سورة الذّاريات
(٥١)
المبحث الأول
أهداف سورة «الذّاريات» (١)
سورة مكّيّة وآياتها ستّون آية ، نزلت بعد سورة الأحقاف.
معاني السورة
بدأت السورة بهذا القسم :
(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) (٦)
وهي كلمات غير مطروقة وغير متداولة ، وقد سئل الإمام علي كرّم الله وجهه ، عن معنى قوله تعالى : (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) (١) فقال رضي الله عنه : هي الريح ، فسئل عن (فَالْحامِلاتِ وِقْراً) (٢) فقال : هي السحاب ، فسئل عن (فَالْجارِياتِ يُسْراً) (٣) فقال : هي السفن ، فسئل عن (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) (٤) فقال : هي الملائكة.
(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) (١) هي الريح التي تذرو التراب وغيره ، (فَالْحامِلاتِ وِقْراً) (٢) أي السحب الحاملة للمطر ، والوقر الحمل الثقيل ، (فَالْجارِياتِ يُسْراً) (٣) أي السفن الجارية في البحر جريا سهلا ، (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) (٤) أي الملائكة التي تقسم وتوزع أمور الله من الأمطار والأرزاق وغيرها.
لقد أقسم الله ، جلّ جلاله ، بالريح وبالسحب وبالسفن وبالملائكة ، وفي هذا القسم ما يوحي بأن الرزق بيد الله ، فهو الذي يسوق السحاب ، وهو الذي يسخر الريح للسفن ، وهو الذي جعل الملائكة أصنافا تقسم الأمور ، فالخلق
__________________
(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.
البديع المنظم وراءه قوة عليا مبدعة ، هي قوّته سبحانه الذي وعد الناس أن يجازيهم بالإحسان إحسانا ، وبالسوء سوءا ، ووعده واقع لا محالة.
(وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) (٧) الحبك بضمتين جمع حبيكة وهي الطريق ومدار الكواكب. والمراد الطرائق التي هي مسير الأجرام السماوية من نجوم وكواكب ، يقسم الله عزّ وعلا بالسماء المتّسقة المحكمة الترتيب ، بما فيها من نجوم وكواكب تسلك طريقها مسرعة في مجراتها العظيمة بنظام دقيق وإبداع شامل ، على أن المشركين يخوضون في حديث باطل وقول متناقض مضطرب ، فصنع الله محكم ، وعمل الكافرين باطل مضطرب ، فتراهم حينا يقولون عن النبي (ص) إنّه شاعر ، وتارة يقولون : ساحر ، ومرة ثالثة يقولون : مجنون. وهذا دليل على التخبط وفساد الرأي.
وقد رسمت السورة صورة الكافرين يذوقون عذاب جهنم ويقال لهم : (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) (١٤).
أي تعرضوا لعذاب النار وقد كنتم تستعجلون مجيئه ، استهزاء بأمره واستبعادا لوقوعه.
وعلى الضفّة الاخرى ، وفي الصفحة المقابلة ، يرتسم مشهد آخر لفريق آخر ، فريق مستيقن بالآخرة ، مستيقظ للعمل الصالح ، فريق المتقين الذين أدّوا حقوق الله سبحانه بالصلاة وقيام الليل ، وأدّوا حقوق الناس بالزكاة والصدقة.
آيات الله في الأرض والسماء
تشير الآية ٢٠ الى آثار قدرة الله في خلق الأرض ، فيقول سبحانه : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) (٢٠). وإذا تأمّلنا مضمون هذه الآية ، وجدنا أنّ هذا الكوكب الذي نعيش عليه معرض هائل لآيات الله وعجائب صنعته ، هذه الأرض تكاد تنفرد باستعدادها لاستقبال هذا النوع من الحياة وحضانته ، ولو اختلّت خصيصة واحدة من خصائص الأرض الكبيرة جدا لتعذر وجود هذا النوع من الحياة عليها. ولو تغيّر حجمها صغرا أو كبرا ، لو تغيّر وضعها من الشمس قربا أو بعدا ، لو تغيّر حجم الشمس ودرجة حرارتها ، لو تغير ميل الأرض على محورها هنا أو هنا ، لو
تغيّرت حركتها حول نفسها أو حول الشمس سرعة أو بطئا ، لو تغيّر حجم القمر أو بعده عنها ، لو تغيّرت نسبة الماء الى اليابس فيها زيادة أو نقصا ... لو ... لو ... لو ، الى آلاف الموافقات العجيبة المعروفة والمجهولة التي تتحكم في صلاحيتها لاستقبال هذا النوع من الحياة وحضانته ، أليست هذه آية ، أو آيات معروضة في هذا المعرض الالهي؟
«وتنوع مشاهد هذه الأرض ومناظرها ، حيثما امتدّ الطرف ، وحيثما تنقلت القدم ، وعجائب هذه المشاهد التي لا تنفد : من واد وجبل ، ووهاد وبطاح ، وبحار وبحيرات ، وأنهار وغدران ، وقطع متجاورات ، وجنّات وأعناب ، وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان ... وكل مشهد من هذه المشاهد تتناوله يد الإبداع والتغيير الدائبة التي لا تفتر عن الإبداع والتغيير».
(وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (٢١)
خلق الله الإنسان ، ونفخ فيه من روحه ، وشق له السمع والبصر وزوّده بالحواس المتعددة ، ووسائل الإدراك المختلفة.
«وحيثما وقف الإنسان يتأمّل عجائب نفسه ، التقى أسرارا تدهش وتحيّر : تكوين أعضائه وتوزيعها ، وظائفها وطريقة أدائها لهذه الوظائف ، عملية الهضم والامتصاص ، عملية التنفّس والاحتراق ، دورة الدم في القلب والعروق ، الجهاز العصبي وتركيبه وإدارته للجسم ، الغدد وإفرازها وعلاقتها بنمو الجسد وانتظامه ، تناسق هذه الأجهزة كلّها وتعاونها وتجاوبها الكامل الدقيق ، وكل من هذه تنطوي تحتها عجائب وفي كل عضو وكل جزء من عضو خارقة تحيّر الألباب».
(وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) (٢٢).
فبيد الله الخلق والرزق والهدى والضلال ، وأرزاق السماء تشمل الأرزاق المادية والمعنوية.
وفي السماء أسباب أقواتكم ، فالظواهر الفلكية ، وجريان الشموس والكواكب وتوابعها ، واختلاف الليل والنهار ، وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ، وبثّ فيها من كل دابة ، وتصريف الرياح ، والسحاب المسخّر بين السماء والأرض ، كل هذه الظواهر ذلّلها الله لخدمة الإنسان ، فليس الرزق موقوفا
على شيء يتعلق بالأرض وحدها ، بل الأمر كله لله تعالى ، يقبض ويبسط وإليه المآب.
ثم يعقب الله سبحانه بالقسم : بحق رب الأرض والسماء إن هذا الأمر لحق مثل نطقكم ، فهل تشكّون في أنكم تنطقون؟.
قصة ابراهيم
يشتمل القطاع الثاني من سورة «الذاريات» على الإشارة الى قصص إبراهيم ولوط وموسى (ع) ، وعاد قوم هود (ع) ، وثمود قوم صالح (ع) ، ثم آية عن قوم نوح (ع). وهذا القصص مرتبط بما قبله ، ومرتبط بما بعده في سياق السورة.
وإبراهيم (ع) أبو البشر اتخذه الله سبحانه ، خليلا ، وأرسل اليه ملائكة مكرّمين ، فأكرم الخليل وفادتهم ، وقرّب لهم عجلا سمينا ، ودعاهم للأكل منه ، ولكنّهم أمسكوا عن الطعام ، فخاف منهم إبراهيم. فلما أحسّوا خوفه أخبروه بأنهم ملائكة من السماء أرسلهم الله إليه ، ثم بشروه بغلام حليم.
وأقبلت زوجته ، وقد استولى عليها هول المفاجأة ، فضربت وجهها بأطراف أصابعها ، وصاحت متعجّبة من الحمل ، وهي عجوز عقيم ، فأخبرتها الملائكة بأنه لا وجه للعجب ، كذلك أمر الله ، وهو الحكيم في أعماله العليم بعباده.
قصة لوط
واتّجهت الملائكة بعد ذلك الى لوط (ع) ، فلما رآهم لوط أنكرهم وضاق بهم ذرعا ، فقالت له الملائكة : يا لوط إنا رسل ربّك ، جئنا لإنقاذك ومن معك من المؤمنين ، فأسر بأهلك في ظلام الليل ، ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك ، فقد حقت عليها كلمة العذاب مثل هؤلاء الظالمين.
ولم تجد الملائكة في قرى قوم لوط غير أهل بيت واحد من المسلمين : هو لوط وابنتاه.
ولما خرج لوط وابنتاه ، جعل الله ديارهم عاليها سافلها ، وساق إليهم عاصفة رعدية أمطرتهم بحجارة مسمومة ، استأصلت شأفتهم وتركتهم أثرا بعد عين ، وجعلهم الله عظة وعبرة للمعتبرين.
إشارات الى قصص الأنبياء
أشارت الآيات [٣٨ ـ ٤٦] الى العبرة والعظة من قصة موسى (ع) ، ومن قصص غيره من الأنبياء في لمحة عاجلة.
لقد أرسل الله موسى ومعه سلطان الهيبة وجلال النبوة ، إلى فرعون وملئه ، فأعرض فرعون عن موسى واتهمه بالسحر والجنون ، فأغرق الله فرعون وجنده في البحر وألبسه ثوب الخزي والندم.
وآية أخرى في عاد قوم نبي الله هود (ع) ، حينما كذبوا نبيهم فأرسل الله ، جلّ جلاله ، عليهم ريحا عاتية تحمل العذاب والدمار.
وآية ثالثة في ثمود أمهلهم الله ثلاثة أيام ، ثم أرسل عليهم صاعقة فأصبحوا هالكين.
والحجارة التي أرسلت على قوم لوط (ع) ، والريح التي ارسالات على عاد ، والصاعقة التي أرسلت على ثمود ، كلها قوى كونية مدبرة بأمر الله سبحانه ، مسخّرة بمشيئته ونواميسه ، يسلطها على من يشاء في إطار تلك النواميس فتؤدّي دورها الذي يكلّفها الله ، كأيّ جند من جند الله.
آية رابعة في قوم نوح (ع) ، فقد أهلكوا وأغرقوا لفسوقهم وكفرهم وخروجهم عن طاعة الله عزّ وعلا.
وللتنبيه الى بدائع صنعه إيقاظا للعاطفة الدينية ، عاد السياق فذكر أنّ الله تعالى رفع السماء ووسّعها ، وخلق الأرض ومهّدها ، وأعدّها لما عليها من الكائنات ومن كل شيء في هذه الأرض ، ذكرا وأنثى ليكون ذلك وسيلة للعظة والاعتبار.
ثم يحث القرآن الناس على أن يتخلّصوا من آثار المادّة والهوى والشيطان ، فرارا بدينهم ، وطمعا في رحمة خالقهم ، وأن يلجئوا إلى حماه وفضله : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٥٠).
وتكشف الآيات عن طبيعة المعاندين في جميع العصور ، فقد كذّبوا الرسل واتّهموهم بالجنون أو السحر ، كأنّما وصى السابق منهم اللاحق ، وكأن الكفر في طبيعته ملّة واحدة ، والرسالات كلها فكرة واحدة ، فمن كذّب برسول واحد فكأنّما كذّب برسل الله أجمعين.
(كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ
إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) (٥٣).
هذه السورة تربط القلب البشري بالله ، سبحانه ، وترشده الى عظيم صنعه ، وفي ختام السورة يؤكد الله ، جلّ جلاله هذا المعنى فيبيّن أنه ما خلق الجن والإنس إلا ليعرفوه ويوحّدوه ويؤمنوا به ، فهو سبحانه وتعالى غنيّ بذاته ، وهم في حاجة وافتقار اليه.
إن معنى العبادة هو الخلافة في الأرض ، وهو غاية الوجود الإنساني ، وهو أوسع من مجرد الشعائر وأشمل. وتتمثل حقيقة العبادة في أمرين رئيسيّين :
الأول : هو استقرار معنى العبودية لله تعالى في النفس ، أي استقرار الشعور بأنه ليس في هذا الوجود إلا عابد ومعبود ، إلا رب واحد والكل له عبيد.
والثاني : هو التوجه الى الله عزوجل ، بكل حركة في الضمير ، وكل حركة في الجوارح ، وكل حركة في الحياة.
بهذا وذلك يتحقّق معنى العبادة ، ويصبح العمل كالشعائر والشعائر كعمارة الأرض ، وعمارة الأرض كالجهاد في سبيل الله ؛ كلها عبادة ؛ وكلها تحقيق للوظيفة الأولى التي خلق الله الجن والإنس لها ، وكلها خضوع للناموس العام الذي يتمثل في عبودية كل شيء لله دون سواه.
والمؤمن الحق هو الحريص على أداء واجباته ومرضاة ربه ، وهو لا يعني نفسه بأداء الواجبات تحقيقا لمعنى العبادة في الأداء ، أما الغايات فموكولة لله يأتي بها وفي قدره الذي يريده.
إن الله تعالى لم يخلق الجن والإنس ليستعين بهم ، لجلب منفعة لذاته أو دفع مضرة ، وما يريد الله منهم أن يرزقوا أحدا من خلقه أو يطعموه. إنّ الله سبحانه وتعالى هو الكفيل برزقهم ، والمتفضّل عليهم بما يقوم بمعيشتهم ، وهو سبحانه ذو القدرة والقوة ، وهو الغالب على أمره فلا يعجزه شيء.
وفي ضوء هذه الحقيقة ينذر الذين ظلموا ، فلم يؤمنوا بأن لهم نصيبا من العذاب مثل نصيب من سبقهم من الظالمين ، فالله يمهل ولا يهمل ، وتختتم السورة بهذا الإنذار الأخير : (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ
فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) (٦٠).
المعنى الاجمالي للسورة
قال الفيروزآبادي : «معظم مقصود سورة الذاريات ما يأتي : «القسم بأن البعث والقيامة حق ، والإشارة إلى عذاب أهل الضلالة ، وثواب أرباب الهداية ، وحجّة الوحدانية ، وكرامة إبراهيم في باب الضيافة ، وهلاك قوم لوط وفرعون وقومه لمخالفتهم أمر الله ، وتدمير عاد وثمود وقوم نوح وخسرانهم ، وخلق السماوات والأرض للنفع والإفادة ، وزوجية المخلوقات للدلالة على قدرة الخالق ، وتخليق الخلق لأجل العبادة واستحقاق المنكرين للعذاب والعقوبة».
المبحث الثاني
ترابط الآيات في سورة «الذاريات» (١)
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة «الذاريات» بعد سورة «الأحقاف» ، ونزلت سورة «الأحقاف» بعد الإسراء وقبيل الهجرة ، فيكون نزول سورة «الذاريات» في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في أولها : (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) (١) وتبلغ آياتها ستين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة إنذار المشركين بعذاب الدنيا والاخرة ، وقد أخذوا فيها بالدليل ، ومرّة بالترهيب ، كما أخذوا بذلك في السورة السابقة ، ولهذا جمع بينهما في الذكر ، وجاء ترتيب هذه السورة بعد سابقتها.
إثبات الإنذار بالعذاب
الآيات [١ ـ ٦٠]
قال الله تعالى : (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ) (٥) فأقسم بهذا على أن ما يوعدون به من العذاب إن لم يؤمنوا به لصادق ؛ ثم أقسم ، جلّ وعلا ، بالسماء ذات الحبك على أن قولهم في إنكاره مختلف تناقضه أفعالهم ، لأنهم ك انوا يربطون الركائب عند قبور الأكابر ليركبوها عند حشرهم ، ثم أوعدهم على هذا بما أوعدهم به ؛ ثم ذكر أنهم يسألون عن
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.
يومه استعجالا له واستهزاء به ، وأجاب بأنه يكون يوم يفتنون على النار ويقال لهم : (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) (١٤). ثم ذكر ما يكون للمتقين فيه من جنات وعيون ، ليجمع بهذا بين طريق الترهيب وطريق الترغيب ، ثم انتقل السّياق من هذا إلى الاستدلال بآياته ، سبحانه ، في الأرض وفي أنفسهم وفي السماء لإثبات قدرته على بعثهم وعذابهم ، وختمه بالقسم كما بدأ به : (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) (٢٣).
ثم أخذ السياق بعد هذا في ذكر ما فعله الله جلّ جلاله بالمكذّبين قبلهم ترهيبا لهم بهم ، فذكر من ذلك خبر قوم لوط بعد أن مهد له بذكر أخبار الملائكة الذين أرسلوا بهلاكهم مع إبراهيم ، ثم ذكر بعد ذلك خبر موسى وفرعون ، وخبر عاد وما أهلكوا به من الريح العقيم ، وخبر ثمود وما أخذوا به من الصاعقة ، وخبر قوم نوح من قبلهم وهو معلوم. ثم عاد السياق إلى إثبات قدرته عزوجل على ذلك ، بالسماء التي بناها وأوسعها ، والأرض التي فرشها ومهّدها ، إلى غير هذا من آثار قدرته ، ثم أمرهم أن يفرّوا إليه سبحانه من عذابه ، وألا يجعلوا معه آلهة أخرى لا تدفع عنهم منه شيئا ، ثم ذكر أنهم يسلكون في تكذيب ذلك طريق المكذّبين قبلهم ، فيزعمون أن من ينذرهم به ساحر أو مجنون ، وذكر السياق أمر الله تعالى نبيّه (ص) أن يعرض عنهم لأنه لا لوم عليه بعد أن بلّغهم إنذارهم ، وأن يكتفي بالتذكير لأن فيه الكفاية للمؤمنين ، ثم ذكر تعالى أنه لم يخلق الجن والإنس عبثا ، وإنما خلقهم لعبادته وتوحيده ، وهو غنيّ عنهم لا يحتاج الى شيء منهم ، فإذا أشركوا به فإن لهم ذنوبا من العذاب مثل ذنوب من سبقهم من أولئك المكذبين : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) (٦٠).
المبحث الثالث
أسرار ترتيب سورة «الذاريات» (١)
أقول : لما ختمت «ق» بذكر البعث ، واشتملت على ذكر الجزاء ، والجنة والنار ، وغير ذلك من أحوال القيامة ، افتتحت هذه السورة بالإقسام على إنّ ما توعدون من ذلك لصادق ، وإن الدين ، وهو الجزاء ، لواقع.
ونظير ذلك : افتتاح «المرسلات» بذلك ، بعد ذكر الوعد والوعيد والجزاء في سورة «الإنسان».
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه : ١٩٧٨ م.
المبحث الرابع
مكنونات سورة «الذاريات» (١)
١ ـ (ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) [الآية ٢٤].
قال عثمان بن محصن : كانوا أربعة من الملائكة : جبريل ، وميكائيل وإسرافيل ، وروفائيل ، أخرجه ابن أبي حاتم.
٢ ـ (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) (٢٨).
قال مجاهد : هو إسماعيل. أخرجه ابن أبي حاتم (٢).
وقال الكرماني بعد حكايته : أجمع المفسّرون على أنه إسحاق ، إلا مجاهدا فإنه قال هو إسماعيل.
٣ ـ (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٣٥).
قال مجاهد : لوط وابنتاه.
وقال قتادة : وأهل بيته.
وقال سعيد بن جبير : كانوا ثلاثة عشر.
أخرجه ابن أبي حاتم.
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.
(٢). والطبري في «تفسيره» ٢٦ : ١٢٩.
المبحث الخامس
لغة التنزيل في سورة «الذاريات» (١)
١ ـ قال تعالى : (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) (١٠).
(قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) (١٠) دعاء عليهم كقوله جلّ وعلا : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) (١٧) [عبس].
والخراصون : الكذّابون المقدّرون ما لا يصحّ ، وهم أصحاب القول المختلف.
أقول : وأصل الخرص الحزر ، كخرص النخل ، وهو تقدير ما عليه من حمل. ولما كان الخرص حزرا وتقديرا ، فقد يتعرّضون إلى الكذب ، إمّا عن قصد وإمّا عن غير قصد.
أقول : والخرص ممّا لا تعرفه الفصيحة المعاصرة ، ولكننا نعرفه في الدارجة العراقية الجنوبية.
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.
المبحث السادس
المعاني اللغوية في سورة «الذاريات» (١)
قال تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) (٧) واحدها «الحباك».
وقال تعالى : (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) (١٣) أي : متى يوم الدّين ، فقيل لهم : يوم هم على النار يفتنون. لأن ذلك اليوم يوم طويل فيه الحساب ، وفيه فتنتهم على النار.
وقال تعالى : (ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ) [الآية ٥٩] أي سجلا (٢) من العذاب.
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.
(٢). السّجل : الدّلو العظيمة.