كنز العرفان في فقه القرآن

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

كنز العرفان في فقه القرآن

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


الموضوع : الفقه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
المطبعة: الحيدري
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٨
الجزء ١ الجزء ٢

__________________

الخرقي أيضا ذلك كما ستعرف ، وهو قول فقهاء المدينة.

قال ابن قدامة في المغني ص ٧٩٧ ج ٧.

مسئلة : وتساوى جراح المرأة جراح الرجل الى الثلث الدية ، فإن جاوز الثلث فعلى النصف ( الى هنا عبارة الخرقي ثم بعده شرح ابن قدامة ) وروى هذا عن عمر ، وابن عمر ، وزيد بن ثابت ، وبه قال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير والزهري وقتادة والأعرج وربيعة ومالك قال ابن عبد البر : وهو قول فقهاء المدينة السبعة ، وجمهور أهل المدينة وحكى عن الشافعي في القديم وقال الحسن : يستويان الى النصف.

وروى عن على رضى الله عنه أنها على النصف فيما قل وكثر ، وروى ذلك عن ابن سيرين وبه قال الثوري والليث وابن أبى ليلى وابن شبرمة وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور في الظاهر من مذهبه ، واختاره ابن المنذر لأنهما شخصان تختلف ديتهما فاختلف أرش أطرافهما كالمسلم والكافر ، ولأنها جناية لها أرش مقدر فكان من المرأة على النصف من الرجل كاليد.

وروى عن ابن مسعود انه قال : تعاقل المرأة الرجل الى نصف عشر الدية ، فإذا زاد على ذلك فهو على النصف ، لأنها تساويه في الموضحة.

ولنا ما روى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها ، أخرجه النسائي ( راجع ج ٨ ص ٤٤ ) وهو نص يقدم على ما سواه.

وقال ربيعة لسعيد بن المسيب : كم في إصبع المرأة قال : عشر ، قلت ففي إصبعين قال : عشرون ، قلت : ففي ثلاث أصابع؟ قال : ثلاثون. قلت : ففي أربع قال : عشرون قال : قلت : لما عظمت مصيبتها قل عقلها؟ قال : هكذا السنة يا ابن أخي ، وهذا مقتضى سنة رسول الله. رواه سعيد بن منصور ( راجع الموطإ ص ٦٧٣ طبع نور محمد كراجى شرح الزرقانى ج ٤ ص ١٨٧ ، تنوير الحوالك ج ٢ ص ١٨٦ ).

ولأنه إجماع الصحابة رضى الله عنهم إذ لم ينقل خلاف ذلك الا عن على ، ولا نعلم

٣٦١

__________________

ثبوت ذلك عنه ، ولان ما دون الثلث يستوي فيه الذكر والأنثى بدليل الجنين فإنه يستوي فيه الذكر والأنثى.

ثم قال : فاما الثلث نفسه ، فهل يستويان فيه؟ على روايتين : أحدهما يستويان فيه لانه لم يعتبر حد القلة ، ولهذا صحت الوصية به ، وروى أنها يختلفان ، وهو الصحيح لقوله « حتى يبلغ الثلث » وحتى للغاية فيجب أن تكون مخالفة لما قبلها ، لقول الله « حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ » ولان الثلث في حد الكثرة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الثلث والثلث كثير » انتهى ما في المغني.

ونظيره في نقل الأقوال بأدنى تفاوت ما في بداية المجتهد ج ٢ ص ٤١٧ ، ورحمة الأمة بهامش ميزان الشعراني ص ١١٥ ، وسبل السلام ج ٣ ص ٢٥٢ ، ونيل الأوطار ج ٧ ص ٧١ ، وفي الأخير بعد نقل تساوى الجراح في القليل والكثير عن على عليه‌السلام : وهو من رواية إبراهيم النخعي عنه ، وفيه انقطاع ، وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق الشعبي عنه ، وأخرجه أيضا من وجه آخر عنه وعن عمر قوله « عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من دية الرجل » فيه دليل على ان أرش المرأة يساوى أرش الرجل في الجراحات التي لا يبلغ أرشها إلى ثلث دية الرجل ، وفيما بلغ أرشه إلى مقدار الثلث من الجراحات كنصف أرش الرجل ـ الى آخر ما قال.

والمقصود ان الحكم الذي استغربه الأستاذ أبو زهرة ، هو الذي كان عليه إجماع الصحابة من غير مخالف ، إذ قد عرفت في كلماتهم ان الحديث على ان عليا عليه‌السلام قال بالنصف في القليل والكثير مما لم يثبت ، بل ثبت خلافه ، ولم ينقل عن احد من الصحابة غير الحكم بالتساوي إلى ثلث الدية.

والسنة الثابتة النبوية أيضا على ذلك إذ قد عرفت في كلام ابن قدامة ما أخرجه النسائي ونقله عنه أيضا في بلوغ المرام كما تراه في ج ٣ ص ٢٥١ من سبل السلام وانه صححه ابن خزيمة قال في سبل السلام عند شرحه ، لكنه قال ابن كثير انه من رواية إسماعيل ابن عياش وهو إذا روى من غير الشاميين لا يحتج به عند جمهور الأئمة وهذا منه.

ثم قال ( في سبل السلام ) تعنتوا في إسماعيل بن عياش إذا روى عن غير الشاميين

٣٦٢

__________________

وقبوله في الشاميين والذي يرجح عند الظن قبوله مطلقا لثقته وضبطه ، وكأنه لذلك صحح ابن خزيمة هذه الرواية ، وهي عن إسماعيل عن ابن جريح وابن جريح ليس بشامى.

قلت تسلمهم صحة رواياته عن الشاميين يدل على كونه صدوقا عندهم ( انظر التاريخ الكبير للبخاري ج ١ ، القسم الأول ص ٣٦٩ الرقم ١١٦٩ والجرح والتعديل القسم الأول ص ١٩١ ، الرقم ٦٥٠ ، وميزان الاعتدال للذهبى ج ١ ص ٢٤٠ ، وتذكرة الحفاظ ص ٢٥٣ الرقم ٢٤٠ ) فالفرق بين روايته عن الشامي وغير الشامي انما هو من الخلط والاشتباه ، وقد صرح غير واحد بحفظه ، ففي الجرح والتعديل :

حدثنا عبد الرحمن ـ الى قوله ـ سمعت يزيد بن هارون يقول : ما رأيت شاميا ولا عراقيا احفظ من إسماعيل بن عياش وفيه أيضا. سئل يحيى بن معين عن إسماعيل بن عياش قال : لا بأس به وفي ميزان الاعتدال : وقال أبو داود سمعت ابن معين يقول : إسماعيل بن عياش ثقة ، بل في أول ترجمته في الميزان : إسماعيل بن عياش أبو عتبة العنسي الحمصي عالم أهل الشام مات ولم يخلف مثله. فما في سبيل السلام من قبول روايته من غير فرق بين كونها عن الشامي وغير الشامي أمتن.

وفي زاد المعاد لابن القيم الجوزية ص ٢٠٥ ج ٣ وقضى صلى‌الله‌عليه‌وآله أن عقل المرأة مثل عقل الرجل الى الثلث من ديتها ، ذكره النسائي ، فتصير على النصف من ديته ، وفي كشف الغطاء ـ الحواشي على موطإ مالك ص ٦٧٠ طبع نور محمد كراچى ـ وأخرج البيهقي قال : جراحات الرجال والنساء سواء الى الثلث فما زاد فعلى النصف.

فالثابت إذا بإجماع الصحابة ، والسنة النبوية : تساوى الرجل والمرأة الى ثلث الدية وتنصيفها للمرءة بعد بلوغ الثلث ، فلا أدرى كيف اجترأ الأستاذ أبو زهرة على نسبته إلى الصحابة الكبار أنهم حكموا بحكم مخالف مخالفة مطلقة لحكم العقل وكيف ظن أن عقله فاق عقل الفاروق الأعظم ، وقد ثبت الحكم بذلك عنه ، صرح به غير واحد من فقهائهم وقد عرفت ، وكيف أنكره لمجرد مخالفته لعقول القياسيين الذين يبنون الاحكام على استنباط العلل والاجتهاد في تخريج المصالح وموجبات الاحكام ، ولذلك قد وقعوا في

٣٦٣

ويرد عليه نصف الدية (١) وكذا يرد على الزائد عن الواحد لو قتل بالواحد جماعة فانّ للوليّ قتلهم كلّهم ، ويردّ عليهم الفاضل ، أو يقتل بعضهم ويردّ الباقون قدر جنايتهم ويتمّ الوليّ ما بقي ، أمّا لو قتلت المرأة رجلا فليس للوليّ إلّا قتلها لقوله

__________________

المخالفات الكثيرة التي لا تتفق مع منطق التشريع.

سامح الله أبا زهرة ، كيف اجترأ أن ينسب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه حكم بحكم يخالف العقل مخالفة مطلقة وقد قال الله العزيز الكريم ومن أصدق من الله قيلا : « وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ».

(١) هذا الحكم متفق عليه عند الإمامية في النفس وفي الطرف إذا بلغ ثلث الدية وما لم يبلغ فلا رد.

ونقل الشيخ قدس‌سره في الخلاف ج ٢ ص ٣٤١ عن جميع الفقهاء غير الإمامية أنه يقتل بها ولا يرد أولياؤها شيئا ، ونقل في البحر الزاخر ج ٥ ص ٢١٧ عن عمر بن عبد العزيز والحسن البصري وعكرمة وعطاء ومالك وأحد قولي الشافعي انه لا يقتل الرجل بالمرءة وانما تجب الدية.

والثابت عن أبي حنيفة وأتباعه أنه يقول لا قصاص في الطرف بين مختلفي البدل ، فلا يقطع الكامل بالناقص ولا الناقص بالكامل ، ولا الرجل بالمرءة ولا المرأة بالرجل. انظر المغني لابن قدامة ج ٧ ص ٦٧٩ وسائر الكتب المرتبطة ، ولذلك قال قاضى زاده افندى في تكملة فتح القدير ج ٨ ص ٣٠٧ في مسئلة تساوى الرجل والمرأة الى ثلث الدية الذي أنكره اتباع أبي حنيفة :

ثم ان صاحب العناية قال في تعليل قوله فكذا في أطرافها وأجزائها اعتبارا بها وبالثلث وما فوق لئلا يلزم مخالفة التبع للأصل وتبعه العيني ، أقول : لا مانع ان يمنع بطلان اللازم ، إذ لا محذور في مخالفة التبع الذي هو الأطراف للأصل الذي هو النفس في بعض الأحكام ، الا يرى ان القصاص يجرى بين الرجل والمرأة ، ولا يجرى فيما دون النفس عندنا كما مر في كتاب الجنايات فلم لا يجوز المخالفة بين النفس وما دونها في حكم الدية أيضا انتهى.

وفي نيل الأوطار ج ٧ ص ١٨ : وأخرج البيهقي عن أبى الزناد أنه قال : كان من

٣٦٤

صلى‌الله‌عليه‌وآله « لا يجني الجاني على أكثر من نفسه » (١).

وكذا لو قتل الواحد جماعة ليس لأوليائهم إلّا قتله ، وكذا لو قتل العبد حرّا ليس لوليّه إلّا قتل العبد ولا سبيل له على مولاه وقرأ ابن عامر وحمزة « فلا تسرف » بالتاء جريا على أنّه خطاب إمّا للقاتل أو للوليّ ، وقيل الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وفيه ضعف.

٤ ـ « إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً » الضمير للوليّ بمعنى أنّ الله نصره بشرع القصاص وقيل للمقتول بمعنى أنّ الله نصره في الدّنيا بالقصاص وفي الآخرة بالثواب العظيم وقيل للمقتول إسرافا بمعنى أنّ الله ينصره بإيجاب القصاص ، فيما تعدّى به الوليّ وثبوت الوزر على المسرف.

الخامسة ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً ) (٢)

__________________

أدركته من فقهائنا الذين ينتهي إلى قولهم منهم سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم ابن محمد وأبو بكر بن عبد الرحمن وخارجة بن زيد بن ثابت وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وسليمان بن يسار في مشيخة جلة من سواهم من نظرائهم أهل فقه وفضل : ان المرأة تقاد من الرجل عينا بعين وأذنا بإذن وكل شي‌ء من الجراح على ذلك وان قتلها قتل بها ، ورويناه عن الزهري وغيره وعن النخعي والشعبي وعمر بن عبد العزيز. قال البيهقي ، وروينا عن الشعبي وإبراهيم خلافه فيما دون النفس واختلف الجمهور هل يتوفى ورثة الرجل من ورثة المرأة أم لا؟ فذهب الهادي والقاسم والناصر وأبو العباس وأبو طالب إلى أنهم يتوفون نصف دية الرجل ، وحكاه البيهقي عن عثمان البتي وحكاه أيضا السعد في حاشية الكشاف عن مالك ، وذهبت الشافعية والحنفية وزيد بن على والمؤيد بالله والامام يحيى إلى أنه يقتل الرجل ولا توفية انتهى ما في نيل الأوطار.

(١) الكافي ج ٧ ص ٢٩٩.

(٢) النساء : ٩٦.

٣٦٥

عظّم الله شأن قتل المؤمن وبالغ في التوعّد عليه حتى أنّه ذكر هنا خمس توعّدات كلّ واحد منها كاف في عظم الجرم إذا تقرّر هذا فهنا مسائل :

١ ـ اختلف في قتل العمد ما هو؟ فقال أبو حنيفة وأصحابه هو ما كان بحديد لا بغيره ، وهو أحد قولي الشافعيّ وقال في الآخر وأصحابنا إنّ كلّ من قصد قتل غيره بما يقتل مثله غالبا سواء كان بحديد حادّ أو مثقّل أو خنق أو سمّ أو إحراق أو تغريق أو ضرب بعصا أو بحجر أو غير ذلك فإنّه عامد ، وكذا لو قصد القتل بما لا يقتل غالبا فاتّفق الموت فإنّه عمد أيضا على الأصحّ.

أمّا ما لا قصد فيه أصلا ، لا القتل ولا غيره فيتّفق الموت فذلك هو الخطاء ، وما كان فيه قصد لا للقتل بل لتأديب أو لغيره فيتّفق الموت فذاك شبه عمد ولازم الأوّل القصاص كما تقدّم والثاني الدية على العاقلة كما يجي‌ء والثالث الدّية في مال الجاني خاصّة وكذا دية العمد لو عفي عنها ، فإنّها أيضا على الجاني ، ولو هرب العامد حتّى يموت ولم يقدر عليه فانّ الدية يلزم من تركته على الأصحّ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « لا يبطل دم امرء مسلم » (١)

٢ ـ ثبت في علم الكلام بطلان الإحباط ، وثبت أنّ عصاه المؤمنين عقابهم غير دائم ، وظاهر الآية ينافي ذلك وأجيب بوجوه :

الأوّل ما روي عن الصّادق عليه‌السلام أنه قتله على دينه ولإيمانه ولا شكّ أنّ ذلك كفر من القاتل موجب لتخليده.

الثاني أنّه مخصوص بغير التائب وليس بشي‌ء لأنّه محلّ النزاع لأنّه مع التوبة لا عقاب أصلا.

الثالث أنه قتله مستحلّا لقتله قاله عكرمة ويؤيّده أنّه نزل في مقيس بن ضبابة وجد أخاه هشاما قتيلا في بني النجار ولم يظهر قاتله فأمرهم رسول الله أن يدفعوا إليه ديته ثمّ حمل على مسلم وقتله ، ورجع إلى مكّة مرتدّا.

__________________

(١) المستدرك ج ٣ ص ٢٦٠.

٣٦٦

الرّابع أن يراد بالخلود المكث الطويل جمعا بين الدليلين.

٣ ـ توبة القاتل عمدا الندم الخالص والكفّارة الجامعة للخصال الثلاث وهو عتق رقبة ، وصيام شهرين متتابعين ، وإطعام ستّين مسكينا ، والانقياد للورثة إمّا يقتلونه أو يرضون بالدّية أو يعفون.

السادسة ( وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً ) (١).

أي ما جاز لمؤمن أو ما ثبت في حكم الله لمؤمن ، والاستثناء منقطع ونصب « خطاء » على أنّه صفة لمصدر محذوف أي إلّا قتلا خطاء لا أنّه مفعول له ، ولا حال كما قال الزمخشريّ لأنّ الخطاء ليس بسبب فاعليّ ولا غائيّ عند التأمّل [ فلا يكون مفعولا له ] ولا هو صفة للفاعل ولا للمفعول ، والحال يجب أن يكون صفة لأحدهما.

قوله « فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ » أي فيجب عليه ، و « توبة » منصوب على التميز عن الجملة إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الآية مشتملة على أحكام :

١ ـ أنّ القاتل خطاء يجب عليه كفّارة [ و] هي تحرير رقبة ولا خلاف في اشتراط إيمانها ، وهذه واجبة في مال القاتل ، بلا خلاف ، ووجه هذا أنّ القاتل لمّا أخرج المقتول عن قيد الحياة لزمه أن يخرج نفسا من قيد العبوديّة فإنّه كالأحياء إذ العبد كالميّت في أنّه لا حكم في نفسه وتصرّفاته.

٢ ـ تسليم الدية إلى أهل المقتول أعني ورثته ، وهم كلّ من يرث المال إلّا الإخوة والأخوات من قبل الامّ لروايات متضافرة ، وقيل والأخوات أيضا من الأب

__________________

(١) النساء : ٩٥.

٣٦٧

وقيل بل يرثها وارث المال لعموم آية الإرث ، والأقرب منع قرابة الأمّ مطلقا إخوة وغيرهم.

ثمّ هذه الدية ليست لازمة للجاني في ماله بل لعاقلته ، وهم الأب والأولاد ومن يتقرّب بالأبوين أو بالأب خاصّة من الذكور ، دون الامّ ومن يتقرّب بها ويقسمها الامام عليهم على حسب ما يراه الأقرب فالأقرب ، فإن قصرت الأقارب واتّسعت الدية ، دخل فيهم مولى النعمة ، ثمّ ضامن الجريرة ، ثمّ الامام على ترتيب الإرث.

والدية في الأقسام الثلاثة إمّا ألف مثقال من الذهب المسكوك الخالص أو عشرة آلاف درهم أو ألف شاة أو مائتا حلّة من برود اليمن كلّ حلّة ثوبان أو مائتا بقرة أو مائة من الإبل ، لكن يقع الفرق في أمرين الأوّل أنّه في العمد يستأدى في سنة وفي شبهه في سنتين ، وفي الخطاء المحض في ثلاث سنين الثاني في أسنان الإبل ، فإنّها في العمد من المسانّ أي من الكبار ، وفي الشبيه ثلاثة وثلاثون بنت لبون ، ومثلها من الحقائق وأربع وثلاثون ثنيّة طروقة الفحل ، وفي الخطاء عشرون بنت مخاض ومثلها من أبناء اللّبون وثلاثون حقّة ، ومثلها من بنات اللّبون.

قوله « إِلّا أَنْ يَصَّدَّقُوا » أي الورثة إذا أبرؤا ذمّة العاقلة برئت ، جعل الإبراء صدقة كما تقدّم في آية الدّين تحريصا على الفعل.

واعلم أنّ الدية حكمها حكم أموال الميّت يقضى منها ديونه ، وينفذ وصاياه من أيّ الأقسام كانت ، نعم دية العمد لا يجب على الورثة أخذها وصرفها في الدّيون والوصايا ، بل لهم القصاص وإن لم يضمنوا الدّين على الأصحّ ، فإن اصطلحوا على أخذها كانت من التركة ، ودلّ على ذلك البيان النبويّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والتبليغ الإماميّ كما تضافرت به الروايات.

٣ ـ أنّ المقتول خطاء إذا كان من قوم أهل حرب لكنّه هو مؤمن فإنّه يجب الكفّارة لا غير لأجل إيمانه ، ولا يجب الدّية لكونهم كفرة لا يستحقّون في دية (١) المسلم شيئا.

__________________

(١) ذمة المسلم. خ.

٣٦٨

٤ ـ أنّ المقتول خطأ إذا كان بين قوم معاهدين أمّا أهل كتاب لهم ذمّة أو قوم كفّار لهم عهد فاختلف في هذا المقتول ، قيل هو كافر إلّا أنّ ديته تلزم لمكان العهد مع قومه فديته عندنا على هذا التقدير ثمان مائة درهم وعليه إجماع أصحابنا واختلف الفقهاء منهم ، فقال أبو حنيفة كدية المسلم لظاهر الآية وإطلاق لفظ الدية وقيل النصف ، وقال الشافعيّ الثلث ، وقيل أربعة آلاف درهم ولا خلاف عندهم أنّ دية المجوسيّ ثمانمائة درهم وقيل هو مؤمن وهو المرويّ في أخبارنا ويؤيّده وجوب الكفّارة بقتله لأنّه لا كفّارة بقتل الكافر وأيضا سياق الآية يدلّ عليه لعطفه على قوله « وَهُوَ مُؤْمِنٌ » في الجملة المتقدّمة ، لكنّ الدّية هنا إنّما تعطى لورثته من المسلمين خاصّة وحينئذ يكون ظاهر الآية مخصوصا بالمسلمين إذ الكافر لا يرث المسلم لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « لا توارث بين أهل ملّتين (١) ».

٥ ـ قوله « فَمَنْ لَمْ يَجِدْ » يشير إلى أنّ الكفّارة هنا مرتّبة لإتيانه بالفاء الموجبة للتعقيب ، والمراد بعدم الوجدان هو أن لا يملك الرقبة ولا ثمنها ، فاضلا عن قوت يومه ودست ثوبه ودار سكناه ، وكذا يحكم بعدم وجدانه لو كان مريضا يفتقر إلى الخدمة أو من أهل الإخدام وإن لم يكن مريضا مع حاجته إلى الخدمة ، أمّا من جرت عادته بخدمة نفسه فإنّه يعتق عليه إلّا مع المرض ، والمراد بتتابع الشهرين أن يصوم شهرا ومن الثاني ولو يوما لوقوع التتابع صفة للشهرين لا للأيّام ، فلو أفطر في الأوّل لعذر بنى عند زواله هذا ، وقيل عدم الوجدان راجع إلى عدم وجدان الدّية ، وقيل إلى عدم وجدان الدّية والرقبة معا وكلاهما شاذّان لأنّ الدية على العاقلة ، لا الجاني حتّى يوصف بعدم الوجدان.

واعلم أنّه مع عدم القدرة على الصوم ينتقل إلى إطعام ستّين مسكينا كما تقدّم مثله ثمّ اعلم أنّ الكفّارة واجبة على الفور أمّا أوّلا فلأنّها كالتوبة الواجبة على الفور ، وأمّا ثانيا فلإتيانه بالفاء عقيب قوله « وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ » إلى آخره.

__________________

(١) سنن أبى داود ج ٢ ص ١١٣.

٣٦٩

قوله ( تَوْبَةً مِنَ اللهِ ) أي شرع هذا الحكم كلّه أو الانتقال إلى الصوم رحمة من الله لكم لكونه ( عَلِيماً ) بحالكم ( حَكِيماً ) واضعا لكلّ شي‌ء في موضعه.

السابعة ( وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ ) (١).

( وَكَتَبْنا ) عدّاه بعلى لتضمّنه معنى الحكم أي حكمنا عليهم بذلك والباء للبدليّة كقولك هذا بهذا أي هذا كائن بدل هذا وتقدير الكلام حكمنا على بني إسرائيل في التوراة أنّ النفس تكون بدل النفس المعصومة إذا قتلت ، وكذا البواقي وهنا فوائد :

١ ـ لا يقال حكم هذه الآية معمول به في هذه الشريعة مع الإجماع على كون التوراة منسوخة بهذه فكيف يعمل بما هو منسوخ؟ وأيضا أكثر الأصوليّين على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله غير متعبّد بشرع من قبله فكيف نعبّد بهذا الحكم مع كونه شريعة لموسى لأنّا نقول لا شكّ أنّ الشريعة السابقة منسوخة بالشريعة المسبوقة بمعنى أنّ مجموع أحكام المسبوقة من حيث المجموع لا من حيث كلّ واحد واحد [ من الأحكام ] ناسخ لمجموع أحكام السابقة من حيث المجموع ، ولا يلزم من ذلك أن يكون كلّ واحد واحد من الأحكام ناسخا ومنسوخا لأنّ النسخ هو الرّفع ، ورفع المجموع من حيث المجموع لا يستلزم رفع كلّ واحد بل واحد منها لا بعينه ، والتعيين إلى الشارع ثمّ إنّ كلّ واحد من أحكام المسبوقة إمّا أن يكون منافيا لحكم من أحكام السابقة أو لا فان كان الأوّل كان ناسخا له وإن كان الثاني فإمّا أن يكون موافقا له أو لا فان كان الأوّل كان ذلك من جملة الاتّفاقات في الأحكام وإن كان الثاني وهو أن لا يكون منافيا ولا موافقا لم يجز التعبّد به إلّا بدليل خارجيّ وعلى التقادير الثلاثة

__________________

(١) المائدة : ٤٥.

٣٧٠

لا يكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله متعبّدا بأحكام الشريعة السابقة ولذلك قال سبحانه ( لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً ) (١).

٢ ـ لا شكّ أنّ ما تضمّنه الآية وإن كان معمولا به في شرعنا ، لكنّه من العمومات المخصوصة لاشتراط القصاص نفسا وطرفا بالتساوي في الإسلام والحرّيّة وقد حكينا ما في ذلك من الخلاف وكذلك يشترط في الأطراف التساوي في المحلّ والصفات ، فلا تفقأ العين اليمنى باليسرى ولا تصمّ الاذن اليمنى باليسرى ولا يقلع السّنّ بغير مقابله ، ولا يجدع الأنف الصّحيح بالأشلّ ، ولا تؤخذ العين الصّحيحة بالعمياء ولا السنّ الصّحيح بالأسود ، ولا الاذن الصحيحة بالشلّاء إلى غير ذلك من التفاصيل المذكورة في الفقه المستفادة من البيان النبويّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والتبليغ الإماميّ.

٣ ـ قرئ بنصب « الجروح » وكذا السوابق عليها نحو « والعين والأنف » إلى آخرها وقرئ بالرفع فيها كلّها أمّا النصب فبالعطف على لفظ اسم « أنّ » وأمّا الرّفع فبالعطف على محلّ اسمها. قوله ( وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ ) أي ذات قصاص وهو أيضا من المخصوصات فانّ الجرح إذا كان مشتملا على غرر وخطر لا قصاص فيه بل ينتقل إلى الدّية كالهاشمة والمنقّلة والمأمومة والجائفة بخلاف ما لا غرر ولا خطر فيه فانّ حكم القصاص فيه ثابت كالحارصة والدامية والمتلاحمة والسمحاقة ويراعى في ذلك أيضا التساوي في المحلّ والقدر طولا وعرضا لا نزولا ، بل يكفي صدق الاسم فيه ، ويشترط أيضا ما تقدّم من التساوي في الإسلام والحرّية.

٤ ـ قوله ( فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ ) أي بالقصاص ( فَهُوَ ) أي التصدّق « كَفّارَةٌ لَهُ » أي لذنبه ، والضمير للمتصدّق لأنّه المالك للقصاص ، ولعود الضمير إلى « من » الّذي هو المذكور ، وقيل يرجع إلى المتصدّق عليه لأنّ العفو قائم مقام أخذ الحقّ منه وليس بشي‌ء أمّا أوّلا فلأنه خلاف الظاهر ، وأمّا ثانيا فلأنّه نوع تأكيد والتأسيس خير منه ، وأما ثالثا فلأنّه لو كان كذلك لما وجبت الكفّارة على القاتل بالعفو واللّازم باطل فكذا الملزوم والملازمة ظاهرة هذا.

__________________

(١) المائدة : ٤٨.

٣٧١

واعلم أنّ مذهبنا بطلان الإحباط والتكفير لقيام الدّليل على ذلك كما هو مقرر في علم الكلام وحينئذ يجب حمل ما ورد من تكفير السيّئات بالحسنات كما ذكر هنا وكقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « الصلوات الخمس كفّارة لما بينهنّ من الذّنوب (١) » وقول عليّ عليه‌السلام « الحجّ والعمرة يد حضان الذّنب (٢) » إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث على أنّ الله تعالى يتفضّل على فاعل الحسنات بإسقاط عقاب سيّئاته لعظم محلّ تلك الحسنة ، وكذا نقول في قوله ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) (٣) أنّ الله يتفضّل على مجتنب الكبيرة بالعفو عن صغائره لعظم محلّه باجتناب الكبائر.

الثامنة ( وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ) (٤).

فيها دلالة على أنّه من أوقع به ظلم في نفس أو طرف أو شجاج أو مال فانتصر بعد ظلمه أي استوفي حقّه فليس عليه سبيل من المعاقبة واللّوم ، « ومن » زائدة لكونها بعد النفي وفيها أيضا دلالة على أنّه يجوز الاقتصاص من غير حكم حاكم في طرف أو جرح أو مال ممّن يماطل ، بعد أن يراعى في ذلك عدم التجاوز إلى غير حقّه.

التاسعة ( وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ ) (٥).

هذه تدلّ على أمور ثلاثة :

١ ـ ما دلّت عليه السابقة وسمّي الجزاء مع كونه حسنا « سيّئة » إمّا على

__________________

(١) السراج المنير ج ٢ ص ٤٠٥.

(٢) لم نعثر عليه بلفظه ، وبمضمونه أحاديث كثيرة ، راجع الكافي باب فضل الحج والعمرة ج ٤ ص ٢٥٢ ـ ٢٦٤.

(٣) النساء : ٣١.

(٤) الشورى : ٤١.

(٥) الشورى : ٤٠.

٣٧٢

المجاز تسمية الشي‌ء باسم مقابله أو لأنّها تسوء من توقع به.

٢ ـ تدل على حسن العفو عن السيّئة وأنّه يستحق في مقابله أجر عظيم لا يدرى كهنة ، لإبهامه وعدم تعيينه.

٣ ـ أنّه يجب في الاقتصاص الاقتصار على المثل ، وعدم التجاوز عنه لقوله تعالى « إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ » ومثل هذه الآية في الدلالة قوله ( وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصّابِرِينَ ) (١) وقيل نزلت هذه لما قتل حمزة عليه‌السلام ونظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إليه وقد شقّ بطنه وجدع أنفه وأذناه فقال لو لا أن يكون سنّة بعدي لتركته حتّى يبعثه الله من بطون السّباع والطير ولأقتلنّ مكانه سبعين رجلا ثمّ دعا ببردة فغطّى بها وجهه فخرجت رجلاه فجعل على رجليه شيئا من الإذخر ، ثمّ قدّمه فكبّر عليه سبعين تكبيرة فنزلت الآية ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : بل نصبر يا ربّ.

العاشرة ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) (٢).

لنذكر شرحها أوّلا ثمّ نذكر غرض الفقهاء منها فنقول : الخلق التقدير إمّا لأجزاء المخلوق أو لهيئة تركيبها لأوقاته ، ومنه « خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ » (٣) والمراد بالإنسان الهيكل المحسوس والفعالة موضوعة لمقدار ما يفصل عن شي‌ء سواء كان من شأنه أن يرمى به كالقلامة والنجارة أو يتمسّك به ويتحفّظ كالخلاصة والسلالة ، و « من » في الموضعين لابتداء الغاية فإنّ آدم عليه‌السلام خلق من سلالة مخلوقة

__________________

(١) النحل : ١٢٦.

(٢) المؤمنون : ١٣ ـ ١٥.

(٣) الملك : ٢.

٣٧٣

من الطين لا أنّ الثانية للبيان ، كما قال الزمخشري لأنّ كونها لابتداء الغاية يغني عن البيان « ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً » أي أولاده من نطفة فانتصابها بنزع الخافض والقرار المكين أي محكم وهو ظهر الأقرب والجارّ والمجرور صفة لنطفة لا أنّ المقرّ بطن الامّ كما قال ، وإلّا لكان يجب أن يقول « ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً » لأنّ مبدء خلقة العلقة لا يتراخى في بطن الامّ عن النطفة بل عن كونها نطفة في ظهر الأب « ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً » أي بعد انتقالها من ظهر الأب إلى الرّحم ، ولذلك قال « ثمّ » لأنّ النطفة موجودة قبل انتقالها وحال الانتقال إلى أن يستقرّ في الرّحم

« فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ » أتي بالفاء نظرا إلى استعداد كونها مضغة فإنّه يتعقّب العلقة ولا يتراخى زمانا وكذلك الانتقالات بعده « ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ » أي نفخنا فيه الرّوح فصار إنسانا بمعنى آخر ، بعد أن كان بدنا له ، وأتى بثمّ لأنّ في العادة أنّ تركيب شي‌ء من شيئين محتاج إلى توسط زمان بينهما ، وهو قول ابن عبّاس ومجاهد وقيل هو إنبات الشعر والأسنان وقيل كونه ذكرا أو أنثى والعلقة قطعة دم ثخين والمضغة قطعة لحم واحتجّ أبو حنيفة على مذهبه أنّه لو غصب أحد بيضا فصار عنده فرخا أو حبّا فصار دقيقا أنّه يملكه ، وليس عليه غير البيض والحبّ بقوله « ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ » وهو غير مصيب في قوله ، لأنّ الصورة تتبع المادّة ، والمادّة لغيره ، وهب أنه ملك الصورة فكيف يملك المادّة نعم يصح في خمر غصبه مسلم من مسلم فصار خلا في يد الثاني أنه له لأنّه ملكه باليد لعدم تملّك الأوّل له.

إذا عرفت هذا فنقول استدلّ معظم الفقهاء بالآية على توزيع الدّية على هذه الحالات فأوجبوا في النطفة بعد استقرارها في الرّحم عشرين دينارا لأنّ فيها عشرة قبل وقوعها فيه ، بدليل أنّه لو أفزع مجامعا فعزل ضمن المفزع عشرة وكذا لو عزل الزّوج من حرّة بعقد الدوام كان عليه عشرة دنانير فيستفيد بالوقوع في الرّحم حالة أخرى زائدة ، فلها دية. وأوجبوا في العلقة أربعين وفي المضغة ستّين وفي العظم ثمانين وإذا اكتسى اللّحم ولم تلجه الرّوح مائة ، وإذا ولجته الرّوح الدية الكاملة للذكر ونصفها للأنثى فان لم يعلم فنصف الدّيتين ، وقيل بالقرعة.

٣٧٤

إذا عرفت هذا فهنا فوائد :

١ ـ قيل بين كلّ حالة سابقه وما بعدها عشرون يوما ، ولا ينافي ذلك الإتيان بالفاء لما قلناه من التعقيب الاستعداديّ فيكون لكلّ يوم دينار ، فإذا لبثت النطفة عشرين يوما كان فيها عشرون دينارا وفي أحد وعشرين يوما أحد وعشرون دينارا وفي ثلاثين يوما ثلاثون دينارا وعلى هذا ، وهو مشهور ، لكن لا يعلم مستنده ، نعم روى الشيخ في التهذيب عن يونس الشيبانيّ قال قلت للصادق عليه‌السلام فإذا خرج من النطفة قطرة دم ، قال القطرة غير النطفة ، فيها اثنان وعشرون دينارا ، قال قلت فان قطرت قطرتين؟ قال : أربعة وعشرون دينارا ، قلت : فان قطرت ثلاثا قال ستّة وعشرون قلت فأربع قال ثمانية وعشرون دينارا وفي خمس ثلاثون دينارا وما زاد على النصف فعلى حساب ذلك حتى يصير علقة ، فإذا صار علقة ففيها أربعون وفي طريقها صالح بن عقبة وهو كذّاب غال له مناكير.

٢ ـ قال بعض فقهائنا في الجنين قبل أن تلجه الرّوح غرّة عبد أو أمة ، وقدّر ابن الجنيد قيمة الغرّة بنصف عشر الدّية.

٣ ـ روي أنّ الصحابة اختلفوا في الموؤدة ما هي؟ وهل الاعتزال وأد؟ وهل إسقاط المرأة جنينها عمدا وأد؟ فقال عليّ عليه‌السلام إنّها لا تكون موؤده حتى يأتي عليه التارات السّبع ، فقال له عمر صدقت أطال الله بقاءك ، وأراد عليه‌السلام طبقات الخلق السبع المبنيّة في الآية المذكورة فأشار عليه‌السلام إلى أنّه إذا استهلّ بعد الولادة ثمّ دفن فهو وأد فلا يكون الحامل المسقط قد وأدت.

٣٧٥

كتاب القضاء والشهادات

(١) وفيه آيات :

الاولى ( يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى ) (٢).

الخليفة يراد بها عرفا لمعنيين إمّا كونه خلقا لمن كان قبله من الرسل أو كونه مدبّرا للأمور من قبل غيره وقد دلّت الآية على أمور :

١ ـ مشروعيّة القضاء والحكم وقد تقدّم أقسام الولاية في باب المكاسب.

٢ ـ وجوب الحكم بالحقّ أي بما هو مطابق لما في نفس الأمر بحسب ما يقود إليه الدليل أو الأمارة.

٣ ـ أنه لا ينبغي اتّباع الهوى أي الميل بمجرّد الحظّ النفساني ، ويدخل في ذلك وجوب الانصاف والإنصات والتسوية بين الخصوم في السلام والكلام وأنواع الإكرام أمّا الميل القلبيّ إلى أحدهما مع الحكم بالحقّ فذاك مكروه.

الثانية ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ) (٣).

دلّت هذه على ما دلّت عليه السابقة.

الثالثة ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (٤).

__________________

(١) في نص : كتاب أدب القضاء.

(٢) ص : ٢٦.

(٣) المائدة : ٤٩.

(٤) النساء : ٦٥.

٣٧٦

كما وجب على الحاكم الحكم بالحقّ ، كذلك يجب على المحكوم عليه الانقياد والإذعان وأكّد ذلك بالقسم المتبوع بعدم أيمانهم ، إن لم يحكّموا وينقادوا للحقّ ظاهرا وباطنا ، قوله « فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ » أي اختلف ، يقال تشاجر القوم إذا اختلفوا والحرج الضيق ، وقيل الشك لأنّ الشاكّ في ضيق من أمره والتسليم الانقياد.

الرابعة ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ). ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ). ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) (١).

قيل هذه الثلاث حيث وردت في حكاية ما أنزل الله على أهل الكتاب فهي مختصّة بهم ، وليس بشي‌ء ، بل هو عامّ في كلّ ملة لأنّ خصوص السّبب لا يخصّص ثمّ الحاكم بغير ما أنزل الله إن كان مع اعتقاده لذلك الحكم فهو كافر ، وإن كان لا مع اعتقاده فهو ظالم أو فاسق.

الخامسة ( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) (٢).

تقدم ذكر صدرها وأمّا عجزها فيدل على وجوب العدل في الحكم بين الناس صريحا.

السادسة ( إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً ) (٣).

__________________

(١) المائدة : ٤٤ و ٤٥ و ٤٧.

(٢) النساء : ٥٨.

(٣) النساء : ١٠٥.

٣٧٧

الانزال هو نقل الشي‌ء من مكان عال أو رتبة عالية إلى ما دونهما ، والكتاب القرآن ، وبالحقّ أي بالسبب الحقّ أو متلبّسا بالحقّ وقد دلّت على أمرين :

١ ـ خطابه صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يحكم بما أراده الله أي أعلمه بالوحي ، وليس من الرؤية بمعنى العلم ، وإلّا لاستدعى ثلاثة مفاعيل ، وفيه دلالة على أنّه لا يجوز الحكم بغير علم.

٢ ـ خطابه صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن لا يجادل أي لا يخاصم لأجل الخائنين ، بحيث يذبّ عنهم خصومهم البريئين ، وفيه دلالة على عدم جواز المجادلة عن أحد الخصمين ، وعدم جواز تلقينه ما يستظهر به على خصمه.

السابعة ( فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) (١).

دلّت على أنّه إذا تحاكم أهل الذمة إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو إلى من يقوم مقامه من الأئمّة عليهم‌السلام أو الفقهاء تخيّر الحاكم بين أن يحكم بينهم بمذهب الإسلام وبين أن يردّهم إلى حكّامهم ، قيل : إنّ هذا التخيير منسوخ بقوله « أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ » وهو مرويّ عن مجاهد وابن عبّاس ، وقال ما نسخ من المائدة سوى هذه وسوى قوله « لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ » نسخها قوله « فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ».

وقيل : ليس بمنسوخ بل الأمر بالعكس ، والتخيير باق ، وهو مذهب أصحابنا لكنّه ليس على إطلاقه بل إذا كان الخصمان من ملّة واحدة ، أمّا إذا كان أحدهما مسلما فلا يجوز للحاكم رد الحكم فيه إلى أهل الذمّة قطعا ولو كانا متغايرين في الملّة كاليهوديّ والنصرانيّ يحتمل الرد إلى الناسخ والأقوى تحتّم الحكم بينهما بمذهب الإسلام ، لأنّ ردّهما إلى أحد الملّتين موجب لإثارة الفتنة.

الثامنة ( وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ

__________________

(١) المائدة : ٤٢.

٣٧٨

الْقَوْمِ وَكُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ. فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً ) (١).

قيل الحرث الزّرع وقيل الكرم وقد تدلّت عما قيده ، والنفش الرعي ليلا والهمل يكون ليلا ونهارا ، حكم داود عليه‌السلام بأن يسلّم الغنم إلى صاحب الحرث عوضا عمّا أفسدته ، ونظيره حكم أبي حنيفة في العبد الجاني يسلّم إلى المجنيّ عليه فقال سليمان عليه‌السلام وهو ابن أحد عشر سنة : يا نبيّ الله غير هذا أوفق لهما فعزم داود عليه ليحكمنّ بينهما فقال أرى أن تدفع الغنم إلى صاحب الحرث لينتفع بألبانها وأولادها وأصوافها ، والحرث إلى صاحب الغنم ليقوم بإصلاحه حتّى يعود كما كان ثمّ يترادّان ، فقال : القضاء ما قضيت ، ونظيره قول الشافعيّ يغرم الأجرة للحيلولة للعبد المغصوب ، وحكم الحرث المذكور في شرعنا ضمان صاحب الغنم قيمة التالف إن فرّط في حفظها ، وإلّا فلا ، وقال الشافعيّ يجب ضمان ما تلف ليلا إذ المعتاد وجوب ضبط الدّوابّ ليلا ولذلك قضى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا دخلت ناقة البراءة حائطا فأفسدت ، فقال على أهل الأموال حفظها بالنهار ، وعلى أهل الماشية حفظها باللّيل (٢) وهو قول جماعة من أصحابنا وعند أبي حنيفة لا ضمان إلّا أن يكون معها حافظ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : جرح العجماء جبار (٣) وهنا سؤالات :

١ ـ هل كان حكمهما بوحي أو اجتهاد؟ الجواب الحقّ عندنا أنّه بوحي والثاني ناسخ [ للإذن الأوّل ] وهو قول الجبّائي قيل عليه : الوقت كان واحدا فيكون بداء وهو غير جائز ، ومن جوّز على الأنبياء الاجتهاد قال كان الحكمان باجتهاد وبعض فضلائنا جوّز الاجتهاد للنبيّ إذا حضرت الواقعة وفقد الوحي ، وكان

__________________

(١) الأنبياء : ٧٨.

(٢) الدر المنثور : ج ٤ ص ٣٢٥ في تفسير الآية. وهكذا في سنن ابى داود ج ٢ ص ٢٦٧.

(٣) سنن ابى داود ج ٢ ص ٥٠٢.

٣٧٩

تأخير الحكم ضررا ، ولا يلزم العمل بالظنّ مع إمكان العلم إذ الفرض عدمه ، قلت إنّ الحكم حينئذ ليس بالاجتهاد لدلالة الوحي على نفي الضّرر ، فيكون حكما بالنصّ النوعيّ.

٢ ـ ظاهر الكلام أنّ الحكمين صوابان لقوله تعالى « وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً » مع أنّ بينهما منافاة ، والصواب لا يكون في المتنافيين والجواب المنع من المنافاة ، لجواز أن يكون قيمة الغنم بقدر ما فات من الحرث ، ولذلك حكم بتسليم الغنم إذ لا يجب عليه الصّبر ، فيكون حكمه صوابا. لكن حكم سليمان كان أصوب لأنّه راعى مصلحة الجانبين والصبر وإن لم يكن واجبا لكنّه ندب من قسم التفضّل ، فلا منافاة كما لا منافاة بين المصلحة والأصلح والفصيح والأفصح.

قلت فعلى هذا لا يكون الثاني ناسخا للأوّل إذ لا منافاة بين الأوّل والثاني والنسخ شرطه المنافاة بل يكون بيان شرع زائدة وقد تقرّر في الأصول أنّ الزيادة على النصّ ليس نسخا على الأصحّ ، وعلى هذا يخرج الجواب عن السؤال الأوّل وعن القول بلزوم البداء.

٣ ـ على قول من قال إنّ حكمهما كان بالاجتهاد ، يرد سؤال ، إنّه لا يجوز للمجتهد أن يرجع عن اجتهاده لأجل اجتهاد غيره الجواب أنّه رجع لاجتهاد ثان له ، وهو جائز اتّفاقا.

واعلم أنّ قوله « فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ » أي الفتوى أو الحكومة ، فيه دلالة على أنّه لم يكن باجتهاد بل بوحي فبطل قول من استدلّ بها على تصويب قول كلّ مجتهد لأنّه مخالف لمدلولها قوله « لِحُكْمِهِمْ » أضاف الحكم إلى الحاكمين والمتحاكمين.

التاسعة ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (١).

دلّت هذا الآية على النّهي عن جملتين :

__________________

(١) البقرة : ١٨٨.

٣٨٠