (١٥٩)

(سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي من الولد والنسب. وقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (١٦٠)

(إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) استثناء من (المحضرين) الذين هم الجنة ، متصل على القول الأول ، أي المؤمنين منهم. ومنقطع على الثاني. أو استثناء منقطع من (واو) يصفون. هذا ، وبقي وجه في الآية لم يذكروه. وهو أن يراد بالنسب المناسبة والمشاكلة في العبادة. ويراد بالجنة الملائكة. ويكون المراد من الآية الإخبار عمن

٢٣١

عبد الملائكة من العرب وجعلوهم ندا ومثلا له تعالى ، وحكاية لضلال آخر لهم ، غير ضلال دعواهم ، أنهم بنات الله سبحانه ، من عبادتهم له. مع أنهم عليهم‌السلام يعلمون أن هؤلاء الضالين محضرون في العذاب. والآية في هذا كآية (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ ، بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ ، أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) [سبأ : ٤٠ ـ ٤١] ، وكان السياق من هنا إلى آخر ، كالسياق في طليعة السورة. كله في تقرير عبودية الملائكة له تعالى ، وكونها من مخلوقاته الصافّة لعبادته ، فإنّى تستحق الربوبية؟ والله أعلم. وقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ) (١٦١)

(فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ) عود إلى خطابهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ) (١٦٢)

(ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ) أي مفسدين أحدا بالإغواء.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) (١٦٣)

(إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) أي ضالّ مثلكم. مستوجب للنار ، قال ابن جرير : يقول تعالى ذكره : فإنكم أيها المشركون بالله (وَما تَعْبُدُونَ) من الآلهة والأوثان (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ) أي ما أنتم على ما تعبدون من دون الله بمضلين أحدا ، (إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) أي من سبق في علمي أنه صال الجحيم. وقد قيل : إن معنى (عليه) به. انتهى.

ثم بين تعالى اعتراف الملائكة بالعبودية ، للرد على عبدتهم ، بقوله حاكيا عنهم :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) (١٦٤)

(وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) أي في العبودية وتسخيره فيما يريده تعالى منه. لا

٢٣٢

يتعدى فيه طوره ، ولا يجاوز منه قدره.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) (١٦٥)

(وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) أي في أداء الطاعة ومنازل الخدمة التي نؤمر بها.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) (١٦٦)

(وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) أي المنزهون الله عما يصفه به الملحدون. أو المصلون له خشوعا لعظمته ، وتواضعا لجلاله.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ) (١٦٧)

(وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ) أي مشركو قريش.

القول في تأويل قوله تعالى :

(لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ) (١٦٨)

(لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ) أي كتابا من الكتب التي نزلت عليهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (١٦٩)

(لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) أي لأخلصنا العبادة له. فجاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار ، والكتاب الذي هو أهدى الكتب والمعجز من بينها.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (١٧٠)

(فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) أي عاقبة كفرهم. وهذا كقوله تعالى (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) [فاطر : ٤٢]. وقوله تعالى : (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى

٢٣٣

طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها) [الأنعام : ١٥٦ ـ ١٥٧].

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ) (١٧١)

(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ) أي وعدنا لهم الأزليّ ، وهو :

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) (١٧٣)

(إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا) أي الرسل ومن آمن معهم (لَهُمُ الْغالِبُونَ) أي الظاهرون على أعدائهم ، والمالكون لنواصيهم كقوله تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة : ٢١].

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) (١٧٤)

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أي أعرض عنهم إعراض الصفوح الحليم عمن ينال منه. كقوله تعالى : (وَدَعْ أَذاهُمْ) [الأحزاب : ٤٨] ، وقوله : (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) [الحجر : ٨٥] ، (حَتَّى حِينٍ) أي إلى استقرار النصر لك.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) (١٧٥)

(وَأَبْصِرْهُمْ) أي بصرهم وعرفهم عاقبة البغي والكفر ، وما نزل بمن أنذر قبلهم ، أو أوضح لهم الدلائل والحجج في مجاهدتك إياهم بالقرآن والوحي. فإن لم يبصروا الآن ، (فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) أي ما قضينا لك من التأييد والنصرة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) (١٧٦)

(أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) أي قبل حلول أجله ، وإنه لآت ، لأنه يوم الفتح الموعود به.

٢٣٤

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) (١٧٧)

(فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ) أي بقربهم وفنائهم (فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) أي فبئس الصباح صباح من أنذرتهم بالرسل فلم يؤمنوا. لأنه يوم هلاكهم ودمارهم. قال الزمخشريّ : مثّل العذاب النازل بهم ، بعد ما أنذروه فأنكروه ، بجيش أنذر بهجومه بعض نصّاحهم فلم يلتفتوا إلى إنذاره ، ولا أخذوا أهبتهم ، ولا دبروا أمرهم تدبيرا ينجيهم ، حتى أناخ بفنائهم بغتة فشن عليهم الغارة ، وقطع دابرهم. وكانت عادة مغاويرهم أن يغيروا صباحا. فسميت الغارة (صباحا) وإن وقعت في وقت آخر. وما فصحت هذه الآية ولا كانت لها الروعة التي تحس بها ويروقك موردها على نفسك وطبعك ، إلا لمجيئها على طريقة التمثيل. انتهى. أي فهي استعارة تمثيلية. أو في الضمير استعارة مكنية ، والنزول تخييلية.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) (١٧٩)

(وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) قال الزمخشريّ : إنما ثنى ذلك ليكون تسلية علي تسلية ، وتأكيدا لوقوع الميعاد إلى تأكيد. وفيه فائدة زائدة. وهي إطلاق الفعلين معا عن التقييد بالمفعول. وإنه يبصر وهم يبصرون ما لا يحيط به من الذكر من صنوف المسرة وأنواع المساءة. وقيل : أريد بأحدهما عذاب الدنيا ، وبالآخر عذاب الآخرة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) (١٨٠)

(سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ) أي المنعة والقدرة والغلبة (عَمَّا يَصِفُونَ) أي من الشريك والولد ونحوهما.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) (١٨١)

(وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) أي سلام وأمان وتحية على المرسلين المبلغين رسالات ربهم.

٢٣٥

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٨٢)

(وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي على نعمه ، التي أجلّها إرسال الرسل لإظهار أسمائه الحسنى وشرائعه العليا ، وإصلاح الأولى والأخرى.

فوائد في خواتم هذه السورة :

الأولى ـ روى ابن جرير عن الوليد بن عبد الله قال : كانوا لا يصفّون في الصلاة حتى نزلت (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) فصفوا. وقال أبو نضرة : كان عمر رضي الله عنه إذا أقيمت الصلاة استقبل الناس بوجهه ثم قال : أقيموا صفوفكم ، استقيموا قياما ، يريد الله بكم هدى الملائكة. ثم يقول : (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) تأخّر يا فلان ، تقدم يا فلان ، ثم يتقدم فيكبر. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.

وفي صحيح مسلم (١) عن حذيفة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة. وجعلت لنا الأرض مسجدا. وتربتها لنا طهورا.

الثانية ـ روى الشيخان (٢) عن أنس رضي الله عنه قال : صبّح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيبر. فلما خرجوا بفئوسهم ومساحيهم ورأوا الجيش ، رجعوا وهم يقولون : محمد والله! محمد والخميس. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الله أكبر خربت خيبر (إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين). دلّ تمثله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالآية على شمولها لعذاب الدنيا ، أولا وبالذات.

الثالثة ـ قال ابن كثير : لما كان التسبيح يتضمن التنزيه والتبرئة من النقص ، بدلالة المطابقة. ويستلزم إثبات الكمال ، كما أن الحمد يدل على إثبات صفات الكمال المطلق مطابقة ، ويستلزم التنزيه من النقص ـ قرن بينهما في هذا الموضع ، وفي مواضع كثيرة من القرآن. ولهذا قال تبارك وتعالى : (سُبْحانَ رَبِّكَ) الآيات.

الرابعة ـ روى ابن حاتم عن الشعبيّ مرسلا : من سرّه أن يكتال بالمكيال الأوفى

__________________

(١) أخرجه في : المساجد ومواضع الصلاة ، حديث رقم ٤.

(٢) أخرجه البخاري في : الأذان ، ٦ ـ باب ما يحقن بالأذان من الدماء ، حديث ٢٤٦.

وأخرجه مسلم في : النكاح ، حديث رقم ٨٧.

٢٣٦

من الأجر يوم القيامة ، فليقل آخر مجلسه ، حين يريد أن يقوم : (سُبْحانَ رَبِّكَ) الآيات.

وروي أيضا عن عليّ موقوفا.

وأخرج الطبرانيّ عن زيد بن أرقم مرفوعا : من قال دبر كل صلاة (سُبْحانَ رَبِّكَ) الآيات ، ثلاث مرات ، فقد اكتال بالجريب الأوفى من الأجر.

وقد بيّن الرازيّ أن خاتمة هذه السورة الشريفة جامعة لكل المطالب العالية. فارجع إليه.

٢٣٧

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة ص

مكية. وقيل : مدنية وضعّف وآياتها ثمان وثمانون.

٢٣٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى :

(ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) (١)

(ص) بالسكون على الوقف. وقرئ بالكسر والفتح. اسم للسورة ، على القول المتجه عندنا فيه وفي نظائره. لما قدمنا غير ما مرة. وقيل : قسم رمزي ، وإليه نحا المهايميّ. قال : أقسم الله سبحانه وتعالى بصدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي اعترف به الكل في غير دعوى النبوة ، حتى صدقه أهل الكتابين في إخباره عن الغيوب ، الدال على الصدق في دعوى النبوّة. أو بصفائه عن رذائل الأخلاق وقبائح الأفعال الدال على صفائه عن نقيصة الكذب. أو بصعوده في مدارج الكمالات ، الدال على صعوده في مدارج القرب من الله ـ أو بصبره الكامل هو لوازم الرسالة على أنه رسوله. انتهى.

(وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) أي الشرف الدال على حقيقته وصدقه. أو التذكير ، كآية (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) [الأنبياء : ١٠] ، والجواب محذوف لدلالة السياق عليه. أي إنه لحق. وقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) (٢)

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ) أي كبر (وَشِقاقٍ) أي عداوة للحق والإذعان له. إضراب عما قبله. كأنه قيل : لا ريب فيه قطعا. وليس عدم إيمان الكفرة به لشائبة ريب ممّا فيه. بل هم في حميّة جاهلية وشقاق بعيد لله ولرسوله. ولذلك لا يذعنون له. وقيل : الجواب ما دل عليه الجملة الإضرابية. أي ما كفر به من كفر لخلل وجده فيه. (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) ثم أوعدهم على شقاقهم بقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) (٣)

٢٣٩

(كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) أي لكبرهم عن الحق ، ومعاداتهم لأهله (فَنادَوْا) أي فدعوا واستغاثوا (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) أي وليس الحين حين فرار ومهرب ومنجاة. والكلام على (لات) وأصلها وعملها والوقف عليها ، ووصل التاء بها أو فصلها عنها ، مبسوط في مطولات العربية ، وفي معظم التفاسير هنا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) (٥)

(وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ) أي رسول (مِنْهُمْ) أي من أنفسهم. يعني النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) أي بليغ في العجب. وذلك لتمكن تقليد آبائهم في نفوسهم ، ورسوخه في أعماق قلوبهم. ومضي قرون عديدة عليه ، وإلفهم به وأنسهم له ، حتى ران على قلوبهم ، وغشي على أبصارهم ، ونسي باب النظر والاستدلال. بل محي بالكلية من بينهم. وصار عندهم من أبطل الباطل وأمحل المحال.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) (٦)

(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ) أي الأشراف من قريش يحضون بعضهم على التمسك بالوثنية ، ويتواصون بالصبر على طغيانهم قائلين (أَنِ امْشُوا) أي في طريق آبائكم (وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) أي عبادتها مهما سمعتم من تسفيه أحلامنا وتفنيد مزاعمنا (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) تعليل للأمر بالصبر. أي يراد منا إمضاؤه وتفنيده لا محالة. أي يريده محمد من غير صارف يلويه ، ولا عاطف يثنيه ، لا قول يقال من طرف اللسان. أو المعنى : إن هذا الأمر لشيء من نوائب الدهر يراد منا. أي بنا. فلا انفكاك لنا عنه. وما لنا إلا الاعتصام عليه بالصبر.

القول في تأويل قوله تعالى :

(ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ) (٧)

(ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) أي ما سمعنا بهذا التوحيد الذي ندعى إليه في ملة النصارى. لأنهم مثلثة غير موحدة. أو في ملة قريش التي أدركنا عليها آباءنا

٢٤٠